هداك الله بنور الإسلام حتى تصل لأعلى مقام

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في  أصول الدين وسيرة المعصومين
قسم سيرة المعصومين/ صحيفة الإمام
الرضا عليه السلام
الجزء الأول / شأنه الكريم وحياته الاجتماعية

الباب التاسع

نتعلم من الإمام الرضا عبودية الله وحده بإخلاص المتيقنين

 

مقدمة: الإمام يعبد لله بإخلاص المتيقنين:

عرفت يا طيب : إن الإمام في كل زمان هو أعلم أهله فيه وأطيبهم وأطهرهم وأخلصهم عبودية لله وحده حتى اليقين ، والأئمة هم أشد العباد تفاني في تعريف دين الله وهداه بكل سيرتهم وسلوكهم ، وعرفنا بعض أحوال الإمام الثامن من أئمتنا ، وذكرنا بعض فضل رب العالمين عليه وعلينا إذ عرفنا أئمة الحق  الصادقين والذين بهم نسلك صراطه المستقيم لكل هداه المنزل على خاتم المرسلين.
وكان يا أخي : بيان الأبواب السابقة بيان لإمامة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ولعلمه الواسع وبعض حاله مع من صدقه أو مع من توقف عليه ، وعرفنا شيء من مناقبه ومكارمه وجهاده في بيان الحق ومحل الهدى والدين عنده وعند آله الكرام آل محمد صلى الله عليهم وسلم ، وكلها بالتدبر تصب في عبودية الله سبحانه وتعالى ، لأنه تعلم للعلم الدال على معرفته وفضله وكرمه .
 وهنا يا طيب : بيان لحاله مع الله تعالى وإخلاصه في عبودية لله سبحانه ، وعلمه ومعارفه التي تعلمنا يقين الإخلاص لله وسبله ، ثم نذكر معارف من ذكره لله وصلاته ودعائه ، ثم نأتي في باب آخر يعرفنا بعض سلوكه وسيرته في أخلاقه وحسن أحواله وظهوره بها ، وبكلها تراه يعلمنا الدين ومعارف رب العالمين وإنه إمام حق وولي مرشد يهبنا بكل شيء من أحواله ومعارفه إخلاص اليقين لرب العالمين ، فهنا نذكر بعض أقواله في بيان إخلاص العبودية لله وسبلها التي يعلمها لنا الإمام الرضا عليه السلام ، ثم نتبعه ببيان أحوال عبوديته لله وإخلاصه في سيرته من الصلاة والذكر والدعاء وغيرها ، فيكون الباب في بحثين .
 
 

البحث الأول

أحاديث الإمام تهبنا اليقين بعبودية لله

 
عرفت يا طيب : لكي نعرف الإمام الرضا عليه السلام وحاله مع الله ، يجب علينا بيان معرفته في الإخلاص له تعالى ، وبيانه لما يجب أن يكون عليه المؤمن معه سبحانه ، ونفس هذا يعرفنا حقيقته التي تظهر من أحاديثه في تعليم ومعرفة ما يجب أن يكون عليه العبد من إخلاص مع الله ، وإن العمل مرهون بالمعرفة المسبقة وهو عليه السلام عالم آل محمد ومُعرف للعباد هداهم ، فمنه نتعلم ما يجب أن يكون حالنا مع الله وكيف نتلبس بالإخلاص له حتى اليقين .
 ونذكر هنا أحاديث الإمام الرضا عليه السلام : في العبودية والإخلاص بمختصر البيان لأنه تعريف كل ما قاله في تفاصيل فقه العبودية وفروعها يحتاج لكتاب ، وقد كتب فيه كتاب بعنوان فقه الإمام الرضا ، وبأكثر منه أحاديث تجدها في كل أبواب الفقه ، ولكن نأخذ منه ومن غيره بعضها ونترك التفصيل لجزء مختص بأقواله في جميع أبواب معارف الهدى إن شاء الله ، ونشرح قسم منها ببيان مجمل ، ونسأله سبحانه أن ينفعنا بها ويجعلنا مثل إمامنا وآله صلى الله عليهم وسلم مخلصين له الدين بهداهم الحق ، إنه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين :
 
 
 
أولا : معنى الإخلاص حتى اليقين وآثاره :
عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرضا عليه السلام : أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَقُولُ :
 طُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ الْعِبَادَةَ وَ الدُّعَاءَ .
 وَ لَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِمَا تَرَى عَيْنَاهُ .
 وَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ اللَّهِ بِمَا تَسْمَعُ أُذُنَاهُ .
 وَ لَمْ يَحْزُنْ صَدْرَهُ بِمَا أُعْطِيَ غَيْرُهُ [1].
ولمعرفة معنى هذا الحديث نذكر بعض الأحاديث في معنى الإخلاص كلها عن الإمام الرضا عليه السلام ، وكيف نتفكر في أمره الله حتى يكون ذكرنا لله من غير رياء ولا طلب لغير الله فيه ، ولذا يجب أن يكون الإخلاص بأعلى مراتبه وعن معرفة تامة بالدين من أولياء الله المخلصين له , والذين يُعرفونا عظمته بحق كما يحب أن تكون له تعالى من معرفة العظمة والشأن الجليل سبحانه ، وحتى أن يكون المؤمن في مرتبة اليقين كما روى عن الإمام الرضا عليه السلام :
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ قالَ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرضا عليه السلام : عَنِ الْإِيمَانِ وَ الْإِسْلَامِ ، فَقالَ قالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام :
إِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَامُ : وَ الْإِيمَانُ : فَوْقَهُ بِدَرَجَةٍ .
 وَ التَّقْوَى : فَوْقَ الْإِيمَانِ بِدَرَجَةٍ ، وَ الْيَقِينُ : فَوْقَ التَّقْوَى بِدَرَجَةٍ .
 وَ لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَ النَّاسِ شَيْ‏ءٌ أَقَلُّ مِنَ الْيَقِينِ .
قالَ قلتُ : فَأَيُّ شَيْ‏ءٍ الْيَقِينُ .
قالَ عليه السلام : التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ ، وَ التَّسْلِيمُ لِلَّهِ ، وَ الرضا بِقَضَاءِ اللَّهِ ، وَ التَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ [2] .
وبهذا التعليم يا طيب : يجب أن نخلص لله تعالى بكل وجودنا متوكلين عليه ومسلمين لأمره ، وراضين بقضائه وقدره حتى نفوض الأمر إليه بكل ما يهمنا ونأمله ، ولذا يجب أن نكون متيقنين وجوب عبوديته تعالى بكل هداه الحق من أئمة الحق ، ويجب أن لا نبطل إخلاصنا بالرياء وحب السمعة والشهر والخيلاء والتكبر وما شابه ذلك .
و كما قال الإمام الرضا عليه السلام في هذه الأحاديث الشريفة : 
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ قالَ قالَ لِيَ الرضا عليه السلام :  
 وَيْحَكَ يَا ابْنَ عَرَفَةَ اعْمَلُوا لِغَيْرِ رِيَاءٍ وَ لَا سُمْعَةٍ .
فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَا عَمِلَ .
و َيْحَكَ مَا عَمِلَ أَحَدٌ عَمَلًا إِلَّا رَدَّاهُ اللَّهُ بِهِ :
 إِنْ خَيْراً فَخَيْراً ، وَ إِنْ شَرّاً فَشَرّاً [3].
وقال الإمام الرضا عليه السلام : تَصَدَّقْ بِالشَّيْ‏ءِ وَ إِنْ قَلَّ ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْ‏ءٍ يُرَادُ بِهِ اللَّهُ وَ إِنْ قَلَّ بَعْدَ أَنْ تَصْدُقَ النِّيَّةُ فِيهِ ، عَظِيمٌ ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ، يَقُولُ : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [4].
وإذا كان عملنا رد إلينا ـ نور ونعيم إن شاء الله، وكل شيء نقوم به من علم وفكر فضلا عن السلوك ، عظيم عند الله مقبول إذا صدقت النية فيه بأنه يراد به الله ، فيجب أن يكون أمرنا كما قال الإمام الرضا عليه السلام :
 نية المؤمن خير من عمله . فُسأل عن معنى ذلك .
 فقال عليه السلام : العمل يدخله الرياء ، و النية لا يدخلها الرياء  .
 
وسُأل عليه السلام : عن تفسير نية المؤمن خير من عمله ، قال عليه السلام  : إنه ربما انتهت بالإنسان حالة من مرض أو خوف يفارقه العمل و معه نيته ، فلذلك الوقت نية المؤمن خير من عمله .
و في وجه آخر : أنها لا تفارق عقله أو نفسه ، و الأعمال قد تفارقه ، قبل مفارقة العقل و النفس  .
وقال عليه السلام : نية المؤمن خير من عمله :
 لأنه ينوي من الخير ما لا يطيقه و لا يقدر عليه [5].
 
وبهذا يا طيب : نعرف أنه يجب أن لا نشرك بالله شيء من فكر العقل في كل حال نكون فيه ، ولنخلص لله بكل شيء ، فيجب أن ننوي عمل الطاعة والحلال في كل حال حتى نقوى على تطبيق ما ننوي إن وفقنا الله تعالى ، وإلا من يشرك بالله يتركه الله كما قال الإمام الرضا عليه السلام :
أن الله عز و جل يقول :
أنا خير شريك ، ما شوركت في شي‏ء إلا تركته.
ومن تركه الله : لا يتوفق لشيء من الهدى والعمل الصالح ، فكان في أخس حال وأذله ، والمؤمن المتقي لا يخالف أمره تعالى بل يطيعه بكل ما أمر ، فيكون عزيز عند الله وله كل ما يتمنى ، ولذا قال الإمام الرضا عليه السلام :
 من أراد أن يكون أعز الناس ، فليتق الله في سره و علانيته .
 وبهذا نعرف : بأنه يجب أن نكون مع الله مخلصين له متوكلين عليه مسلمين له مفوضين الأمر إليه لا نشرك به شيء ، نطلب معارفه من أئمة الحق ونطبقها بكل يقين بأنها عين الدين القيم الذي تقام به عبودية الله تعالى بما يحب ويرضى ، ليكون الله معنا يؤيدنا وينصرنا ويوفقنا لعبوديته وطاعته بكل قوتنا ، وهذا هو العز الواقعي والنعيم التام الكامل أن لا يترك الله عبده ، بل عزيز عنده يلتزمه ويرعاه ويهبه ما يأمل ويريد ويقيه كل ما يحذر ويخاف ، ومن تيقن إن حاله مع الله صالح حين يطبق معارفه الحقة التي تعلمها من أئمة الحق ، يكون مطمئن النفس هادئ البال مرتاح بكل الأحوال .
 
