بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين

صحيفة
الأصل الثاني للدين :
العدل الإلهي ( المختصرة )

قال عزّ و جلّ
((وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) الأنعام 115 .


تمهيد : أهمية البحث في العدل الإلهي :
الأول : لماذا صار العدل أصل ديني مستقل :
ثانياً : الإيمان بالعدل الإلهي يحملنا المسؤولية الدينية :
ثالثاً : الله عادل في كل شيء :
وأهم بحوث العدل الإلهي هي :
الأول : لا جبر ولا تفويض :
الثاني : الاستطاعة :
الثالث : علم الله تعالى والفعل الإنساني :
الرابع : القضاء والقدر :
الخامس : الفناء والبقاء :
السادس : الثواب والعقاب _ جزاء الأعمال _ :
البحث السابع : الخير والشر في الوجود .



إلى الأعلى





تمهيد : أهمية البحث في العدل الإلهي :
حبيبي المؤمن بالله : إن من المسائل المهمة التي شغلت المسلمين بل جميع المتدينين على طول التاريخ هي بحوث العدل الإلهي ، وللإطلاع على أهمية بحث العدل الإلهي قبل أن ندخل في مسائله وأهم بحوثه نرجو أن يتم بيانه لجنابكم الطيب في أمور :

الأول : لماذا صار العدل أصل ديني مستقل :
الإنسان بعد أن يؤمن بالله تعالى ويوحده ويعرف بعض الشيء عن تجلي وظهور أسمائه الحسنى وظهورها في عالم الخلق والوجود الإمكاني ، وخلقه سبحانه للخلق المكلف وغير المكلف.
تأتي بعد ذلك أهم مسألة في بحث الإلهيات وهي كيفية ارتباط الخالق بالمخلوق والتي تطرح في مسألة الأسماء الفعلية أو في مسألة التوحيد في الفعل الإلهي ، وهل هو الله تعالى المؤثر وحده في الوجود أم للمخلوق تأثير ، وتثار في هذه المسألة مسألة هل من العدل وجود الاختلاف والتفاوت بالنقص والكمال بين الموجودات ؟
ثم تأتي مسألة الحسن والقبح في الوجود ، و بحوث تختص بمصير الموجودات ، وتتشعب عدة مسائل تنال العلم الإلهي والقضاء والقدر ، وتثار مسائل أخرى مثل ما غاية الخلقة والجبر والتفويض والاستطاعة وكيفية والثواب والعقاب والخير والشر وغيرها من المسائل .
فتخرج هذه البحوث من مسألة الفعل والعلم الإلهي فتحتاج للإجابة عليها بحوث مستقلة ، و لما كان يجمعها هل من العدل وجودها ، يأتي دور بحث العدل الإلهي للإجابة عنها ، هذا .
وبصورة عامة لم يكن كثير بحث حول العدل بالنسبة للموجودات الغير المكلفة ، والبحث بصورة عامة يصب حول الإنسان المكلف وما يؤثر فيه وما يتأثر منه بصورة مباشرة أو غير مباشرة من ناحية علاقته مع خالقه وربه وهاديه ، ومن ناحية خلقته ووجود الإنسان وخواصه وأحواله ومواصفاته ونسبته لمحيطه ومؤثراته وما يقتنيه منه .
وذلك لأن الإنسان بالدرجة الأول هو الباحث عن مبدئه ومصيره ومستقبله ، وما هي علاقته بخالقه ، وإذا حلت المسائل المرتبطة للإنسان في علاقته مع الله تعالى من ناحية المصير تحل جميع المسائل الأخرى للعدل الإلهي مع باقي خلق الله تعالى ، سواء بين الله وبينها أو بين الإنسان وبينها .
وفي مثل هذه المسائل الداخلة تحت بحث العدل الإلهي ومصير الإنسان وعلاقته بخالقة وكثرة المسائل المثارة في بحوثه ؛
اختلاف المسلمين طوائف عدليه ومجبرة ، ودعا الأمر أن يفرد العدل كأصل ديني مستقل تبحث جميع مسائله بدقة وتفصيل حتى يكون الإنسان المؤمن على بصيرة من أمره ، ويعرف هو في أين مع الله في هذه الدنيا والآخرة من ناحية ثوابه وعقابه وجميع أفعاله .



