هداك الله بنور الإسلام حتى تصل لأعلى مقام

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في  أصول الدين وسيرة المعصومين
قسم سيرة المعصومين/ صحيفة الإمام الحسين عليه السلام/
 الجزء الأول: نور الإمام الحسين سر تمجيده والانتساب إليه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

قــصـــــة المتبصر

 بتراب كربلاء

رمز الكرامة وإكسير الحياة

الكـــاتب

خادم علوم آل محمد عليهم السلام

الشيخ حسن جليل حسن حردان الأنباري


إلى أعلى مقام في الصفحة نورك الله بنور الحسين وآله الكرام عليهم السلام


تفضل يا طيب إلى الفهرس العام رزقك الله ونورك بدين الإمام وخلصك من الظلام



الفصل الأول

أرض الصبا وأيامه

 
أم الربيعين : أفضل مدن الوطن الحبيب ، وأنعشها هواءً ، و أجملها منظراً ، حيث إن أرضها أول أرض تبشر وتوشي بطلوع نباتها في الربيع ، فهي فيه أرضاً مليحة الجمال ، مغلوبة العشب ، مطردة الخضرة بما لا يجاريها شيئاً من أراضي السواد الباقية ، فهي في ثلاثة مِن فصول سنتها نضرة في بريق صفاء الخضرة ، وغضاضة جمال الأزهار كسمائها الزرقاء التي تتلألأ بضياء نجومها ، ومالئ خافقها سجسج الهواء واعتداله ، وحاوية في أجوائها نسيم الهواء الطلق الطيب ، فتراها في أغلب أيامها مفصحة ، وأكثر لياليها ساجية لا ظلمة فيها ، وتزينها كواكب تنجم في مسائها الدنيا .
ويزيد جمالها جمالا : ويمنحها روعة وبهاء نهر دجلة الخير ، والذي يمخر أطرافها بجريان مائه الطامي العذب ، والذي يغمر من يدخله ويغطيه بعمقه ، ومع ذلك تراه لأهل بلده خير يغدق بره عليهم ، فيرويهم برد طعمه وعذب زلاله القراح ، والذي يستسيغه في طيب وهناء وصفاء كل وراد له وكل شارب منه ، فإنه السلسبيل طعمه والنقاح في لذته المرية .
ولذا ترى دجلة الخير : مطيلسا بجوده على الواردين لمشارعه ومشاربه وشطئانه ، واهباً سقائه للبساتين والغابات ، وللحدائق والمزارع التي تحتضن بره ، وبأبعد ما يمكن لضفافه ، وبامتداد مسيره الطويل حتى الخليج . 
و في مركز هذه المحافظة : التي هي فيحاء العراق و نينوى الوطن وموصل البلاد ، وأنس نبي الله يونس الذي آمن به أهلها الخيرين من قبل ، وفي حي من أحيائها المطلة على نهرها العظيم دجلة الخير ، ولد إنسان طيب من ناسها الطيبين ، فتنسم سليل الولادة ، ودرج في أدوار الطفولة والصبا حتى صار غلاماً يافعاً ، وبالمراهقة مترعرعاً ، وللاحتلام ناشئا ، وفي وسط عائلة عريقة وعشيرة كبيرة وأصيلة في هذه المحافظة الرائعة القديمة في امتداد التاريخ ، والتي كانوا ومازالوا أبنائها الشرفاء يعتزون بأفراد هذه العائلة الكريمة لأنهم شرفاء أهل بلدهم ومن الناس الطيبين فيهم ، ويكنّون لهم الاحترام والتقدير وبالخصوص أهلها القدماء ، حيث في قسم كبير من دوائرها أو محلاتها القديمة والحديثة ، قد يوجد فيها فرد أو عائلة من هذه العشيرة المنتسبة بشرفها لسيد المرسلين وخاتم النبيين .
وأمٌا أسرة عبد الله الظاهر بالخصوص : فهي كانت متكونة من أب وأم و ثلاثة أخوات وأخوين ، وكانوا ملتزمين بعادات العائلة والمنطقة ، ومحافظين على الحدود الدينية ، فهم يؤمنون بالله الخالد الأزلي وأنبيائه ورسله كلهم لا يفرقون بين أحدا منهم ، وبالخصوص خاتمهم وخلفائه الأربعة بإعزاز وإكبار واحترام ، وكانوا ومازالوا محبين للعلم والتعلم ، ولا يوجد شيء يشوش أفكارهم في هذا الاعتقاد الذي توارثوه من أول شروع الإسلام من زمن سيد الأنام إلى الآن ، ومنتحلين لأحد مذاهبه الأربعة في فروع الدين ، وتابعين لأبي الحسن الأشعري في الأصول العقائدية ، كجميع أهالي المحافظة التي كان منهم كثير من علمائها في الدين ، والذين تخصصوا فيه وكان شغلهم الشاغل منذ زمن بعيد .
وأما أبا عبد الله : فهو كان مدرسا في المدرسة الإعدادية التي تخرج منها ابنه عبد الله في هذه السنة بنجاح يثير الإعجاب وموجب للافتخار ، حتى كان أبوه الذي ينظر للجميع بأنهم كطلاب عنده ، اخذ ينظر له باحترام بالغ ويعامله وكأنه أصبح ذو شأن خطير .
وفعلاً لم تمر الأيام : حتى قُبل عبد الله في أفضل جامعات العراق وأعلاها شأناً ، ألا وهي كليّه الطب في بغداد عاصمة العراق ، والتي يطل الخارج منها بخطوات بعد قطع مسافة قصيرة على نهر دجلة الخير ، والذي يخرق بمسيره أرض السواد المزروعة بنعم الله الطيبة ، وبطول يزيد على أكثر من ألف كيلومتر من الشمال إلى الجنوب .


إلى أعلى مقام في الصفحة نورك الله بنور الحسين وآله الكرام عليهم السلام


تفضل يا طيب إلى الفهرس العام رزقك الله ونورك بدين الإمام وخلصك من الظلام



الفصل الثاني

كليّة الطب وقسمها الداخلي

بدأت السنة الدراسية لعام 1970ميلادي : وهاهو عبد الله الآن في وسط بغداد عاصمة الوطن ، و مركز ثقله و قلبه النابض بالحياة ، وفي مساء السبت الثاني من تشرين الأول ، صار جالساً على شرفة غرف أحد الأقسام الداخلية التابعة لمدينة الطب وكليتها المطلة على شريان العراق الوتين و وريده الأكبر ، الذي تعود النظر إليه فبل أن يكون مميزا ، وعندما كان في أحضان الأم الحنون ، وحينما كانت تحمله طفلاً رضيعاً مارةً به على ضفافه إلى بيت والدها الفاضل ، و الآن هو ينظر إليه من مكان آخر ومنطقه ثانية لم يكن قد أرتادها من قبل هذا ، إلا مرة واحدة كانت لفترة قصيرة جداً في زيارة للعاصمة ، وفي أيام سالفة مع والده الموقر .
أما الآن فها هو : يسكن على طرف هذا النهر المعطاء من جهة الرصافة ، يحدوه الأمل على أن يتابع دراسته ويحصل على شهادة في الطب ليصبح دكتورا يداوي أبدان أبناء جنسه , وطبيباً يعالج أجسام أولاد جلدته وبلده ، متطلعاً بنفس مشوقة لمستقبله المشرق ، مأخوذاً في نشعت الخواطر ورضاه بزهو للأيام الآتية .
ثم بعد هنيئة من التفكر : التفت إلى نفسه قاطعاً لسرحه في تشوقه لمستقبله الذي يتصور فيه العز والجمال ، و ما يُقلبه من حلاوة ذكريات ماضيه في عيون يجول في حدقتيها ماء الأمل ، والذي تحقق منه ما يشفي الغليل راجياً للخير البعيد الآتي ، فحرك القلم فوق دفتر الرسائل الذي أعده من قبل ليكتب إلى أهله واعز الناس عنده ، و الذين رعوه بكل عطف وحنان في أعز أيام الحياة وأحلاها عفوية وطيبة وبراءة وسهولة ؛ فتسلل صرير ركز القلم بهدوء إلى ذهنه ، والذي أخذ يملي عليه فيشرح لهم أحواله في أيامه العشرة الماضية التي قضاها في عاصمة الوطن ، فكتب لهم وكله شوق لتعريفهم أخباره ، ويكاد أن يكون كشوقه لمعرفة أخبارهم :

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله و صحبة المنتجبين أجمعين .
أبي العزيز وأمي الحنونة وأخوتي الكرام : بارك الله فيكم ولا عدمتكم في القلب أعزة وأحبةً ، وإن الشوق ليحدوني لرؤيتكم ، وإن الحب ليدفعني لمعرفة أخباركم ، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
 أول سؤالي عن صحتكم ، واسأل الله تعالى أن يجعلكم في تمام العافية وكمال الوئام والعزة ، ويمتعكم في هذه الدنيا بكل ما يسركم و يفرحكم ، ويزيد في عزكم وشرفكم .
وأما أنا ففي صحة وعافيه و الحمد لله .
وأما فيما يخص أحوالي : فمنذ أن فارقتكم ووصولي إلى بغداد ، سكنت لمدة أسبوع تقريبا مع ابن خالي ناصر ، وفي غرفته التي استأجرها لسكناه في محلة الميدان .
ثم لما تم قبولي في القسم الداخلي لطلاب كلية الطب انتقلت إليه ، والذي لا يبعد عنها إلا قليلاً ، ولُحسن الحظ إن قسمنا الداخلي يقع على شاطئ دجلة الخير كما هو عليه بيتنا ، وكأني لم أفارقه وإني الآن اكتب إليكم وأنا مشرف عليه ، وقد أدحق أحيانا فيه لأتذكر أعز أيام عمري معكم ، ومن شرفة غرفتي التي تقع في الطابق الثاني والمرقمة بعشرة والمطلة على هذا النهر المعطاء ، والذي عرفني بره وخيره من قبل ولادتي ، بل كلكم تذوقون طعم كرمه .
أما الدراسة : فلم تنتظم إلى الآن إلا في بعض دروسها ، ولكن قد تجولت في غالب أرجاء الكلية مفتتحا لمختبراتها ومتطلع إلى بنائها الرائع وصفوفها الجميلة ، والتي تزينها الخرائط المصورة عن بدن الإنسان ، كما وتحليها تماثيل مبينه لكل عضو من أعضائه الداخلية والخارجية ، مضافاً إلى المحاليل الكيميائية والمباضع الحديدية وغيرها من الأدوات الطبية .
وأما الكتب الدراسية : فأغلبها توفرت ما بين الشراء أو أخذها من الكلية مجانا .
كما وأحب أن أذكر لكم : إنه قد قاسمني في غرفة القسم الداخلي ثلاثة أخوة آخرين من الشيعة ، أحدهم أبيض مربوع القامة من كربلاء اسمه محمد مهدي ، والآخر اسمر فيه لمحة من الطول من محافظة البصرة اسمه صالح لفته ، كما وهم معي في الغرفة كذلك هم معي في الصف الأول ألف في الكلية ، وأما الثالث فهو من محافظة الناصرية اسمه صابر ابيض طويل فيه سمنه وهو من الصف الأول باء في كليتنا وهو قليل الكلام إلا بلطيفة أو نادر الكلام ، وكما هو قليل التواجد معنا في القسم ولم ينم في غرفتنا إلا ليلة واحدة من هذه الليالي التي مرت عليَّ في هذا المكان الرائع .
أعزتي وأحبائي : هذا بعض حالي قد شرحته لكم مفصلاًْ بعض الشيء لتطلعوا عليه ، وابلغوا سلامي جدتاي وجدي وجميع من يسأل عني ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
 

ابنكم

السيد عبد الله نجم عبد القادر الظاهر

10 / تشرين الثاني / 1970

 
 


إلى أعلى مقام في الصفحة نورك الله بنور الحسين وآله الكرام عليهم السلام


تفضل يا طيب إلى الفهرس العام رزقك الله ونورك بدين الإمام وخلصك من الظلام



 