 ويا طيب : هذا لا يتم إلا أن نكون بكل همتنا نطلب عبوديته ونطبقها حتى في الفكر ، فضلا عن وجوب الإخلاص لله بالأعمال الصالحة والكون معه على كل حال من سيرتنا وسلوكنا ، ولذا يجب أن تكون هذه النية الخالصة لله تعالى في عبوديته وطلبه بتطبيق هداه :
و بنفس صفاء القلب الذي عرفه الإمام الرضا عليه السلام إذ قال :
أن لله عز و جل في عباده آنية ، و هي القلب : فأحبها إليه أصفاها و أصلبها ، و أرقها أصلبها في دين الله ، وأصفاها من الذنوب ، وأرقها على الإخوان .
وعندها من أتقى الله وصفى معه في قلبه ، لا يعصيه فيذنب أي لا يترك طاعة فضلا عن ارتكاب ما حرمه عليه ، بل حتى يحب عباد الله المتقين وكل إخوانه المؤمنين ، فيوفقه الله لرزقه ونعيمه في الدنيا والآخرة كما قال عليه السلام:
في تفسير هذه الآية : وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ، قال عليه السلام : يجعل له مخرجا في دينه ، و يرزقه من حيث لا يحتسب في دنياه .
وأعلم يا أخي: إن الصفاء مع الله مخلصين له الدين على كل حال لا يكون إلا بتطبيق ما ذكره الإمام ، من أسباب تحصيل خوف الله ورجائه إذ قال عليه السلام :
من خاف الله سخت نفسه عن الدنيا .
 
وقال عليه السلام : خف الله كأنك تراه ، فإن كنت لا تراه فإنه يراك ، و إن كنت لا تدري أنه يراك ، فقد كفرت .
 و إن كنت تعلم أنه يراك ثم استترت المخلوقين بالمعاصي ، و برزت له بها ، فقد جعلته أهون الناظرين إليك .
 
وقال عليه السلام : من رجا شيئا طلبه ، و من خاف شيئا هرب منه .
 ما من مؤمن يجتمع في قلبه خوف و رجاء :
 إلا أعطاه الله ما أمل ، و آمنه مما يخاف [6].
 
ولذا يا طيب عرفنا الإمام أنه : يحب أن يكون إسلامنا عن أيمان حقيقي صادق وهذا لا يتم إلا أن نتقي الله تعالى ولا نخالفه بل نطيعه ، وهذا لا يتم إلا مع اليقين التام الذي يكون عند من يتوكل على الله ويسلم له أمره ويرضي بكل ما قسم له ، فيفوض كل أموره له ، ولذا كان يستوجب على العبد الإخلاص في نيته مع الله في فكره وعمله فيكون تام العبودية لله بما يحب ويرضي .
 وحينئذ يحق للعبد أن يرجوا من الله أن يوفقه لهداه بكل علم وعمل ينتج خير وصلاح وعز ورضا منه ، وبهذا يمكن للعبد أن يأمل :
 تحصيل كل نعيم وسعادة منه تعالى ، وبأمنه من كل شر  .
 وهذا قمة ما يحتاجه المؤمن من الله ويأمله ، بأن يعطيه سبحانه كل ما يتمناه ، ويأمنه من كل ما يخافه ، وهذا هو النعيم التام والكمال المتعالي الذي تطمئن به النفس ويسر الروح وترضى به ، ولنعرف كيف نحصل على الخوف والرجاء ، حتى نتوجه لله ونخلص له ، نذكر أحاديث أخرى عن الإمام الرضا عليه السلام في معنى التفكر بأمر الله والتوجه له حين معرفة عظمته وقدرته وعلمه سبحانه ، حتى ننوي خيراً وتطبقه بكل إخلاص حين يحصل لنا اليقين بأنه بيده ملكوت وملك كل شيء هدى ونعيم .
 ثم نذكر : بعض الأحاديث الشريفة عن الإمام الرضا عليه السلام ، في حقيقة العبادة لله من الصلاة والذكر والشكر والدعاء ، ثم نذكر بعض الحالات العبادية للإمام ، وإن كان كل ما نذكره هنا هي أحاديث شريفة مروية عنه عليه السلام يعلمنا بها عبودية الله والإخلاص له سبحانه وتعالى ، وهذا أهم ما موجود في الدين وقيمه أي الإيمان بالله ومعرفة تعاليمه الواقعية والظهور بها علما وعملا ، ونسأله تعالى أن يهبنا معرفة ولي دينه وتعاليمه حتى اليقين والظهور بها في عبوديته بكل أخلاص ، إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .
 
 
ثانياً: كيفية تحصيل إخلاص العبودية لله بالتفكر بأمره :
معرفة الله تعالى بيقين : بأنه له ملك وملكوت كل شيء تكوينا وهدى ، وبيده وله عاقبة وغاية الوجود كلا حسب شأنه وتوجهه لعظمته ، تتم لنا معرفة قدرته وسعة تجليه بأسمائه الحسنى وبكل نعيم وكمال ، فنتوجه له بكل وجودنا متوكلين ومسلمين ومفوضين له الأمر فنطلب منه تعالى وحده لا شريك له هدانا ونعيمنا في كل حال ، وهذا يتم بالتفكر بأمر الله من إتقانه لصنع كل شيء تكوينا وهدى ، وإنه لم يترك ما خلق يفني بعضه بعضا من غير تدبير وقيومية وهداية لأجله بأحسن ما يمكن أن يصل له كل مخلوق ، ووفق ما يستحقه من الشأن الذي هو عليه .
 ولهذا كان التفكر بأمر الله : يدلنا على عظمة الله وقدرته ، و على أمره بيقين المعرفة بأنه فيه كل الهدى والنعيم لكل من يتوجه لقبول فيضه سبحانه ، وهو الكريم الواسع في تجليه لمن يطلبه بما يحب ويرضى بيقين الإيمان وبخالص العبودية ، ولذا كان للتفكر بأمر الله منزلة الغلبة على كثرة العبادة حتى قال الإمام الرضا عليه السلام :
عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ قالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرضا عليه السلام يَقُولُ :
 لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ .
إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ [7].
وحقيقتا : من لم يكن عارف بعظمة الله تكون كثرة عباده من غير توجه حقيقي له سبحانه بما له من الشأن العظيم ، والذي يهب العزة والكمال وكل نعيم دائم دنيا وآخرة لمن يشاء من عباده الموقنين ، ولذا يجب على العبد المؤمن لكي يكون له اليقين وليتوجه لله بكل إخلاص لكونه عارف بعظمته ، أن يتفكر بكل ما يمر به من أحوال الأمور وتدبيرها بيد الله ذو العزة والكمال ، فيعرف قدرة الله وعلمه ، فيحصل له اليقين بعظمته ويقيم له عبوديته سبحانه بكل إخلاص .
 ولنعرف هذا : نتعلم من الإمام الرضا بعض أنواع التفكر بأمر الله تعالى وأحوال الوجود لنحصل على اليقين وإخلاص العبودية له سبحانه :
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ قالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرضا عليه السلام يَقُولُ : كَانَ فِي الْكَنْزِ الَّذِي قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ، كَانَ فِيهِ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ :
 عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ، كَيْفَ يَفْرَحُ .
وَ عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ، كَيْفَ يَحْزَنُ .
وَ عَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَ تَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ، كَيْفَ يَرْكَنُ إِلَيْهَا .
وَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ :
أَنْ لَا يَتَّهِمَ اللَّهَ فِي قَضَائِهِ ، وَلَا يَسْتَبْطِئَهُ فِي رِزْقِهِ .
فَقلتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ أُرِيدُ أَنْ أَكْتُبَهُ .
 قالَ : فَضَرَبَ وَاللَّهِ يَدَهُ إِلَى الدَّوَاةِ لِيَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيَّ ، فَتَنَاوَلْتُ يَدَهُ فَقَبَّلْتُهَا ، وَأَخَذْتُ الدَّوَاةَ فَكَتَبْتُهُ[8]  .
 