إلى الأعلى





ثانياً : الإيمان بالعدل الإلهي يحملنا المسؤولية الدينية :

يا طيب القلب بعد أن عرفنا أهم بحوث العدل الإلهي بصورة مجملة ، نعرف أن الإنسان إذا عرف أنه يعيش في جميع أحواله وفق العدل الإلهي يعرف مصيره الآن وفي المستقبل ؛ فتطمئن نفسه وتستقر روحه في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء ، ولا يهمه إلا إن يؤدي واجباته الدينية الملقاة على عاتقه ويتحمل مسئوليته الدينية في جميع الأحوال ، ويدافع عن مبادئه ودينه أمام المنحرفين والمستكبرين والمنحرفين والحكام الظالمين ، ويقف أمام اعظم المصائب واكبر بلاء يصيبه في سبيل دينه بإجلال وإكبار .
وفي حالاته العادية يؤدي واجباته الملقاة على عاتقه بأفضل وجه ويتحمل المسؤولية بأحسن صورة ، ولا يلقي تبعات أعماله على القضاء والقدر ، ولا ينسب أخطائه لغيره من أبناء البشر ، ولا يتهم ربه في سوء عاقبته ودنياه بل و في جميع أحواله ، لأنه يعرف أن ذلك لا ينفعه شيء ولا يغير مصيره الذي يكتبه بيده وبأعماله التي هو يختارها وفق مصالحه الدنيوية أو مصالح عقائده الدينية .
والمؤمن بالعدل الإلهي يعرف أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد وسوف يرد له جزاء أعماله وأفعاله كلها ، وإن كل ما يحصل له من العقاب والثواب الدنيوي من الصحة والمرض ومن الغنى والفقر والرفعة والخفض في المقام والجاه أو من اليسر والعسر والأفراح والمصائب أو الأحوال الاجتماعية والثقافية وغيرها كالأخروية من الثواب والعقاب كلها تحت رعاية العدل الإلهي ولو كان بمقدار ذرة يحسب له أو عليه .
وهذا خلاف من لا يعتقد بالعدل من الله فإنه لا يطمئن بمصيره ولا يهتم بدينه ولا يراعي تعاليم ربه ، وينسب قبائح أعماله لله عز وجل ، وإذا تنازل ينسبها للقضاء والقدر أو لمن هم مثله من البشر ، ويبرر أحكام الظالمين والكفار ، ويوجد الأعذار للمنحرفين والفجار ، ولا يقيم وزن لمبدأ ولا يعطي قيمة لعقيدة ولا يلتزم بمسؤولية ولا يهمه الضمير ولا يعتبر الوجدان ، ولا ينظر إلا لمصالحه الدنيوية ويفقد جميع الموازين الإنسانية ، وتكون عنده الغاية تبرر الوسيلة .
فتحصل : إن الإنسان الذي يؤمن بالعدل الإلهي حذر في تعامله في دنياه لا يعمل عمل يلقيه في تهلكة المصير ولا يبرر عمل لمنحرف عن الدين ، ويكون مطمئن بعاقبته في أخراه صابر على بلواه ، لا يجزع من مصيبة ولا تهزه الشدائد ، ويؤدي واجباته الدينية بأحسن وجه ولا يلقي تبعات أعماله الطالحة على غيره ، ولا يتهم ربه بالظلم ولا يلقي تقصيره على غيره ، ويتضح أمامه مصيره ويكون على بصيرة من أمره ، وتطمئن نفسه وتهدأ روحه ويكون مرتاح لحسن عاقبته ويطلب رضى ربه ويتوب من طالح أعماله ويرجوا قبول صالحها .
ونختم هذا التمهيد بمسك فنقول قال تعالى :
((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )) النحل 90 ، هذا هو الله سبحانه يذكرنا أنه يأمر بالعدل وهو الخبير الطيف والعزيز الحكيم لا يأمر بشيء ويفعل ضده من الجور والإساءة لمن لم يرتكبهما كما أنه لا يجبر عليهما وينهى عنهما . هذا .




إلى الأعلى






ثالثاً : الله عادل في كل شيء :