الفصل الثالث

ساعة الكياسة مع الشيعة

هذه ليلة السبت الثالث في القسم الداخلي ، فبعد أن صلى عبد الله المغرب استلقى على السرير واضعاً يديه تحت رأسه وفوق الوسادة ، ناظراً لسقف الغرفة منسدحاً مع تفريج رجليه قليلاً ، لكي يأخذ قليلاً من الراحة بعد يوماً مفعماً بالعلم والعمل ، والذي لم يقل عن باقي أيام الأسبوع الماضي ، إن لم يكن أكثر منها تعباً ، حيث انشغل في الصباح في ترتيب الكتب التي طالعها أجمالاً ، ومتصفحاً لما يجب عليه تعلمه خلال السنة بدقة أكثر من وقت تحصيلها ، وبأفضل مما نظر إليها في عصر الجمعة الماضية حتى أنها ألهته عن واجبه الأسبوعي من الغسل لنفسه ولملابسه وقص أظافره في الصباح وتلميع حذائه في كل جمعة بصورة جيدة ، حتى أنجز هذا الواجب في العصر الفائت قبل سويعات .
نعم وما إن استلقي عبد الله : حتى لزم زمام فكره الذي سرح قليلا يقلب أهم أحداث الأسبوع الماضي فرحاً بانتظام الدروس ، ولكن كان غرضه في هذه المرة من استلقائه أن يتذكر ما أتخذه عليه واجباً في مثل هذه الساعة من بعد الغروب ، والتي جعلها لمحاسبة نفسه ، والتي علمها له جده تدريباً وتمريناً حفظه الله وأبقاه سالماً من كل سوء ، وناصحاً مرشداً بكل ما يرضي الله تعالى ، فهو كان عزيز عليه وعلى كل أحبته ، حيث كان كثير ما يؤكد عليه وعلى اخوته بوجوب محاسبة النفس في الأسبوع مرة إن لم يستطيع الإنسان محاسبة نفسه في كل آخر يوم ، حتى إن أبيه أبا عبد الله قد أخذ هذا منه ويقول انه نافع للدنيا والآخرة .
وأما جد عبد الله : فقد كان له كلمات لطيفه في هذا الموضوع الذي يسميه بـ (( ساعة الكياسة  )) و يشرح الكياسة بقوله :
إن الكيس : من أحيى فضائله بتقوى الله ، وصافح الحق بروحه فعمل لما بعد الموت ، فيميت رذائله بقمع الشهوات المحرمة والمضرة ، ويعادي الباطل والظلم والعدوان ، ويرفض الحمق في إتباع الهوى ، ويبتعد عن السفه في متابعة الوساوس الضالة ، وكل ما يبعد عن طاعة الرحمان والرب المنان .
وكان يقول : ساعة الكياسة : هي التي تمكن النفس من استنباط ما هو انفع لها ، وتعطي الإنسان منار هدى لتعقل للأمور على واقع أمرها ، والجري لحلها برفق وتئدي يصيب واقع الحق .
وكان يقول حفظه الله : إن ساعة الكياسة : هي الساعة التي يزن فيها الإنسان نفسه ، ويحاسبها بدقة لتسهيل وتيسير أموره بأحسن ما يمكن ، ملقنها ما يجب وما يحرم عليها قبل أن تحاسب في يوم لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة مما فعله الإنسان إلا وقد أحصاها له رب العزة والكمال بيد ملائكة اليمين والشمال ، فيثيبه على عمله الصالح ويعاقبه على عمله الطالح وذلك في يوم القيامة ، بل هنا يوفقه الله لعمل الخير والصالح له ووفق أحسن عاقبة لأموره ، بل قد يحاسب الإنسان الضمير والمجتمع والقانون هنا في الدنيا قبل الآخرة ، بل ساعة الكياسة هي ساعة الوجدان الصاحي .
ويقول جد عبد الله : حقا إن في ساعة الكياسة يعرف الإنسان نفسه ، فأن عمل خيراً استزاد منه وحمد الله عليه ، وإن عمل شراً استغفر الله منه و ابتعد عنه في المستقبل ، ومن قبل أن يغرق في الرذيلة فيقع فيما لا يحمد عاقبته في الدارين ، ويجب أن يكون حسابا بلا مداهنة للنفس ولا غض عن العيوب بأي صورة كانت ، و إننا في هذا العمل الذي لا يستغرق شيء في نهاية كل أسبوع إذا لم يكن في نهاية كل يوم ، له اكبر الأثر في صلاح النفس والتعقل في متابعة الأمور وتسهيلها ، وله أكبر النفع في النجاح والفوز بالصلاح والفلاح .
وبعد ما تذكر عبد الله : بعض كلام جده الذي اقتنع به وعمل به منذُ زمن بعيد ، أخذ ينظر بحاله ونفسه ويتذكر وضعه ليرى ما يُصلح أمره فخطر في باله أمور منها : إنه ليس له كسب وعمل يحصل به على مال ، وإن مصرفه من والده وما يمُنح من راتب جزئي للطلبة ، فلم يكن يهمه أن يحاسب نفسه على اكتسابه من أين أتى ، ولكن عليه أن يحاسب نفسه كيف أنفقه ، وأما كسبه الواقعي فعلاً : فهو تحصيله للعلم وعليه أن يجد في طلبه وتعلمه ، فيكون في الدرس منتبه ومتيقظ لفهم ما يُعلمه الأستاذ .
فلما توصل لهذا المعنى قال في نفسه : حمداً لله على فهمي لدروسي ، وإني لم أواجه صعوبة في إتقان ما تعلمته ، حتى كأنه حاضر عندي حين مراجعته أو حين بحثه مع زميلي بعد الدرس ، فالآن أنا بحق متابع بكل جد للعلم الذي هو عملي المتعين عليَّ الآن تعلمه في الكلية .
وأما حين مراجعته للواجبات الدينية : فلم يرى تقصير بشيء من الطاعة لله ولا في الابتعاد عن المحرمات ، كما أن محبته لله ولرسوله ولنبيه محمد وآله وصحبه النجباء لم تتغير ولم يؤثر عليها شيء ، فإن الطيبين الطاهرين وصحبهم هم  القدوة  الكبرى له .
وبعد هذا : تذكر أكله ونظر في حله ونظافته ، فرأى إن أغلب طعامه كان من نادي الكلية ومطعم الطلبة ، يشتريه بمال من كسب أبيه المتفاني في تعليم أولاد بلده ، كما إنه يعتقد أن أكل نظيف لم يخالطه نجس ظاهرا وهذا يكفي للحكم بطهارته ، و كذا تفكر في لباسه الذي جاء به من بيت أبيه ، ولم يبقى شيء يهم ذهابه وإيابه إلا راجعه ، فلم يرى أمر يعتد به يبعده عن التعقل أو الحلال والطاعة لله تعالى ، وأما موقفه مع زملائه في الدرس وفي الغرفة في القسم الداخلي فتذاكره مع نفسه بتذكر أحوالهم :
فأما زميله محمد مهدي : فإن صداقته له قد توطدت وصارت ذات أواصر حميمة وعلاقة طيبة مع ما بينهم من الاختلاف في المذهب ، حتى إنهما قد تزاملا في ذهابهم من القسم الداخلي للكلية و في مجيئهم أيضاً ، وإن جلوسهم في الدرس صار جنب إلى جنب كما إنهما سويه يذهبان للنادي أو لمطعم الطلبة لغرض الغداء أو الراحة ، و بدء بينهم التقارب الروحي والمعنوي ، وحتى العادات والتقاليد قد توافقا على الكثير منها ، فهما متوافقان بالالتزام الديني بصورة عامة ، وابتعدا عن فضول الكلام من الغيبة والحسد والخوض فيما لا يعنيهما من الأمور الغير مختصة بالدرس والتعليم ، فلم يخوضا في أمر لم يكن له حاصل إلا ملاطفات لم تضر ، بل إنه رأى زميله محمد مهدي مثله يرى في دروس كلية الطب بياناً لعظمة الله ويُريانه دقة خلقته للأبدان وصنعها المتكامل .
وفي محاورة له معه قال : مع أن دراسته لعلم الطب هو من العلم الدنيوي  إلا أنه نافع لتكميل النفس وتوجهها لخالقها ، و في الحقيقة بالإضافة إلى ما مر من حقيقة زمالتهما وتلازموهما ، إن ما شده إليه وجعله يتقرب إليه أكثر هو إن محمد مهدي سيد مثله من الذرية المنتسبين لسيد المرسلين وإنه من عائلة معروفه في كربلاء  لأنه فيها علماء لمذهبهم الشيعة ، وهم سادة موسوية من ذرية موسى (الكاظم) بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وهو إمام الشيعة السابع مرقده في الكاظمية قرب بغداد كما عرف ذلك منه ، فشعر بقرابة منه فضلا عن الصداقة ، ولكنه تذكر تعجبه منه حين عرف إن عبد الله سيد مثله منتسب لسيد المرسلين ولكنه من أهل السنة ، و إن مذهبه على غير مذهب الشيعة أو غير جعفري كما يقول .
و لكن قال عبد الله : إني أوضحت له إنه يوجد من السنة سادة ليسوا بالقليلين سواء في الموصل أو في شمال العراق ، وإن لهم مكانتهم واحترامهم بين أفراد مجتمعهم ، وإن فيهم من الدراويش الذين يكثر تواجدهم في حلقات الذكر ، كما قال محمد مهدي :نعم مؤيدا لعبد الله بكلامه ، وأضاف : إن السادة أيضاً موجودون في مصر وليبيا من زمن الفاطميين والأدارسة بل الآن ملك الأردن والمغرب هم من الأشراف والسادة المنتسبون لرسول الله ، ويوجد غيرهم الكثير من ذرية أهل البيت المنتشرون في جميع بقاع الأرض .
كما إن في جلسة التعارف هذه بين عبد الله ومحمد مهدي : التي كانت في يوم الأحد من الأسبوع الماضي في نادي الكلية ، قد عبرا عن فرحتهما وراحتهما لما بينهم من قرابة ونسب ولو من بعيد ، كما وعلق عبد الله بقوله : كلنا لآدم وآدم من تراب ، بعد إن نظر لمحمد مهدي وهو مطالعاً للكتب التي أمامه مع ابتسامته اللطيفة التي أعتاد أن يراها منه .
كما أنهما لم يتطرقا في هذا لأسبوع إلى شيء من البحث في الاعتقاد الديني ولا حتى في مسألة من مسائله ، لأن محمد مهدي كأنه كان مثل عبد الله همه الدرس والعيش بسلام بكل ما يجعلهما رفيقين متحابين من أجل العلم والتعلم .
ولكن على كل حال إن عبد الله في جلسة التفكر هذه راجع في نفسه : كيف أنه من هذه الجلسة المباركة للتعارف بينهما اتحدت حركتهما في الذهاب والإياب للكلية ، وحتى وقت الصلاة والأكل وغالب تحركهما ، فحمد الله على هذا التوفيق لحصوله على رفيق صالح في هذا الطريق الذي يستمر عدة سنوات دراسية كما هو عليه مناهج كلية الطب .
ثم قال وأما زميلنا في الغرفة صالح لفته : فإنه اختار صديق من البصرة كان معه في أيام الدراسة الإعدادية ، وكثير ما كان يلتقي بهم ويتحدث معهم في خارج الغرفة وبالخصوص في نادي الطلبة ، وأما في الغرفة فهو صديق لطيف في حركاته وذهابه وإيابه ، كما إنه في الغالب مشغول بدرسه ، ولذا يعتبره مجد مثله بل اشد ، فلم يكن بالنسبة له ثقيلا ولا مملا بل هو مرتاحا له ولعلاقته معه .
وأما زميله الثالث : فإنه كما كان قليل الكلام وقليل التواجد في الغرفة ، فإنه لم يكن معه في نفس الصف ، وكان يطلق بعض اللطائف في بعض الأحيان حين تواجده معهم في الغرفة وفي إثناء كلامه قبل المنام ، ومع ذلك لم يكن بالثقيل الذي لا يتحمل .
ثم نظر عبد الله إلى نفسه ، فقال : اليوم كان الجمعة وقد أنقضى ، وليلة الخميس الفائت لم يبقى في الغرفة إلا أنا وصالح، وأمس صابر ومحمد مهدي قد استغلوا الفرصة بعد نهاية الدوام وذهبوا إلى أهليهم ، فإن كربلاء التي يسكنها محمد لا تبعد عن بغداد إلا ساعة أو أكثر من الزمن ، لأن المسافة بين كربلاء وبغداد تقريبا مئة وبضعة كيلومتراً ، والناصرية التي يسكنها صابر فإنها تبعد أكثر من مائه كيلومتر فأنها تبعد فيما اعتقد أكثر من الثلاثمائة والسبعون كيلومتر، إلا أن الظاهر منه لم يطق فراق أهله فذهب ، وهكذا كان قرار محمد مهدي وصابر في كل أسبوع حسب ما فهمت منهم عندما أعدا حقائبهما للسفر .
 وأما البصرة : التي يسكنها صالح الذي استقر معي في الغرفة فإنها تبعد عن بغداد بحدود الخمسمائة والخمسون كيلومتر ، وهي أبعد من الموصل بالنسبة إلى بغداد .
ثم ألتفت عبد الله إلى نفسه فقال : يذكرها حاله ، وأما أنا فمن أهل الموصل موطن سكناي ومرتع صباي ، وأني لم أبالغ أن قلت أنها أحلى مدن العراق ، بل من أجمل مدن الدنيا على الأقل بالنسبة لي ، وقال : هي تبعد عني في مسافة حدود الأربعمائة كيلومتر ، ولكن فعلا لم تفارق خاطري ولا تفكيري ، كما لم يفارقني تذكري  لأهلي الذين يعيشون بين جنبي ، فأنهم في القلب .
ثم قال أنا وصالح : قررنا أن نذهب لمدننا إذا سنحت الفرصة ، أو إذ لحق الخميس والجمعة يوم عطلة آخر قبله أو بعدها ، لأن المسافة بعيدة نسبياً ولسنا مثل صابر ومحمد مهدي ، يمكن أن نفرط بالدرس والمراجعة والراحة والإعداد للأسبوع القادم ، وعلى كل حال لكلا منا ظروفه ، فالدرس مجهد والراحة ضرورية والتحضير واجب ، ولا يمكن أن نتساهل فيهما وبالخصوص نحن في أول أيام الدراسة ، ومن تعود على تبذير وقته يعتاد عليه ولا يهمه المهم من غرض وجوده في بغداد ولا يمكنه مراجعة درسه أو التحضير له .
ثم قال : أن المهم في هذا العرض هو إن زملائي في سكناي و أصحابي في الغرفة الذين عرفت عنهم بعض الشيء ليسوا بالثقيلين وأنا مرتاح معهم فعلا ، وإن ما يحق بحثه عنهم هو أنهم شيعه وفيما اعتقده هو : أن هؤلاء أول ناس من الشيعة أجلس معهم وأتحدث معهم ، بل صرنا أصدقاء ورفقاء وزملاء ، لأني لم أتعرف على أحد من الشيعة في بلدي الموصل ، وإن كان أكثر من نصف العراق هم من الشيعة ، فهذه بغداد نفسها نصفها الغالب من الشيعة ، و إن الشيعة مع السنة يعيشون مترافقين من مئات السنين ، بل أكثر من ألف سنة يعيش فيها الشيعي مع السني في وئام وصفاء لا يكدر ودهم شيء ، إلا في بعض التحركات التي كانت تثيرها السلطات الحاكمة لمصالحها أو بعض المغرضين لمنافعهم ، وبالخصوص المستعمرين أو الطغاة والظالمين ، وسرعان ما تخمد ثائرتها بحمد الله.
ثم قال عبد الله في نفسه : إنه لا مانع من أن بعيش اثنان أو أكثر مختلفين في الرأي في مكان أو بقعة واحدة ما لم يستغل أحدهم الآخر ، ولا يفرض عليه شيء من أفكاره بالقوة أو لم يسعى أن يحملها عليه ، ألم نسمع بالقول الرائع : ( موسى بدينه وعيسى بدينه ) ثم علق على قوله بفكره أنهما على رأينا مسلمين وأنبياء على دين واحد ويعبدون رب واحد ولكل منهم خصوصياته ، ثم إن الإنسان يحتاج إلى الوئام والألفة لا للخصام والتنافر ، وإذا كان كل أثنين مختلفين في الفكر لا يمكنهم السكن في مكان واحد ، لما تمكن أن يعيش أب مع ابنه ولا زوج مع زوجته ولا أخ مع أخيه .
ثم إنه تذكر بعض المسائل : التي كان يقع فيها الاختلاف بين إخوته ، حتى مثل لون صبغ البيت وبابه وبعض أنواع اللباس ، بل حبهم لبعض الأكلات والهوايات المتفرقة بين الرياضة والرسم والمطالعة وغيرها حتى في طريقة الكلام وجديته ، ثم قال : الحق إنه قل ما يتفق اثنان عل لون واحد فضلا عن قول وفكر واحد ، فكيف الاتفاق على آلاف المسائل التي توجد في الحياة ، ولذا نرى الناس يعيشون في التوافق الاجتماعي بأكبر قدر ممكن من الاحترام المتبادل بينهم ، ومعتمدين على ذلك بالحفاظ على أكثر ما يمكن من المصالح المشتركة ، وعلى احترام حقوق الآخرين وفق العدل الاجتماعي بلا تدخل فيما يخص شؤون الآخرين ، وليس كل الناس حكام أو لهم مطامع التجار الغير منصفين أو الناس الجشعين .
 ثم علق في فكره أو الكون في الرئاسة وطلبها من الظالمين الذين يسحقون من هو أحق منهم بها أو مثلهم ، وغير مبالين بقيم المجتمع وصلاحه ، فيسعون لأن يحافظوا على مراكزهم بكل صورة ووسيلة وأسلوب ، ولو ليس بحق لهم ولو كان خلاف الإنصاف والعدل ، ثم قال ليس كل من حكم هذا سبيله فإن التاريخ يحكي عن حكام عدول وتجار منصفين وعلماء غير حاسدين للآخرين .
ثم قال عبد الله : الحمد لله لم يتم بيني وبين زملائي نقاش مذهبي ، وما تراه يجدي النقاش العقائدي لهما ، أو الدخول في بحث مذهبي معهم ، إلا إلى تشتيت الشمل وقطع أواصر الأخوة ، وخصوصاً إذا كنا غير متعمقين في معرفة الأمور الدينية ، فإن جدي حفظه الله كان يقول :
فلسفة الدين وحكمته بحر عميق ، وإنه بحر معنوي ليس كالبحر المادي ، فإن بحر الدين النجاة في أعماقه والغرق على شواطئه ، فإن من ولج فيه عليه إن يسبح حتى أعماقه ليستخرج كنوزه أو يعبره بسلام ، فعليه أن يعبر كل المخاطر التي تلهي عن عبور تعاليمه بدقة ، وبالطاعة وعدم المخالفة ، وإلا يكون الغرق الحتمي ، فإن تعاليمه يجب التسليم لها أو بحثها بعمق لمعرفة كل تفاصيلها ، وإنه لما أمنا بالله تعالى حين رأينا إنا لم نخلق أنفسنا ولا خلقنا أبوينا لأنهما مخلوقان مثلنا ، والكون كله مخلوق فلابد له من خالق قادر عليم قدير ، بيده تدبير كل شيء فيه ، وفعلا حُسن الخلق والنظام فيه رائع ومتقن لابد أن يكون له مدبر حكيم عليم قادر ، وهكذا هُدى الدين وتعاليمه ، والمعجزات في التدبير والخلق كثيرة ، فكلما أتذكر منها دليلا أو برهانا أقع في روعة الوجود وحكمة الخالق ، فأسلم له بكل دينه سبحانه ، ومتيقن لجميع آياته التي تدلني على الواحد الأحد والعليم الحكيم والقادر المدبر العزيز.
إلهي أنا عبدك المسكين وأنا مطيع لك بكل تعاليم هداك ، لا إله إلا أنت فارحمني وعلمني وأهدني للصراط المستقيم ، ومكني من كل دينك القويم لأطيعك به حتى ترضى .
 
ثم قال عبد الله : على كل حال يجب عليَّ أن أقبل كل مسائل ديني الحنيف وألتزم بها وأطبقها ، فإنها تعاليم شريفة وكريمة تهذب النفس ، وتعطي قيمة للإنسان ولهدف وجوده في الكون ولغايته المتكاملة في نفسه وفي مجتمعه وفي كل شيء من أمور حياته ، ثم إن الإنسان إذا لم يعرف مسألة من مسائله لا يحق له أن ينكرها ما لم يقم البرهان على نفيها ، فإن النفي كالإثبات يحتاج إلى دليل ، وإن أهل الدين لا يطرحون شيء إلا و عندهم دليله وبرهانه .
ثم قال عبد الله في نفسه : هؤلاء الشيعة لهم عقائد خاصة بهم ، ولعله لهم أدلتهم وبراهينهم على مذهبهم الذي لا اعرف عنه شيء ، إلا أنهم يكنون ولاء شديد لأهل البيت دون غيرهم ، وبالخصوص للخليفة الرابع جدي علي بن أبي طالب كرم الله وجه ويقولون هو الإمام والخليفة بعد جدي رسول الله ، ولا أدري كيف يكون خليفة أول وهو الرابع في تسلسل من حكموا المسلمين ، ثم قال على كل حال إنا ليس لي الوقت حتى أناقشهم ، ولا عندي تلك المعرفة العميقة الواسعة ، ثم هؤلاء الشيعة في الغرفة ثلاثة وأنا واحد لعله لا أتمكن من مناقشتهم أو جوابهم كلهم ، وقد يُعكر البحث معهم صفو الزمالة والمحبة بيننا .
ثم قال عبد الله في نفسه : على كل حال أنا عليّ أن لا أدخل في نقاش مذهبي معهم أبدا ، وهذا المهم الآن ، حقا فادني تفكري ونفعتني ساعة كياستي ، وحقا إنها ساعة تفكر مفيدة لتنجي الإنسان وتعلمه ما يجب له ، وما يجب عليه عمله واتخاذ التصميم النافع لتنفيذه ، نعم لا أناقش أحد منهم لعله تكون مشاحنة أو يخلق النقاش مشاكل أو قد لا أطيق جوابهم وما يهمني بيانه فأخسر صداقتنا والبيان للحق وتعريف الصواب ، ثم تبسم في نفسه وقال يا الله : عيسى بدينه وموسى بدينه وهم يعبدون إلها واحدا .
ثم أخذ يجيل فكره بما يعرفه عن الشيعة وعاداتهم فتذكر أمور منها :  إنه سمع عنهم أشياء ، إلا إنه أهم ما يعرفه هو أنهم يشايعون علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) ويقولون أنه خليفة رسول الله المطلق ، ويرفضون خلافة الخلفاء الثلاثة العظام ، وهذا أمر مضحك بالنسبة له ، إذ هذا لا يغير من التاريخ شيء فأنهم كلهم مضوا رضوا بذلك أم أبوا ، والتاريخ لا يعيد نفسه ولا أحد يقدر أن يعيده فيجعل الأول رابع أو الرابع أول ، وما يهم أن يكون جدي علي رضي الله عنه قد حكم أولا أو آخرا . 
ثم تبسم في نفسه وقال : يا للمهزلة أتذكر نكته لطيفة عنهم كنا نتداولها بيننا عندما كنا صغار ، وهي إن الشيعة عندهم ذيل ، ولكنها لم تقنعني وبالخصوص عندما فهمت الأمور ، و كنت أعرف إنها للمسخرة بهم والسخرية بمن يخالفنا في المعتقد ، ولعله هذه عادة المتخالفين ، ثم إن الشاشة المرئية ( التلفزيون ) كان يعرض أفلام عن الوسط والجنوب وجميع مناطق الشيعة ، ولم أرى أحد عنده ذلك ، وكذلك لم يحدثنا التاريخ ولا غيره عن هذا شيء يذكر، ثم الآن أراهم إمامي فما أبعد ما يبن ما كنا نسمع والواقع . 
ثم قال عبد الله : نعم لقد علقت في ذهني عن الشيعة صورة قبيحة ، وذلك عندما رأيت أحد الجنود من الشيعة حين جاء يصلي في مسجد السوق ، فإنه كان في لباس غير مرتب ، وقد وقف في أخر المسجد ، ثم إنه صلى صلاة عجيبة في السرعة ، وكأنه كان في مسابقة تبين سرعة القيام والقعود ، ولعله كان معذوراً لأنه كان جندي والسيارة التي تنقلهم كانت تنتظرهم ، فإني رأيته ما أن انفلت من صلاته إلا وقد ولى هارباً من المسجد إلى حيث لا رجعة في تلك السيارة التي كان فيها كثير من الجنود والذي لم يصلي منهم غيره ، ثم قال لم أحمل صورة غير مطلوبة عمن لم يصلي ، وهذا الذي صلى جعلني أحمل عن الشيعة صورة غير مطلوبة ، ولعله هذا من ضعف النظر في أحوال الإيمان وعدمه ، ولكن هؤلاء زملائي ليس مثله ولا بوزنه أين هو منهم .
فإن هذا زميلي السيد محمد مهدي : وإن كان في صلاته سرعة وخفة بالنسبة لصالح ، إلا إنه في قيامه وركوعه وسجوده استقرار لم أجد عند أغلب مصلينا ، وإن كان يجمع بين صلاة : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، وإني سمعت أن النبي  صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم  جمع بين صلاتين من غير خوف ، ولكن لا دائما ولعله لهم دليل آخر .
وأما هذا صالح : فإنه من الشيعة فإن صلاته جميلة ويقرأ أدعية جملية سوف أتعلمها منه وبالخصوص في ركوعه وسجوده بل وقنوته ، ثم إنه إذا سنحت له الفرصة يجلس للدعاء وقراءة القرآن خصوصاً بين صلاة المغرب والعشاء ، وكأنه لا من السنة ولا من الشيعة بل حقا ناسك جميل السمت والمنحى ، لكن عندهم عيب و هو أنهم كما لا يحترمون بالصلاة بالتكتيف بل يسبلون أيديهم ، ثم هم يضعون ما يسمونه بالتربة للسجود عليها ، ويقول عند ما سألته عنها إن في مذهبهم لابد من السجود على الأرض أو شيء منها ، وهذا أمر مضحك إذ ما يمنع من السجود على السجادة الجميلة أو الفراش المبثوث ، إذا كان التوجه لله تعالى ، ولعل التربة فيها إشكال ، فإنها تشابه الصنم الموضوع أمام عبدته .
ثم قال : كما أني أعرف عنهم أمر مخجل وهو قولهم بزواج المتعة ويقال إنهم يستدلون بآية المتعة ولا أعرف حقيقة الأمر ، فإنه حرمها سيدنا عمر بن الخطاب الخليفة الثاني وإن تمتع المسلمون في زمن رسول الله .
 كما أنهم يقولون بانفتاح الاجتهاد وهذه مصيبة ، إي ليس لهم مذهب ثابت في فروع الدين وغيرها من المسائل ، ونخن نقلد من مات من قبل أكثر من ألف سنة ولو لم يكن في زمن رسول الله ، ولا يهمني التقليد والاجتهاد ومسائله الآن لا من قريب ولا من بعيد ، ولا يقدم ولا يؤخر شيئاً معرفتها بالنسبة لي .
وهنا هذا صابر منهم لا يصلي ولم يقل له أحد شيء ولم يدعوه للصلاة ، فهل من المعقول أنا أن أدخل معهم في نقاشي ديني وبحث عقائدي لا أعرف عواقبه ، ثم أنا جئت لكي أصبح طبيباً لا داعياً دينياً ولا مبلغاً إسلامياً .
وبينما عبد الله في هذه الأحوال التي يقلب بها فكره وأحواله مع زملائه ، ويتفكر في ساعته التي يسميها بساعة الكياسة كجده وأبيه ، إذ قطع سلسلة أفكاره صالح متسائلاً الآن الساعة تقترب من العاشرة ، وكأني أراك تريد أن تنام فهل تسمح بإطفاء الضياء ؟
قال له عبد الله : نعم ولكني سأنهض من الفراش لأجدد الوضوء لصلاة العشاء ، وآكل شيئاً قد أعددته مسبقاً ثم أنام ، فهل تأكل معي ، قال صالح : شكرا لك فأنا صليت وتعشيت ، ولكن إذا تمت صلاتك وعشائك فأطفئ الضياء ونم قرير العين وتصبح على خير ، وما رأى عبد الله صالح أتم كلامه إلا ورآه بعد هنيئة قد غط في نوم عميق ، وكأنه من صيد أمس .