وقال الإمام الرضا عليه السلام : طوبى لمن : كان صمته فكراً ، ونظره عبراً ، و وسعه بيته ، و بكى على خطيئته ، و سلم الناس من لسانه و يده .
وقال الراوي : و أروي فكر ساعة خير من عبادة سنة ، فسألت العالم ـ علي بن موسى الرضا عليه السلام ـ : عن ذلك .
فقال عليه السلام : تمر بالخربة و بالديار القفار .
فتقول : أين بانوك ، أين سكانك ، ما لك لا تتكلمين ، ليست العبادة كثرة الصلاة و الصيام ، العبادة التفكر في أمر الله جل و علا .
 وقال عليه السلام : التفكر : مرآتك تريك سيئاتك و حسناتك .
و قال عليه السلام : في قول الله تبارك وتعالى :
 فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ . قبل أن يُعتبر بكم [9].
يا طيب : فهذه الأحاديث عن الإمام الرضا عليه السلام ترينا التفكر في أمر الله وقضائه وقدرته وحكمته في تدبير الأمور ، والتفكر في آفاق الموجودات ، والتفكر بالنفس ، حتى يحصل للإنسان الاعتبار بكل شيء في الوجود فلا يسوف العبادة ، ولا يتمهل في الطاعة ، ولا يعتدي على غيره فيطلب بالباطل ما ليس له ، بل يقنع بما قسم له من بيته وغيره ، ويجد ويجتهد ويتوجه بكل وجوده لله العظيم وعن قناعة تامة ويقين حق بوجوب إخلاص العبودية لله تعالى .
 وإذا عرفنا بعض التدبر في أمر الله وفي الآفاق والأنفس ، نتعرف على عظمته سبحانه بكلام الإمام الرضا عليه السلام :
عن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا عليه السلام قال :
دخل رجل من الزنادقة على الرضا عليه السلام و عنده جماعة ، فقال له أبو الحسن عليه السلام :
 أ رأيت إن كان القول قولكم ، و ليس هو كما تقولون ، أ لسنا و إياكم شرع سواء ، و لا يضرنا ما صلينا و صمنا و زكينا و أقررنا . فسكت .
فقال أبو الحسن عليه السلام :  و إن يكن القول قولنا ، و هو قولنا و كما نقول ، أ لستم قد هلكتم ، و نجونا .
قال : رحمك الله فأوجدني كيف هو و أين هو ؟
قال عليه السلام : ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط ، هو أين الأين وكان ولا أين ، وكيف الكيف وكان ولا كيف ، فلا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ، ولا يدرك بحاسة و لا يقاس بشي‏ء .
قال الرجل : فإذاً إنه لا شي‏ء ، إذا لم يدرك بحاسة من الحواس .
فقال أبو الحسن عليه السلام : ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته , ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه :
أيقنا : أنه ربنا ، و أنه شي‏ء بخلاف الأشياء .
قال الرجل : فأخبرني متى كان ؟
قال أبو الحسن عليه السلام :  أخبرني متى لم يكن ، فأخبرك متى كان .
قال الرجل : فما الدليل عليه ؟
قال أبو الحسن عليه السلام : إني لما نظرت إلى جسدي ، فلم يمكني زيادة و لا نقصان في العرض و طول ، ودفع المكاره عنه و جر المنفعة إليه .
علمت : أن لهذا البنيان بانيا ، فأقررت به .
مع ما أرى : من دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات .  علمت : أن لهذا مقدرا و منشئا .
قال الرجل : فلم احتجب .فقال أبو الحسن عليه السلام : إن الحجاب على الخلق لكثرة ذنوبهم ، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل و النهار .
قال : فلم لا يدركه حاسة الأبصار . قال عليه السلام : للفرق بينه و بين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم و من غيرهم ، ثم هو أجل من أن : يدركه بصر ، أو يحيطه وهم ، أو يضبطه عقل .
قال : فحده لي . قال عليه السلام : لا حد له . قال : ولم ؟
 قال عليه السلام : لأن كل محدود متناه إلى حد ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، و إذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود و لا متزائد و لا متناقص و لا متجزئ و لا متوهم .
قال الرجل : فأخبرني عن قولكم إنه لطيف و سميع و حكيم و بصير و عليم ، أ يكون السميع إلا بأذن ، و البصير إلا بالعين ، و اللطيف إلا بالعمل باليدين ، و الحكيم إلا بالصنعة ؟
فقال أبو الحسن عليه السلام : إن اللطيف منا على حد اتخاذ الصنعة ، أ وما رأيت الرجل يتخذ شيئا يلطف في اتخاذه ، فيقال : ما ألطف فلانا ، فكيف لا يقال للخالق الجليل لطيف ، إذ خلق خلقا لطيفا و جليلا ، وركب في الحيوان منه أرواحها ، وخلق كل جنس متباينا من جنسه في الصورة لا يشبه بعضه بعضاً ، فكلٌ له لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته .
 ثم نظرنا إلى الأشجار وحملها أطائبها المأكولة .
 فقلنا عند ذلك : إن خالقنا لطيف لا كلطف خلقه في صنعتهم .
 و قلنا : إنه سميع لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى ، من الذرة إلى أكبر منها في برها وبحرها ، ولا يشتبه عليه لغاتها .
 فقلنا عند ذلك : إنه سميع لا بأذن .
و قلنا : إنه بصير لا ببصر ، لأنه يرى اثر الذرة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء ، و يرى دبيب النمل في الليلة الدجنة ، ويرى مضارها ومنافعها وأثر سفادها وفراخها ونسلها ، فقلنا عند ذلك : إنه بصير لا كبصر خلقه .  قال : فما برح حتى أسلم ، و فيه كلام غير هذا [10].
أقول : إن أسلم فقد هدي وشرح صدره للإسلام بعد ما عرفه الإمام ما يوصل لليقين بأن الله تعالى هو العليم القدير ، والحكيم الخبير ، السميع البصير ، وهو الخالق المدبر الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ، وموصل كل شيء لغاية بأحسن صورة من الكمال يستحقها ، فقد هدي لكل نعيم وسار لعبودية الله بصراط مستقيم مع اليقين والإخلاص لما أره إمام الحق من المعرفة العالية بالله سبحانه وتعالى وعلمه وقدرته وكل ما كان يشكل عليه ومشتبه به ، وحصل على حقيقة النعيم والاطمئنان والخير والبركة والسرور بكل ما يهبه الله من الكمال والجمال لعبادة ، فيكون عزيز برعاية الله له حتى يسكنه فسيح جنانه في ملكوت الخلد مع إمامه وآله الأطهار آل محمد صلى الله عليهم وسلم وصحبهم وأوليائهم الكرام ، أو يرفض كرم الله وهداه ويتعصى على نوره فيخسر وجوده فضلا عن كمال وجوده فيخزى ويذل .
 وأسمع قول الإمام الرضا عليه السلام لبيان هذا :
عن حمدان بن سليمان بن النيسابوري قال سألت الرضا عليه السلام :  عن قول الله عز و جل : ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) .
 قال عليه السلام :  ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا .
قال عليه السلام : من يرد الله أن يهديه : بإيمانه في الدنيا إلى جنته و دار كرامته في الآخرة ، يشرح صدره للتسليم لله ، و الثقة به ، و السكون إلى ما وعده من ثوابه ، حتى يطمئن إليه .وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عن جنته و دار كرامته في الآخرة ، لكفره به و عصيانه له في الدنيا، يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً حتى يشك في كفره ، و يضطرب من اعتقاد قلبه ، حتى يصير كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ، كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [11].
أقول : هذا بعض التفكر بعظمة الله وأمره ، وفي الكون والأفاق والأنفس ، وفي معرفة حكمته في خلقه وهداه ، حتى ليكون المؤمن بحق متيقن بأن الله تعالى له القدرة المطلقة والعلم بكل شيء ، وهو عالم الغيب والشهادة السميع البصير الحكيم الخبير الواسع ، يهب الهدى والنعيم لمن يؤمن به ويسلم له أمره ويفوضه إليه بعد أن يوقن به سبحانه ، وقد عرفت إنه تعالى جعل خير الناس وأصفاهم معه أميرهم وولي دينهم ليهدي عباده لكل ما يوصل لعبوديته بإخلاص وعن يقين ، وبكل ما يوصل لمعرفته وكل خير وبركة منه تعالى له إن أقام دينه .
وبعد إن عرفنا : من الإمام الرضا عليه السلام قمة المعارف الإيمانية حتى اليقين بنحو الثبات وفي كل حين علما ونيتا وعملا ، والسبيل إليها من التفكر والمعرفة ، بذكر بعض المصاديق من كلامه الطيب لها ، فنذكر بعض المعارف العبادية العلمية العملية التي علمها لنا عليه السلام ، وكذلك بنحو الاختصار مما نقل عنه ونؤجل التفصيل للجزء الثالث من صحيفته المباركة ، أو راجع كتب التوحيد والمعرفة الإلهية للطائفة الحق ، وإن راقت لك كتاباتنا فراجع صحيفة التوحيد بأجزائها من موسوعة صحف الطيبين .
وهنا يا طيب : نتدبر بعض أقوال الإمام الرضا عليه السلام في العبادة العلمية العملية وفي نوع منها وما يتبعها ، بعد إن عرّفنا شيء عن إخلاص العبودية لله باليقين المطلق ، هذا ونسأل الله أن يهبنا اليقين والإخلاص في معرفته وعبوديته ، ويوصلنا لكل خير ونعيم أعده لأولياء وبصراط مستقيم ، إنه أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، آمين يا رب العالمين .
 
 
 
ثالثاً : بعض الأعمال العبادية الفكرية وآثارها وفضلها :
يا طيب : إن كل ما مر هو من الحالات العبادية للإمام الرضا عليه السلام ، لأنه كل أمر يطاع به الله هو عبادة له تعالى ، سواء تعليم العلم والمعارف التي يتوجه بها لله تعالى ، أو فعل عبادي مع حركة وفعل عضلي كالصلاة والصوم وغيرها من الأعمال ، بل عرفت في الموضوع السابق بحديث شريف من الإمام الرضا عليه السلام إن عبادة التفكر تغلب في الفضل نفس الأعمال العبادية العضلية والحركية بما هي ، لأنه بالتفكر تُعرف عظمة الله تعالى ثم يطاع بالعلم والمعرفة ، ويحصل على اليقين فيتوكل على الله تعالى ويسلم له بل يصل لمرحلة الرضا بقضاء الله وقدره وما قسم له ، فلا يطلب إلا الحلال والعمل الصالح ولم يقصر بشيء ، بل يفوض أمره لله تعالى ويقبله بكل هداه القيم علما وتطبيقاً.
ثم من عرف عظمة الله : بعلم واسع حق يتوجه له في أفعاله العبادية عن فكر صافي وقلب مطمئن بما يقول من ألفاظ العبادة ، ويتوجه له بها بإخلاص اليقين ، فتتحد العبادة العضلية والفكرية بقمة المعرفة والعبودية لله تعالى حتى ليكون العبد من الصالحين والشهداء والصديقين ، ويقترب من أولياءه في المقام حتى ليحف بهم ويُعلم دين الله وفق علمهم الذي عرفوه له ، فيكون من علماء آل محمد صلى الله عليهم وسلم في تعليم معارفهم وإقامة دينهم ، وهذه قمة العبودية لله ولها أعلى مقاما عنده ، وبها يكون العبد ذو شأن كبير عند الله وأئمة الحق والمؤمنين في الدنيا وفي ملكوت النعيم .
وإذا عرفنا يا طيب : كيف تتحد العبادة العلمية والعضلية بالتكاليف العملية التي شرفنا الله بها من الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ، بل كل المعاملات والأخلاق وغيرها مما مذكور من أبوب الفقه ، حين إتيانها من العارفين بالدين الحق والهدى الواقعي ، وبالخصوص الموقنين فيأتونها بإخلاص .
 نذكر بعض الكلمات والأقوال في شرح وتعريف بعض العبادات العملية والتي ترافقها ألفاظ فيها معاني علمية، وبأقوال الإمام الرضا عليه السلام وببيانه ، لنعرف حقائق أخرى عن كيفية إقامة العبودية لله تعالى بما أمر من الأفعال التي فيها أفكار يتوجه بها العبد لله تعالى ، ويكون في قمة العبودية والإخلاص في التوجه له وحده لا شريك له ، سواء في المعرفة أو في إقامة الواجبات والتكاليف العبادية التي شرف الله بها العباد ليكون من أولياء الله المعد له نعيم الأبد وبأوسع ملك ،ومع الهناء والسرور وكل ما يفرح ويلذ المؤمن الموقن المتعبد لله بإخلاص .
ويا طيب : نذكر قسم من أقول الإمام الرضا عليه السلام في أبواب العبادات الفرعية والتكاليف العملية العلمية ، وبالخصوص ما يخص الفرع الأول منها الصلاة وتفرعاتها ، وباختصار ، ونترك التفصيل للجزء الثالث المختص بنقل أقوال الإمام الرضا عليه السلام بكل أبواب الهدى والدين من العلم ومعرفة الله تعالى والحجة وكل أصول الدين وفروعه ، ثم نذكر شيء من سيرته في البحث الثاني إن شاء الله ، وإن كنت تطلب المزيد من معرفة معنى العبادة والعبودية ، فعليك بجزء العبادة من صحيفة ذكر علي عليه السلام عبادة من موسوعة صحف الطيبين، لتعرف حقائق عن العبودية والإخلاص فيها والخشوع والخضوع وما يقام به العبودية لله تعالى بشكل مفصل ، فإنه جزء كامل في هذا المعنى فقط.
 ونسأل الله التوفيق بأن يعرفنا حقائق ما يعلمنا الإمام الرضا عليه السلام ، ونفقه قوله فنتيقن معارف الله ونقيم له بها العبودية الخالصة وعن يقين مما يحب ويرضى ، حتى يجعلنا معهم ومنهم في كل هدى ونعيم مقيم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، إنه أرحم الراحمين  ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .
 