العدل : إعطاء كل الاستحقاق لمستحقه وهو حسن عقلاً وشرعاً وعرفاً ، وضده الظلم منع شيء من الاستحقاق عن مستحقه وهو قبيح عقلاً وشرعاً وعرفاً .
والله سبحانه وتعالى لا أحد يحقه بشيء ولا أحد له عليه حق ، فلذا لا يصدق في حقه أن يظلم أحد .
ولكن الله تعالى أوجب على نفسه حقوق لموجودات وألزم نفسه بعهود ومواثيق لبعض مخلوقاته ، وسن سنن ووضع قوانين ووعد وعود لبعض ما فضل من مخلوقاته ، كان عملها والوفاء بها من العدل الحسن عقلاً وشرعا وعرفاً ، كما أن نقض ما ألزم نفسه به وعمل ضد ما وعده من غير مبرر وهو احكم الحكماء واشرف الموجودات صدقاً وعهد ووعدا غير مناسب لشأنه ولا يتصور من مقامه تعالى علواً كبيرا .
فإعطاء الموجودات كل ما تستحقه وفق الوعد والعهد والقضاء الذي ألزم نفسه به عدل حسن والله تعالى سيفي به حتماً كثواب المحسن وزيادته ، أو إعطاء النبي حتى يرضى وكل المواثيق والعهود والوعد الذي جاء في القرآن وعلى لسان نبيه الكريم سيطبقه ولا يخل بذرة منه كما قال تعالى : (( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )) الزلزال 6-8 .
وقال تعالى
: ((وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) الأنعام 115 .
ثم أن عدم العدل من الله تعالى الذي هو معناه عدم الالتزام بالوعد وعدم الوفاء بالعهد وكل ما ذكره في كتابه العزيز وعلى لسان نبيه الكريم : إما لعدم القدرة أو للندم وخوف النقصان أو للنسيان والجهل أو للظلم أو للتلهي واللعب ، وهذه كلها منفية عنه تعالى ولا تجوز عليه فهو تعالى بيده ملكوت كل شيء وخزائنه ولا يخاف النقصان وله القدرة المطلقة على الوفاء ولا ينسى ولا يجهل شيء تعالى ولا يلعب ولا يتلها ولا يكذب ولا يظلم ، وفي ما ذكرنا آيات كثيرة يمكن الرجوع إليها .
وبعد أن عرفنا بعض الشيء عن معنى العدل وكيفية صدقه في حق الله تعالى ندخل في أهم مواضيعه .


وأهم بحوث العدل الإلهي هي :
الأول : لا جبر ولا تفويض :
الثاني : الاستطاعة :
الثالث : علم الله تعالى والفعل الإنساني :
الرابع : القضاء والقدر :
الخامس : الفناء والبقاء :
السادس : الثواب والعقاب _ جزاء الأعمال _ :
البحث السابع : الخير والشر في الوجود .





إلى الأعلى







البحث الأول : لا جبر ولا تفويض :
في الحقيقة كل إنسان : عندما يتوجه إلى نفسه وضعفه وحاجته وعلاقته مع الله تعالى الذي بيده ملكوت كل شيء وله القدرة المطلقة على كل شيء ، يخطر في ذهن الإنسان المتفكر بل العادي هل هو : مستقل في أفعاله وأقواله ، أم أنه مجبور على جميع ما يفعل و بالقسر والإكراه يفعل جميع أفعاله حتى التي يحاسبه الله تعالى عليها ، أم لا بتلك الصور و لا مثل هذه الصورة بل هو في أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض ( أي لا اختيار مطلق ) ؟
وبعبارة أخرى : هل للإنسان يد واختيار في تقرير مصيره ، وهل جميع أفعاله باختياره المطلق ، أم أنه مجبور على أفعاله حتى التي يحاسبه الله تعالى عليها ، أم هناك معنى ثالث وهو أن تقرير المصير بيده ولكن لا مطلقاً بمعنى أنه هو بعون الله تعالى وبالمدد المستمد منه يفعل الإنسان أفعاله ؟
وبعبارة ثالثه : هل الإنسان ممثل في مسرح الحياة حتى من دون مخرج ؟،
أم الإنسان مشاهد لدنياه فقط لا بل هو آله بيد المخرج ، والممثل هو المخرج ولا دور له في تمثيل مصيره ؟ ، أم الإنسان ممثل مختار مع مخرج مقتدر يثيب ويعاقب على حسن التمثيل وعدمه ويمده بالقوة في كل آن لإتمام دوره في مسرح الحياة بأحسن وجه ممكن ؟
الجواب مختصر :
في الحقيقة الإنسان لا مخير ولا مسير ، ولا مجبور و لا مخير تام الاختيار ، بل هو في أمر بين أمرين بين التخيير التام والجبر فهو لا مجبور ولا مفوض إليه أفعاله ، بل يفعل بالقوة المستمدة من الله تعالى جميع أفعاله باختياره ، ولله القدرة والقيومية عليه حيث يمكنه أن يمنعه ومن الممكن أن يخليه وفعله كما هو الغالب ولا يمنعه من فعل ما أختاره مع أنه يمده بالقدرة والقوة على إتيان جميع أفعاله صالحها وطالحها .
وهذا المعنى يدركه الإنسان بأقل توجه إلى نفسه وبأدنى تدبر في أفعاله ، كما يؤيد هذا المعنى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
ويكفنا من كتاب الله قوله تعالى :
((شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) آل عمران 18 .
فإذا كان الله يشهد على نفسه ويشهد ملائكته أن قائم بالقسط الذي هو العدل كما يُشهد أهل العلم ،
لا يمكن أن يقال أن الله تعالى يجبر الخلق على أفعالهم ثم يعذبهم عليها ، بل لابد أن جعل لهم مخرج بحيث يعملون باختيارهم وبالقوة المستمدة منه تعالى وأن شاء منعهم وإن شاء تركهم يعملون أعمالهم ولا فرق في ذلك سواء كانت صالحة أو طالحة ، لأن ذلك لا يضره ولا ينقص من ملكه وقيوميته وحيطته ، بل يؤكد عظمته وجبروته وقوته وحلمه وأناته ووعده ووعيده وتكليفه للعباد ، ولو كان يكلفهم ثم يعاقبهم وهم مع ذلك مجبورون على أعماله لما كان فعله هذا من القسط والعدل بل ظلم للعباد منه وهذا مستحيل في حقه تعالى حيث :
قال سبحانه
: ((وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )) المؤمنون 62 .
وقال تعالى :
((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ )) يونس 108 .
وقال تعالى
((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ )) فصلت 46 .