إلى أعلى مقام في الصفحة نورك الله بنور الحسين وآله الكرام عليهم السلام


تفضل يا طيب إلى الفهرس العام رزقك الله ونورك بدين الإمام وخلصك من الظلام



الفصل الرابع

وقفة مع الأهل

ما إن صلى عبد الله : وأكل شيئاً حتى رجع إلى فراشه مستلقياً للاضطجاع والنوم لا للاستراحة ، ولكن في هذه المرة سرحت أفكاره وذهبت مرآة خياله تتصفح وجوه الأعزة وأحبائه أبيه وأمه وأخوته ، حتى وقف عند صورة جده لأبيه ، فإنه رجل عظيم تذكره طلعته الوقورة البهية بأنه حقا من نسل سيد المرسلين ، فإنه كان يعتقد بجده إنه رائع في كل شيء في معيشته وتدبيره ، وفي قيامه وقعوده ، وفي هيئته وهندامه ، وفي شكله وقوامه ، في قوله وكلامه ، فإنه لا ينسى كلماته قبل وبعد حضور طعام حفله الوداع الأخير الذي دعاه إليه قبل مجيئه للدراسة ، وحين دعاه وقال له نصائح يودعها به ويستودعها أيها لترافقه في محل دراسته ، ولتكون شبيهة بالدستور لحياته في الجامعة الجديدة ، حيث قال له :
يا بني عهدي بك : انك فتى عاقل بل أصبحت رجلاً كاملاً قبل أوان فتوتك وشبابك ، فإن أملي بك لوطيد الآن كما كان في السابق ، وكما كان في والدك وأعمامك ، فإني أرجو أن تكون مثلاً لامتدادي الطبيعي من بين جميع أحفادي ، وإني أتوسم بك أن تسودهم إن كبرت ، وتكون من أنظارهم أن كملت ، وأرجو أن تفكر بالرجوع للموصل بعد إكمال دراستك ، فلا تغرك بغداد بما فيها من الملاهي الدنيوية وكل زخارفها .
وإن لعهدي بك يا بني : إنك مؤمن بالله تعالى ، موحداً له في العبادة و التأله في عظمته ، معتقداً بحاكميته المطلقة وخالقيته لجميع الكون ، وبأحسن صنع وبأفضل دقه ممكنة ، فإنه حكيم ومدبر بحق قد وضع كل شيء في موضع يناسب حاله حتى يوصله لمآله وغايته ، وبأروع تدبير وحكمة ، بل هو سبحانه الهادي لكل شيء تكويننا وتشريعا ، فجعل بحق لكل شيء هدى يناسبه ويسوقه لغاية ترافقه حتى يصل لكماله اللائق به وحسب شأنه ، إلا الإنسان فإن له نوع من الأمر لنفسه ، وبيده يسوقها لمصيره بما مكنه الله وسخره له ، فبالطاعة للهدى التشريعي الإلهي لدينه القيم ، يصل لكماله الحق ونعيمه الواقعي فيسعد في الدنيا والآخرة برضاه تعالى ، ويتم صلاح حاله في راحة وسرور وفرح وحبور ، وإلا إن عصى فله نار الحرمان في الآخرة وعدم الراحة والاستقرار في الدنيا .
 كما إنك يا بني الحمد لله من المصلين : وأرجو منك أن تتمسك بها في هذا البلد الجديد ، فإنها الرابطة والعلاقة بينك وبين ربك الذي انعم عليك بنعمه التي لا تحصى ، واعلم يا بني أن المواظبة على الصلاة سوف تمنعك من اقتحام المعاصي ، وتجنبك ارتكاب الجرائم والمآثم ، فإن الصلاة عمود الدين ، وقربان كل تقي ، ومعراج المؤمن في عالم ملكوت الرب سبحانه وتعالى .
يا بني ويا عزيزي : اعلم إنه قد جاء في الأثر : (( العلم علمان : علم الأديان ، وعلم الأبدان )) و في اعتقادي أنه لا ينفع علم الأبدان إذا لم يكن في خدمة علم الأديان .
و أنك بحمد لله : منتسب لعلم الأديان بجدك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، كما إن أجدادك بعده فيهم علماء ربانيين بارزين في تدعيم الدين ، وبالخصوص لمذهبنا في هذه البلاد ، وهم الذين أقاموا أركانه في هذه المواطن ، وذبوا عنه بالقلم و اللسان على احكم دليل وبرهان ، و هذا هو دينك و مذهبك ، فلا تذهب بك المذاهب في بغداد ، وإياك والبدعة الجديدة للاستعمار وخداع الناس عن دينهم بإظهار دينهم المسيحي بلباس الوهابية من عدم احترام النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين ، والذين يعتقدون إن عصى من أضلهم أنفع من نبي الرحمة وشفيع الأمة ، والأرذل والأقبح من ذلك كله تجسيمهم لله تعالى بصورة إنسان ونزوله من السماء ، وهدمهم لقبور الصالحين ليحرمونا من معرفة الطيبين المخلصين الأوائل لكي نخسر الإقتداء بهم وطلب الإخلاص والتفاني في طاعة الرب مثلهم ، وهم أذناب الأفاك ابن تيمية الذي قال بضلاله جميع علماء أهل زمانه ، كما ضلل أتباعهم تبعه المفتري ابن عبد الوهاب ، مبذرين لأموال المسلمين الهائلة و مسرفين بنقود النفط التي جعلها الله فتنةً لهم ولمن تبع ضلاهم من غير تحري للدقة في الدين القويم وأسسه المتينة ، والتي ترفض كل بدعة لمذهب جديد يروج له أهل الضلال والمشركون بكل صورة ممكنة ، مشترين بالأموال العظيمة الأقلام المأجورة وعلى السوء مبذورة ، فأخذوا في كل مكان ينتشروا مذهبهم كدين جديد حتى سمعت بتواجدهم في أرض الكنانة مصر وغيرها من بلاد المسلمين ، بل ظهر قسم منهم عندنا وإن شاء الله لن يكن لهم موطن قدم هنا ، وهم الآن يخافون التظاهر بفتنتهم .
و إن كان في هذه الأيام قل المتدينون في العراق ، ولا يخاف على المتدين من المتدين في غير دين آبائه وأجداده ، أو إنما يخاف كل الخوف من ترك الدين والانحراف عن جادة الصواب واتباع الشيوعية ، أو ما يسمى بالقومية أو العنصرية البعثية التي دعا لها ابن الفرنسية وأذنابه وأتباعهم بالقوة ترغيباً وترهيباً ظلماً و عدواناً على العباد ، منحرفين عن قوله تعالى :
(( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )) ، وإن كان لنا اعتزازنا بانتسابنا لسيد المرسلين ، لكن يا بني لا يغرك هذا في دينك فإنه ليس بين الله تعالى وأحد قرابة ، ولا قربة إلا بالطاعة .
( و قد قال جده الكلام الأخير له بصوت اخفت لكنه بهوادة وأكثر جدية يريد أن يشعره بأنه يقول كلامه هذا وليتبعه ما يتبعه ، بين فخر بالنسب والخوف من مخالفة القومية وعدم الاعتداد بها أكثر من الدين ) .
ثم قال : فأرجو منك يا بني أن تبقى على حماسك في المحافظة على اعتقادك بهذا الدين الحنيف ، وبإيمانك الراسخ بهذا المذهب الشريف ، و لا تهمك قلة الناس في طريق الهدى ، وإن في هذا الزمان  القابض على  دينه كالقابض على جمرة من النار .
ثم قال له اعلم يا ثمرة فؤادي و يا قرة عيني : وأرجوك أن تنتبه لكلامي و أدخل حروفه قلبك ولبك ، وأجعل معانيه تنطبع على صفحات نفسك ، ثم أرجو منك أن تذكره وتقرئه على روحك بكل وقت ممكن وفي كل فرصة تسنح لك ، فهذا هو دوائك والمصل الذي يدافع عنك أمام أمراض العقائد الباطلة ومكروب المذاهب المنحرفة .
ثم قال له : اعلم يا ابني العزيز و يا حفيدي المجيد ، إن علم الأبدان شريف بحد خدمته لعلم الأديان وللطيبين من بني الإنسان ، وإنما هو من أجل كونه جُعل لسلامة البدن ولصحة الجسد ، ولكي يقوي العبد في صحته وتصحيحه على طاعة الله وعبادته ، وإلا فإن البدن الذي لا يخشع إمام الله تعالى لا يساوي في ميزان العدل الأخلاقي ذرة خردل ، ولا يستحق شرائه من النبلاء فلساً واحداً ، بل تكون صحة بدن العاصي و بالاً عليه يوم القيامة ، وسلامة جسد الآثم عاراً عليه إمام ساحة القدس عند الحساب يوم لا ينفع لا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
فضع في بالك يا عزيزي ما أقول لك ، وأنقشه على خاطرك يا روحي ، فأن قبولك في كلية الطب للدراسة ، إنما هو لدراسة دواء داء الأبدان المعلولة ، وسوف تكون مطلعاً على تشريح الأجساد البالية ودقة صنعها ونظام عملها الدائب ، فتعلم حينئذ إن صنعها وإيجادها بهذا النظم كتدبيرها ، فإنه يكون من موجد قادر عالم حكيم ، ورب رحيم فوق حد التصور .
ثم من هذا يا حبيبي : تعلم أن العقل البشري لا يحيط بتفاصيل الصنع لهذا البدن ، ولا يمكن إن توجده الطبيعة صدفة ، فعند ذلك يكون درسك دواء لروحك فضلاً عن بدنك ، و يكون بحثك داعياً لدينك ودليلك إلى ربك و قائدك لمعرفة أحكام مذهبك ، ويكون محرك قويا لك لطاعته تعالى ، وإنك سترى آياته سبحانه في كل شيء في الوجود وفي نفسك ، و ستطلع على عجائبه في بدنك ، كما تراها في آفاق الكون و أرجاء الوجود .
 
وهذا هو عبد الله : أضطجع لينام ولكنه تذكر أعز إنسان إليه فأخذ يتذكره وكأنه يراه أمامه ، بل جالسا معه بتلك جلسة الحب الأخيرة قبل مجيئه لبغداد ،  نعم كان يراه بكل وضوح وفوق حد الخيال بل أمامه يهدر بكلامه في نصيحته ، وبدون تأني وكأنه من غير سابق تحضير مسبق ، بل أنه يرى جده مثقف في دينه فوق حد التصور ، وإن دأبه النصح وعادته الإرشاد ، وسجيته التوجيه ، وهكذا بقيت صورة جده المباركة تشع أمامه وفي مرآة خياله حية تذكره وتنصحه وتعانقها بروحها في هذه الليلة حتى غط في نوم عميق بنفس مطمئنة بمصيرها وما يجب عليها أن تفعل في غد .


إلى أعلى مقام في الصفحة نورك الله بنور الحسين وآله الكرام عليهم السلام


تفضل يا طيب إلى الفهرس العام رزقك الله ونورك بدين الإمام وخلصك من الظلام



الفصل الخامس

التربة الحسينية
 رمز الكرامة و إكسير الحياة

هذه ليلة السبت الرابع في القسم الداخلي : هاهو عبد الله مستلقيا على سريره في القسم الداخلي بعد صلاة المغرب ، وبعد أسبوع من الدرس والبحث الذي اشتد وأخذ في الجدية بشكل لم يترك له فراغ لأي عمل أخر ، حتى شغله عن الإطلال على دجلة الخير من شرفة غرفته للتنزه ، بل ولو للتأمل فيه و لسماع هدير تبليغه سلام أهله له ، والذي مرّ من أمامهم مائه الجاري ليكون أمامه في كل إطلالة له عليه ، فإنه حتى قبل نومه في أيام الدرس يكون سرحان فكره في الدرس ومراجعة بعض المحاضرات والتوقف على دقائق بحثها ، وحقا إنه كان متأملاً فيها عظمة الله الخالق المقدر سبحانه ، سواء في ذلك تحضيره للدروس المقبلة أو المراجعة للدروس الماضية .
ولكن عبد الله : هاهو الآن صمم أن يَعُد نفسه لساعة كياسته ، ولكنه هذه المرة لم يقوى على الجلوس خارج الغرفة لما سترى ، بل قرر وهو مضطجع أن يحكي في فكره واقعة وحادثه عظيمة جدا كانت بداية لمسير حياة أخرى له فيما بعد .
وهذه هي التي تستحق الذكر من مذكراته لهذا الأسبوع ، فهو أمر وقع قبل أقل من ساعة من الزمان ، حيث إن صابر لحد الآن لم يأتي من الناصرية ولا يدري إن عدم وجوده كان لحسن الحظ أم لسوئه ، حيث كان كعادته يقاطع ما يجري من الكلام بلطيفة أو بكلام لا جدوى فيه ، فيسخر بكل شيء ويريحه من التفكير بما حصل من بيان زميله الآتي ذكره .
 وذلك حيث كان قبل قليل : أخذه السيد محمد مهدي بكلام جميلا جداً ، فجعله كأنه يتيقظ من سبات عميق فكري وعلمي وعملي في تعاليم الدين ومعارف الحق من هدى رب العالمين والمنزل على سيد المرسلين ، فإنه إن لم يكن حق فهذا هو الضلال المبطن ، وإن كان حقاً فإنه يقيناً محروم من فيض عظيم يهدي لتعاليم الرب ، فيكون هو وجده وأبيه بعيدين عن نعمة جسيمه وهدى كريم ، وهذا ما تيقنه بعد زمان ليس ببعيد .
وأما الحادث الذي وقع :
فهو عندما جاء محمد مهدي من عند أهله في مدينة كربلاء ، قد فرح بقدومه عبد الله كثيرا فضلا عن صالح ، وبعد السلام والترحيب والمصافحة والمعانقة ، جلس ثلاثتهم كلاً على سريره ، ولكنه انحنى محمد مهدي على حقيبته ، والتي جاء بها معه من كربلاء ، ففتحها فأخرج منها رزمة من الترب التي يسجد عليها الشيعة عند الصلاة ، وهي كانت ملفوفة بورق من دفتر قديم ، وقد شدت بخيط محكم من أطرافها و أسفلها و أعلاها ، مع تربتين مفردتين و سبحتين خرزها من تراب أو فقل من نفس الطين اليابس لتراب كربلاء ، وأخرج علبه حلويات فوضعها جنبه ، ثم قام آخذاً للسبحة ورزمة الترب والتربة الواحد المفردة ، وترك تربة وسبحة على سريره فوق علبة الحلوى ، وقام وتحرك اتجاه سرير صالح ، والذي قام هو أيضاً بدوره ليأخذ ما سيعطيه من رزمة الترب التي قال له هذه هديتي لك من كربلاء .
حيث قال : محمد مهدي لصالح بعد أن أعطاه الترب والسبحتين أنهما من تراب كربلاء المقدس الذي استشهد عليه الحسين رضي الله عنه فسقاه مبادئه ، وهو يقدمها له هدية ، وطلب منه أن يوصلهما لوالديه ومعارفه في البصرة ، و بعد أن أخذهما صالح باحترام بالغ و ثناء وشكر كثير وفرح لا يوصف ظاهر على تباشير وجهه و حركاته و فلتات لسانه ، وشكره المكرر له .
وقال : أيضاً أن هذه الترب أفضل شيئا يأخذه لأهله ، وإنه يعتبره هدية ثمينة سيفرحون بها كثيراً ، وهذا الشعور من صالح على العكس منه ظهر عند عبد الله ، حيث أخذه الامتعاض من هذا التصرف ، و الاشمئزاز من هذا التبادل و قال في نفسه قد أضل صاحبه من حيث يهدي له أحد عشرة قطعة من طين قد يبس ، وكل واحدة منها كعلبة الكبريت لكي يسجد عليها هو و أهله ، وفي صلاتهم التي يدّعون أنهم يتقربون بها لله ، وإن كان حقا فما معنى هذا الصنم الترابي أمامهم والذي يصنعوه بأيديهم .
و بعد هذا المنظر التمثيلي لإهداء هذا الطين اليابس رجع محمد مهدي إلى سريره و أخذ علبة الحلوى بعد إن ترك التربة المفردة الثانية مع السبحة على سريره ، وبعد ذلك توجه محمد مهدي لفتح علبة الحلوى ، وبعد أن فتحها تقدم نحو عبد الله ليقدم له الحلويات مع ابتسامته المعهودة التي تعودها منه عبد الله ، لأنه كان زميله المخلص في القسم الداخلي والدرس أيضا ، مع ما رأى الآن من تصرف يخالفه في المذهب والاعتقاد .
و يا للطامة : إن ما في قلب عبد الله  ظهر على فلتات لسانه ، ولا يدري أكان أسلوبه الساخر مستهزئا أم ملاطفاً مستفسراً ، والذي أثار زميله محمد مهدي بكلام جعله ثورة في أعماقه فهز كيانه كله ، بل حتى وجود زميله صالح كان مثله يتأثر بما يسمع من كلام السيد محمد مهدي وذلك بعد أن قال له عبد الله :
 وأنا لماذا لم تقدم لي صنم العبادة كما قدمته لصالح ، أتراني لستُ أهلاً لذلك .
 ولم يكمل كلامه هذا حتى رأى محمد مهدي قد رجع القهقري جالساً على سريره ، وواضعاً لعلبة الحلوى جنبه آخذاً للتربة المفردة بيده اليمنى ومشيراً إلى عبد الله بإصبع السبابة منها ، قائلاً له بصوت حاد نوعاً ما ، وجدي يشبه كلام جد عبد الله ، فقال بلهجة المجد المتحدي والواثق من نفسه ، والذي أبانه بحركات يده المهتزة بالتربة التي مسكها ، وفي نظراته الثاقبة والحادة لعبد الله حيث قال له :
أتسمع لي لو أحدثك حول عظمة هذا التراب المقدس ، والذي سفك عليه دم جدنا الحسين ابن علي وأصحابه الكرام عليهم السلام ، وتصغي بكل وجودك من غير مقاطعة حتى أبين لك حقائق كريمة تجهلها ويغفل عنها أكثر بني البشر ، مع ما تدعوهم إليه هذه التربة المقدسة حين نظرهم إليها ، فإنها بحق تنجذب إليها القلوب المنصفة حين معرفة حقائقها ، وتؤمن بمبادئها العقول الرشيدة حين العلم بنور هداها المسكوب فيها ، فإنه فيها خلاصة معالم الدين حين إجمال الكلام عنها ، وتفصيله حين تفصيل أسباب الوقائع التي حصلت عليها ، فتحكي خلاصة تأريخ الدين وهداه وأهله بكل تفاصيله حين تفصيل الأحداث التي انطوت فيها.
أم تريد العافية و تسكت فنبقى أصدقاء ، بل أحبةً كلاً منا يحترم اعتقاد الآخر ، فإن هذا في الوطن كثير من الأديان والمذاهب ، ويعيش فيه المسلم والمسيحي والصابئي جنباً إلى جنب ، فضلاً عن السني والشيعي و هما من المسلمين .
و هاهو عبد الله : الذي قد قرر عدم المناقشة في شيء من أمور الدين ، ولا يحب أن يتدخل في اعتقاد الناس ومذاهبهم كما قرر في جلسة الكياسة السابقة ، ومن حيث لا يدري هل قد أثاره حب الاستطلاع أم التحدي حيث قال له :
 و هل يوجد كلام ذو بال يمكن أن يذكر حول هذا الطين اليابس ؟ وهل يمكنك ذكر شيء يدعوا للسجود لهذا الحجر المصنوع فيخرجه من الضلال إلى الهدى ومن المعصية إلى الطاعة ؟
 و ما إن أتم عبد الله كلامه إلا ويرى هذا الفتى الوقور المضلل المهتدي محمد مهدي !!
يقول : أسمع و أصغي لي جيداً ، وأعلم إذاً ، ولكن أرجو أن لا تقاطعني ، فإن وافقت على هذا الشرط فسأتكلم بما يثبته الدين في هداه وبتأريخه في كل حوادثه ، ويقر له المنصف والحر بكل وجوده ، فيؤمن به ويتخذه دين بكل مبادئه ، وغاية له بكل أهدافه .
فقال عبد الله متعجبا : نسمع لنرى وتكلم لنعرف ، فإني لن أقاطعك مادمت محقا في كلامك ومنصفا في بيانك ، وهذا عهدي لك .
فقال محمد مهدي حينها وهو الجاد في بيانه ، والمثار لتعريف دينه الذي شك في حقه زميله ، والذي هو عزيز عليه لصداقته ووده له ، فنطق ووعظ فأحسن بما ترى من البيان حين قال :
أولاً : نحن لا نسجد للتربة الحسينية بل نسجد عليها ، و كم فرق : بين السجود على شيء ، والسجود له  ، كرر هذه العبارة ثلاث مرات ، وكأنه يريد أن يفهمه معناه والتدبر في الفرق بين الأمرين بجد ، ويريد أن يعرفه وجه الإشكال وحله .
ثم قال محمد مهدي : فإنك تسجد على السجادة أو على الحصير أو على الفراش أو على الأرض عند الصلاة ، ولكن لا تسجد لها ، لا للسجادة ولا للأرض و لا تعبد شيء منها ، بل هي محل للسجود فقط محل لكي تسجد عليه لا له ، فلم تسجد لشيء كان أمامك مهما كان ولم تجعله صنما ، وإنما كان أمامك محل للسجود علما ونيةً وعملا لأنه يُطالب بذلك عبادة الله حين امتثال أمره بالسجود له بالصلاة بكل حدودها ، ومن والواجب فيها السجود له تعالى على شيء سواء أرضا أو سجادة أو أي شيئاً آخر حصيرا أو بارية .
ثم هل رأيت أو سمعت بعابد صنم يسجد عليه ، أم إنه لابد لمن يريد أن يعبد شيء إن يضعه أمامه و يسجد له ؟!!
وإن السجود على التربة ابعد في الشبه من السجود للكعبة التي تتوجه إليها و تضعها أمامك ، فتكون صنم كبير ولو على بعدها لأنك تتوجه لها وتتخذها قبلة أين ما كنت ، وبالخصوص على هذا الحساب ، بأنه كل من وضع شيء أمامه في الصلاة فضلا من التوجه له ، فهو يسجد له ويعبده ، بينما لم يقل بهذا أحد .
كما وإن السجود على التربة ابعد من شبهة سجود الملائكة لآدم عليه السلام ، لأنه كان أمامهم ولم يسجدوا عليه ، وهذا يكون كالصنم إن كان السجود له ، بخلاف الشيء الذي تسجد عليه لا يكون صنم ، كما نحن لم ننوي بأن نسجد للتربة بل عليها لا لها ، بل هي محل للسجود لما فيها من معاني الإخلاص لله والطاعة له بما يحب من الهدى ، والذي يؤخذ من المنعم عليهم وأولياء دينه كما سترى حقيقة هذا البيان !!
ثم هل كان الله تعالى : حين أمر الملائكة بالسجود لآدم وجعله قبلة لهم وأمامهم أ كان يأمر بالشرك ؟ أم أنه يريد طاعته من حيث أمر ، فمن أطاعه ولو بالسجود لآدم فقد هُدي ومن رفض صار شيطان كإبليس الرجيم .
 والله سبحانه : أمرنا بالسجود له على شيء أرض أو شيء منها ، فما أحلى أن يكون تراب من أرض يحيط بمثوى مقدس قدسه بما سكب عليه من مبادئ الدين والعز والكرامة والإباء والتضحية والفداء ، ومن أجل إعلاء كلمة دين الله وإصلاح ما أفسد الطغاة من هداه بتعليم رأيهم كدينه ويفتون بما لا يرضي رب العالمين من الظلم والعدوان ، والفسق والفجور ، ولا يتوانون في قتل أبن بنت سيد المرسلين فضلا عن غيره ، وهم يعلمون أنه سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله ، وإمام حق من صلبه وهو سيد من آله الذين طهرهم الله بأية التطهير وأمر بمودته بآية المودة .
 