 
الأولى : الصلاة  وحدودها :
نختار لك يا طيب : من العبادات العلمية العملية ، وتفسير أهميتها وفضلها وشأنها في تكامل العباد ، وفي إقامة العبودية لله بإخلاص ، الفرع الأول من فروع الدين وببعض أحاديث الإمام الرضا عليه السلام ، ومن غير شرح نعتمد للتدبر فيها على فطنتك ، ومن ثم لكي لا يطول البحث فيخرج موضوع هذا الباب عن الاختصار ، ثم نتبعها بنفس الأسلوب بذكر جمل أخرى من العبادات العلمية العملية التابعة لها ، لتكون نموذج طيب يطهرنا بمعارفه من كل شرك ويهبنا الإخلاص لله وحده لا شريك له ، فتدبر فيها يا مولي ، ونسأل الله أن ينفعنا بمعرفتها ويرينا فضل أئمتنا ومعارفهم التي يرفعونا بها لمعرفة عظمة الله سبحانه وكيفية عبوديته وطاعته بإخلاص المتيقنين ، إنه ولي التوفيق وهو الولي الحميد .
قالَ الإمام الرضا عليه السلام :  الصَّلَاةُ لَهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ بَابٍ [12].
وعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرضا عليه السلام قالَ : الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ [13] .
أقول : حقا علينا أن نتقرب لله تعالى بمعرفة ما يمكن من حدود الصلاة وآدابها ومعاني ذكرها والحركات التي ترافق أحوالها ، فإنه قد ذكر أئمة الحق لها حدود كثيرة وجمع المهم منها الرسائل العملية لمراجعنا العظام ، ويجب علينا معرفة ما نعبد به الله من الواجب منها بل المستحب ، والمكروه والمحرم وما يقطعها مما يتعلق بالصلاة ، ثم نتدبر معاني وحقيقة حدودها وآدابها ، وقد ألفت عدة كتب في آداب الصلاة منها الآداب المعنوية للصلاة للسيد الإمام الخميني قد سره ، ومنها أسرار الصلاة للمرحوم جواد التبريزي وغيرها مما يعرفك روحها ولذة الوقوف بين يدي العزيز الجبار نناجيه ونذكره بما يحب ويرضى ، وهذا بعض البيان لها من كلام الإمام الرضا عليه السلام وفيه علما جما فتدبره .
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنِ الرضا عليه السلام  فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ جَوَابِ مَسَائِلِهِ : أَنَّ عِلَّةَ الصَّلَاةِ أَنَّهَا :
إِقْرَارٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَ خَلْعُ الْأَنْدَادِ .
وَ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ : بِالذُّلِّ وَ الْمَسْكَنَةِ ، وَ الْخُضُوعِ وَ الِاعْتِرَافِ ، وَ الطَّلَبُ لِلْإِقالَةِ مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ .
 وَوَضْعُ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ : كُلَّ يَوْمٍ إِعْظَاماً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
 وَأَنْ يَكُونَ ذَاكِراً غَيْرَ نَاسٍ وَ لَا بَطِرٍ .
 وَ يَكُونَ خَاشِعاً مُتَذَلِّلًا رَاغِباً طَالِباً لِلزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ وَ الدُّنْيَا .
 مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَابِ وَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ ، لِئَلَّا يَنْسَى الْعَبْدُ سَيِّدَهُ وَ مُدَبِّرَهُ وَ خَالِقَهُ فَيَبْطَرَ وَ يَطْغَى .
 وَ يَكُونَ فِي ذِكْرِهِ لِرَبِّهِ وَ قِيَامِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، زَجْراً لَهُ عَنِ الْمَعَاصِي ، وَمَانِعاً لَهُ عَنْ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ[14] .
 
عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ الرضا عليه السلام قالَ :
إِنَّمَا جُعِلَ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَ السُّجُودِ لِعِلَلٍ : مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَعَ خُضُوعِهِ وَخُشُوعِهِ وَتَعَبُّدِهِ وَتَوَرُّعِهِ وَاسْتِكَانَتِهِ وَ تَذَلُّلِهِ وَ تَوَاضُعِهِ وَ تَقَرُّبِهِ إِلَى رَبِّهِ .
 مُقَدِّساً لَهُ مُمَجِّداً مُسَبِّحاً مُعَظِّماً شَاكِراً لِخَالِقِهِ وَ رَازِقِهِ ، فَلَا يَذْهَبْ بِهِ الْفِكْرُ وَ الْأَمَانِيُّ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ [15].
 
 
الثاني : قراءة القرآن المجيد في الصلاة وفضلها :
وَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْفَضْلُ مِنَ الْعِلَلِ عَنِ الرضا عليه السلام :
أَنَّهُ قالَ أُمِرَ النَّاسُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ : لِئَلَّا يَكُونَ الْقُرْآنُ مَهْجُوراً مُضَيَّعاً ، وَ لْيَكُنْ مَحْفُوظاً مَدْرُوساً ، فَلَا يَضْمَحِلَّ وَ لَا يُجْهَلَ .
وَ إِنَّمَا بُدِئَ بِالْحَمْدِ : دُونَ سَائِرِ السُّوَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَ الْكَلَامِ جُمِعَ فِيهِ مِنْ جَوَامِعِ الْخَيْرِ وَ الْحِكْمَةِ ، مَا جُمِعَ فِي سُورَةِ الْحَمْدِ ، وَ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَ جَلَّ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ : إِنَّمَا هُوَ أَدَاءٌ لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الشُّكْرِ ، وَ شُكْرٌ لِمَا وَفَّقَ عَبْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ . رَبِّ الْعالَمِينَ : تَوْحِيدٌ لَهُ ، وَ تَحْمِيدٌ ، وَ إِقْرَارٌ : بِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ لَا غَيْرُهُ .
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : اسْتِعْطَافٌ وَ ذِكْرٌ لآِلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ .
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : إِقْرَارٌ لَهُ بِالْبَعْثِ وَ الْحِسَابِ وَ الْمُجَازَاةِ ، وَ إِيجَابُ مُلْكِ الْآخِرَةِ لَهُ كَإِيجَابِ مُلْكِ الدُّنْيَا .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ : رَغْبَةٌ وَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ، وَ إِخْلَاصٌ لَهُ بِالْعَمَلِ دُونَ غَيْرِهِ . وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : اسْتِزَادَةٌ مِنْ تَوْفِيقِهِ وَ عِبَادَتِهِ ، وَ اسْتِدَامَةٌ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ نَصَرَهُ .
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : اسْتِرْشَادٌ لِدِينِهِ وَ اعْتِصَامٌ بِحَبْلِهِ وَ اسْتِزَادَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَ جَلَّ . صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ : تَوْكِيدٌ فِي السُّؤَالِ وَ الرَّغْبَةِ ، وَ ذِكْرٌ لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَ رَغْبَةٌ فِي مِثْلِ تِلْكَ النِّعَمِ .
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ : اسْتِعَاذَةٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُعَانِدِينَ الْكَافِرِينَ الْمُسْتَخِفِّينَ بِهِ وَ بِأَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ .
وَ لَا الضَّالِّينَ : اعْتِصَامٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ ضَلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ ، وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً .
فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِا مِنْ جَوَامِعِ الْخَيْرِ ، وَ الْحِكْمَةِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَ الدُّنْيَا مَا لَا يَجْمَعُهُ شَيْ‏ءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ[16] .
 
وعَنْ أَبِي ذَكْوَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ قالَ مَا رَأَيْتُ الرضا عليه السلام : سُئِلَ عَنْ شَيْ‏ءٍ قَطُّ إِلَّا عَلِمَهُ ، وَ لَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْهُ بِمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ إِلَى وَقْتِهِ وَ عَصْرِهِ ، وَ كَانَ الْمَأْمُونُ يَمْتَحِنُهُ بِالسُّؤَالِ عَنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَيُجِيبُ فِيهِ .
وَ كَانَ كَلَامُهُ كُلُّهُ وَ جَوَابُهُ وَ تَمَثُّلُهُ انْتِزَاعَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ وَ يَقُولُ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَخْتِمَهُ فِي أَقْرَبَ مِنْ ثَلَاثٍ لَخَتَمْتُ ، وَ لَكِنِّي مَا مَرَرْتُ بِآيَةٍ قَطُّ إِلَّا فَكَّرْتُ فِيهَا ، وَ فِي أَيِّ شَيْ‏ءٍ أُنْزِلَتْ وَ فِي أَيِّ وَقْتٍ ، فَلِذَلِكَ صِرْتُ أَخْتِمُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ[17] .
أقول : هذا هو شأن الإمام وعلمه وتدبره وتفكره سواء في التكوين من الأفاق والأنفس كما عرفت ، أو في كتاب الله التدويني القرآن المجيد وهدى الله ودينه القيم ، وبهذا يعرف عليه السلام معارف الله ويستنبطها ، وهو الراسخ بعلمه ، وقد ذكرنا هذا الحديث في سعة علم الإمام وعدنا ذكره لما فيه من أهمية التلاوة لكتاب الله تعالى والتدبر والتفكر به ، حتى يعرف العبد هدى الله متيقن لعظمته سبحانه وهداه ، فيخلص له العبودية ، وذكرنا هذا البيان لأهميته وإن كان مرامنا الاختصار ، وتدبر فيما ذكرنا عنه عليه السلام فإنه فيه علم واسع .
 
 
الثالث: فضيلة ذكر الله والصلاة على نبينا :
‏ لما وافى أبو الحسن الرضا عليه السلام نيسابور فأراد أن يرحل منها إلى المأمون اجتمع إليه أصحاب الحديث ، فقالوا له يا ابن رسول الله ترحل عنا و لا تحدثنا بحديث نستفيده منك ، و كان قد قعد في العمارية فاطلع رأسه و قال عليه السلام : سمعت أبي موسى بن جعفر يقول : سمعت أبي جعفر بن محمد يقول : سمعت أبي محمد بن علي يقول : سمعت أبي علي بن الحسين يقول : سمعت أبي الحسين بن علي يقول : سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : سمعت جبرائيل يقول : سمعت الله عز و جل يقول :
 لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي .
فلما مرت الراحلة نادى : بشروطها و أنا من شروطها [18].
وهذا الحديث الشريف يسمى حديث سلسلة الذهب ، طاهر عن طاهر عن مطهر عن رب العزة الذي وهبهم التطهير ، ليطهر كل من يعرف هداه ويعبده بما علمهم سبحانه حتى كانوا شرط لمعرفة الله وهداه ، والخلاص من كل ما يبعد عن الله وحصنه وتوحيده بيقين المعرفة مما يحب ويرضى من العبودية .
 
وعن هشام بن سالم قال سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام كان يقول :
 من قال : لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، دفع الله عز و جل بها عنه سبعين نوعا من البلاء أيسرها الخنق [19].
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّهْقَانِ قالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرضا عليه السلام : فَقالَ لِي : مَا مَعْنَى قَوْلِهِ : وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى .
قلتُ : كُلَّمَا ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ قَامَ فَصَلَّى .
فَقالَ لِي : لَقَدْ كَلَّفَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ هَذَا شَطَطاً .
فَقلتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ فَكَيْفَ هُوَ .
فَقالَ عليه السلام : كُلَّمَا ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ[20].
 
أقول : الإنسان الموقن بفضل الله لعباده لا يغفل عنه قدر المستطاع ويجب أن يكون بكل ما أوتي من قوة ذاكرا لله تعالى ، سواء ذكر مقالي أو حالي بحيث لا يكون في معصية الله ولو لحظة ، وأما مصاديق الذكر فهي كثيرة في الأذكار من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا إله إلا الله ، وغيرها ك الله أكبر وسبحان الله والحمد لله والشكر لله ، ولكن بعض الأذكار تحتاج لمناسبة وإن كان ذكر الله حسن بأي ذكر .
 ولكن لذكر الصلاة على محمد وآله وقع خاص في القلوب وعند الله ، وهو توحيد لله بالربوبية والتدبير والهداية بالعلم والحكمة فضلا عن الخالقية ومد العباد بالنعم ، بل فيها معنى التوحيد لأنه منه تعالى وحده لا شريك له نطلب لأكرم خلقه بأن يصلهم برحمته وبركاته ولأنهم هداتنا لدينه ومعارفه ، ومن ثم من بركاته عليهم نحصل على هدانا ، ومعارفنا فنكون عنده عباد مؤمنين مخلصين مرضيين الهدى والدين ، وجعلنا الله معهم ومنهم في الدارين إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا ربي ، ولك بكل هداك الذي علمه الطيبين مسلّمين .
وقد ذكرنا يا طيب : في معنى الصلاة على النبي وآله معارف قيمة في صحيفة الإمام الحسين عليه السلام ، وفي صحيفة الثقلين من موسوعة صحف الطيبين فتدبر هناك إن أردت المزيد ، وهذه معاني قيمة لها ولآثارها بأحاديث الإمام الرضا عليه السلام فتدبر :
 
عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى علي يوم الجمعة مئة صلاة ، قضى الله له ستين حاجة ، ثلاثون للدنيا ، و ثلاثون للآخرة [21].
 