ففي الآية الأولى ينفي الله تعالى في كلامه أن يكلف فوق الوسع ولو كان الإنسان مجبور لما كان موسع عليه ، و في الآية الثانية ينسب الاهتداء والظلم للعباد ولو كان هو الذي يجبرهم على الأفعال لما صح نفي الاهتداء و الظلم عن نفسه ونسبته لعباده ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ذكر سبحانه في الآية الثانية أن الإنسان يهتدي لنفسه ويضل عليها ، ولو كان ضال من ابتداء وجوده من غير عمل من الإنسان مخالف لهدايته سبحانه لما صح أن ينسب الضلال للإنسان ، ولو كان الإنسان من أول الأمر مهتدي بحيث لا يستطيع مخالفة اهتدائه لما صح أن ينسب الاهتداء للإنسان .
ويؤيد ما ذكرنا من معنى أن الإنسان بيده يختار مصيره نذكر عدة آيات :
وقال سبحانه (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا )) الشمس 7-10 .
وكل الآيات التي تدعو الإنسان للإيمان وللتفكر والعمل والاهتداء والتكليف والتي تنهاه عن الظلم والجهل والضلال والكفر والنفاق والمحرمات والتي تبين الثواب والعقاب تدل على أن الإنسان مختار في إتيان أي جانب منها
ولو كان مجبور عليها لما صح دعوته إليها ولو كان الفاعل هو الله تعالى لأخرج نفسه من مرتبة الخالق إلى مرتبة المخلوق المكلف تعالى عن ذلك .
و لما مر قلنا لا تصدق تلك المعاني إلا مع كون الإنسان مختار في أفعاله ولكن تحت مشيئة الله وحيطة إرادة الله ليس بخارج عنهما وإن الله أرادا من الإنسان أن يفعل الإنسان بختياره ويعمل بإرادته من غير جبر ، ولهذا قلنا الإنسان لا مجبور ولا تام الاختيار بل هو في أمر بين أمرين أن شاء الله منعه أن يفعل ما اختاره أو يتركه يفعل أفعاله حسب ما اختاره بإرادته وعزمه وتصميمه من غير منع وجبر ، و إرادة الإنسان بإذن الله تعالى وتحت حيطه وقدره أرادته تعالى حيث أراد الله أن يفعل الإنسان أفعاله باختياره وبالقدرة المستمدة منه .

كما أن القول الأول الإنسان مطلق الاختيار ومفوض إليه جمع 'ماله وأفعاله هو إخراج الإنسان عن قدرة الله وسلطانه وحيطته وقيوميته ، وهذا حد لقدرة الله وحط من سلطانه وحيطته وتنافيه جميع الآيات الدالة على الإحاطة والقيومية والقاهرية لله .
وأما كون الإنسان يفعل بالقوة المستمدة من الله في كل حين ولجميع أفعاله وأحواله فإليك بحث الاستطاعة فتدبره مشكواً .