 ثانياً : نحن نشترط أن يكون محل السجود على أجزاء الأرض الأصلية من حجر أو مدر أو تراب ، أو على نبات الأرض غير المأكول و الملبوس حين يفقد التراب ، وذلك لكي لا تشتهيه النفس التي تفر إلى الله تعالى في الصلاة من زينة الدنيا و زخارفها .
ثم قال متابعا : وقد قال النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله و سلم : (( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )) ، وهذا الحديث ترووه أنتم في صحيح البخاري و سنن البيهقي في باب التيمم كما نرويه نحن ، أنتم تقولون كما نقول يستحب السجود على الأرض و تعفير الوجه بها من أجل رضى الله ، فما أحلى بالتراب الذي يكون من أرض سكب عليها روح الكرامة والفداء والوفاء والإخلاص للدين ، والذي سقاه لأرض كربلاء أبا عبد الحسين في يوم عاشورا ، فجعل ترابها مذكراً لكل عز وإباء ، ومعرفا لحقيقة طلب الإصلاح بكل إخلاص حتى الشهادة ، فيعرف هذا المعنى ، بالنظر لها كل من يطلب رضى الله ومعرفة المخلصين في دينه ، فيقتدي بهداهم القيم الخالص من ضلال أعداء الله والمعاندين لأئمة الحق وولاة أمر المسلمين الصادقين ، والذين أختارهم الله لهدى دينه القيم بعد العلم بإخلاصهم وتفانيهم بطاعته والجد في تبليغ دينه ، ولهذا الملاك اصطفاهم وأختارهم للسلوك بعباده لكل نعيم وبصراط مستقيم لا ضلال فيه .
فيا أخي ما أحلى وأكرم بالمؤمن : بأن يسجد لله تعالى على تراب مقدس قدسه الحسين عليه السلام بهداه ، فيقتدي بالحسين وآله وبكل تعاليمهم التي هي تعاليم جدهم رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم والمقربة لله حقا ، ومن غير خلط بأي ضلال لأعدائهم مما يبعد عن الله ، فلا يبتعد عنه بفكر أنحرف عن دينه القيم الذي كان من رأي أئمة الضلال وقياسهم ، فيعبد الله خالصا مثل رسول الله نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين : الحسين وأخيه وأبيه والمخلصين من صحبهم وممن نصرهم وثبت يعلم معارفهم ، والتي هي بحق معارف الله التي أراد أن يعبد بها وهداه القويم الذي يسلك بالمؤمنين لكل نعيم ، فيكون المقتدي بهم مع المنعم عليهم لا من المغضوب عليهم الضالين ، وهذه المعاني كلها يحكيها النظر لتربة الحسين ، فضلا عن السجود عليها أو اتخاذ سبحة منها .
 
وثالثا : إنكم في الوقوف للصلاة تكفرون بالتكتيف ، أي بوضع اليد اليمنى على اليسرى بثلاثة أنواع لمذاهبكم ، الشافعي رأيه أن توضع اليدين فوق السرة ، و الحنفي تحت سرة ، وفي رواية عن مالك أن يسبل يديه مثلنا ، وغرضكم الاحترام ومكمل لعبودية لله ، وأي احترام أفضل من وضع الجبهة على الأرض وتعفير الوجه بالتراب متذكرين قوله تعالى : (( منها خلقناكم ، و فيها نعيدكم ، و منها نخرجكم تارة أخرى )) طه 55 .
  فإذا كان يستحب السجود على الأرض فأي أرض أفضل و أحب للمسلم من أرض كربلاء التي تقدست بدم سيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، وبدم وفداء أهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام وأصحابه المخلصين ، تلك الزمرة المباركة والنخبة الطاهرة التي ليس على وجه الأرض شبيه بها ، و التي قد قدمت للدين الحنيف أنفسها وما تملك .
فأسمع يا أخي إني : اقسم بالحسين ودمائه الطاهرة ومواقفه المشرفة وبجده و أبيه وبالقرآن العظيم ، لو لا ما قدم الحسين عليه السلام من الأضحية الثمينة والقرابين المقدسة في موقفه في كربلاء لأحياء دين جده صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى إنه ضحى بنفسه الطاهرة وقدم أهل بيته للسبي وللأسر ، وأصحابه وأولاده وأخوته للقتل ، لما بقي للدين الإسلامي لا اسم ولا رسم و لمحيت كل تعاليمه على يد ماجن بني أميه و سكيرها المتظاهر بالفجور ، وما كان من دين اتباعه ومن جاء بعده الذين كانوا على سيرته .
وبكل يقين أقول ، ويذعن بهذا كل منصف وحر : قد عرف وتابع ما صار من أنباء وهنبثة وانحراف عن تعاليم الدين في العصور الأولى للمسلمين ، فمن راجع تأريخهم يعلم علم اليقين إنه : قد تولى على المسلمين حكام فجرة وفسقه حتى تسمى أبعدهم عن الدين بأمير المؤمنين وخليفة المسلمين ، وهو لم يعترف بهدى رب العالمين إذ حاربه مع أبيه في الجاهلية والإسلام ، ولكن بمكر وخداع تسلط حتى قام يُعلم فكره دين ويوعظ له الطامعون ، ثم جاء أبنه يزيد السكير الفاسق يفتي ويعلم وصار أمير المؤمنين ، وأي أيمان مع السكر والتظاهر بالظلم والفجور ، ولو كان هذا معنى الإيمان الذي يشاع بين المسلمين في أول عهدهم بالإسلام ، لعرفوا هذا هو الدين الذي يعرفه الفاسق يزيد وأبيه وهم الحكام ، وهكذا كان يبرر عملهم وفكرهم الضال من يوعظ لهم ، و لتمكنت سيرتهم وتعاليمهم الضالة في عقول كل المسلمين ، ولكن لولا موقف الحسين روحي له الفداء وبيانه في طلب الإصلاح وتعريفه لمحل الهدى ، لما تيقظ المسلمين لما جنوه بني أميه و غيرهم على الإسلام من محاولة محو أهدافه و طمس قيمه و تعاليمه .
 
وأعلم يا أخي ويا زميلي : إنه لولا الدماء التي سكبها الحسين في مواقفه المقدسة أمام الخلاعة والمجون والاستهتار ، والوقوف أمام الظلم والعدوان والكفر والإلحاد ، لما عُرف لتعاليم الإسلام معنى ، ولا إنها كيف تجعل النفس كبيرة هاربة من حياة الذل ، وكيف يتربى العقل السليم الذي يعرف مناخ الضعة من مواطن الشرف والكرامة ، ولا كيف يلقن المؤمن نفسه دروس الأباء والشهامة و الصمود أمام كل منحرف عن الدين وطاغية يحاول أن يضل المسلمين .
 
ثم رابعاً ـ إن أمم العالم قد جرت على تعظيم زعمائها و أبطالها و قادتها مفتخرين بمواقفهم ، معتزين بتضحياتهم ، مقدسين لمبادئهم محتذين لآثارهم ، مقتدين بهداهم ، متبعين لمناهجهم بالحياة.
حتى أنهم بنوا للجندي المجهول المدافع عن قيمهم ووطنهم نصباً يزورونه و يقفون عنده بكل إجلال وإكرام ، وأي قائد مقدام أهم وأفضل من الحسين عليه السلام حتى يتخذ قدوة في الإخلاص للدين والعقيدة ، والتعلم منه مبادئ العز والكرامة ، والإباء والفداء من أجل الله ودينه في كل الظروف حتى لو يعانق التراب ملطخاً بدمه الطاهر ، فلم يخضع لظالم ولم يداهن بدينه ولا يزول لحظة عن هدى رب العالمين ، فيكون ترابه مناراً لتعليم الحرية والصمود والهدى الخالص الذي يُعبد به رب العالمين ، فيكون ترابه منظراً لكل هدى وإخلاص وتضحية وفداء لمعارف الله ، ومن أجل تطبيق دينه القيم ، والموت من أجل تحقق أهدافه ولو بعد حين ، فيعرف حتى اليقين كل من يطلب الواقع من هدى رب العالمين ليتعبد لله به ، وذلك حين يسمع بفداء وتضحية الحسين عليه السلام  ، وبهذا يعلم كل طيب وحر وأبي إن وضع التربة التي سقاها الحسين دينه في يوم العز والكرامة حين السجود لله تعالى في الصلاة ، ما هو إلا لطلب هذا المعنى الكريم الذي بحق يحق للمؤمن المخلص أن يطلب به رضى الله تعالى .
بل أي جندي معلوم : مثل الحسين عليه السلام أو أعظم تضحية و أكثر فداء لمبادئ الدين الحنيف منه ، وأي بطل أكثر تفاني من الحسين عليه السلام لأحياء الإسلام وبيان حدوده ، وأي إنسان عنده موقف أفضل من مواقفه ، حيث ضحى بنفسه وولده وأخوته وأهله وصحبه وكل ما يملك من أجل تعريف هدى رب العالمين ولم يخضع لظالم ولا لطاغية ولم يرضى بفجوره وفسقه ، فنسجد ونلطخ خدنا بهذا التراب الكريم الذي يُعلم الإباء والعز وطلب رضى الله بكل إخلاص وتفاني ، ولطلب شرف لا نظير له في كل الكون ، وكل هذا من أجل الله وتعريف دينه وطلب الإخلاص له .
فإن السجود على تربة أستشهد عليها الحسين عليه السلام : وسكبت عليها دمائه الطاهرة ، لهو عقد عهد مع الله تعالى ونبيه الإكرام على إننا سائرون على نهج الحسين عليه السلام في التضحية ، و الفداء لتعاليم هدى الإسلام وتبليغه تعليما وتطبيقا ، وإننا لسالكين سبيله في الإرشاد والنصيحة  للمسلمين والمؤمنين ، وإننا حيثما نقف في اليوم خمس مرات للصلاة واضعين لهذه التربة الطاهرة أمامنا ، نتذكر إنه يجب علينا أن لا نتواضع لظالم ولا لمعتدي ، ولا نداهن كافر ولا مشرك ولا منافق ، بل ولا نصادق قوي غاشم ، ولا نصافح عدو على باطل ولا نداهن ظالم ولا فاجر ولا فاسق يريد أن يضل المؤمنين أو يحاول أن يحرفهم عن المنهج الحق لهدى رب العالمين .
 
فإن برؤيتنا لهذه التربة المقدسة : نتذكر أن علينا أن نؤاخذ كل من يهضم المؤمنين و يضع من قدرهم ، وننكل بكل من يجبر المسلمين للفسق و العصيان أو يحرفهم عن فطرتهم ، فنتعلم منهم كيف نقاوم كل من يحاول أن يكره الأحرار على خلاف العدل والصلاح ، ونصمد بل نهاجم كل من يريد أن يقهر المؤمنين والطيبين أو يحاول أن يستعبدهم و يستعمرهم .
فإن هذه التربة : تعلمنا كيف يجب أن لا نصبر على الضيم و الهضم ، فلا نطيق الشطط على الدين ولا  التعسف على المسلمين ، ولا نرضى بالظلم ولا بالعدوان لا لنا ولا علينا ، ولا نحب الجبر والجور على حقوقنا ولا على حقوق الآخرين .
 
 فإذا كانت الصلاة : تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتردع عن الجرم و الخطيئة ، وتمنع من ارتكاب الآثام و الآصار ، وتقف سداً أمام اقتراف الفجور والجناية .
فإن الصلاة على التربة التي سكبت عليها الدماء الطاهرة للحسين وصحبه : تعطي الكمال للنفس والوقاية للروح حتى تعاهد الله تعالى على أن تتصف بالصفات الحميدة ، وعلى الخصال الفاضلة التي تحلى بها اماجد آل نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والبقية الباقية من أشراف أصحابه و أتباعه الكرام .
فالسجود لله في الصلاة على التربة الحسينية تذكرنا في كل يوم خمس مرات : بل تشعرنا بكل ما أتى به المذكر من ذكرى وتذكر في كل يوم أربعة وثلاثين مرة ، مع كل سجدة بتضحية خلان الوفاء للعقيدة وأصدقاء الصفاء للمبدأ ، فنتعلم منهم السماحة والجود و الكرم في سبيل النهوض بالأمة من أجل إقامة حدود الله تعالى ، فنقدم الغالي و النفيس من اجلها ، فعانق روح الهدى الحق والإيمان الواقعي ، فيكون الساجد عليها بأكرم وأرضى رضا عند الله ورسوله وكل المؤمنين والطيبين من السجود لله على تراب عادي من أي بقعه من بقاع الأرض التي لم تبذل عليها قيم ولا مبادئ مثل قيم الحسين ومبادئه وهداه ودينه الحق ، بل لم توجد أرض في الدنيا ضحى بها قوم بكل ما يملكون من أهل ومال وأنفس في سبيل الله مثل كربلاء ، ومع علمهم المتيقن بالشهادة بدل أن يرضوا بالذل والخضوع للظلمة والطغاة ، والذين لم يكونوا مقرين للمنحرفين عن الدين ولا مداهنين لكل الخائنين لهدى رب العالمين .
فيا أخي أرجو منك : أن تنظر بعين الإنصاف للقيم التي سقاها الحسين لتراب كربلاء ، والأهداف الغالية التي تشربها من أجل رضى الله ، فتفهم معنى اتخاذنا منه تربة وسبحه نذكر بها الله أو حقيقة الزيارة للمثوى فيه ، فتعرف بعين اليقين وحقه : إن السجود في الصلاة على تربة كربلاء لله وحده لا شريك له ، تجعلنا نعيش هدى حواري الأصحاب أولي الحجى ونتحقق به فضلا عن طلبه والسعي المجد لمعرفته ، فندين بدين الخاصة من أولي الألباب والنهى والأكياس المخلصين ، والذين كانوا بحق أبطال الهيجاء و فرسان النجدة المقاتلين في سبيل الله لإعلاء كلمته ودينه ، والمغاوير بحق وليوث الحرب أصحاب البسالة والشجاعة والنخوة والعظمة ، الذين لبوا نداء إمامهم و قائدهم ، حين قال أبا عبد الله الحسين عليه السلام :
( أني لم أخرج : أشراً ، و لا بطراً ، و لا مفسداً ، و لا ظالماً ؛ و إنما خرجت : لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر ، و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، و من رد علي هذا ، أصبر حتى يقضي الله بيني و بين القوم بالحق وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) ، فقبل أنصار الحسين عليه السلام الحق على قلتهم ، فجاءوا مسارعين بكل فخر ، ومقدمين أنفسهم بكل شموخ لدين الله الحق ، ولمنهج إمامهم الصادق المطهر الواجب الطاعة عن مودة وشوق ومحبة ، ومتسابقين بكل زهو من اجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، نائلين بإقدامهم الجزاء الأوفى والمكافئة العظمى في رضى الله ورسوله ، فدخلوا جنة عرضها السماوات والأرض ، وهذا هو الفوز والفلاح برضا الرب لهم وإدخالهم في نعيم الأبد .
ويا أخي : هكذا يكون سبيل كل من عرف منهجهم وتذكره في كل حين ثم طبقه راجيا أن يكون مع الله تعالى كإخلاصهم له ، وبالخصوص حينما تُذكره تربة كربلاء في أعز أوقات العبادة ، من الإخلاص الحق والمنهج الصادق والهدى الإلهي الواقعي ، لمنهج ودين من ثووا فيها فثوى معهم في هذه التربة قمة مبادئ العزة والكرامة والهدى الواقعي على صراط مستقيم ، وبكل ما يرينا دين الله وحقيقة طاعته وعبادته والإخلاص له من أبطال الهيجاء وكرام المؤمنين الحسين وصحبه الأوفياء عليهم السلام .
 
ولذا يا أخي إن السجود على التربة الحسينية في الصلاة عن رضا بمنهج الحسين : يحلي النفس بكل النعوت التي خلفها لنا الحسين ومن قبل دعوته ودينه فنصره ، فكان عند الله معهم ومتسم بتضحيتهم وإيثارهم للدين وإطاعة هدى رب العالمين ، فيكون كأصحاب الحسين عليه السلام وما تحلوا به ، ولهذا كان السجود على تراب كربلاء والتسبيح بترابها يدعونا بواقعه لأن نتنزه عن كل الصفات التي ظهر بها أعدائهم اللخناء الخرقاء الذين باعوا دينهم بدنياهم ، فأقدموا بكل وقاحة على قتل سيد الشهداء ، فإن هؤلاء الأغبياء من أجل الدنيا التي لم ينالوها نكصوا عن الحق وتبعوا الباطل ، فإنهم في حربهم مع الحسين وصحبة سيد شباب أهل الجنة كانوا بكثرتهم جبناء قد أخذهم الخوف والوجل ، وركبهم الروع والذعر من تهديد الأمير والسلطان الحاكم الذي هددهم بالموت ، فأقدموا يقتلون أولاد النبيين ويبيعون الدين من أجل الدنيا والعيش لأيام معدودة في ذل المتجبرين والطغاة على هدى رب العالمين ونبينا وآله المصطفين الأخيار .
 
  فلذا يا زميلي ويا صاحبي : إن الروح التي تؤمن بالمبادئ التي ضحى من اجلها الحسين وصحبه عليهم السلام عندما تسجد على التربة الحسينية ، تحصل لها الشجاعة والعفة والحكمة وطلب المعالي والكرامة ، وبكل إخلاص وفداء وتضحية ، فتبتعد عن ضعف الرأي ، و عن الجهل و الغباوة والحمق والسفه والبله الذي يضعف الدين ، وعن كل ما يحرف عن تعاليم هدى رب العالمين ، فتدحر وسواس الشيطان وتسويل النفس وشره الهوى ، فتطرد التلون و الخداع و التهور في كل ما يبعد عن الدين وتعاليمه الحقة .
والروح التي تؤمن بالمعارف الإسلامية : التي ضحى من أجلها شهداء الحق والفضيلة ، ليس في حيرة و لا عندها خوف ولا لها فزع من ظالم ، و لا حرص و لا طمع  و لا غدر من أجل الدنيا وزينتها ، ولا مكر ولا حيلة في تطبيق أو طلب الإصلاح والعدل ، ولا كذب و لا افتراء على أحد من المسلمين ، لأنها صفات رذيلة تركها الحسين وصحبه ، وتمكنت من أعدائه على طول الزمان ، وهذا ما تُذكر به تربة كربلاء فنسجد عليها لله تعالى طلبا لهداه القيم ودينه الحق وعبوديته الخالصة المرضية له سبحانه .
 
فمن حصلت له عقيدة وأهداف ثورة الحسين وأصحابه الميامين عليهم السلام : صار حقا له بأن يؤمن بأنه يستحب له بكل تأكيد المواظبة على السجود لله على هذه التربة أو التسبيح لذكره بها ، لأنه من أجل الله حنتها في سالف الزمان دماء أهل الدين الطاهرة ، حتى صارت رمزا للكرامة ومانحة للمجد ، لأنه كان فيها بحق موطن الدين وأهله ، وأصبحت طينتها اليابسة تعطي العز الإلهي لمن يكون عنده الإيمان بالهدى المسكوب فيها ، فيتحقق بإخلاص في عبودية الله وحده لا شريك ، لأنه عبده بدين أئمة الحق وبهدى المنعم عليهم أصحاب الصراط المستقيم .
فيا أخي : من يرى تربة كربلاء بهذا المعنى الواقعي للدين ويعرفها بحقائقها ، يدعوا للمبادئ التي حققها لها سيدها وبكل عزيمة ، ويكون عنده الجد لأن يصمد بل يحارب كل قاسط وناكث ومارق من الدين ، ولو كان بسبب مواقفه الأبية وإقدامه المعطاء أن يصبغ التراب بدماء الحرية والعز ، فيهب روحه لدينه الحق ويبيع نفسه لربه ، فيكون معلم لأهل الأرض ألوان التضحية و الفداء كسيده الحسين وصحبه ، لأنه له من إخلاصهم معنى نصر الحسين والكون معه في تلبية نداءه هل من ناصر ينصرنا ، فيكون بحق مع الحسين في الهدى والمنهج والدين وفي معنى إخلاص العبودية لرب العالمين ، فيكون مع المنعم عليهم نبينا محمد وآله وصحبهم المخلصين في عبودية رب العالمين بتمام الدين وحقائقه وكماله .
 
فيا عزيزي ويا أخي : إن من تنسم رائحة هذه التربة المباركة في صلاته بعقله وذاق طعمها في سجوده بروحه :  يكون في عين خشوع نفسه و خضوع بدنه أمام الله تعالى ، يكون أيضاً له علو الهمة وعزة النفس الكريمة أمام المستكبرين والجبابرة الظالمين ، فيكون شوكة في عيون أعداء الدين ، ويكون سهم في قلب المستعمرين ، و رمحا في صدر المستغلين ، وسيف على رقاب المنحرفين ، إذ يرى في هذه التربة بعين الإنصاف كل مبادئ العز والكرامة وأهداف الدين وطلب الإصلاح التي ضحى من أجلها الحسين وصحبة الكرام في سبيل الله وكل تعاليمه حتى الشهادة .
 
فحقا من عرف قيمة هذه التربة : يعرف أنها دواء لاستضعاف الأرواح فيجعلها أبية كريمة ، ومرهم يزيل مرض الخنوع والتواني والمداهنة والخوف من الظالمين ، ويراها طب لشهوات الأنفس الخاذلة لدينها ، وبلسم للإنسانية فتمنحها القوة على اكتساب الأخلاق الكريمة والملكات الفاضلة ، فهي بحق العوذة المجربة ضد النعوت القبيحة والرذائل الفاسدة ، فإنها بحق إكسير الحياة وبلسم السعادة والنعيم .
 
ولهذا يا أخي : ترى عندنا تعاليم قد تجلت وأوضحت بأحسن البيان ، حقيقة التربة الحسينية ، وبتعبير عظماء الدين من أئمتنا المعصومين ، والمبلغين عن جدهم الكريم عن رب العالمين ، في أن السجود على تربة الحسين للعارف بحقها : يخرق الحجب السبعة و ينور الأرض ، و إن السبحة المأخوذة منها في يد حاملها تسبح وإن لم يسبح بها بل لمجرد إمساكها باليد فهي تسبح ، وإن سبح الله بها حاملها تكتب له سبعين ضعفاً ، وكذلك قالوا عليهم السلام :
لا يستغني المؤمن عنها إذا عرف حقها ، لأنها أمان من كل خوف و شفاء من كل داء . فإنها رمز السعادة وإكسير الحياة .
 