وقالَ الرضا عليه السلام فِي حَدِيثٍ : مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا يُكَفِّرُ بِهِ ذُنُوبَهُ ، فَلْيُكْثِرْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ .
 فَإِنَّهَا تَهْدِمُ الذُّنُوبَ هَدْماً [22].
وَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ الرضا عليه السلام فِي كِتَابِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ قالَ : وَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ  وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ، وَ عِنْدَ الْعُطَاسِ ، وَ الذَّبَائِحِ ، وَ غَيْرِ ذَلِكَ [23].
وفي معاني الصلاة على النبي وآله وآثارها أحاديث كثيرة راجع ما ذكرنا في موسوعة صحف الطيبين تجد إن شاء الله كثير من المعارف .
 
 
الرابع : فضيلة سجدة الشكر والأذكار فيها :
وَ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَفْصٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ قالَ كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْحَسَنِ الرضا عليه السلام :
 قُلْ فِي سَجْدَةِ الشُّكْرِ مِائَةَ مَرَّةٍ شُكْراً شُكْراً ، وَإِنْ شِئْتَ عَفْواً عَفْواً[24].
 
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرضا عليه السلام قالَ : السَّجْدَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ شُكْراً لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ الْعَبْدَ مِنْ أَدَاءِ فَرْضِهِ ، وَ أَدْنَى مَا يُجْزِي فِيهَا مِنَ الْقَوْلِ : أَنْ يُقالَ :
شُكْراً لِلَّهِ شُكْراً لِلَّهِ شُكْراً لِلَّهِ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
قلتُ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ شُكْراً لِلَّهِ .
قالَ عليه السلام : يَقُولُ هَذِهِ السَّجْدَةُ مِنِّي شُكْراً لِلَّهِ عَلَى مَا وَفَّقَنِي لَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ وَ أَدَاءِ فَرْضِهِ .
 وَ الشُّكْرُ مُوجِبٌ لِلزِّيَادَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ تَقْصِيرٌ لَمْ يَتِمَّ بِالنَّوَافِلِ تَمَّ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ [25].
 
وعَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ عَنِ الرضا عليه السلام : فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ صَلَّى رَكَعَاتٍ وَ دَعَا بِدَعَوَاتٍ فَلَمَّا فَرَغَ :
 سَجَدَ سَجْدَةً طَالَ مَكْثُهُ فِيهَا فَأَحْصَيْتُ لَهُ خَمْسَ مِائَةِ تَسْبِيحَةٍ ثُمَّ انْصَرَفَ [26].
وعَنْ رَجَاءِ بْنِ أَبِي الضَّحَّاكِ فِي حَدِيثٍ قالَ كَانَ الرضا عليه السلام : إِذَا أَصْبَحَ صَلَّى الْغَدَاةَ ، فَإِذَا سَلَّمَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ وَ يَحْمَدُهُ وَ يُكَبِّرُهُ وَ يُهَلِّلُهُ ، وَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ وَ آلِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَةً يَبْقَى فِيهَا حَتَّى يَتَعَالَى النَّهَارُ [27].
 
وَ سَأَلَ سَعْدُ بْنُ سَعْدٍ الرضا عليه السلامعَنْ سَجْدَةِ الشُّكْرِ .
فَقالَ عليه السلام : أَرَى أَصْحَابَنَا يَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ سَجْدَةً وَاحِدَةً ، وَ يَقُولُونَ : هِيَ سَجْدَةُ الشُّكْرِ ، فَقالَ : إِنَّمَا الشُّكْرُ إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ ، أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَ مَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ .
وَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ، وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  [28].
 
أقول : الآن مشهور هذا الذكر لمن يركب سيارة  و مروي لمن ركب دابة وغيرها ، وهو ذكر من آيات بعد بيان نعم الله بصورة عامة ثم تُخصص بالركوب ، فيستحب ذكره لكل نعمة نقترن بها ونحصل عليها كشكراً لله تعالى ولو من غير سجود ولا ركوب شيء ، وعرفت أذكار سجدت الشكر ، وأما الآيات فهي بعد أن يعدد سبحانه بعض النعم يقول عز وجل :
 {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}الزخرف14.. ولولا الله لما طقنا الحصول عليها والاقتران بها حتى تكون هذه النعم لنا دابة أو غيرها من نعم الله الواجب شكره على تمكيننا منها .
 
 
الخامس : فضل الدعاء والتحقق به :
و عَنِ الإمام الرضا عليه السلام أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ :
عَلَيْكُمْ بِسِلَاحِ الْأَنْبِيَاءِ ، فَقِيلَ : وَ مَا سِلَاحُ الْأَنْبِيَاءِ .
 قالَ : الدُّعَاءُ[29] .
عَنْ أَبِي هَمَّامٍ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هَمَّامٍ عَنِ الرضا عليه السلام : قالَ قالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام : إِنَّ الدُّعَاءَ وَ الْبَلَاءَ لَيَتَرَافَقَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
 إِنَّ الدُّعَاءَ لَيَرُدُّ الْبَلَاءَ وَ قَدْ أُبْرِمَ إِبْرَاماً [30].
عن أبي الحسن الرضا عليه السلام :
 قال دعوة العبد سرا دعوة واحدة ، تعدل سبعين دعوة علانية [31] .
و عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال :
ما من مؤمن يدعو للمؤمنين و المؤمنات ، و المسلمين و المسلمات ، الأحياء منهم و الأموات ، إلا كتب الله له بكل مؤمن و مؤمنة حسنة ، منذ بعث الله آدم إلى أن تقوم الساعة [32].
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرضا عليه السلام فِي حَدِيثٍ قالَ : لَا تَمَلَّ مِنَ الدُّعَاءِ ، فَإِنَّهُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ .
 وَعَلَيْكَ بِالصَّبْرِ وَ طَلَبِ الْحَلَالِ وَ صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَإِيَّاكَ وَمُكَاشَفَةَ النَّاسِ .
فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَصِلُ مَنْ قَطَعَنَا ، وَ نُحْسِنُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا ، فَنَرَى وَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ [33].
وعَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ قَيْسِ بْنِ رُمَّانَةَ عَنِ الرضا عليه السلام عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِيٍّ ع قالَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم :
 يَا عَلِيُّ أُوصِيكَ : بِالدُّعَاءِ فَإِنَّ مَعَهُ الْإِجَابَةَ ، وَبِالشُّكْرِ فَإِنَّ مَعَهُ الْمَزِيدَ .
وَ أَنْهَاكَ : عَنْ أَنْ تَخْفِرَ عَهْداً وَ تُعِينَ عَلَيْهِ ، وَ أَنْهَاكَ عَنِ الْمَكْرِ فَإِنَّهُ لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الْبَغْيِ فَإِنَّهُ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ[34].
وعَنْ صَفْوَانَ عَنِ الرضا عليه السلام فِي حَدِيثٍ أَنَّ أَبَا قُرَّةَ قالَ لَهُ : مَا بَالُكُمْ إِذَا دَعَوْتُمْ رَفَعْتُمْ أَيْدِيَكُمْ إِلَى السَّمَاءِ .
قالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ اللَّهَ اسْتَعْبَدَ خَلْقَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْعِبَادَةِ ... إِلَى أَنْ قالَ : وَ اسْتَعْبَدَ خَلْقَهُ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَ الطَّلَبِ وَ التَّضَرُّعِ بِبَسْطِ الْأَيْدِي وَ رَفْعِهَا إِلَى السَّمَاءِ لِحَالِ الِاسْتِكَانَةِ ، وَ عَلَامَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَ التَّذَلُّلِ لَهُ [35].
وعَنِ الإمام الرضا عليه السلام  قالَ :
يَا مَنْ دَلَّنِي عَلَى نَفْسِهِ ، وَ ذَلَّلَ قَلْبِي بِتَصْدِيقِهِ .
 أَسْأَلُكَ الْأَمْنَ وَ الْإِيمَانَ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ[36].
وعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَاسِرٍ عَنِ الرضا عليه السلام قالَ :
مَثَلُ الِاسْتِغْفَارِ ، مَثَلُ وَرَقٍ عَلَى شَجَرَةٍ تُحَرَّكُ فَيَتَنَاثَرُ .
 وَ الْمُسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبٍ وَ يَفْعَلُهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ[37] .
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنِ الرضا عليه السلام : قالَ كَانَ أَبِي عليه السلام إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ قالَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، خَرَجْتُ بِحَوْلِ اللَّهِ وَ قُوَّتِهِ لَا بِحَوْلٍ مِنِّي وَ لَا قُوَّتِي ، بَلْ بِحَوْلِكَ وَ قُوَّتِكَ يَا رَبِّ ، مُتَعَرِّضاً لِرِزْقِكَ فَأْتِنِي بِهِ فِي عَافِيَةٍ [38] .
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرضا عليه السلام قالَ : لَمَّا أَشْرَفَ نُوحٌ عَلَى الْغَرَقِ دَعَا اللَّهَ بِحَقِّنَا فَدَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ الْغَرَقَ ، وَ لَمَّا رُمِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ دَعَا اللَّهَ بِحَقِّنَا ،َجَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ بَرْداً وَ سَلَاماً ، وَ إِنَّ مُوسَى لَمَّا ضَرَبَ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ دَعَا اللَّهَ بِحَقِّنَا فَجُعِلَ يَبَساً ، وَ إِنَّ عِيسَى لَمَّا أَرَادَ الْيَهُودُ قَتْلَهُ دَعَا اللَّهَ بِحَقِّنَا فَنَجَا مِنَ الْقَتْلِ فَرَفَعَهُ إِلَيْهِ [39].
أقول : في هذا الحديث معاني جمة عن شأنهم في الملكوت ومعرفة الأنبياء بل وأممهم بهم ، وقد ذكرنا تفصيل لهذا المعنى في الجزء الأول من صحيفة ذكر علي عليه السلام عبادة من موسوعة صحف الطيبين فتدبر ، كما للصلاة على النبي معاني وآثار كثيرة يمكنك مراجعة بعضها فيما ذكرنا من صحيفة الإمام الحسين عليه السلام ، إذ ورد ضرورة تضمين الدعاء بالصلاة على النبي وآله صلى الله عليهم وسلم ورزقنا هداهم ونعيمهم في الدنيا والآخرة .
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنِ الرضا عليه السلام قالَ : سَأَلْتُهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِنَا بِهَا حَمْلٌ .
فَقالَ قالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام :  الدُّعَاءُ مَا لَمْ تَمْضِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، َقلتُ لَهُ إِنَّمَا لَهَا أَقَلُّ مِنْ هَذَا ، فَدَعَا لَهَا ، ثُمَّ قالَ : إِنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ ثَلَاثِينَ يَوْماً ، وَ تَكُونُ عَلَقَةً ثَلَاثِينَ يَوْماً ، وَ تَكُونُ مُضْغَةً ثَلَاثِينَ يَوْماً ، وَ تَكُونُ مُخَلَّقَةً وَ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ ثَلَاثِينَ يَوْماً ، فَإِذَا تَمَّتِ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكَيْنِ خَلَّاقَيْنِ يُصَوِّرَانِهِ وَ يَكْتُبَانِ رِزْقَهُ وَ أَجَلَهُ وَ شَقِيّاً أَوْ سَعِيداً [40].
أقول : هذه كانت بعض آثار الدعاء وفوائده من كلام الإمام الرضا عليه السلام ، وله عليه السلام تعاليم وأدعية كثيرة تعرفنا التوجه لله وبمناسبات المختلفة لم نذكر إلا بعضها ونترك الباقي للجزء الثالث إن شاء الله ، وأن الدعاء الأخير يعرفنا الإمام إن بعض الدعاء له مناسبة أو زمان خالص ، فيجب أن يسبق الدعاء قبل تحقق القضاء ولو كان مبرم ، وإن الإنسان يكون سعيد أو شقي حسب تصرفه بما أنعم الله عليه .
 وهذا البحث : كان في جوانب من تعليم الإمام الرضا عليه السلام في تعريفنا الإخلاص والتوجه لله تعالى حتى اليقين ، وفيه بيان حق لمعرفة الإمام بالله تعالى وأحواله معه ، ويرينا كثير من نوره وهداه الذي يعرفنا ضرورة الكون مع الله تعالى في كل حال ، ثم لما عرفنا هذا نذكر بعض أحوال ذكره وعبوديته مما نقل إلينا ، وإن عرفت إنه حبذ عبودية السر ولكنه عليه السلام كان كثير العبادة فنقل عنه الكثير من صلاته وبره ، نتدبرها في البحث الآتي وتابع كل سيرته المباركة لنتعرف عبوديته لله تعالى وإخلاصه حتى اليقين ، بل هو المعلم بكل حديث له وسيرته وسلوكا عليه السلام ، وجعلنا الله معهم هدى ودين ودنيا ونعيم وآخرة إنه أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .
 