إلى الأعلى




البحث الثاني : الاستطاعة :

قال الله تعالى : ((مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً )) . الإسراء 18 -21 .
في هذه الآيات الكريمة كما أنه تعالى يبين أن إرادة الإنسان للعاجلة والآخرة محكمة ولكن تكون بمد الله وعطائه ، ومن غير مدد الله لا يستطيع الإنسان عمل شيء وبدون إعطائه تعالى لا يمكنه أن يحصل على شيء وهذه من غرر الآيات التي تبين حرية الإنسان المدعومة بالمدد الإلهي في كل خطوة وعمل وآن .
ولو تدبرنا
بآية الكرسي المسماة بسيد آي القرآن لوجدناها تبين معاني في التوحيد والأسماء الحسنى والعدل الإلهي وفعل الله تعالى والقيومية والإحاطة التي له على كل شيء بحيث لا يمكن إلا أن يخرج من تحت قدرته تعالى شيء لا في الجود ولا في الفعل ، وفي نفس الوقت الآيات المرتبطة بها تبين أن للإنسان له أن يختار إما الكفر أو الإيمان من غير جبر ولا قسر ولا منع ، تفكر معي فيها تعرف مكان إرادتك واستطاعتك مع الله تعالى .
قال عزّ وجلّ :
(( اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )) البقرة 255 _ 257 .
والتدبر في الآيات الآتية يكفي لمعرفة أن أفعال الإنسان مستمدة من قدرة الله التي خلقت كل شيء وجوداً وآثاراً مباشرة أو بتوسط فواعلها سواء طبيعية أو مكلفة مختاره تفكر في عظمة الله وأحاطته تعرف ما رمنا من كون كل شيء يفعل بالمدد الإلهي :
قال تعالى
((اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) آل عمران 120 .
وقال سبحانه :
((قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )) الرعد 16
وخلاصة القول في الاستطاعة : يعرف من قوله تعالى (( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) الأنفال 17 .
فالله تعالى في عين انه ينسب القتل إلى نفسه والرمي نعلم أن الرمي وقع فعلاً من المؤمنين ورسول الله ولكن ليعبر سبحانه عن مدده الفعلي وتسديده لعمل المؤمنين وشد عزمهم ونصرهم ، ومثل هذه الآيات توجد آيات التوفي للأنفس المنسوب للملائكة ولنفسه حيث يعتبر فعلهم فعله لأنه بأمره وبالقوة المفاضة منه تعالى مع أن الملائكة يعملون ولا يعصون وغير مكلفين مثل الإنسان الذي قد يطيع وقد يعصي وهو مكلف ومثاب أو معاقب .
وتوجد روايات كثير تبين معنى المدد الإلهي والاستطاعة المكتسبة من الله تعالى لكي يمكن للموجودات أن تفعل أفعاله ومن دون سلب للاختيار من الفاعل المكلف ولا إجبار للإنسان على فعل معين ، وان شاء الله سوف نتوسع في هذا البحث من العدل الإلهي صحيفة العدل في المستقبل .

فتحصل : أن الاستطاعة مكتسبة من الله تعالى : سواء للفعل معه أو قبله لإعداد مقدماته والإنسان وغيره بتوسط القوة التي تعطى له من الله تعالى يفعل أفعاله جميعها ولا يمكنه فعل شيء بدونها ، بل بدون مدد الله الإنسان والوجود يفنى إذا منع عن شيء من الوجود أو أثار الموجود مهما كان منزلته في الوجود سواء كان ملك أو نبي أو إنسان عادي أو جن أو شيطان أو حجر أو شجر الكل بحول الله تعالى وقوته موجودون ويستمر وجودهم و يعملون الأعمال وتصدر منهم الآثار .
وتحصل : أنه قد تعلقت الإرادة الإلهي أن تصدر الأفعال من مبادئها و المسببَات من أسبابها وبالقدرة المستمدة منه في كل آن ، وسوف نذكر تمثيلات جميلة في كيفية المدد الإلهي والاستطاعة في المستقبل في بحث العدل الإلهي الموسع .




إلى الأعلى






البحث الثالث : علم الله تعالى والفعل الإنساني :