 وما أن وصل محمد مهدي لهذه الجملة الأخير بالشقشقة التي كانت تهدر منه ، وكلا من عبد الله وصالح يصغون له بكل وجودهم مؤيدين له مستأنسين فرحين بهذه المعاني الكريمة والمبادئ الشريفة ، والتي أخذوا يحبون سماعها بل الإيمان بها بكل وجودهم ، فإذا بصابر يدخل الغرفة قادماًًًً من الناصرية مسلماًًً فقاموا إليه مرحبين و مصافحين ، و بهذا انقطع كلام السيد محمد مهدي .
 ثم بعد أن جلسوا على أسرتهم وبعد بعض المحاورات العادية قام صابر ينظم خزانه ملابسه ، ورجع محمد مهدي إلى الوراء متكأ على الحائط بعد إن كانا أذني عبد الله وصالح كلها إصغاء له بتعجب ، ثم تمدد السيد محمد مهدي على سريره مبتسماً كعادته ، ولكن في هذه المرة اعتقد معها نشوة الانتصار للعقيدة و للمذهب الذي يؤمن به .
و أما عبد الله : فقد استلقى على ظهره متعجب من حلاوة كلامه زميله ، ومندهشاً من ذكائه وقوة تعبيره ، فإنه كان يهدر كلامه هدراً كأنه يقرأ من كتاب ، أو يحفظ كلامه عن ظهر قلب ، فإنه كان بحق خطيب مصقع وبليغاً لا يقطع .
نعم بحق أقول : كان ما أبدع السيد محمد مهدي وأفصحه في كلامه وما أبلغه من بيان ، لقد بلغ ما أراد إيصاله من المعنى في حقيقة ما يؤمن به من تقديس هذه التربة المخلوطة بمبادئ العز والكرامة التي منحها لها أبا عبد الله الحسين بتضحيته وإيثاره ، وبجزيل اللفظ ، حتى جعل زميلاه عبد الله وصالح يصغون له كأنهم تلاميذ مدرسة ابتدائية ، أو صبيان مكتب لمعلم القرآن ، بل حتى أخذ يفكر عبد الله في ساعة كياسته هذه بأن زميله كان قس بن ساعده في سوق عكاظ ، أو علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منبر مسجد الكوفة ، أو الخليل في مربد البصرة ، بحق فقل كأنه كان الحسين على صهوة جواده في أرض كربلاء يعظ أهل كوفة فأسمع الدنيا وكل طالب للمعرفة ببيانه وهدى دينه الحق الذي سكبه على أرض كربلاء بتضحيته وإيثاره ، حتى كان التراب الذي يحيط بمثواه الكريم مناراً للدين وعلماً مرفوعا شامخا لتعريف هدى رب العالمين في كل مكان وحين .
 
فهذه الكلمات الرائعة من حفيده : كانت من ذلك الفيض الذي منحه الحسين لتربة كربلاء فدوى صدى صرخته : هل من ناصر ينصرني في أرجاء غرف متواضعة فيها طلبة لطلب طب الأبدان ، فصار عندهم طب للأرواح التي تقيّم بأحسن قدر معنى البطولة والشجاعة من أجل تعليم الهدى وتطبيقه ، ودواء للنفوس الضعيفة أمام الطغاة وزينة الحياة الدنيا المحرمة والباطلة .
 
وهكذا كان يعتقد صالح كعبد الله : إن هذه اللحظات لتبقى ناقوس يدق في أذنهما ، وتنادي عقول كل من يسمعها ، فتطالبهم ليهبوا لطب الكرامة ويسارعوا لنجدة الدين الذي علمه الحسين ، وهذه تربته تشهد لإخلاصه وفداءه وإيثاره تعاليم الرب الرحمان وضرورة تطبيقها والسعي المجد في تعريفها ، والذي صار عقل المسلم في هذا الزمان خالي من تعاليمه وأهدافه و مفاهيمه ، وأخذت رايته تهبط من أيديهم بعد إن كانوا خير أمة أخرجت للناس ووسطا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، والذي ثوى روح معناه في هذه التربة الدوارة بطبها للناس تعلمهم حقيقة الدين وأهله بصمتها وبمنظرها الذي يثير تسأل كل من يراها ، فتطالبه بمعرفة حقيقتها ومعناها ، فتأمره بالتوحيد الخالص والهدى الحق وطلب العدل والصلاح ، وأن يجد من أجل تطبيق دينه وتعليمه وأن لا يكون مثل الضعفاء الذين أخذت روحهم تصبوا لمصافحة ظلام الغاصب الغاشم للحكام الظلمة وأهل الضلال والباطل ممن لم يؤمنوا بهدى رب العالمين بواقعه الذي علمه الحسين وآله الكرام ، وصحبهم الثابتين على هداهم والذين عاشوا وماتوا من أجل عبودية الله الخالصة المخلصة له ، وعن معرفة واقعية بهداه و بدينه القيم .
 
وحقاً أقول : إن عبد الله وصالح كانا ينفعلان في كل مقطع من كلام السيد محمد مهدي ، فإنه عند ما كان يتحدث عن صفات الكمال تنبسط روحهما له  وتنشرح ، وعندما كان يلفظ كلمات وجوب الابتعاد عن النعوت الرذيلة ، كانت تنكمش أحاسيسهما وترفض نفسهما كل قذر وفساد ، حتى أنه كانت تظهر علامات الانقباض و الانبساط في كيفية جلوس عبد الله وصالح ، وفي  تعبير أسارير وجهيهما و حركات أياديهم .
 
فأما عبد الله : حين سرح في خياله عندما أضطجع على سريره قال في نفسه ، والله لولا العناد الذي يفرضه علي كبريائي من أجل مبادئ دين جدي ،  واللجاجة التي تدعو لها نفسي من أجل الثبات على قيم مجتمعي ، ولولا الجحود الذي ترسخ لغير عقائدي في إيماني وعقلي :
 لقمت وقبلت هذه التربة الطاهرة المقدسة التي كانت يقلبها السيد محمد مهدي بين يديه أثناء كلامه ، ومشير إليها كلما كان يذكرها ، ولاحتضنتها بكبرياء واعتزاز وحنان ، ولحملتها بكل فخر وعز إلى أهلي وقومي قائلا لهم :
 أن في هذه التربة الحسينية التي جئتكم بها من كربلاء ،  الأمل للنجاة  من الكفر والضلال المنتشر في كل الدنيا ، وإن فيها لثورة على كل ضال وظالم مهما كان أمره ، وإن فيها عودة الدين بين مواطني بلدي بكل شموخ وإباء ، وبكل معانية الرافضة لجور الفساد والفسق والفجور الذي يطبل له الحكام وكل أهل ضلال العالم ، إذاعتهم وتلفزيونهم وكل برامجهم ، فيا أحبتي شموها ثم ضعوها على أعينكم ، واقبلوها إيمان في قلوبكم ، وعقيدة ودين في عقولكم ، فإنها صحيح طينة يابسة مأخوذة من تراب الأرض ، لكن هذه التربة تربة الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء ، فإنها تحمل بين جوانحها بلسم دائنا وإكسير لحياتنا ، فإنها رمز ومنار العز والإباء والتضحية والفداء والعدل والصلاح ، وفيها منطوي كل هدى رب العالمين ، فقد سقاها لها سيد شباب أهل الجنة ، وفتى الكرامة لكل أهل الأرض ألا وهو الحسين بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهم سبط رسول الله المطهر ، والواجب المودة والطاعة .
ثم قال السيد عبد الله في نفسه : قبل أن يغط في نومه مبهوتا حائرا في أمره : إن هذه التربة الكريمة التي تحيط بمثوى الكريم ، والمقدسة بالمقدس الطاهر الطيب الذي سقاها الشرف والعز والكرامة ، حقا لها أن تُحترم إذا كان فيها بيان للتضحية والفداء من أجل الدين ، وأنا اعتقد أن ما ذكره صاحبي عن تربته المقدسة غيض من فيض كان يتوهج معرفة بيقين في صدره ، حتى نفحه في وجهي طيب من عطرها يعرفني أهل الدين ويعلمني أصحاب الصراط المستقيم لهدى رب العالمين ، ويريد ببيانه هذا إن ينشره بين جوانحي لكي تشمه روحي ، وتذكره نفسي ، بل يريد أن يسطع شذاه بين معارفي وأحبائي ، ولعله بلغ ما قصده أو كاد إن لم  أقل وصل إلى ما أراد .
 
 وعلى كل حال لقد عرفت صاحبي فإنه ليس بالسهل الساذج في دينه و لا بالمبذر المسرف في عقائده ، فإن هذا الوذعي يظهر مداراته فيُعرف أهدافه ومبادئ دينه بأحسن بيان ، و يصرف ضروس حنكته لجهبذة أترابه ، فلذا علي اليقظة والحذر ، وأن لا أثيره في كلامه يقطع ما بيننا من الوئام ، و لا اسخر من عقائد مذهبه الذي فيه تعاليم الأطايب الكرام ، ولكي لا تنفصم ما بيننا أوثق عرى الإسلام ، لكن لا أقر لك يا زميلي هذا قبل أن أسألك ، هل عندك ما يزيد و يفيد غير ما ذكره عن التربة الحسينية ، هل ما ذكره قد حضره أم أنه كلام عفوي نثره ؟
و هاهو عبد الله يسرح في حلاوة ما تحلت به روحه من معارف أهل بيت سيد المرسلين ، ووله نفس في حب طلب المزيد عن معرفة الحقائق الحقة للدين الصادق ، ويريد أن يتمكن حتى اليقين من هذه الأدلة والمعارف التي نضدها أمامه زميله السيد محمد مهدي ، واخذ يجيل فكره ويسبح في جمل هذه البراهين التي تعلم الدين وحال المسلمين ، وكيف وصل بهم الأمر حتى قتلوا الحسين بن سيد المرسلين ، والذي كان يطالبهم ويعلمهم معاني العدل والصلاح والعودة لدين جده الحق وهدى رب العالمين ، وكيف أنحرف الناس فلم يعيروا لشيء من دينه ولا لحرمته شيء يذكر ، بل قتلوه وآله وسبوا عياله لزنيم حارب الإسلام بكل جهده جده وأبيه ، فيتألم لما حل بالإسلام وتعاليمه وأهله ، حتى أخذه نوم عميق إلى أن أذن آذان الصبح فقام للصلاة .


إلى أعلى مقام في الصفحة نورك الله بنور الحسين وآله الكرام عليهم السلام


تفضل يا طيب إلى الفهرس العام رزقك الله ونورك بدين الإمام وخلصك من الظلام



الفصل السادس

إتقان وفيض معارف
 الترياق المجرب وإكسير الحياة

 
هذا عصر الجمعة وليلة السبت الخامس لعبد الله في بغداد : وبعد صلاة العصر قرر في هذه المرة لكي يتفكر لمحاسبة نفسه في ساعة الكياسة التي التزم بها في كل أسبوع في وقت فراغه وبزمان ومحل يناسب للتفكر بصفاء ، أن يجلس على الشرفة المطلة على دجلة ، وذلك بعد أن أخرج الكرسي من الغرفة ، واخذ في يده دفتر مذكراته الذي يكتب فيه كل يوم صباحاً بعد صلاة الصباح أهم الأحداث للأيام السابقة باختصار للذكرى ، وما يجب عليه فعله وعمله في هذا اليوم اللاحق على شكل رؤوس نقاط ، إلا إذا وجد أمراً يستحق الذكر بالتفصيل ، فهو لا يبخل عليه بتدوينه في هذا الدفتر الذي تجمعت عنده من مثله أكثر من سبعة عشرة ، كلها حاكية  لكثير من إحداث أيام الصبا ، بل عن أيام الطفولة مما يذكر عنه ، بل عن أيام سبقت تولده مما كان يسمعه من أمه وأبيه وجده عنه وعن أمورا كثيرة تخصه من قريب أو بعيد .
فإن في دفاتر مذكراته : كثير من تاريخ حياته ، فإنها دفاتر حاملة في طياتها تفاصيل صباه ، بل أهم حركاته وسكناته في عنفوان شبابه ، و أغلب الأمور التي دارت عليه في أفراحه وأتراحه ، في سروره وأحزانه ، ولذاته وآلامه ، بل حتى شمل بكل صراحة إقدامه و إحجامه لكثير من الأمور التي كان يعالجها في ساعة كياسته فيقرر أن ينفذها فتتحقق ، أو يبين سبب عدم وقوعها ، بل حتى فيها كثير من أوصاف أكله وما يحبه ويشتهيه ، بل حتى يصف في بعض الأحيان شربه وجلوسه ونومه ، وكل أمراً يخصه.
والمهم عنده فيها كثير من أقوال جده : الذي كان يكن له كل تقدير واحترام وكان معجبا به ، بل حتى من أقوال أبيه ، ونصائحهم وإرشادهم له ، وفيها كثير من أفكارهم وأقوالهم ، بل و في دفاتره كثير من حكايات الأصدقاء وأحوالهم وصفاتهم و خصائصهم ، وفيها حكايات عن أيام الدراسة و الأساتذة ونشاطه ونشاطهم فيها .
بل كان يكتب في دفاتره : كل ما يراه يجذب نفسه للكتابة وبالخصوص في أوقات الفراغ ، والذي لم يدعه يذهب دون أن يجعله بنحو ما مفيد وبالخصوص الكتابة في دفتر المذكرات فيكتب فيه كل شاردة وواردة ، فحتى كان يكتب عن أحلام الأصدقاء والأخوان وآمالهم وما كان يعجبهم وآلامهم وما كانوا ينفرون منه ، وله تعليق على كل ما يكتب من قبول أو رفض وتقييم بما يراه محبب لنفسه ، فهكذا قد عوده جده وكان قد قبل منه هذا التعليم بشوق وتطبيق عملي فاق تطبيق أبيه ونفس جده له ، فكان حتى يكتب عن ملاقاته لأصدقائه وتصوراتهم لأمورهم ، وخلاصة القول إنها مذكرات له تحكي حياته ويطورها بالخواطر .
بل في دفاتر مذكراته : كثير من المصادفات الماضية و الانطباعات عن تقييمه للأمور ، وفيها حكم وحكايات ، وكثير من لبنات أفكاره أو خلاصة لما طالعه ، وأهم ما ورد في كتب قراءته من حكم وأمثال ، ولذا كان يذكر ويذكر بكثير مما يجلب انتباهه منها ويجذبه ذكره ، فيسجله ولا يبخل على نفسه بالكتابة في كل وقت يمكنه وبالخصوص أيام التعطيل .
و أهم ما يحب أن يرويه في ساعة كياسته هذه عن هذا الأسبوع ، ويسجله بجد في دفتر مذكراته اليوم فهو :
 
هذه المحاضرة القيمة لزميله محمد مهدي ، والتي كانت في ليلة السبت الماضية ، والتي عرفت شيئا مفصل عنها ، فإنه أخذ في قرار نفسه أن يسجل أغلبها ، ويضيف ما عرفه هذا الأسبوع أيضا ، فكتب ما قد فات وقد عرفته ، وأما ما دون مما حصل في هذا الأسبوع فقد ذكر :
إني في الأسبوع الفائت : حببت أن أسأل السيد محمد مهدي عن هديته للتربة الحسينية لصديقنا صالح وعن بعض ما يتعلق بتقديسها ويزيدني من معارف الصلاة عليها أو التسبيح بها ، وأن يهدي لي سبحة وتربة مثله ، فأهداني والحمد لله ، فإني بحق عندما صبحنا بعد تلك الجلسة ، كنت أنظر إليه بإعجاب واحترام ، كنظر التلميذ لمعلمه ، وعندما ذهابنا إلى الكلية كنت أنتظر الفرصة المناسبة لكي أستزيد منه ، و ما أن حلت الساعة التاسعة والخمسون دقيقة حتى حل إعلام نهاية حصة الدرس الثاني ، كما وإن الساعة الثالثة والرابعة كانت شاغرة عن الدرس ، وكنا في العادة نذهب إلى نادي الكلية لنتحدث عن أحوال الدروس أو بعض الأمور التي تصادفنا ، وما أن استقر بنا الجلوس متقابلين واضعين كتبنا على المنضدة التي أمامنا ، تمنيت إن لا يضم مجلسنا في النادي بيني وبينه هذه المرة غيرنا ولا يجالسنا أحد من الزملاء لا ثقلا بهم ولكن لحاجة في نفسي ، و فعلاً تم لي ما أردت حيث لم يشرفنا أحد من الأصدقاء  ، فلم أفوت الفرصة حيث قلت لمحمد مهدي : إن كنت تسمع و لا تثير عواطفك أسئلتي ، فإن أريد أن أسألك عن أمر مهم جدا بالنسبة لي :
قال : كلي أذناً صاغية لك ، وسأجيب إن كنت اعرف ، تفضل يا أيها السيد المبجل ، وصبغ كلامه هذا بابتسامته المعهودة المشعرة بالتشجيع والرضا بالصحبة معي .
قلت : اخبرني عما ذكرته أمس عن التربة الحسينية التي جئت بها من كربلاء ، هل كان كلام عفوي أم عن تحضير مسبق فسردته عليَّ ؟
 
قال أولاً : أني  اعتذر أن كنت أثقلت عليك في كلامي ، ولكنه كان جزاءاً لعدم الاحترام لعقائد عزيزة عليّ وعلى كل موالي للحسين عليه السلام ، وأرجو منك أن تقدر عواطفي وإحساسي أمام واجبي لمبادئي وأهداف ديني ، وبالخصوص من أجل بيان حق المظلوم شهيد العدالة والإنسانية والمبادئ الصالحة والدين القيم أبا عبد الله الحسين عليه السلام ، الذي ضحى بكل شيء من أجل بيان الدين القيم والهدى الحق وأهله ، وما حل بالمسلمين من الحكام الظالمين ، فخرج ليصلح ما فسد فلم يستجيب له أهم بلاد المسلمين فضلا عن غيرها .
ثم يا أخي : إني أراه بحق مجهول حقه ، مع ما يُكرم به ويقام له من مجالس ذكر وتذكير وزيارة من أهل مذهبنا فضلا عن غيرهم ، بل وحتى السجود لله تعالى في الصلاة على تراب محيط به لتعريف أهداف ثورته وغاية دينه وهداه ، هذا فضلا عن التسبيح بسبحة خرزها من تراب محيط بمثواه ، ومتخذين منه سبحة يُذكر بها الله تعالى فيكبر ويحمد ويسبح ويهلل ، طالبين بذلك نفس إخلاص الحسين بالتكبير والحمد والتقديس لله تعالى وحده لا شريك له .
 ورافضين كل طاعة لغيره سبحانه بمثل هدى الحسين المخلص لله بدينه وبكل وجوده بما عرفت ، فلا نقبل فكر ومبادئ المنحرف عن هدى الدين أو ظالم أو مخادع أو طاغية أو هوى نفسه أو وسواس شيطان ، فنترك الظالم والطاغية على هدى الله مهما  تسمى به من اسم يخدع به الناس : سواء كان ولي المسلمين أو أمير المؤمنين ، وهو كاذب عليهم وماكر بهم يُعرف فكره دين ورأيه هدى ليضل الناس عن الدين القويم للحسين وآله وجده سيد المرسلين صل الله عليه وآله وسلم .
 
وثانياً : إنه كان كلام عفوي لم أعده بهذه الصورة ولم أحضره بما عرفت وذكرت لك ، ولكن لكوني من أهل كربلاء وكثير المطالعة لمعارف الدين والسؤال عنها ، ذكرت لك بعض حقه ، فإنه مغروس في وجداني إيمان ودين وعقيدة ، وليس عواطف جياشة أو دعوة أو مجرد رأي ، بل يا أخي إن الحسين في ضمائرنا حي بدينه وهداه وبكل مبادئه ، وعن أيمان بكل ما قدمه من قيم العز والكرامة والإخلاص في العبودية لله تعالى وحده لا شريك له ، فإنه عليه السلام قد ضحى وآثر دينه بكل شيء يملكه نفسه وأهل وماله وصحبه ، ليعرفنا أهمية رضا الرب وإعلاء كلمة دينه عاليا خفاقة بما يحب ويرضى سبحانه .
 
فقلت أولاً : لا يهمني انفعالك الشديد لدينك ، ولكن هل حقا ما تقول ؟ وثانيا : هل يمكن أن تقول ما قلت من غير دراية ومعرفة سابقة بتأريخ الإسلام وبالخصوص سيدنا الحسين رضي الله عنه ، ثم من غير تحضير لهذه المعارف ، ثم هل يمكن أن تهدر هذا الهدر من الكلام الفياض معارف حول طين يابس من تراب كربلاء وخصائصه ولا يكون عندك تحضير وإعداد تام لهذه المعاني بالضبط؟
 
قال : نعم ، لي دراية وبحث وتحقيق وتفكر يزيدني يقين بحق الحسين عليه السلام وفضله في تعريف الدين وأهله .
قلت له : كيف بالله عليك خبرني وعرفني سبيل المعرفة ؟
قال : إن ما قلت لك له قصة ، وقد لا تحب  سماعها .
قلت له : أنا كلي مسمع في حبور ، وأكثر من كلامك كم شئت وبما ترى له من البيان والدليل فإنه كان حسِن ، وإني أراه يزيد جمالا وحلاوة لمعارفي ، و لا تقف بعذر الإثقال ، بل طول لبرهانه وأشرحه ولو بما يخالفني بكل بعدا له من العلم والاعتقاد ، ولا تخف مني مقاطعة أو رفضا للحق ، فإني مع الحق وله ناصراً إن رأيت موضعه وتيقنت وجوده ، ولا يهمني تقليد من مضى إذا لم يكن محقا في معارفه ، فإني من أتباع البرهان الحق ، وأتبع الموعظة الحسنة ، بل أنا من أصحاب الدليل الصادق وحيثما مال يُعرف الحق أميل للحق معه وأتحقق به بكل وجودي .
 ثم يا أخي : إن كلامك يستحق الأناقة والتطويل بنفسه ، فتكلم وبين واشرح بما تستطيع ولا تظهر عجزا ، فإنه كان حقا كلاماً فصيحاً جميلاً ، يسر السامعين ويدعوهم لأن يكونوا في تربة كربلاء من الناظرين والمنظرين .
 