 
 

البحث الثاني

حال الإمام الرضا في عبوديته لله

إن الله تعالى : عرفنا إن ولاة دينه متنورين بنوره ولا يليهم مله عن ذكر الله تعالى لا بيع ولا شراء ولا غيره وقد ذكر هذا سبحانه في آيات النور والبيوت المرفوعة ، بل هم يفيضون معارف الله التي يتجلون بها بكل أحوالهم ، ولم يتغير حالهم لا في سراء ولا في ضراء ولا في صحة ولا في مرض ، بل بكل حال يُظهرون من دين الله ما يرضيه حسب الحال نفسه ، بل هم المتيقنون المفوضون أمرهم إلى الله حتى رضيهم الله تعالى ولاة لدينه وهداة لعباده ، وعلى كل حال لا ينطقون إلا صدقا ولا يقضون إلا عدلا .
وهذا الإمام الرضا عليه السلام : عرفنا عنه أحاديث تعرفنا عبودية الله تعالى والإخلاص له حتى اليقين في مجال واحد مهم وهو الصلاة وما يتبعها ، بعد أن عرفنا كيفية تحصيل اليقين والإيمان بمعارف الله ، والآن يا أخي بعد المعرفة العلمية عن الإمام الرضا وحاله مع الله وتعريفة لما يجب أن الكون العبد مع الله ، نرى حاله حسب ما يصفه من كان في زمانه ، فنرى إنه عليه السلام مصداق اليقين المتوجه لله بكل وجوده حتى كان في خالص العبودية لله تعالى، ولذا أختاره إمام للمؤمنين يعرفهم معالم دينه في زمانه كآبائه الكرام وأبناءه الطاهرين .
وهذا يا طيب حال الإمام الرضا : بين يديك يصفه المخالف والموافق له ، فيُرى به دين الله كآياته المنتشرة ، ولكن بعض يوفقه الله ، وبعض يصم ويعمى والعياذ بالله منهم ، وجعلنا الله من مهتدين بدينهم الحق ومعهم في كل نعيم .
 
 
قائد المأمون يصف عبادة الإمام عليه السلام :
عن أحمد بن علي الأنصاري قال : سمعت رجاء بن أبي الضحاك يقول :
بعثني المأمون في إشخاص علي بن موسى الرضا عليه السلام من المدينة ، وأمرني أن آخذ به على طريق البصرة والأهواز وفارس ، ولا آخذ به على طريق قم ، وأمرني أن أحفظه بنفسي بالليل والنهار حتى أقدم به عليه .
 فكنت معه من المدينة إلى مرو :
 فوالله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله منه .
ولا أكثر ذكرا له في جميع أوقاته منه ,
 ولا أشد خوفا لله عز وجل .
 كان إذا أصبح صلى الغداة :
 فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده  ويكبره ويهلله ويصلي على النبي وآله صلى الله عليه وآله حتى تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة يبقى فيها حتى يتعالى النهار .
 ثم أقبل على الناس : يحدثهم ويعظهم إلى قرب الزوال ، ثم جدد وضوءه وعاد إلى مصلاه .
 فإذا زالت الشمس :
قام وصلى ست ركعات يقرأ في الركعة الأولى الحمد وقل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد ، ويقرأ في الأربع في كل ركعة الحمد لله وقل هو الله أحد .
 ويسلم في كل ركعتين , ويقنت فيهما في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة .
ثم يؤذن ثم يصلي ركعتين ، ثم يقيم ويصلي الظهر .
فإذا سلم : سبح الله وحمده وكبره وهلله ما شاء الله .
 ثم سجد سجدة الشكر يقول فيها مائة مرة : " شكراً لله " .
فإذا رفع رأسه : قام فصلى ست ركعات ، يقرأ في كل ركعة الحمد لله وقل هو الله أحد ، ويسلم في كل ركعتين ، ويقنت في ثانية كل ركعتين قبل الركوع وبعد القراءة .
 ثم يؤذن ثم يصلي ركعتين ويقنت في الثانية .
 فإذا سلم أقام وصلى العصر .
 فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله .
 ثم سجد سجدة يقول فيها : مائة مرة " حمدا الله " .
فإذا غابت الشمس :
توضأ وصلى المغرب ثلاثا بأذان وإقامة ، وقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله .
ثم يسجد سجدة الشكر : ثم رفع رأسه ، ولم يتكلم حتى يقوم .
ويصلي أربع ركعات بتسليمتين ، يقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، وكان يقرأ في الأولى من هذه الأربع الحمد وقل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد ، ثم يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء الله حتى يمسي ثم يفطر .
 
ثم يلبث حتى يمضي من الليل قريب من الثلث :
ثم يقوم فيصلي العشاء الآخرة أربع ركعات ، ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، فإذا سلم جلس في مصلاه يذكر الله عز وجل ويسبحه ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله ، ويسجد بعد التعقيب سجدة الشكر ، ثم يأوي إلى فراشه . 
 

فإذا كان الثلث الأخير من الليل :

قام من فراشه بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار ، فأستاك ثم توضأ ثم قام إلى صلاة الليل ، فصلى ثماني ركعات ويسلم في كل ركعتين ، يقرأ في الأوليين منها في كل ركعة الحمد مرة ، وقل هو الله أحد ثلاثين مرة ، ويصلي صلاة جعفر بن أبي طالب عليه السلام أربع ركعات ، يسلم في كل ركعتين ، ويقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد التسبيح ، ويحتسب بها من صلاة الليل .
 ثم يصلي الركعتين الباقيتين يقرأ في الأولى الحمد وسورة الملك ، وفي الثانية الحمد وهل أتى على الإنسان . 
ثم يقوم فيصلي ركعتي الشفع : يقرأ في كل ركعة منها الحمد مرة ، وقل هو الله ثلاث مرات ويقنت في الثانية .
ثم يقوم فيصلي الوتر : ركعة يقرأ فيها : الحمد ، وقل هو الله أحد ثلاث مرات ، وقل أعوذ برب الفلق مرة واحدة ، وقل أعوذ برب الناس مرة واحدة ، ويقنت فيها قبل الركوع وبعد القراءة .

ويقول في قنوته :

اللهم صل على محمد وآل محمد ، اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت . 

ثم يقول : أستغفر الله وأسأله التوبة ، سبعين مرة .
 فإذا سلم جلس في التعقيب ما شاء الله . 
 وإذا قرب الفجر :
قام فصلى ركعتي الفجر ، يقرأ في الأولى الحمد وقل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية الحمد وقل الله أحد .
 فإذا طلع الفجر أذن وأقام وصلى الغداة ركعتين ، فإذا سلم جلس في التعقيب ، حتى تطلع الشمس ثم سجد سجدتي الشكر حتى يتعالى النهار . 
 

وكانت قراءته في جميع المفروضات في الأولى الحمد وإنّا أنزلناه ، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد .

 إلا في صلاة الغداة والظهر والعصر يوم الجمعة ، فإنه كان يقرأ فيها بالحمد وسورة الجمعة والمنافقين ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة في الأولى الحمد وسورة الجمعة ، وفي الثانية الحمد وسبح .
وكان يقرأ في صلاة الغداة يوم الاثنين والخميس ، في الأولى : الحمد وهل أتى على الإنسان ، وفي الثانية : الحمد وهل أتاك حديث الغاشية . 
وكان يجهر بالقراءة في المغرب والعشاء وصلاة الليل والشفع والوتر والغداة ، ويخفي القراءة في الظهر والعصر .
 وكان يسبح في الأخروين : سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله أكبر ، ثلاث مرات .
 وكان قنوته في جميع صلواته :
( رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأجل الأكرم ) . 
وكان إذا أقام في بلدة عشرة أيام صائما لا يفطر ، فإذا جن الليل بدأ بالصلاة قبل الإفطار ، وكان في الطريق يصلي فرائضه ركعتين ركعتين إلا المغرب فانه كان يصليها ثلاثا ، ولا يدع نافلتها ، ولا يدع صلاة الليل والشفع والوتر وركعتي الفجر في سفر ولا حضر . 
وكان لا يصلي من نوافل النهار في السفر شيئاً ، وكان يقول بعد كل صلاة يقصرها :

( سبحان الله والحمد لله ولا أله ألا الله والله أكبر ) ثلاثين مرة .

ويقول : هذا لتمام الصلاة .
وما رأيته صلى صلاة الضحى في سفر ولا حضر .
 وكان لا يصوم في السفر شيئاً .

 وكان عليه السلام يبدأ في دعائه بالصلاة على محمد وآله ، ويكثر من ذلك في الصلاة وغيرها . 

وكان يكثر بالليل في فراشه : من تلاوة القرآن ، فإذا مر بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى ، وسأل الله الجنة وتعوذ به من النار ، وكان عليه السلام يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع صلواته بالليل والنهار .