هو أن الله تعالى قدر وقضى وقدر جميع ما في الكون سواء الوجود الخارجي أو أفعاله بما في ذلك الإنسان ، إلا أنه قضى على الإنسان أن يفعل أفعاله باختياره ولكن بالمدد المستمد من قدرة الله تعالى في كل لحظة ، وهذه القدرة لله تعالى بحيث له السيطرة على كل موجود وعلى جميع أفعاله ، ولكن خلقه وقدر وقضى له إما أن يكون فاعل طبيعي أو منزه كملك أو مكلف كالإنسان والجن أن يفعل أفعاله ويقضي بوجوده باختياره بعد أن يقيم ويقدر عمله بنفسه وهو الذي يتصور منفعته له سواء بالحق أ بالباطل .
وإعطاء قدره لموجود مع العلم المسبق بالعصيان دليل على عظم قدرته تعالى لا على ضعف السلطنة والقدرة بل يؤكدهما ، ولو كان لا مندوحة للكل الفواعل إلا فعل واحد من غير اختيار لقسم منها كالإنسان الذي هو عصارة الوجود ويكون مجبور كالفاعل الطبيعي ، ولكان يدل على ضعف القدرة الإلهي لا على شدتها ولما صح تكليفه وأمره ببعض الأفعال أو نهيه عن قسم آخر منها .
وعلى هذا العلم الأزلي لله تعالى لا يجبر الإنسان على أفعاله بل يؤكد اختياره ، حيث يعلم الله تعالى أن من مخلوقاته والذي هو الإنسان خلقه يفعل أفعاله باختياره مع كونه يستمد القوة منه ، ولو فعل الإنسان بالإجبار والإكراه من قبله تعالى لكان خلاف علمه الأزلي وهو مستحيل ويستلزم الجهل عليه تعالى عن ذلك علواً كبيرا وإن كان مع ذلك له القدرة على منعه .
ويؤيد هذا المعنى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
وكون علم الله تعالى أزلي بكل شيء يبحث في مسألة العلم الإلهي والأسماء الحسنى حيث لو كان علم الله حادث لكان الله عز وجل محل لحوادث ولكان جاهل بشيء ثم يحصل العلم له وهذا نقص تعالى الله عنه ، وقال تعالى :
((وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )) هود 6 .
وقال تعالى : (
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )) الأنعام 59 .
وقال تعالى
((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ )) ق~ 16 .

وأما لماذا خلق الله تعالى الإنسان وهو يعلم به من الأزل سوف يطيع أو يعصي ويعلم مبدئه ومستقره إما في الجنة أو في النار ؟
أولاً : الله تعالى يخلق مايشاء والوجود من آثار عظمته وقدرته وعلمة .
وثانياً :فهذا ما حكاه الله تعالى في قوله :

(( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ))
التوبة 16 .
وقال عزّ من قائل
(( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )) محمد [ صلى الله عليه وآله وسلم ] 31 .
وقال تعالى :
(( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ )) الملك 1-2 .
وقال تعالى
((وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )) هود 7 .

نعم خلق الله تعالى الإنسان ليظهر مكنونه وينكشف سر عقائده بأعماله ويبين هل أطاع الله تعالى أم لا ، وليتميز الخبيث من الطيب والإنسان الصالح من الطالح بعد ما يأخذ دوره في الحياة ويعتقد بعقائد ويعمل أعمال مقربة لرحمة الله تعالى أو لنقمته باختيار الإنسان من غير جبر ولا تفويض ، والدنيا دار ابتلاء يعني اختبار وامتحان وفيه يكرم الإنسان أو يهان .
فإن المجموعة الأولى من الآيات تبين : إن الله تعالى عالم بكل شيء قبل خلقه وبعده والله يعلم مستقر الإنسان و مستودعه والمجموعة الثانية تبين أن الإنسان خلق للاختبار والامتحان والابتلاء حتى يتميز المؤمن ليسعد في الدنيا والآخرة وليحط الكافر في الدنيا والآخرة ، من غير ظلم من الله تعالى ؛ لأن الإنسان عرفنا يعمل باختياره من غير جبر والعلم الإلهي يؤكد حرية الإنسان للعمل الذي يريده من غير جبر بل تمده قوة الله ويساعده عطاءه و رزقه وكل ما هيئ الله تعالى له من كل شيء مناسب لعيشه ليستكمل به مسيره في الحياة .
فأن علم الله تعالى مثل علم المعلم بالطالب الكسلان والغير مجد والطالب الشاطر المجد ، فإن علم المعلم قبل الامتحان بمصير طلابه لا يغير من نجاحهم ورسوبهم في الامتحان ، كذلك علم الله تعالى لا يغير من مصير الإنسان وأن كان سابق على عمل الإنسان ، وعلم المخرج المقتدر بما سوف يؤديه ممثليه على المسرح لا يغير من جديتهم واستعدادهم ، وعلم كل أستاذ وصانع بتلميذه وعامله وانه سوف يكون له مستقبل فيما يتعلمه أم لا ، وأن كان المعلم والمخرج والأستاذ يحترم المجد والمطيع والذي يستعد لقبول تعاليمه ويطبقها بأحسن وجه ، كذلك الله تعالى يختار من عباده من يشاء ممن علم حسن سيرتهم وفعالهم وهو الخبير اللطيف فيختارهم أنبياء وأوصياء أنبياء وأئمة ويعلمهم ليؤدوا تعاليمه للناس بعد أن يؤيدهم بالمعجزة ويدل عليهم بما تكون له الحجة البالغة على عباده ، فمن قبل منهم يسعد وينال رضاه وينجح ويدخل الجنة ومن يرفضهم ويرسب ويشقى في الدنيا والآخرة وأن كان في ظاهره منعم في الدنيا .
فتحصل إن علم الله الأزلي : متعلق بأن الإنسان سوف يعمل بالقوة المستمدة منه تعالى وبعد أن سخر له ما في السماوات والأرض وأنعم عليه نعم لا تحصى وفضله على كثير من خلقه وبعث إليه الأنبياء ليهدوه ثم اتبعهم بالأوصياء الطيبين والأئمة المطهرون ومن غير جبر ولا إكراه على عمل معين ولا قسر على إيمان أو كفر ، بل الإنسان هو يختار أعماله وفق معتقده وحسب ما يريد من غير منع .
وهذا العلم الأزلي لله تعالى : يؤكد عدل الله ومنته وفضله على العباد ، ويؤيد دليل لا جبر ولا تفويض ، ويبرهن ويقوي القول بأن الإنسان لا مسير ولا مخير بل هو في أمر بين أمرين ، ويثبت شهادة لأولي العلم انه قد تمت كلمات الله قسط وعدلا ولا مبدل لكلمات الله تعالى ، إلا من يدعي أن الإنسان مجبور على فعله فيحرف دين الله تعالى وتعاليمه وكذا من يقول أن الإنسان فوض إليه جميع أعماله فيخرج المخلوق عن قدرة وسلطان خالقه والعياذ بالله تعالى من ذلك .