ثم كتب عبد الله في دفتر مذكراته : إني ذكرت هذه الجمل وغيرها له في يوم السبت الفائت ، لأني حببت تشويقه للبحث بجد وللتعلم وطلبا للمعرفة ، ولكي يأنس بكلامه فلا يخاف أن يثقل علي فيختصر أو يبخل بالإجابة والذكر لما يؤمن به ، فإني بحق حببت أن أسمع الكثير عن الحسين الشهيد ومثواه رضى الله عنه وأرضاه ، وعن أهداف السجود على تراب يحيط به لله تعالى ، ولماذا الإصرار باتخاذ سبحة من تراب بقربه ، بل حتى سمعت أنهم يشتاقون لزيارته ، مع ما يثير لهم من مشاكل عند مخالفيهم ، ومع كل إصرار لاختيار تراب كربلاء دون غيره عند السجود لله في الصلاة ؟
 
فقال مجيداً لكلامه بأحسن بيان : كان ما كان في ماضي الزمان في صيف أحد السنوات ، صديقان يافعان قد جاءا إلى بغداد في يوم الجمعة ، وذلك لرؤية فلم قد وصف لهما حسنه الاجتماعي والسياسي ، و قد صار وقت صلاة الظهر فقررا الصلاة في جامع قرب سوق الشورجة ، ثم إن الجامع كان غاصاً بالمصلين ، وكانوا يصغون لخطيب مصقع وقد على صداه أركان المسجد ، فاتخذ هذان اليافعان مكانا عند جوانب الجامع ، و عند أحدا أسطوانات رواقه مكاناً لهما ، فجلسا يسمعان حتى تمت الخطبة وصلاة الجمعة ، و تفرق اغلب الناس الذين كانوا من إخوانهم السنة ، وبقي أفراد متفرقين في فناء المسجد ، فأراد هذان اليافعان الصلاة فبحثا عما يصح أن يسجدان عليه من أجزاء الأرض ، فلم يجدا شيئاً إلا فراش يضاهي جمال نقوش سقف المسجد و بهائه .
و لما كانا لا يجوزان في مذهبهما الصلاة على السجاد المنقوش خوفاً من هوى النفس حين تذكرها لزخارف الدنيا وزينتها وحسنها ، فينشغلان عن الخضوع للرب والتدبر في عظمته وحكمته وعن معاني الصلاة وأهدافها ، و هما يريدان الفرار عن كل ما يلهيهم عنه تعالى وعن التدبر في عظمته سبحانه ، فلذا بعد إن عثرا على حصاتين خارج المسجد ، جاء و صليا عليهما ، و لكن إثناء البحث على شيء يصح السجود عليه في مذهبهما تباحثا في أمر وهو :
في إنه لو كان بالإمكان السجود على الفراش لما كان عليهما عناء البحث ، و بقي هذا السؤال يجول في صدر الجالس أمامك ، قال هذا وتبسم ، فعرفت أنه يقصد نفسه والقصة قد حصلت له ، وهكذا أخذ يشير لنفسه وهذه باقي قصته .
ثم قال محمد مهدي لصديقه : حتى التقي بالأستاذ الفذ والمعلم الروحي القدير السيد إسماعيل الصدر أو الشيخ كاشف الغطاء ، فأبث لأحدهما ما عانيت من العثور على حصى للسجود عليه للصلاة في مسجد لعامة المسلمين ، وإنه لماذا لابد أن تكون الأرض ليست من المعدن ولا من الفخار ولا من الجص والإسمنت المطبوخ وإن كان طاهراً ، في حين يجب أن يكون محل السجود طاهر كالأرض الصرفة ومحتوياتها من غير هذه الأشياء ؟ فلماذا يجب أن يسجد على حصى أو تراب من نفس الأرض وأجزاءها المنفصلة من غير معاملة لها بالحرارة حتى يصح للعابد السجود عليها ، فضلا عن المنسوج والملبوس والثمر المأكول ؟ وحببت أن أسأله ما هي أهمية السجود على تربة كربلاء بالخصوص ، وما هي آثاره ، ولماذا يستحب عندنا التسبيح بسبحة ترابها من كربلاء دون غيرها ؟ وحببت أن رأيت أحدهما أن يشرح لي ذلك ، ثم وهل يمكن أن أسجد على الفراش و لو عند الضرورة كما مرّ في مثل حالنا ؟
ثم قال : فعلا في يوم من الأيام وفقت للحضور عند السيد وسألته ، وطلبت منه التفصيل قدر الإمكان .
و عند هذا بين لي السيد : أنه في مذهبنا يجب السجود على الأرض الغير مطبوخة بالنار فتتكلس بشكل يخرجها عن معنى الأرض بما هي أرض ، فنفقد معنى السجود لله على الأرض وترابها وتذكر آيات ومعاني منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ، فلا نتذكر عظمة الرب وقدرته في الخلق والهداية ، أو معرفة من أين وفي أين وإلى أين ، فنتعظ ونخلص الدين لله بكل وجودنا ، ولكون ديننا دين يسر وليس دين عسر ، تساهل معنا بأنه إن فقدت الأرض الصرفة وترابها وحصاها ، فإنه يجوز السجود على ما لا يؤكل ولا يلبس من النبات وما لا تشتهيه النفس منه ، فلا يصح السجود عليه حتى لو كان من الأرض و خرج من اسمها كالمعادن من الذهب و الفضة و العقيق والقير ، ولذا لا يجوز على ما طبخ منها كالخزف و الآجر ، ولا ما كان من النبات كالأدوية و الفواكه و الأعشاب المأكولة للإنسان وحتى ورق العنب .
ثم قال : نعم يمكن السجود على الناضج من النبات أو ظاهر يدك إذا اقتضت الضرورة أو استوجبت التقية ـ وكتب عبد الله : هذه الكلمة رددتها في نفسي عدة مرات لكي أعرف حقائقها فكثير ما أسمعها عنهم ولما عرف شيء من الاستغراب في وجهي ظاهرا ـ قال : التقية هي الخوف على النفس في غير الدم ، فلا يحق له حينئذ إن كان فيها سفك دم أن يتقي بل لا يجوز له أن يسفك دم غيره من أجل الحفاظ على دمه ، فالتقية هي أن لا يظهر الإنسان حقائق دينه إذا خاف المضرة الجدية على نفسه أو غيره من المؤمنين، وأن يتجنب المواقف المحرجة فلا يتظاهر بأمر يجلب إهانته من قبل الغير من غير ضرورة ، وأما الضرورات تبيح المحذورات وتجوز أكل الميتة ، وقد قال الله : إلا أن تتقوا منهم تقاة ، يعني تخافون أنفسكم منهم فلا تثيروهم بما يؤدي لأهانتكم والمضرة الغير قابلة للتحمل لكم من أجل ديني ما لم يكن موجب له ، ولا فساد عظيم في الدين ولا تهاون مشين في بيان معارف الرب ، فإذا كان أمر جزئي لا يضر هجره فيكمن تجاوزه ، ومثله مثلا الصلاة على السجاد إن فقد تراب الأرض ولم تتمكنوا من الصلاة عليه وقد يوجب الصلاة عليه مضرة عظيمة كقتل نفس أو جرحها ، وهذا يقدره الإنسان وضرورة الموقف وعدمه ، يستوجب الإظهار أم لا ، ولأئمتنا قول يقول فيه : لعن الله من يجبرنا على التقية ، ثم قال بحثها مفصل لكي لا أخرج عن الموضوع أذكر لك بعض ما عرفني السيد من السجود على التربة وسأذكر لك بعض تفاصيله في وقت آخر إن شاء الله .
 
ثم قال محمد مهدي قال لي السيد الصدر : يا أخي إن أحببت المزيد فراجع الرسائل العملية للعلماء المجتهدين الأحياء منهم والأعلم فالأعلم ـ فكتب عبد الله معلقا : وإني لم أعرف لماذا يجب مراجعة رسالة المجتهد الحي الأعلم ولا يجوز تقليد الميت في معرفة مسائل الدين الحنيف ، فنحن غير الشيعة في مسائل معرفة الدين من أئمتهم ، فنحن نقلد من كان قد عاش ومات قبل أكثر من ألف سنة وباسم مذهبه تسمينا حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي ، ونقلدهم ونتعبهم في فتاويهم ولا نتجاوز عن صاحب مذهبنا لغيره ، ولكن لا يهم أذكر لكم محاورتي مع زميلي محمد مهدي وأترك التعليق لوقت آخر .
 
ثم ذكر لي أحكام أخرى وقال : قال أستاذه : إن من يريد التعرف على مسائل الدين بالتفصيل عليه مراجعة الرسائل العملية ، فإنها معدة بالخصوص لبيان الأحكام الشرعية الفرعية المختصة بأعمال المكلفين وأعمال العباد في العبادة والمعاملة ، فإنها تشمل من العبادات : الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والتولي لأهل طاعة الله والتبري من أعدائه ، والمعاملات من الحلال والحرام والبيع والشراء والقرض والزراعة والشركة والزواج والطلاق والإرث وأحكام الأولاد والقضاء والديات والقصاص وغيرها مما يبتلي به الناس في معاملاتهم وحياتهم اليومية ، وهذا ما حفظته فعلا عما تضمه الرسائل العملية لعلم أحكام التكليف عندهم ـ واللطيف إنه كان يعلق على التكليف بكلمة : التشريف ، وكأنه يشير إلى أن الله تعالى شرف الإنسان بتطبيق دينه القيم لا كلفه ، لأنه من أجل هداه وليتكامل فيصل بروحه لملكوت الرب ، فضلا عن التمتع بنعيم الدنيا بسلام ووئام ، فينال السعادة التامة في الدارين ـ .
 
 ثم قال محمد مهدي قلت لأستاذي : زدني معرفة عن التربة الحسينية التي يلتزم بالسجود عليها أكثر أهل مذهبنا ، ولماذا هذا الإصرار على السجود على هذه التربة ، وما هي أهدافه ولماذا هي دون غيرها من الترب المحيطة بمراقد الأئمة ، ودون مرقد تراب النجف والمحيط بالإمام علي أب الحسين أو جده ، فلمَ لم نأخذ من تراب المدينة والنجف ، ثم قلت له بالله عليك عرفني وزدني فإني مشتاق للمعرفة وأنا أعيش على تراب كربلاء ، فأحب أن أعرف عنها أكثر ، وإن عرفت ضرورة لهدف السجود عليه لله وإنه له هدف سامي وغاية شريفة ، فسوف أخذه معي في حلي وترحالي .
 
فقال حفظه الله ورعاه : يا بني أوصيك بحق الأخوة الإيمانية أن تتخذ تربة بل وسبحة من تربة كربلاء ، فتحمل تراب كربلاء معك وأن تتدبر في معاني كريمة مطوية فيه ، فإنه فيه معارف الدين بأفضل إخلاص وتضحية وإيثار وفداء لتعليمها وتطبيقها وتبليغها ، وإن تربة كربلاء هي الوحيدة التي يمكن حملها لتعريف الحق وشهره بين الناس وتعريفه من غير قيل وقال وكثرة جواب للسؤال ، فحين يسألون لماذا تحبون وتفضلون السجود لله في الصلاة على تربة كربلاء ؟
 
فيقال لهم : إنها تربة الشهيد أبا عبد الله الذي قتله المنحرفون عن دين جده وأبيه ، وإن من يأخذ دينه من أعداءه ليس من الحسين في شيء ولا من دين جده رسول الله ، فإن الحسين قد ثار من أجل الإصلاح في أمة جده وشيعة أبيه ، ومن يأخذ بمعارف أعدائه من بني أمية ومن الرواة الذين يؤيدوهم في فكرهم ، يأخذ بدين فاسد وفيه كثير من الباطل والضلال ، لأنه قد خُلط برأيهم واجتهادهم وليس كدين الحسين الخالص الذي هو فيه تعاليم أبيه ودين جده المرضي لله بحق فيصح التعبد به لله ويرضى به ، لأنه نفس دين جد الحسين الذي أنزله الله عليه ، ويجب أن يؤخذ من أتباعه وأولياءه دون غيرهم .
ثم قال السيد إسماعيل الصدر رضا الله عنه : يا صديقي إن هذه التربة الكريمة في كربلاء التي تقدست بالحسين عليه السلام ، قد زارها الأنبياء حين عرفهم الله صبر سيد الشهداء ومقاومته من أجل نشر دين الله وتبلغه حتى الشهادة ، فكانوا يقتدون به ويصبرون على ما يؤذيهم به قومهم ، فيقدرون جهد الحسين ويتأسون به ويتصبرون على الهضم مثله ، بل يستمدون من موقع شهادته إلهام التضحية والإيثار والفداء من أجل تبليغ دين الله في أصعب الظروف ، ولا يتهاونون في شيء بسبب الأذى الذي ينالهم من قومهم كما نال الحسين من الأذى الشديد حتى الشهادة ولم ينثني ولم يلوى عن الحق ، فهم بعد لم يضحوا بكل ما يملكون من نفس وأهل ومال وأولاد وأصحاب كالحسين الذي قدم كل شيء من أجل الله ودينه ، فلذا كانوا يزورن تربته قبل شهادته بتعليم الله ليلتمسوا الصبر من أجل تعليم معارف الله بوجودهم كله .
 
ومن هذه التربة تربة كربلاء : قد جاء بقطعة منها جبرائيل لسيد الأصفياء نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيعرّفه ما يحل بأمته حتى يقتلوا سبطه من غير تقدير لجهده ولم يعترفوا بأجره ، الذي قال الله لهم في محكم كتابه في حقه : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، والله يختبر الناس ليعلم من يثبت على تعاليمه ممن ينجرف وراء وعود حكام أهل الدنيا ومضلي الناس عن أهل الحق والدين الصادق الذي يتحلون به .
فإن هذه التربة يا محمد مهدي : هي التي وقف عندها سيد الأوصياء أمير المؤمنين حين رجوعه من حرب صفين فبكى عندها وقال هنا محط رحالهم ، يعبر عن مقتل آله ، وأعلم إن هذه التربة تهبط عليها ملائكة السماء لتزور الحسين وتُنزل بركات الله لمن يزوره ويقتدي بمنهجه ، فيزوره المؤمنون ليعبروا عن تقديرهم لجهد الحسين وللتعليم الرباني الذي سقاه لهذا التراب ، والذي فيه الخالص من معارف الله ، فمن يزورها تمنحه الملائكة بركات الرب لحبه أئمة الهدى الأخيار ، والذين ضحوا بكل وجودهم وأهلهم ومالهم وكل ما يملكون من أجل تعليم ونشر دين الله تعالى وتطبيقه علما وعملا وسيرتا وسلوكا وبكل أخلاص وتضحية وإيثار .
 
فهذه التربة يا أخي : تربة كربلاء لها خصوصية على تراب بقاع الأرض : لأنها شهدت الإخلاص والتفاني بكل ما يمكن من أجل الله ودينه ، فهي تربة قد أستشهد عليها سيد الشهداء امتداد خاتم الأنبياء الطبيعي والروحي والمعنوي ، حتى قال جده صلى الله عليه وآله وسلم في حقه :
(( حسين مني وأنا من حسين )) والذي لو لاه لم يخضر للإسلام عود ولم يقم له عمود ، بعدما لعبت أيدي الخيانة والغدر في تحريف الإسلام وعدم تعليم خالص تعاليم الله ، بل أخذت بني أمية الاستهتار بالمقدسات وتتجاهر بكل أنواع المفسدات من شرب الخمر وأرتكاب المحرمات وكل أنواع الظلم والفجور والمنكرات .
ولولا أقدام الإمام السبط عليه السلام : والشهيد من أجل طلب الإصلاح والعدل في الأمة ومن أجل تطبيق معارف الله ، لما تجرأ أحد أن يقاوم ظالماً ، ولم يحاول أن يردع غاشماً ، ولا يعرف كيف يكون معنى الانتصار مظلوماً والفوز شهيداً مقتولاً .
و لو كان غيره قال : (( ما أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما )) لما عرف لهذى القول معنى و لما وجد له مصداق حق ، فإن الحسين عين الهدى والدين القيم بكل وجوده ، وغيره من عاداه في منهجه عين الضلال والظلم للعباد في تسميهم أمير المؤمنين وهم يروجون الضلال للمؤمنين ، وهم مخالفين للحسين وأبيه وجده ولكل تعاليم الله تعالى بعد ما غصبوا الخلافة بالمكر والخداع وتضليل الناس بعد إن صارت لأبيه وأخيه ، ولكنهم بالوعود الكاذبة وشراء ذمم الناس خانوا أئمة الحق وتسلط أئمة الباطل والضلال ، فلذا ثار الحسين من أجل الله لتعريف الدين الحق لله ، ومعارفه الصادقة التي تحلى بها ، فأخذ عليه السلام يعرفها بكل سيرته ووجوده ومعارفه التي تظهر منه علماً وعملاً ، وبكل كلمة وفعل له ظهر به عليه السلام .
ويا أخي : لولا ثورة الحسين عليه السلام لبقي الناس خانعين للظلم ولأنطوى عليهم لعب بني أميه بوضعهم لأحاديث الجبر وعدم جواز الثورة على الحاكم الجائر والفاسد ، ولا يجوز مخالفة السلطان الظالم والغاصب لأموال المسلمين والطاغي على حقوقهم ، ولو أخذ أموال الله خولا له يتصرف وينفق على ملذاته بدون حساب ويحرم ملايين المسلمين منها .
حيث أخذ الطاغية والمتجبر من حكام بني أمية :  لكي يُقنع الناس بأنه له حق بظلمه وطغيانه ، يعلمهم أنه تحكم عليهم بقدر الله وقضائه ، وأنه لا يجوز مخالفة الحاكم للمسلمين ولو كان حاكم جائر وفاسق ، ولتمكنت واستقرت مبادئ الجبر و عدم الاختيار ، ولما قاوم أحد ، ولما ثار مؤمن لأنه حسب تعليمهم ، المؤمن : هو الخاضع للحاكم والمُسلم أمره له ، ولولا الحسين الذي بيّن للناس زيف دعوى الحكام وحقائق دين الإسلام لما تحرك لطلب الصلاح غيور ، ولظهر الحق بلباس الباطل وللبس الباطل ثوب الحق ، ولصار المعروف منكر والمنكر معروف .
 
ثم قال حفظه الله يا محمد مهدي  : خذ من هذه التربة المباركة التي صبغت بروح دم الحسين ومبادئه ودينه وإخلاصه كما أخذها غيرك من أهل ملتك ومذهبك ، وضعها أمامك وتأمل فيها ، فترى فيها كمال الصلاة وأنظر إليها تعرف علة استحباب السجود عليها ، فاجل فكرك في أهداف حمل السبحة منها ، وأفهم معاني اهتمام الدين بتبليغ تعاليم المخلصين وأئمة الهدى الثائرين ، فتعرف حقيقة معنى أن التسبيحة الواحدة مع تربة الحسين تحسب بسبعين في ميزان الكرامة والرضى عند رب العالمين ، وإنها تسبح بيدك حتى لو لم تسبح بها بل لمجرد حملها وتعريفها للناس . 
وما ذلك إلا لأنه : انطوت في تربة كربلاء كل أهداف ثورة الحسين عليه السلام وصبغتها كل أغراض وجود الإسلام ، ولذا حين تنتشر بين الناس تظهر وتُعرف لهم بحق غاية تعاليم القرآن في هداية الأنام ، وبصراط مستقيم يُعرف بحق أهل الدين الصادقين المصدقين عند رب العالمين دون المعاندين والضالين .
ثم تبسم محمد مهدي وقال : وأنا عند ما نظرت في هذه المفاهيم ، وتفكرت في ما ذكر لي السيد إسماعيل الصدر ، و قرأت عن الحسين عليه السلام وتعاليمه وأهدافه في ثورته ونهضته وتضحيته وإيثاره ، تجلت لي معاني كريمة في تأكيد استحباب السجود عليها في الصلاة عندنا ، بل وحين حملها للتسبيح لذكر الله كسبحة يكون خرزها من ذلك التراب الطاهر الذي سقاه الإخلاص من أجل الله أبا عبد الله الحسين في ذلك اليوم المشهود في عاشوراء كربلاء .
 
وعرفت معاني كريمة : عزيزة على الأباة والمؤمنين وكل الأحرار الطيبين في تضحية أبا عبد الله الحسين وإيثار وتقديم نفسه وولده وأخوته وأصحابه ، بل وماله وأهله حتى عياله للأسر والسبي من أجل الدين وتعريفه ، فلم يبخل على بيان هدى الله بشيء ، وإنه لما عرف الله إخلاصه جعله بحق قدوة للمؤمنين وأسوة حق للمخلصين ولكل الأحرار الطيبين ، فإنه بحق زيارة الحسين أو حمل تربته سبحه لذكر الله أو السجود على تربته ، يذكر المسلم بقيم الإسلام الغالية ، ويدعوه للمحافظة على أهدافه العالية ، فترفع همة المؤمن عندما ينظر لإخلاص الدين المنطوي تفصيله في تربة كربلاء ، فيحملها ويهديها ويعرفها لنشر وتطبيق تعاليم الله الهادية ، ويعرف أهل الصراط المستقيم والدين القويم من غير كلام .
 