 

 وكان إذا قرأ : قل هو الله أحد : قال سرا : ( الله أحد ) ، فإذا فرغ منها قال : ( كذلك الله ربنا ) ثلاثا .
 وكان إذا قرأ سورة الجحد قال : في نفسه سرا ( يا أيها الكافرون ) فإذا فرغ منها قال : ( ربي الله وديني الإسلام ) ثلاثا .
وكان إذا قرء والتين والزيتون قال : عند الفراغ منها ( بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ) .
 وكان إذا قرأ لا اقسم بيوم القيامة قال عند الفراغ منها : ( سبحانك اللهم بلى ) وكان يقرأ في سورة الجمعة ( قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة للذين اتقوا والله خير الرازقين ) . 
وكان إذا فرغ من الفاتحة قال : ( الحمد لله رب العالمين ) .
وإذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال : سرا ( سبحان ربي الأعلى ) .
وإذا قرأ يا أيها الذين آمنوا قال : ( لبيك اللهم ) لبيك سرا .
 
وكان لا ينزل بلدا : إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم ، فيجيبهم ويحدثهم الكثير عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله .
 
 فلما وردت به على المأمون : سألني عن حاله في طريقه فأخبرته بما شاهدت منه في ليلة ونهاره وظعنه ، وإقامته .
 فقال : بلى يا ابن أبي الضحاك هذا خير أهل الأرض ، وأعلمهم وأعبدهم ، فلا تخبر أحدا بما شاهدت منه لئلا يظهر فضله إلا على لساني ، وبالله أستعين على ما أقوى من الرفع منه والإساءة به[41] .
أقول : هذه عبادة وإخلاص ولي ديننا معلم لليقين ، وما يجب أن يكون عليه إمام المؤمنين مع مالك يوم الدين ، وأنّا لغيرنا مثل آل محمد في إخلاصهم لرب العالمين ، وأسأل الله أن يهبنا من الطاقة والهمة للكون مثل بعض شأنهم حتى يرضى عنا ويجعلنا معهم ، وهذه أحاديث أخرى عن حال الإمام مع الله نتدبرها.
 
 
 
صلاة الإمام وصومه وصدقته :
عن إبراهيم بن العباس قال :
وكان عليه السلام قليل النوم بالليل ، كثير السهر ، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح .
 وكان عليه السلام : كثير الصيام : فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ، و يقول : ذلك صوم الدهر .
 وكان عليه السلام : كثير المعروف والصدقة في السر ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه[42] .
 
 
 
الإمام يصلي ألف ركعة في اليوم والليلة :
عن الهروي قال : جئت إلى باب الدار التي حبس فيه الرضا عليه السلام بسرخس وقد قيد فاستأذنت عليه السجان ، فقال : لا سبيل لكم إليه .
فقلت : ولم ؟
قال : لأنه ربما صلى في يومه وليلته ألف ركعة ، وإنما ينفتل من صلاته ساعة في صدر النهار ، وقبل الزوال ، وعند اصفرار الشمس ، فهو في هذه الأوقات قاعد في مصلاه يناجي ربه . 
قال : فقلت له : فاطلب لي في هذه الأوقات إذنا عليه فاستأذن لي عليه ، فدخلت عليه وهو قاعد في مصلاه متفكر .
 قال أبو الصلت : فقلت يا بن رسول الله : ما شيء يحكيه عنكم الناس؟
قال : وما هو ؟ قلت : يقولون إنكم تدعون أن الناس لكم عبيد ؟
فقال عليه السلام : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت شاهد بأني لم أقل ذلك قط ، ولا سمعت أحدا من آبائي عليهم السلام قاله قط ، وأنت عالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمة وأن هذه منها . 
ثم أقبل علي فقال : يا عبد السلام إذا كان الناس كلهم عبيدنا على ما حكوه عنا ، فممن نبيعهم ؟
فقلت : يا ابن رسول الله صدقت . 
ثم قال عليه السلام : يا عبد السلام أمنكر أنت لما أوجب الله عز وجل لنا من الولاية كما ينكره غيرك ؟
 قلت : معاذ الله بل أنا مقر بولايتكم[43] .
 
عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ أَخِي دِعْبِلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنِ الرضا عليه السلام فِي حَدِيثٍ " أَنَّهُ خَلَعَ عَلَى دِعْبِلٍ قَمِيصاً مِنْ خَزٍّ ، وَ قالَ لَهُ :
احْتَفِظْ بِهَذَا الْقَمِيصِ فَقَدْ :
صَلَّيْتُ فِيهِ أَلْفَ لَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ
 وَ خَتَمْتُ فِيهِ الْقُرْآنَ أَلْفَ خَتْمَةٍ[44] .
 
الإمام لا يشرك بعبادة ربه أحداً :
عنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ قال :
دخلت على الرضا عليه السلام وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة ، فدنوت لأصب عليه فأبى ذلك ، وقال عليه السلام : مه يا حسن .
 فقلت له :لم تنهاني أن أصب على يدك ، تكره أن أوجر ؟
 قال علي السلام : تؤجر أنت وأوزر أنا .
 فقلت له : وكيف ذلك ؟
فقال عليه السلام  : أما سمعت الله عز وجل يقول : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) وها أنا ذل أتوضأ للصلاة وهي العبادة ، فأكره أن يشركني فيها أحد[45] .
وعن مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ الْمُفِيدُ فِي الْإِرْشَادِ قالَ : دَخَلَ الرضا عليه السلام  يَوْماً وَ الْمَأْمُونُ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَ الْغُلَامُ يَصُبُّ عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ .
فَقالَ عليه السلام : لَا تُشْرِكْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِبَادَةِ رَبِّكَ أَحَداً .
فَصَرَفَ الْمَأْمُونُ الْغُلَامَ وَ تَوَلَّى تَمَامَ وُضُوئِهِ بِنَفْسِهِ [46].
 
 
الإمام يُعيّد بعض أصحابه ويدعوا له :
عن محمد بن الفضل عن الرضا عليه السلام قال :
قال لبعض مواليه يوم الفطر وهو يدعو له : يا فلان تقبل الله منك ومنا .
ثم أقام حتى إذا كان يوم الأضحى فقال له : يا فلان تقبل الله منا ومنك .
قال فقلت له : يا ابن رسول الله قلت في الفطر شيئا وتقول في الأضحى غيره ؟   قال فقال : نعم إني قلت له في الفطر : تقبل الله منك ومنا ، لأنه فعل مثل فعلي ، وناسبت أنا وهو في الفعل .
 وقلت له في الأضحى : تقبل الله منا ومنك ، لانا يمكننا أن نضحي ولا يمكنه أن يضحي فقد فعلنا نحن غير فعله[47] .
 
 
 
لدعاء الإمام يسقط حجر على بكار :
أقول : مر دعائه على بن أبي سعيد المكاري وكيف دخل الفقر بيته لأنه كان مصرا على عناده في الباب الثالث في موضوع بعض الواقفين الذين أصروا على المعصية لعنهم الله ، ومر غيره من الأدعية لموالية وعلى أعدائه وهذه بعض آخر ، نذكرها لنعرف ضرورة التوي والتبري حسب الإيمان والمولاة أو المعاداة .
 
عن أحمد بن محمد بن إسحاق الخراساني قال :
سمعت علي بن محمد النوفلي يقول : استحلف الزبير بن بكار رجل من الطالبيين على شيء بين القبر والمنبر ، فحلف فبرص وأنا رأيته وبساقيه وقدميه برص كثير ، وكان أبوه بكار قد ظلم الرضا عليه السلام في شيء ، فدعا عليه فسقط في وقت دعائه عليه السلام  عليه حجر من قصر فاندقت عنقه[48]
 
 
 
الإمام يدعوا على البرامكة :
عن محمد بن الفضيل قال :  لما كان في السنة التي بطش هارون بآل برمك بدأ بجعفر ابن يحيى ، وحبس يحيى بن خالد ، ونزل بالبرامكة ما نزل ، كان أبو الحسن عليه السلام واقفا بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه ، فسئل عن ذلك .
فقال عليه السلام : إني كنت أدعو الله عز وجل على البرامكة بما فعلوا بأبي عليه السلام ، فاستجاب الله لي اليوم فيهم ، فلما انصرف لم يلبث إلا يسيرا حتى بطش بجعفر ويحيى وتغيرت أحوالهم [49].
 
 
الإمام يدعوا على المأمون :
عن إبراهيم بن هاشم عن الهروي قال :
رفع إلى المأمون أن أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يعقد مجالس الكلام ، والناس يفتتنون بعلمه ، فأمر محمد بن عمرو الطوسي حاجب المأمون فطرد الناس عن مجلسه وأحضره ، فلما نظر إليه زبره واستخف به ، فخرج أبو الحسن الرضا عليه السلام من عنده مغضبا وهو يدمدم بشفتيه .
ويقول : وحق المصطفى والمرتضى وسيدة النساء ، لأستنزلن من حول الله عز وجل بدعائي عليه ، ما يكون سبيا لطرد كلاب أهل هذه الكورة إياه واستخفافهم به و بخاصته وعامته . 
ثم إنه عليه السلام : انصرف إلى مركزه واستحضر الميضأة وتوضأ وصلى ركعتين وقنت في الثانية فقال
اللهم يا ذا القدرة الجامعة ، والرحمة الواسعة ، والمنن المتتابعة والآلاء المتوالية ، والأيادي الجميلة ، والمواهب الجزيلة .
 يا من لا يوصف بتمثيل ، ولا يمثل بنظير ، ولا يغلب بظهير .
 يا من خلق فرزق ، وألهم فأنطق ، وابتدع فشرع ، وعلا فارتفع ، وقدر فأحسن ، وصور فأتقن ، واحتج فأبلغ ، وأنعم فأسبغ ، وأعطى فأجزل .
 يا من سما في العز ففات خواطر الأبصار ، ودنا في اللطف فجاز هواجس الأفكار ، يا من تفرد بالملك فلا ند له في ملكوت سلطانه ، وتوحد بالكبرياء فلا ضد له في جبروت شأنه ، يا من حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام ، وحسرت دون إدراك عظمته خطائف أبصار الأنام .
 يا عالم خطرات قلوب العالمين ، ويا شاهد لحظات أبصار الناظرين ، يا من عنت الوجوه لهيبته ، وخضعت الرقاب لجلالته ، ووجلت القلوب من خيفته ، وارتعدت الفرائص من فرقه  .
يا بدئ يا بديع يا قوي يا منيع يا علي يا رفيع ، صل على من شرفت  الصلاة بالصلاة عليه ، وانتقم لي ممن ظلمني ، واستخف بي وطرد الشيعة عن بابي ، وأذقه مزارة الذل والهوان كما أذاقنيها ، وأجعله طريد الأرجاس ، وشريد الأنجاس . 
قال أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي : فما أستتم مولاي عليه السلام دعاءه حتى وقعت الرجفة في المدينة ، وارتج البلد ، وارتفعت الزعقة والصيحة ، واستفحلت النعرة ، وثارت الغبرة ، وهاجت القاعة ، فلم أزايل مكاني إلى أن سلم مولاي عليه السلام .
فقال لي : يا أبا الصلت اصعد السطح فإنك سترى امرأة بغية عثة رثة ، مهيجة الأشرار ، متسخة الأطمار ، يسميها أهل هذه الكورة سمانة ، لغباوتها وتهتكها ، قد أسندت مكان الرمح إلى نحرها قصبا ، وقد شدت وقاية لها حمراء إلى طرفه مكان اللواء ، فهي تقود جيوش القاعة ، وتسوق عساكر الطغام إلى قصر المأمون ومنازل قواده .
فصعدت السطح : فلم أر إلا نفوسا تنتزع بالعصا ، وهامات ترضخ بالأحجار ، ولقد رأيت المأمون متدرعا قد برز من قصر الشاهجان متوجها للهرب ، فما شعرت إلا بشاجرد الحجام قد رمى من بعض أعالي السطوح بلبنة ثقيلة فضرب بها رأس المأمون ، فأسقطت بيضته بعد أن شقت جلدة هامته . 
فقال لقاذف اللبنة بعض من عرف المأمون : ويلك أمير المؤمنين .
 فسمعت سمانة تقول : اسكت لا أم لك ليس هذا يوم التميز والمحاباة ، ولا يوم إنزال الناس على طبقاتهم ، فلو كان هذا أمير المؤمنين لما سلط ذكور الفجار على فروج الأبكار .
 وطرد المأمون وجنوده أسوء طرد بعد إذلال واستخفاف شديد [50]
وزاد في آخره في المناقب : ونهبوا أمواله ، فصلب المأمون أربعين غلاما وأسلا دهقان مرو ، وأمر أن يطول جدرانهم ، وعلم أن ذلك من استخفاف الرضا ، فانصرف ودخل عليه وحلفه أن لا يقوم ، وقبل رأسه وجلس بين يديه ، وقال : لم تطب نفسي بعد مع هؤلاء فما ترى ؟
فقال الرضا عليه السلام : اتق الله في أمة محمد ، وما ولاك من هذا الأمر ، وخصك به ، فإنك قد ضيعت أمور المسلمين وفوضت ذلك إلى غيرك . إلى آخر ما أورده المجلسي في باب ما جرى بينه عليه السلام وبين المأمون [51] .
 