إلى الأعلى






البحث الرابع : القضاء والقدر :

القضاء : هو الحكم النهائي الحتمي الوقوع للشيء سواء بالصدور والوجود أو بالإنشاء والاعتبار بأن يكون هذا الشي ملك لهذا الشخص ، والقضاء هو وجود المقدر .
و القدر : وهو تقدير وجود الشيء أو فعله وبيان مواصفاته ورسم شكله وحدوده في صفحة العلم ، وهو الهندسة والتصميم السابق على الفعل .
فالتقدير قبل القضاء الوجود ي الخارجي تصوراً ، ولكن لكون القضاء هو غاية التقدير ونهاية التصميم وتحقق هندسة الشيء وهو المرجو وقوعه من التقدير قدم عليه باللفظ والتعبير لان الغرض بالتحقق لا بالعلم وحده .
ولكن لكون علم الله تعالى أزلي وعلمه التفصيلي عين علمه الإجمالي فالتقدير والقضاء وجودهما واحد في علمه تعالى سواء بزمان وجود الموجودات أو أفعالها ولا يغير التقدير القضاء ولا يغير القضاء من التقدير والكل سائر وفق السنن الكونية الحاكمة عليه ولا يغير وقوعها من علم الله تعالى شيء ، إلا أن هناك مسائل أخرى مرتبطة بهذا الكلام سوف نتعرض لها إن شاء في بحث صحيفة العدل الموسعة ولا يسعها هذا المختصر .
وأما في عالم الخلق والوجود الخارجي وتحقق الأشياء في العين الوجودي فكذلك لله قضاء حتمي يتبعه التقدير ثم يأتي قضاء حتمية الوقوع الخارجي ، والبحث في هذا في مسألة علم الله تعالى ، وفي مسألة العرش والكرسي و مراتبهما على اعتبارهما من مراتب ظهور علم الله تعالى وله ومجال آخر نتعرض له في مكانه أن شاء الله تعالى ، وبعد أن عرفنا شيء في المسألة السابقة ( علم الله تعالى واختيار الإنسان ) .
بقي المهم هنا المرتبة الأخيرة من القضاء والقدر وهو حين تحقق الأفعال :
هل إن وجود الموجودات ، وبالخصوص أفعال الإنسان :
هل تم هندستها وتنظيمها وبيان جميع ملابساتها وقضي صدورها على أن تصدر من الإنسان جميع أفعاله وإعماله بالحتم المقضي مسبقاً وفق ما قدر له ولا مندوحة ولا اختيار للإنسان في صدورها ؟
أم أن الهندسة والتقدير المسبق لأفعال الإنسان موكولة للإنسان نفسه وهو يصممها ويخرجها ويقضي بصدورها ولا دور لقوة الله تعالى وعلمه وإرادته في أفعال الإنسان ، بعد أن خلقه أوكل له كل ما يريد لفعله سواء اختيار أو حيل وقوة ونقطع عنه الله تعالى ؟
أم الحق هو المسألة الثالثة وهو أنا نعمل باختيارنا من غير جبر ولا تفوض ، بل بالقدرة المستمدة من فيض الله تعالى ، بمعنى أنا نعمل باختيارنا ونحن نصمم أفعالنا ونقضي بصدورها لكن غير منعزلين عن سلطان الله وعلمه وقدرته ، وبعدنا ولازلنا تحت قيوميته علينا ، ونستمد في كل آن العون والحول والقوة من الله تعالى لكي نستطيع أن نصمم ونهندس ونقضي بصدور أفعالنا .