نعم يا أخي الكريم : قد تبين لي بحق إن من يعرف حق تربة كربلاء والفداء الذي سكبه أبا عبد الله فيها ، والتضحية التي قدمها للمؤمنين عليها ، فينظر إليها بعين الإنصاف ويعرف حقها بمبادئ الحسين وأهدافه وغرضه من الإباء والصمود من أجل طلب الإصلاح والعدل وعدم الخضوع للظلم والعدوان والطغيان ، أنها تكون بحق وبواقع الصدق تكون :
 الترياق المجرب ضد الرذائل : فلا يقترب منها من يحملها ويسبح بها وسجد عليها وهو يعرف قيمتها ومعناها ، ولم تؤثر به كل الوعود المعسولة للظلمة ولا شهوات النفس ولا زينة الدنيا المحرمة مهما حلت وتجملت .
 وإن تربة كربلاء بحق تكون بلسم لجروح مقاتل الطغاة والظلمة وكل أهل الفجور والطغيان ، فتطيب روحه بالتضحية والفداء من أجل طلب الإصلاح ونشر دينه وهدى ربه المتعال ، حتى يرضى به شهيدا بين يديه إن أستوجب الأمر .
وهي بحق إكسير لحياة المناضل : تهبه القوة والصبر والصمود من أجل نشر دين الله وتعريفه بكل همة وعزم .
 ودافعة لاكتساب الفضائل وتطبيقها بكل جد واجتهاد ، وطلبها من أهل الحق الهداة للصراط المستقيم والدين القويم ، المنعم عليهم بالمودة والتطهير والولاية والإمامة وكل ملكوت الرب في يوم القيامة ، ومعهم يكون من اقتدى بهم وطبق من أجل رضا الله تعاليمهم وهداهم .
  ولذا يا أخي فهمت بحق :
 لماذا إنها أصبحت محمولة بيد المخلصين .
 و لماذا صارت شعار المتقين .
 و لأي سبب يقدسها المهتدون .
والعلة التي من أجلها : يحترما الداعي ، و يحتضنها المجاهد .
بل يمسكها بيده حين الفراغ : العامل والناسك والعالم والزاهد والعابد لله ، وكل غيور وحر في نفسه وطيب في وجوده ، فيحب هدى الخلاص من ظلم النفس ليتحلى بكل دين الله القيم ، ويفر من الطغيان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، فيسعى بكل وجوده من أجل الإصلاح والفلاح ، كالحسين وآله الكرام بما علّمهم الله وهداهم له بدينه القويم .
بل والسبب : الذي صار من أجله يوصي العالم والعابد والزاهد والمجاهد : أن توضع في حنوطه ومساجده السبعة بعد الموت بل تكتب آيات كريمة على كفنه بطين يكون كالحبر من ترابها ، ليقر لله بأنه طلب الإخلاص فيها من أجله ، وعبده بهدى الحسين وآله ، فيلاقي ربه بدينه القويم ويسير لآخر مراحل الصراط المستقيم في جنة عدن على ضفاف الكوثر يحيط بالحسين وآله الكرام في محل كرامة الله ومجده لعبادة المخلصين .
 
ولذا يا أخي : لا غرو لك فيما تسأل وتحب أن تعرف ، بأنه وقت الصلاة والتوجه لله لماذا يصر أنصار الحسين وضع تربته التي تحيط بمثواه في كربلاء أمامهم حين السجود لله ، وتصر على طلب المعرفة ، وأنت يا أخي أفضل ألف مرة ممن يشكل ولا يطلب حل ؟
 فإنه بحق تعرف الآن بأن من يسأل يجاب : بأن حملها والسجود عليها حين الصلاة أو زيارتها فهو : من أجل تعريف دين الله وأهله ، وحقيقة هداه الخالص لكي يعبد بحق ، وهذا يتيقنه بحق وبعين الصدق كل حر يطلب الكرامة والعز والهدى الإلهي الحق ، وكل من يحب أن يعرف حقائق دينه ومعناه بتطبيق إخلاص المخلصين والمطهرين المقدسين ، والذين عرفهم وأيدهم رب العالمين بكتابه المجيد وبكلام نبيه الكريم وبسيرتهم وكلامهم فبان صدقهم وبالخصوص حين عفروا خدهم ملطخ بدماء العز والكرامة من أجل دينه وتعريف هداه الخالص ، ولم يرضخوا لغيره أبدا ، وهكذا يطلب هذه المعارف أنصارهم وأحبتهم ومن يقتدي بهم حين يسجد على تربة تحيط بمرقدهم في كربلاء .
 
وإلى هنا كان السيد عبد الله : يتذكر كلمات زميله السيد محمد مهدي وأستاذه ويكتب بالسرعة التي تعودها لكتابة خواطره وكل ما يراه مفيد له في الدين والدنيا ، ولما وصل إلى أخر الكلمات التي دونها أعلاه ألقى القلم من يده على دفتره ، وتنفس الصعداء لفهمه لهذه المعاني ، ولتقينه بأن لهذه التربة بما هي تربة حسينية كثير من الأهداف لتُعرّف دين أهلها ، وجمة من الأغراض تحكيه عن هذا المذهب حين حملها ، ويريدون بهذا تعريف الدين وهداه وأهله ، ويحكون بحملها تأريخ الإسلام وأهل الهدى ممن سار على الحق والصلاح والإخلاص مع الله ، وأهل الباطل والضلال والمنحرفين عن الحسين وأبيه وجده بل وعن دين الله .
يا له من دين وفكر وهدى عظيم مطوي في هذه التربة : فبمجرد حمل تراب أو السجود عليه لله يمكنهم أن يحقوا الحق بهدوء لم يعهد مثله عند أحد من الأديان ولا في مذهب من مذاهب الإسلام لغيرهم ، فيعلّموا الهدى الحق لدينهم بسكوتهم وحين يسبحوا بتراب كربلاء أو يسجدوا لله عليه ، فينشروا دينهم بتراب يحمل منها فيُعرّف كل إخلاص أئمة مذهبهم وتفانيهم لتطبيق هدى رب العالمين ومعارفه بل ونشرها بكل جد واجتهاد ، وبكل ما يكمن فيه من التضحية والإيثار والفداء لإصلاح ما فسد في هدى الدين وطلب التوجه لقيمه العليا والسير على الصراط المستقيم فيه.
ثم بعد هنيئة من الراحة : والغوص في معاني الكمال التي يمكن أن ينتزعها من أجل طلب الحق ومعارف أهله أخذ القلم مرة أخرى وكتب :
وأنا في تلك الجلسة المباركة في نادي الكلية : حيث عرفت كل غرضه و فهمت قصده ، وكل ما يريد أن يرتبه من الكلام ومعانية ، وما يصبوا إليه بقوله في تعريف هدى الحسين وإخلاصه مع الله في يوم كربلاء ، وكيف صارت التربة تشير لتأريخ الدين وهداه ، أشرت له بأن يسكت مع الموافقة لما يذكره .
وقلت له : طيب فهمت ما ترمي إليه وإنك من جهابذة العلم في معارف الدين وتأريخه وبالخصوص بحقائق مذهبك ، ولكني في هذا الجلسة أخاف أن ينقضي الوقت ولم استوفي كل غرضي وما جال بخاطري ، ولكن لي سؤال أخر قبل أن ننهض للدرس :
فسكت مبتسما : بعد إن كان ينضح عرق الكرامة والعزة والافتخار بدينه ومذهبه ، وكأنه فارس الهيجاء الذي حقق هدفه في جهاده ، وخطيب مصقع قد بلغ مراده ، ولكنه مع ذلك قال : لم أفي الحسين حقه وإن طلبت المزيد زدتك فإنه في أهداف التربة الحسينية سواء سبحة أو تربه ، بل حتى حملها معاني غالية على الكرام عزيزة على الأحرار ، ولذا يزورها الأبرار ويعانقها الثوار لتذكرهم الفداء والإخلاص من أجل هدى الدين وكل تعاليم رب العالمين .
 
ثم سكت هنيئة وقال : ولكن بالله عليك أحقا عرفت قصدي ؟ وهل تبين لك شيء واضح من حقيقة مرامي وما فسرت لك من سبب تكريمي للحسين عليه السلام ؟ وهل فهمت بحق كل ما يحيط به حتى ترابه فضلا عن مثواه روحي له الفداء ؟
 
 فقلت نعم  : طيب الله أنفاسك وأحسنت ولا فض الله فاك ، فأنا بحق عرفت منك حق المعرفة إنه من عزكم وفخركم معرفة الحسين وكل آثاره وما يحيط به حتى ترابه ، وإن غرضكم بالسجود عليه والتسبيح بتربته هو تعريف معاني العز والإباء والكرامة التي سقاها الحسين لهذا التراب والتحقق بها ، وبكل إخلاص من أجل طلب الإصلاح لدين الله ، وبكل تفاني في طاعة الله حتى الشهادة .
 ثم كتب عبد الله : إني حببت أن أفهمه إني قرأت لآخر المقال معاني هدفهم من السجود على تربة كربلاء ، ودخل في وجداني وضميري بحق الإيمان واليقين لكل ما يؤمنون به ، فإني بحق فهمت معاني جمة من أغراضهم في تقديسهم لهذه التربة حتى أخذوا يسجدون عليها لله تعالى ، فزدت عليه بما قد يحسن على كلامه ، فقلت له :
ـ وأنا كلي شوق للبيان وتعريف الحق عندهم ، بل لمعرفته عندي ، ولو كان يثقل عليّ الاعتراف له بصراحة تامة ، أو بيان إذعاني لصدق ما كنت أعتقد خلافه ، فأكون خفيف الميزان أمامه ، بل لعلي أكبر عنده وفي نفسي ، ولكن كان يصعب عليََّ أن اُعرفه إني كنت صغير بمعارفي بل وفي حقيقة اعتقادي ، فأقر له بجهلي بحقيقة الدين وتأريخه الهدى وأهله الصادقين ـ ولكن قلت له  يا أخي :
إنكم تؤمنون بحق اليقين بهذا المعنى : وهو إنه من عرف تربة كربلاء حق المعرفة ، صارت عنده معاني كريمة وعزيزة عليه وهي : إنه لما صبغتها دماء ثوار الله حتى خالطتها تعاليمهم ، ومزجتها أهدافهم ، شربت بقاعها إخلاصهم  لدينهم ، وسقيت رباها من وفائهم لمذهبهم .
فأصبحت هذه التربة عند كل الطيبين والأحرار : قبس نور وهدى لخلاصة الدين ، وتنزهت عن كل ما يشين من ضلال المنحرفين الذي صار هباء منثورا عند رب العالمين ، فلذا صارت لمن يعرف حقها :
أرض طيبة المنبت لتعريف هدى الله ، وكريمة المرفأ للتزود بالإخلاص لتطبيق دين الله ، وذلك بعد أن سقاها الحسين دينه ، فكانت مثله وتحكي عنه هداه ومنهجه الحق من أجل الله ، ومصباح هدى يعرف حتى اليقين وبمختصر البيان وتفصيله ، نورهم المشرق من معارف الله ، وسفينة نجاة للمؤمنين من كل ظلام الدنيا وضلالها ومن ظلم أهلها وطغيانهم ، فهي مجمل مُعرف لأس الهدى والطيبين من أهل الدين المخلصين ، وتميزهم عمن عاندهم وقتلهم من الظلمة والطغاة على المسلمين في كل حين .
وبهذا المعنى صارت تربة كربلاء : ماء مصل تقي المؤمنين من الخنوع للظالمين ، وتعلمهم الجد لطلب العدل والإصلاح للمسلمين ، فترفدهم هدى رب العالمين بصراط مستقيم ، والذي هو صراط الحسين وجده سيد المرسلين .
ولهذا تؤمنون ويؤمن كل حر يعرف تأريخ الدين ويقر لها كل الطيبين : بأن أرض كربلاء لما أصلحها الحسين وصحبه بفدائهم وتضحيتهم صارت أرض خصيبة المرتع للأخلاق الحسنة ، ممزوجة بماء الحياة القراح الذي يسقي العادات الفاضلة والحكمة والموعظة الحسنة ، فصارت روضة تحبي ورادها طلب المعالي والهمة في تعريف الدين ، فكمن فيها عقار للأمراض الإنسانية وللسقطات البشرية ، وترعرع عليها دواء لتخاذل المسلمين وغيرهم ، فأضحت لمن حملها كالطبيب الدوار ، يحث المستضعفين المطالبة بحقوقهم ، وتعويذه للأصحاء تقيهم الضيم وتجبر الطغاة ، وتمنح الأحرار والطيبين العزم والجد على المقاومة وطلب الإصلاح لأنفسهم ولمجتمعهم ولكل أمتهم وبإخلاص ، ورافضة لجميع حيل ومكر وغوغاء أعداء الدين وكل المعاندين لمعارف رب العالمين وهداه المبين ودينه القيم .
فأرض كربلاء بالحسين وهداه ودين الله الذي سقاه لرباها : صارت أرض وعقار يمنح للشجاعة حقيقة وواقع حق ، ومصل يمنع التخاذل والجبن من كل طغاة الأرض ، ورقية للعافية والجد للترقي في تبليغ هدى الله وتعليمه وتطبيقه بكل إخلاص ، فيصير من يعرف معانيها ويتصف بها بحق من أنصار الحسين عليه السلام  ولو لم يعش زمانه ، لكنه يصير من المقتدين والمتأسين به بكل وجوده ، وهذا ما توخاه الإمام الحسين في ثورته لإصلاح ما فسد من الدين عند المسلمين ولو بعد حين .
ولذا صار لهذه التربة يا أخي الكريم عندكم : معنى السجود عليها في صلاة أو التسبيح بخرزها : كالوضوء المجدد على الوضوء نوراً على نور ، وكادت أن تضئ وإن لم تمسسها نار ، فأخت الكعبة بما فيها من الحجر الأسود والركن المستجار يسود صاحبه بمعارف الدين وتجيره عن ضلال المنحرفين ، ومقدسة كصخرة بيت المقدس المقدسة لأنه قدسها المقدس الطاهر المُطهر الطيب الحسين بإخلاصه وتضحيته وفداءه ، وحين سكب فيها طهارة هداه ومعارفه حتى الشهادة في سبيل رب العالمين ، وهداه القيم ودينه الذي يتم بتطبيقه كل حقيقة الدين والهدى والعدل الإصلاح وتتم لعباد الله السعادة والنعيم  .
 و لكن قل لي يا أخي بالله عليك : إنكم لا تقولون بوجوب السجود لله في الصلاة على التربة الحسينية المأخوذ من بقعة كربلاء ، وهذا يفوت غرضكم من الصلاة عليها ، ويمنع من تذكر الحسين وأهداف ثورته التي قدم كل شيء من أجل تعليم هدى الله وطلب العدل والإصلاح ورفض الظلم والعدوان ، فلا تربة غيرها تُعرف الفداء والتضحية وحقا للجهاد في سبيل الله مثلها ، فإن الحسين قدم نفسه وكل أهله وماله وأولاده وأخوته وصحبه ولم يتنازل عن أقل مبادئ الهدى والإخلاص لرب العالمين ، ومن يسجد على غيرها من التربة يفوته الدعوة لدينه والعمل بطاعته بنفس الإخلاص الحسيني حين تذكره بوضع التربة أمامه وحملها معه .
فلماذا إذاً اكتفيتم باستحباب السجود عليها وحملها كسبحة ولم تقولوا بوجوب حملها ، فإن بالقول بوجوب السجود عليها أو التسبيح بها لله ، يتم أحسن بيان يُعرف ضرورة ووجوب حملها والسجود عليها والتسبيح بها بل وعلى قولك زيارة مثوى سيدها ، من قِبل كل أهل الدين الخالص من الضلال ، وهداه الصافي في طلب رضا الله ، فيتمسك بهذا بجد كل أهل مذهبكم وكل من يعرف إصراركم من غيركم ، فتروهم حين تقولون بوجوب السجود عليها الحق الوضاح من الدين ، وتسقوهم مبادئ الحسين وعدله وإصلاحه وإخلاصه .
 فإن القول بالوجوب لحملها والتسبيح بها عند ذكر الله أو السجود عليها تعظيما لله بكل إخلاص ،  ليس تشريع بل هو تبليغ وتعريف لهدى رب العالمين بكل يقين من غير باطل ولا ضلال لأعداء الحسين وآله الكرام ممن أنحرف عنهم حتى قتلهم وغيّر ما غيّر من هداهم الذي هو هدى الله .
 وحينئذ يكون واجب اخذ الصراط المستقيم الصحيح لتعريف دين الله وهداه القيم بأحسن بيان وموعظة ، ومجادلة حسنة بليغة المرمى لمن يراها أو يسمع هدفكم من السجود عليها والتسبيح بخرز من ترابها يحكي عن تعاليمها ، ويشرح الإخلاص المسكوب فيها حتى رواها وجعلها تروي الغليل لكل من يطلب الحق من هدى الدين القيم لرب العالمين المنزل على سيد المرسلين .
 وهذا مجرد القول : بالاستحباب للسجود والتسبيح بها أو زيارتها وحملها ، قد يكون تقصير منكم في حق كل المؤمنين والأحرار والطيبين ، وتساهل في تعريف حقائق خالص الدين وأهله حتى يعبد به الله تعالى من غير ضلال ولا باطل .
فكتب عبد الله بعد الذي ذكر في دفتر مذكراته : ولكني حين ذكرت هذا وبكل جد ، أريد نشر الدين الحق وتعريفه ، وبحق لم أكن أقصد غير ما ذكرت ، ولكن السيد محمد مهدي بعد أن سمع قولي هذا قال مبتسماً كعادته ومتعجبا ، بل صار مبهورا حين سمعني أهدر بكلامي من غير توقف ، وإني قد استوعبت دينه بأدق معانيه ، وأهداف مذهبه بأوسع أبعاده حين السجود على التربة الحسينية ، وقد أتقنت غرضهم من التسبيح بها أو حملها فضلا من السجود عليها لله لأبعد أجله وغرضه ، ولكن تمالك نفسه وبأهدأ بيان :