 
كلام طيب نختم به الباب التاسع :
يا طيب : هذه بعض أحول إمامنا الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام في العبودية والتوجه لله سبحانه وتعالى ، تعرفنا فيها على معاني عزيزة في العبودية لله ، وهي غاية ما يصبوا لها العارفون ويتوق لمعرفتها المؤمنون المتدينون .
 فإنها تعرفنا : كرامة العبد المخلص المتيقن فضل الله وكرامته وعلمه وقدرته سبحانه ، وتعرفنا شأنه الكريم مع الله ومقامه العظيم عنده ، سواء في استجابة دعاءه وكرامته عليه ، أو في بيان حاله ويقينه بضرورة الطاعة وإخلاص العبودية مع الله وحده لا شريك له ، حتى كان عليه السلام مُعرف هدى الله ودينه الحق وفي قمة الإخلاص في بيانه ونشره لدين الله وهداه القيم ، وبكل حال له سواء تعليم ومعرفة وتدبر وتفكر ، أو في حال سيرة وسلوك في تطبيق دين الله ممتثلا ومعلما به وله بحق .
وما ذكرنا يا أخي : في جميع أبواب هذه الصحيفة المباركة المسماة بصحيفة الإمام الرضا عليه السلام كلها ، ترينا عبودية الإمام لله تعالى وإخلاصه له بما يظهر من فضل الله عليه وتمكنه له من الطاعة ، حتى كان إمام المؤمنين وولي الدين كآبائه الكرام الطيبين الطاهرين وأبناءه المنتجبين صلى الله عليهم وسلم .
 وستأتي يا طيب : أبواب أخرى تعرفنا إمامنا البر التقي المتيقن دين الله بل معلم اليقين والإخلاص ، ونسأل الله أن تهبنا معرفته وهداه ودينه بما يحب ويرضى حتى نقيم لله تعالى بها العبودية مخلصين له الدين ، وجعلنا سبحانه مع من نتولى من أئمتنا الأبرار الطيبين الطاهرين نبينا محمد وآله صلى الله عليهم أجمعين ، إنه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .
 

اللهم أسألك بحق الإمام علي بن موسى الرضا وآله الطيبين الطاهرين اسلك بي صراطهم المستقيم واجعلني معهم في كل هدى ونعيم
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موقع موسوعة صحف الطيبين

 


[1] الكافي ج2ص16باب الإخلاص ح3.
[2] الكافي ج2ص52باب فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان ح5.
[3] وسائل‏ الشيعة ج1ص66ب11ح145 .
[4] وسائل‏ الشيعة ج1ص115ب28ح288.
[5]فقه الإمام الرضا ص379ب105.
[6]فقه الإمام الرضا ص381ب106
[7] الكافي ج2ص55باب التفكر ح4 .
[8] الكافي ج2ص59باب فضل اليقين ح9 .
[9]فقه الإمام الرضا ص380ب106.
[10] عيون‏ أخبار الرضا عليه السلام ج1 ص 131 ح28 .
[11] عيون‏ أخبار الرضا عليه السلام ج1 ص 131 ح27 .
[12] من ‏لا يحضره ‏الفقيه ج1ص195ح598،وتهذيب‏ الأحكام ج2ص 242ب12ح26 .
[13] من ‏لا يحضره ‏الفقيه ج1ص210ح637 . وسائل‏ لشيعة ج4ص43ب12ح4469 الكافي ج 3ص265باب فضل الصلاة ح6.
[14] وسائل‏ الشيعة ج4ص8ب1ح4382 .
[15] وسائل ‏الشيعة ج6ص300ب4 وجوب الذكر في الركوع و السجود ح8023 .
[16] من ‏لا يحضره ‏الفقيه ج1ص310 باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ح926 .
[17] وسائل‏ الشيعة ج6ص217ب27 استحباب ختم القرآن في كل شهر مرة أو في كل سبعة أيام أو في خمسة أو في ثلاثة ح7773 .
[18] ثواب ‏الأعمال ص6 ثواب من قال لا إله إلا الله بشروطها .
[19]ثواب‏ الأعمال ص162 . وسائل الشيعة ج7ص217ب47 استحباب قول لا حول و لا قوة إلا بالله ح 9153.
 
[20] الكافي ج2ص494 باب الصلاة على النبي محمد و أهل بيته ح18. وسائل ‏الشيعة ج7ص201ب41 استحباب الصلاة على محمد و آله كلما ذكر الله ح9110 .
[21] ثواب الأعمال ص156 .
[22] وسائل ‏الشيعة ج7ص194ب34 استحباب الإكثار من الصلاة على محمد و آله عليهم السلام و اختيارها على ما سواها ح9093.
[23] وسائل‏ الشيعة ج7ص203ب42 وجوب الصلاة على النبي كلما ذكر و وجوب الصلاة على آله مع الصلاة عليه ح9118 .
[24] من لا حضره الفقيه ج1ص332باب سجدة الشكر و القول فيهاح970 .
[25] وسائل‏ الشيعة ج7ص5ب1 ح8562.
[26] وسائل‏ الشيعة ج7ص9ب2استحباب إطالة سجدة الشكر وإكثار السجود ح8570 .
[27] وسائل ‏الشيعة ج7ص9ب2 ح8571 .
[28] من ‏لا يحضره ‏الفقيه ج1ص332 باب سجدة الشكر والقول فيها ح973 .
[29] الكافي ج2ص468باب أن الدعاء سلاح المؤمن ح5 .
[30] الكافي ج 2ص469 باب أن الدعاء يرد البلاء و القضاء ح4 . وسائل‏ الشيعة ج7ص36ب7 جواز الدعاء برد البلاء المقدر ح8644
[31] ثواب‏ الأعمال ص160 . الكافي ج2ص476 باب إخفاء الدعاء ح1. وسائل‏ الشيعة ج7ص63ب22  استحباب الدعاء سرا و خفية و اختياره على الدعاء علانية ح8733 .
[32] ثواب الأعمال ص61 . وسائل‏ الشيعة ج7ص116ب43 استحباب الدعاء للمؤمنين و المؤمنات و المسلمين و المسلمات الأحياء منهم و الأموات ح8891 .
[33] وسائل‏ الشيعة ج7ص84ب32 استحباب ملازمة الداعي للصبر و طلب الحلال و طيب المكسب و صلة الرحم و العمل الصالح ح8792 .
[34] وسائل الشيعة ج7ص29ب2 استحباب الإكثار من الدعاء ح8624 .
[35] وسائل‏ الشيعة ج7ص47ب12 استحباب رفع اليدين بالدعاء ح8684 .
[36] الكافي ج2ص579 باب دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا و الآخرة ح9 .
[37] الكافي ج2ص504 باب الاستغفار ح3. وسائل‏ الشيعة ج7ص176باب23 استحباب الإكثار من الاستغفار ح9046 .
[38] الكافي ج2ص542باب الدعاء إذا خرج الإنسان من منزله ح7.
[39] وسائل‏ الشيعة ج7ص103ب37 استحباب التوسل في الدعاء بمحمد و آل محمد ح8853 .
[40] وسائل ‏الشيعة ج7ص142ب64 تأكد استحباب الدعاء للحامل بجعل الحمل ذكرا سويا و غير ذلك ما لم تمض أربعة أشهر ح8951 .
[41]راجع عيون أخبار الرضا ج 2  ص 180 183 ، بحار الأنوارج45ص91ب7ح7. وسائل‏الشيعة  ج4ص55ب13ح4496 ، وروى أقساما منه في الأبواب المناسبة لها .
[42]عيون أخبار الرضا ج 2 ص 184 ، بحار الأنوارج45ص91ب7ح4. وسائل‏الشيعة ج1ص90ب20ح213 .
[43]عيون أخبار الرضا ج 2 ص 183 و 184 ، بحار الأنوارج 45 ص170 ب14 ح7 وص91ب7ح5. وسائل‏ الشيعة ج1ص90ب20ح212 .
[44] وسائل ‏الشيعة ج4ص99ب30ح4618 . وفي ج4ص360ب8ح5392 .
[45]الكهف110 المصدر الكافي ج 3 ص 69 ، بحار الأنوارج45ص104ب7ح30. وسائل‏الشيعة ج1ص476ب47ح1266.
[46] وسائل ‏الشيعة ج1ص478ب47ح1269.
 
[47]الكافي ج 4 ص 181 . بحار الأنوارج45ص105ب7ح33.
[48]عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 224 ، بحار الأنوارج45ص84ب5ح3 .
[49]عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 225 ، كشف الغمة ج 3 ص 137 ، بحار الأنوارج45ص85ب5ح4 .
[50]عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 173 و 174 ، بحار الأنوارج45 ص82ب5ح2 .
[51]مناقب آل أبى طالب ج 4 ص 345 و 346. وقال صاحب البحار رحمه الله : الزبر : الزجر والمنع والانتهار . ويقال :  دمدم عليه : إذا كلمه مغضبا ، والزعق : الصياح ، واستفحل الأمر : أي تفاقم وعظم ، وقاعة الدار : ساحتها ، ولعل المراد أهل الميدان من الأجامرة ، والعثة : العجوز والمرأة البذية والحمقاء ، والرثة : بالكسر المرأة الحمقاء  وفلان رث الهيئة أي سيئ الحال ، وفي مناسبة لفظ السمانة للغباوة والتهتك خفاء إلا أن يقال سمي به لتسمنه من الشر ، ولعله كان سمامة من السم ، والطغام كسحاب أوغاد الناس ، وأسلا دهقان مرو أي أرضاه وكشف همه . بحار الأنوارج45ص84ب5ح2 .

إلى أعلى مقام في الصفحة نورك الله بنور الإمام الرضا وآله الكرام عليهم السلام


تفضل يا طيب إلى الفهرس العام رزقك الله هدى خبر الأنام وخلصك من الظلام