قال : ما هي كنية علي بن أبي طالب عليه السلام ؟

قلت : أبو تراب ، على البداهة ـ وعلق عبد الله في دفتر مذكراته فكتب : قلت : أبو تراب ، ولكن على مضض في نفسي كان معناه ، أنه بأبي تراب سيُعرف الحق من أبي الحسين ويبطل كل من عاند علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهذا ما قد يجعلني من الصعب التنازل له ، وأخاف أن أكون ممن تيقنوا محل الهدى وأصله وجحدت به أنفسهم إن لم أقبله ، وهذا هو المحك في الدين وعبودية رب العالمين ، إذ إني عرفت ما يروم إليه ، وإن كان هذا هو مرامه ، فهذا بحق هدف أكبر من الأول لبيان قصدهم بالإصرار والسجود لله على التراب ووجه الأرض دون المأكول والملبوس والسجاد وكل زخارف الدنيا ، وكأن تسمية رسول الله لعلي بن أبي طالب أبو تراب لها مغزى ومرمى أبعد مما يتصوره كل مسلم ، وإنها ليست تسمية بسيطة يمر عليها المار ولا يتدبر هدفها ومعناها وما هو مغزاها المعرف لمحل هدى الله ودينه ، والله أكبر على هداه وإتقانه لتعليم دينه بكل سبيل وبيان بليغ فصيح مختصر ـ .
ولكن مع ذلك قلت له متابعا : هناك في تراب كربلاء خصائص لا توجد في كل تراب الأرض كما عرفت ، فسكُت ولم أزد على كلمة أبو تراب ، ولا على هذه العبارة الأخيرة شيء لكي لا أبيح له بمكنون نفسي ولا أعرفه أكثر من هذا ، وقلت في نفسي : ربي زدني علما ، فإن كان هذا هو الحق أقبله ولا تمطر علينا حجارة من السماء .
فقال متابعا : أبو تراب ، هو أب الحسين ، وهو أفضل من الحسين في تجسيده لقيم الإسلام الغراء ، وتعاليم الله تعالى وأهداف في العدل والإصلاح والهدى والعبادة والزهد والشجاعة في تطبيق الدين وبذل النفس من أجل الله ، فهو وليد الكعبة وبقي بابه مفتوح للمسجد ولم يسد باب رسول الله بأمر الله حين سدت أبواب المسلمين المفتوحة للمسجد ، وهو شهيد المحراب .
  فإن لم تكن تربة الحسين عليه السلام ، وتعسر الحصول عليها للسجود لله عليها لنتذكر إخلاص الحسين عليه السلام وهداه الحق ، فالتراب هو التراب ، وهو بتعليم رسول الله إنه راجع لأبي تراب .
فعلي بن أبي طالب أب الحسين هو أبو التراب ، وهو الذي سماه به نبي الرحمة والدين والمبلغ عن رب العالمين ، فإنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيا يوحى ، فهو نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم سماه : أبو تراب ، وهو أب الحسين .
ثم بلحن حزين يعبر بكل عمق عن مأساة المسلمين وتغافل الطيبين عن عدم توجههم لتعاليم الدين وهداه المتكامل بكل شيء فقال :
 إن كل أرض كربلاء ، و كل يوم عاشوراء .
ولكني تبسمت أنا بدوري لأرفع عنه همه وغمه الذي يذكره بالتقصير في عدم التوجه لتأريخ الدين وتعاليمه الحقة ، وبالخصوص بعدم معرفة الحق مع أهل البيت رضي الله عنهم ، ولا دينهم الخالص لله لكل متدبر بحق في تعاليمهم وهداهم وسيرتهم قلت له :
إذا كان بواسطة أبو تراب رضي الله عنه : حصلتم على بقاع الأرض ووفاءها المشير لتعاليم الرب وقدرته وعظمته وبيان محل هداه وأهل دينه المخلصين ، فسجدتم له عليه بكل إخلاص وبأعلى قيم الإسلام ولم تسجدوا لزخارف الدنيا وزينتها ،  فكيف حصلتم على دورانها وتكور زمانها ليكون كل يوم عاشورا ويذكر المؤمنين بأبي عبد الله الحسين وأبيه وكل آله الطيبين الطاهرين صلى الله عليهم وسلم ؟
قال : تعاليم الإسلام نافعة وشاملة لكل زمان ومكان ، ولا يحق لأحد الاختلاف عن هدى رب العالمين وتعاليمه بأحزاب ومذاهب ، وهي لكل آن ولم تختص بعصر ولم تحدد بزمان ، بل هي شاملة لكل مجالات الحياة وفي كل آن وفي جميع بقاع الأرض ، ولم تخص بوقت معين ولا عصر ، بل شملت كل الزمان أين ما كان الإنسان : هذا أولاً .
وأما ثانياً : فلابد من معلم لدين الله القيم بكل أبعاده وحقائقه بحق ، وإن هداه هو الصراط المستقيم الموصل لعبودية الرب وكل نعيم في الدنيا والآخرة ، فيهب لكل إنسان بحق السعادة الواقعية ، وهذا الإمام بعد رسول الله لابد من وجوده ، لأنه تعالى قال : يوم ندعو كل أناس بإمامهم ، ولابد للإنسان من الإيمان بإمام حق ، وقال تعالى : إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ، فلابد للإنسان من هادي لدين الله بحق من غير رأي ولا تعليم رأيه بعد إنذار رسول الله لتعاليم الله المنزلة عليه ، ولا يوجد مذهب في الدنيا بحق يقول :
منا إمام الوجود والهادي الحق لدين الله بحق ، ولا يدعي هذه الدعوى ولم يقل بها أحد من المسلمين لا بعد رسول الله ولا الآن ، إلا مذهب أهل البيت عليهم السلام ، فيقولون بجد وجهاد وبكل بيان وإيمان إن : إمامنا وولينا وهادينا بإذن الله الآن هو :
صاحب العصر والزمان أبا صالح المهدي عجل الله فرجه و سهل ظهوره ليعم الدين والهدى والعدل والصلاح لكل الدنيا وبقاعها بإذن الله ، وجعلنا من أعوانه و أنصاره ، ثم تبسم وقال : إمام الزمان والعصر هو منا ونحن منه نحبه وندعو الله لأن يظهره فيملئ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً ، ويحبنا لأنا ملتزمين بدين جده الحسين وعلي ومحمد صلى الله عليهم وسلم ذرية بعضها من بعض ، وقد قال تعالى : جعلناهم أئمة لما صبروا ، وقال تعالى : ليلة القدر خيرا من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر .
فإذا كان ليلة القدر مستمرة وإن الروح يتنزل على النبي وبعده على الإمام فلابد من وجوده ، وإلا لم ينفع نزول الروح عند عدم وجود الإمام وهو خلاف أمر الله تعالى ، وإن الملائكة للمؤمنين ، فالروح لولينا يعرفه الله تعالى بتوسطه أمره ، وهو إمامنا وهو الحجة المهدي من أولاد الحسين : محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وأم الحسين فاطمة بنت رسول الله وأم فاطمة خديجة أفضل نساء أهل الجنة بعد بنتها فاطمة الزهراء .
فهاهم يا أخي : أهل البيت الطيبين الطاهرين ، وأهل محل كرامة الله من لحقهم بدينهم الحق يحصل على خالص عبودية الله ودينه المرضي له ، وكان معهم يحف برسول الله في المقام المحمود وتحت راية الحمد ، وتوفق لأن ينال الوسيلة من الله لرسوله ولآله أئمة الحق الذي من تبعهم بحق صار معهم ومنهم في الدين والدنيا والهدى والنعيم والصراط المستقيم  ، وفي الآخرة والنشر والحشر وعلى الحوض وفي الحساب ، والنعيم في القيامة وفي الجنة مخلدا ، وحصل على كل سعادة وسرور وحبور وهذا هو الفوز والفلاح لحزب الله وبهذا يغلبون الدنيا وزخارفها وضلالها وظلامها ، والشيطان وحزبه والطغاة وظلمهم وما يحرفوه من الدين لمصالحهم.
ـ ثم كتب عبد الله في دفتر مذكراته : تعجبت من طرح هذا الموضوع الجديد بعد التراب : وأصله لنا معلم للهدى بعد الخلق منه ، حتى صارت الأرض كلها بأبي تراب وابنه تعرف الحق وأهله ، حتى صارت كل أرض كربلاء ، ثم لم يكتفي صاحبي بأن يطرح بأن في كل زمان نسجد على تراب كربلاء فيكون كل يوم عاشوراء بعد إن كانت بأبي تراب كل أرض كربلاء .
 بل قال : لبيان إن الهدى لهم في كل الزمان بإمام من أهل البيت النبوي ، وإنه إمام حي يرزق كأنه يسير وجوده في كل التأريخ ، وهو المنتظر وحجة الله على كل البشر ، الذي يؤمن بظهور كل المسلمين بل كل الأديان ولكن مختلفين في شخصه ، ولكن عند صاحبي بيان آخر يعرفه بعينه وأصله وفصله وبذكر كأنه يؤيده  الدليل وتأريخ الدين وكتاب الله المجيد، فإنه : يوم يدعى كل أناس بإمامهم ، فلابد لنا من إمام حي ، ولهذا ولكي أعرف المزيد ذكرت له ـ .
 فقلت : كيف كان المهدي وإمام الزمان وولي العصر والهادي بعد رسول الله وعلى طول الزمان ، يكون منكم ولم يكن منا نحن عامة المسلمين المنتشرين في جميع بقاع الأرض من أهل السنة ، ونحن كذلك نؤمن بظهور مصلح آخر الزمان ، بل كل الأديان تعرف هذا وإنه يوم العدل العام والصلاح التام يعم الأرض بأمر الله وبقدرته ، فإن هذا وعد الله وجاءت به سنة رسول الله .
قال السيد محمد مهدي : أنظر للكيفية ولا تنظر للكمية ، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، فإن ظهوره مع المعجزة الغالبة بأمر الله المؤيد له بكل ما يجعله ينتصر على أكبر عتاة الأرض، فإن الله قال قليل من عبادي الشكور وأكثرهم لا يعقلون .
 وإما إن إمام الزمان والعصر منا لأنا نقول : باستمرار وجود الإمام لكل عصر ، ونقول بضرورة وجود الهادي بأمر الله في الزمان على طوله كله كما عرفت في الآيات السابقة وبنسبته ونسبه ، وإن الهادي الحق والإمام الواقعي الصادق بعد النبي مستمر وجوده بعد ختم النبوة ، والله لم يهمل دينه ولا عباده لكل مدعي ولو كان كاذب وضال وطاغية ، وبدون هادي وإمام واقعي صادق مصدق عرّفه الله تعالى لعباده وبنسبه وسببه وبآيات وبراهين تؤيده .
فإنا نقول : إن الله عرف المنعم عليهم أصحاب الصراط المستقيم ومرشدي الناس في كل زمان لدينه القيم ، وإنهم موجودون إلى يوم القيامة ، وبولي دين يجب طاعته ، ومطهر طهره الله بآية التطهير ، وأمر بمودته بآية المودة ، وهو من أهل البيت عليهم السلام آل نبينا علي والحسن والحسين والمعصومين من ولد الحسين إلى سبطه إمام العصر الثاني عشر ، إمام بعد إمام من ذرية رسول الله وآله ، بعضهم من بعض ، جعلهم الله أئمة يهدون بأمره المنزل بتوسط الروح ، و بما صبروا وضحوا في دين الله علما وعملا وسيرة وتطبيقا وتبليغا .
 فنحن يا أخي الكريم : نقول بوجود إمام العصر والزمان وبولادته وأنتم تقولون لم يولد مع كثرة الأحاديث التي ترووها بحقيقة ظهوره ، حتى ملئت بها كتبكم ، ولا يمكن لمسلم أن ينكرها أو يتجاهل أهميتها ، فساعة الظهور حتمية بإمام أطال الله عمره كعمر نوح والخضر في الأرض ، وليس على الله بعزيز الذي أحيى عزير بعد ما أماته مائة عام ، أن يطيل عمر ولي دينه حتى يوم يشاء من ظهور العدل وتطبيق دينه بالقوة والمعجزة والقدرة المطلقة لولي دينه ، فمن الممكن أن يجعل الله الإمام حي طويل العمر كما حكى عن نوح والخضر، وينزل المسيح يصلي خلفه يؤيده بأمر الله ولم يمت للآن ، وإن ساعة الظهور لولي العصر إمامنا ، حتمية بإذن الله.
فلما ذكر ساعة الظهور الحتمية ، نظرت للساعة ، و قد أشارت للحادية عشر تنذرنا بالدرس الآتي ، فلما نظرت لساعتي فهم أن الوقت قد تداركنا فلملم هو بدوره كتبه التي أمامه .
فقلت له وأنا أنهض : لقد أعجبتني كثيرا ، فإنك رائع بحق في نطقك بعلم ، وكيفما ألقاك أجدك متسربل اللامة ، وسارد للدروع الوثابة ، بل أنك صالت  للحسام الصمصام بكل معارف الدين عن يقين ، وأنك موجها لقناتك بما يصيب ، ولا يفوت رمحك فاتك ، بل نبلك مغول في قرطاسه ، وأنت العالم بمقال دينه ، والعارف بدقائق مذهبه ، فجزاك الله عنه خيرا وبارك بك وكثر الله من أمثالك .
ثم لما وصل عبد الله في ساعة كياسته التي جعلها لكتابة أحلى موضوع في عمره ، وقد غير مسير حياته وعَمق معارفه بدينه ، وجعله كثير المطالعة لكثير من الكتب وبالخصوص لكتاب حصل عليه وسط الأسبوع اسمه الأرض والتربة الحسينية لكاشف الغطاء ، وموضوع في تفسير الفاتحة للسيد إسماعيل الصدر ، وعرف خلال الأسبوع كثير من معارف أهل البيت في جلسات مختلفة مع محمد مهدي ، بل استفاد من صالح واخذ منه كثير من الأدعية التي كان يدعوا بها .
وأما الآن فهاهو بعد أن لملم كتبه ودفتره فوضعها في الغرفة ، وبعد أن تهيئ للصلاة بعد الوضوء كما علمه صالح ، فهو الآن قائم ليصلي صلاة المغرب التي قارب وقتها بل دخل وقتها قبل هنيئة ، وهو الآن في نفسه وفكره وبكل وجوده حين ذهب لغرفته ليأخذ سجادته ليصلي مخلصا لله بدين الحسين عليه السلام وآله الكرام الطيبين الطاهرين ، وحين يفرش سجادته لكي يصلي كان يردد ويقول بكل وجوده :

    كل أرض كـربلاء وكل يوما عاشوراء

وحقا إنها    رمزا للكرامة وإكسيرا للحياة

 ففرش سجادته ووقف لصلاة المغرب :
واضعا لتربة كربلاء أمامه ليسجد عليها ، وتحيط بها سبحة منها ليسبح بها لله تعالى .
ـ فإنك قد عرفت بأنه : قد هدى له زميله السيد محمد مهدي مع التربة سبحة ، فإن التربة ليسجد عليها وهو معظما لله بدينه الخالص ، والسبحة يسبح بها الله ، وبالخصوص ليعقب بعد الصلاة بتسبيحة الزهراء عليها السلام فيعد بها مئة مرة ذكر الله تعالى ، فيحصل على حقيقة ومعنى الذكر الكثير لله سبحانه ، وذلك حين يقول :
أربعة وثلاثون مرة : الله أكبر، فيكبره من أن يحاط به علما أو يكبره عن التقصير في الخلق وحسنه وإتقانه ، وينزهه عن عدم الهدى بالدين المبين ، بل هو أكبر من أن يضع زمام دينه بيد الظالمين والمنحرفين عن سيد المرسلين وآله الطيبين الطاهرين .
وثلاثة وثلاثون مرة : الحمد لله، على كل نعمه التي لا تحصى ، وبالخصوص نعمة الهداية لدينه الحق ، والذي جعله عند المنعم عليهم الحسين وآله الطيبين الطاهرين بعد جدهم سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وآله .
وثلاثة وثلاثون مرة : سبحان الله ، ليقدس الله عن النقص في الخلق والهداية فضلا عن النقص في الذات والصفات والأفعال ، بل لا نقص فيما يهب من الكمال لمن يطلب هداه بحق وهو صادق من المنعم عليهم وأهل الصراط المستقيم ، وبهذا يتم تنزيهه لله وتقديسه وذكره وتسبيحه بما يحب ويرضى سبحانه بعد صلاته بنفس إخلاص الحسين وآله الكرام صلى الله عليهم وسلم .
 وبذلك يروم حين فراغه من صلاته بأن يأخذ سبحة من تراب كربلاء ، يسبح الله تعالى بها وبتلك المعاني وبالخصوص طالبا لإخلاص الحسين في سبيل تعريف دينه ـ وهو يأمل أن يرضى الله عنه لعبوديته له بكل هداه الحق ، وبالخصوص بإطاعته لأئمة الحق ودينهم القيم ، ويمنحه إخلاص الحسين وأبيه وجده في التوجه له تعالى بما يحب ويرضى من دينه ، فبعد أن فرش سجادة الصلاة أذن وأقام ثم رفع يده إلى ذقنه وقال :
الله أكبر ـ قاصدا لمعنى أكبر من أن يوصف سبحانه ولا يحد بعلم وفهم وعظمة ، وأكبر من أن يقصر في هدى عباده لدينه بأئمة حق بعد أن خلقهم وعلمهم وهداهم ـ
بسم الله الرحمن الرحيم :
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين
إياك نعبد وإياك نستعين ، أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
ـ وهو يُحضر في ذهنه معنى كريم مؤمن به بأنه يعبد رب عظيم ورحمان رحيم يستعين به بحق ، لأن يهديه لصراط مستقيم خص هداه بالذين أنعم عليهم نبينا محمد جد الحسين وآله الكرام صلى الله عليهم وسلم ، وإن كل من تبعهم بحق ولم يخلطهم بغيرهم من أعداهم ، فإنه لم يكن من المغضوب عليهم ولا من أهل الضلال عن هداه المختص بالمنعم عليهم وصحبهم وأنصارهم .
ولما قراء سورة التوحيد : أحضر في ذهنه معنى كذلك الله ربي ، معتقدا بأنه هذه نسبة الرب من غير تجسيم ولا أن يحاط به علم ، ومع ما يدل عليه كل شيء من التدبر في ملك الأفاق والأنفس.
وبهذه المعارف الكريمة : أتم صلاته وتدبره في دينه وهداه وهو كله أمل ورجاء برضا الله تعالى لعبوديته بواقع دينه القيم وهداه الخالص ، وبما يحب ويرضى من الطاعة لأولي الأمر والدين وأئمة الناس أجمعين .
ثم إن عبد الله في الأسبوع الآتي : ولو لم تكن عطلة قبل الخميس ولا بعد الجمعة ، ولكنه لم يطق فراق أهله وقرر الذهاب للموصل ، ولكنه كان مأنوس بما عرف من الهدى ومعارف تأريخ الدين ، ويحسب نفسه عنده رسالة نبي الله يونس بن متي عليه السلام الذي رفضه أهل الكوفة وجرت عليه مصائب حتى بعثه الله تعالى لأهل الموصل فآمنوا به نبي كريم ، كما وإن أهل الكوفة تابوا وآمنوا به وإن هجرهم وهذا الحسين عليه السلام رفضه أهل الكوفة وأجروا عليه المصائب حتى قتلوه ثم تابوا وصاروا شيعة له الآن .
ولكنه وهو في طريقه إلى أعز مدن الدنيا عنده ، يقول : هل سيقبلني أهل مدينتي الموصل بمذهبي الجديد كما قبلوا يونس الذي رفضه أهل الكوفة ثم تابوا ؟ وهل أكون يونس عصري فأعرفهم عظمة الدين وإتقان رب العالمين لهداه بكل سبيل ؟ وما أجمله وأعظمه سبحانه إذ جعل رسالة في تراب الأرض تثير معاني الكمال وطلب الهدى الواقعي لدينه ، بحيث جعله يعرف أهل المعرفة لدينه القيم ، والذين يحلقون بالملكوت الأعلى في معارف عبوديته والإخلاص له في الدنيا قبل الآخرة ، حتى ليحف العبد المجاهد لطلب الحق حقا بالحسين وأبيه وجده نبي الرحمة وخير البشر في المقام المحمود في رضا الرب ، لأنهم بحق صبروا فكانوا أئمة هدى لآخر الدهر حتى ابنهم صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى ظهوره وجعلنا من أنصاره وأعوانه ، فإن الأرض لا تخلوا من إمام يدعى به أصحابه يوم القيامة ولله الحجة البالغة في إتقان هداه بولي.
وها هو عبد الله : قلبه يرفرف ويدق لأنه يقترب بسفره من مدينة الموصل نينوى الوطن ، وهو يحمل بفكره معاني الكمال من نينوى المعنى كربلاء كما كان أسمها في القديم فإن كربلاء تسمى نينوى أيضاً ، ويأمل أمراً يقربه لله عند تبليغه لأهله الكرام بما يخبرهم عن معاني العزة والمجد الذي سقاه لكل شيء أهل رسول الله ونبي الرحمة وسبطه الثاني سيد شباب أهل الجنة والإخلاص لله في الدنيا والآخرة ، حتى التراب جعلوه يرقى بالإنسان لمعاني الدين وطلب العز والكرامة والمجد والعدل والصلاح فضلا عن الصلاة والصوم والحج وطلب الحلال وكل ما يعبد به الله ويطاع مما يرضى من دينه القيم وهداه الحق ، ويرجوا تجارة لن تبور عنده حين يعلمهم معارف البيت المرفوع بنوره ويفيضون معارف بذكره بكل حين وحال لهم .
كما عرف هذا المعنى حتى اليقين في آيات النور والبيوت المرفوعة وما كان في نور الإمام الحسين عليه السلام من سر تمجيده وضرورة الانتساب إليه في الهدى ، كما وعرف معاني أخرى للصلاة ولكثير من معاني الدين القيم بمرور الأيام ، إن شاء الله يأتي ذكرها في تكملة القصة , أو راجعها في موسوعة صحف الطيبين التي يكتبها خادم علوم آل محمد عليهم السلام سواء في صحف الحسين وآله أو في باقي صحف أصول الدين .

ويا طيب هذه قصيدة لشاعر موالي لآل محمد عليهم الصلاة السلام بعنوان :
( آمنت بالحسين )

عرّفها صالح لعبد الله في يوماً ما وكتبها في دفتر مذكراته ، ويحب أن يتلوها كل الطيبين ويتذكرها كل الأحرار والمؤمنين ، لأنه فيها معارف قيمة تختصر كل ما جاء في القصة من معارف الهدى والدين وببليغ الكلام وبأفصح بيان .
وهذا يا أخي : قسم منها هنا وقسم وضع على جلد الكتاب لتحكي لنا معنى آخر عن العزة والكرامة لمؤمن بهدى الحسين وإيثاره المعطاء لكل هدى الدين ، حتى فدى مثواه بروحه ، بل شم ترابه وبقاع بلاده في كربلاء ، فتنسم بروحه وكل وجوده نسيم الكرامة والعز ، ومرغ خده عليه لأنه تمرغ عليها خد قديس لم يخضع لظلم ، وسقى دمه أرض كربلاء فجعل ترابها ترب وسبح ومثوى يزار ، فيعلم الإباء والثورة لطب الإصلاح ، ويُبلغ معارف الدين وحقيقة هدى جد الحسين نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لشيعة أبيه، بل لكل المسلمين والأحرار والطيبين ولكل شريف كان لشعبه من المخلصين ولقومه يحب العدل والصلاح ، وإلى يوم القيامة .
 

آمَنْتُ بالحُسَيْن

قصيدة للشاعر محمد مهدي الجواهري

 

تنـور بلابلـــج الأروع
روحـاً  ومن مسكها أضوع
وسقيـاً لأرضك من مصرع
على نهجـك النير المهـيـع
بمــا أنت تأباه من مبـدع
فـذا  إلى الآن لم يشفــع
للاهين عن غدهــم قنـع
وبورك قبرك مـن مفــزع
على جانبيه ومــن ركـع

طبعت على جلد الكتاب المطبوع

 

نسيم الكرامة مــن بلقـع
خد تفـرى  ولم يضــرع
جالـت عليــه ولم يخشع
بصومعة  الملهــم المبـدع
بروحي إلى عــالم  أرفـع

حمـراء   بتـورة  الإصـبع
والضيم ذي شرف مــترع
على مذنـب منه أو مسبـع
بآخـر معشوشب ممــرع
خوفــاً إلى حــرم  أمنع
وخـير بني الأب مـن تبـع
كـانوا وقــاءك  والأذرع
ضمـاناً على كـل ما أدعي
كمثلك  حمـلاً ولم ترضـع

ويابن الفتى  الحاسر  الأنـزع
بأزهر منـك ولم  يفــزع
ختـام  القصيدة من مطلـع
مـن مستقيم ومـن أضلـع
ما تســتجد لـه يتبــع

 

فداءاً  لمثواك مـن مضجـع
بأعبق من نفحــات الجنان
ورعياً ليـومك يوم الطفوف
وحزناً عليـك بحبس النفوس
وصونـاً لمجدك من   أن يذال
فيا أيها الوتر في الخالـديـن
ويا عظـة الطامحين العظـام
تعاليت من مفـزع للحتوف
تلوذ الدهور فمـن  سجـد

ملاحظة : هذه التكملة للقصيدة

 

شممت ثراك فهـب النسيـم
وعفرت خدي بحيث استراح
وحيث سنابك خيـل الطغاة
وطفت بقبرك طوف الخيـال
وخلت وقد طارت الذكريات

كأن يداً من وراء   الضريـح
تمـد إلى عــالم بالخنـوع
تخبـط في غــابة   أطبقت
لتبدل منـه جديب الضمـير
وتدفع  هذي  النفوس الصغار
وخير بني  الأم مـن هـاشم
وخير  الصحاب بخير الصدور
فيابن البتـول وحسبي  بـها
ويابن التي لم يضع مثلها ويابن

البطــين بــلا بطنــة
ويا غصن هاشم لم ينفتــح
ويا واصلاً من نشيد الخلـود
يسير الورى بركاب الزمـان
وأنت تسير ركـب الخلـود

 

اللهم بالحسين وجده وأبيه وأمه وأخيه والمعصومين من بنيه اجعلني مع الحسين وآله الطاهرين وأصحابه الطيبين
كاتب القصة
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موقع موسوعة صحف الطيبين

إلى أعلى مقام في الصفحة نورك الله بنور الحسين وآله الكرام عليهم السلام


تفضل يا طيب إلى الفهرس العام رزقك الله ونورك بدين الإمام وخلصك من الظلام