ولا أعتقد يفوتك معرفة الحق في المسألة : أن الإنسان غير منعزل عن جود الله وعونه وأنه بالاستطاعة المستمدة من حول الله تعالى وقوته يفعل أفعاله من غير جبر ولا إكراه ولا قسر ، كمالا تفوض واختيار تام يخرج الإنسان عن سلطان الله تعالى وقدرته ، بل الإنسان وإن كان يصمم ويهندس فعله ويقدر صدوره ومن ثم يعزم ويقضي بصدور فعله وهو يحتم وجود أعماله وتحققه في الخارج ، لكن الإنسان لا يخرج عن سلطان الله تعالى ولنقل قدره وقضائه ، وذلك لأن قدرة الإنسان على الهندسة والتقدير مستمدة من قدرة الله تعالى ، وعلمه من تعليم الله تعالى الذي علم بالقلم وعلم الإنسان ما لم يعلم ، وكذلك صدور الفعل وإيجاد وعمل الأشياء والحكم والقضاء بوجودها مستمد من قضاء الله تعالى حيث مكن الإنسان على العمل وإيجاد أفعاله باختياره من غير جبر وأن كان بحوله وقوته تعالى .
وإذا عرفنا أن القضاء والقدر الإلهي لا ينافي تقدير الإنسان وقضاءه لوجود أفعاله بل يؤكد اختيار الإنسان ويدعمه ، بل أن الله تعالى قضى على الأنسان وقدر له أن يفعل باختيار وبالحول والقوة المستمدة منه كل ما يريد من غير جبر ولا تفويض ، وللإنسان أن يختار ما يريد من أفعاله وهو يمده بالعون والعطاء المستمر برحمانيته تعالى ليظهر مكنون الإنسان ويستبين استعداده لنيل رحمة الله الأبدية أو انتقامه ، وبالاختبار والامتحان يكرم المرء أو يهان .
وعدل الامتحان أن تُعلم الممتحَن كل ما يجب عليه وتهيئ له كل مستلزماته وأسبابه ثم تختبره وترى هل أدى واجبه أم لا ، والله تعالى نعمه لا تحص وهدايته لا تنكر ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر والله ليس بظلام للعبيد .

وبعد أن عرفنا شيء عن معنى القضاء والقدر ، وعرفنا الحق في أن قضاء الله تعالى وقدره لا يسلب حول الإنسان وقوته بل يمده ويمكنه ويؤكد اختيار الإنسان وقدرته ، لا بد أن نعرف أن لله تعالى تقدير وقضاء في مرتبة عالية وهي ليس مرتبطة بالإنسان بالخصوص وتكليفه بصورة مباشرة بل يشمل الوجود كله وهو تقدير وقضائه تعالى بإيجاد الوجود ومواصفاته وأحواله وأجله وغايته وهذا يبحث قسم منه في مسائل الفعل الإلهي .
كما أن بعض قضاء الله تعالى حاكم على قضاء أخر مثلاً قضى الله تعالى بأن العصيان والذنب يستحق العقاب والشرك والكفر والنفاق يستحق الخلود في النار ولكن قضاء التوبة والرجوع للإسلام والإيمان حاكم عليها ومقدم وينفي موضوع القضاء السابق ، وهكذا قضاء الشفاعة لنبينا محمد وآله وللشهداء وللعلماء ولبعض المؤمنين من محبيهم حاكم على بعض الذنوب كرامة لنبيه لكونهم أطاعوا ما أمرهم الله تعالى من مودتهم وأخذ تعاليم الله تعالى منهم ، وهكذا توجد كثير من الأقضية الأخرى حاكم على قضاء سابق سواء تقدم عليه أو تأخر يجدها من يتتبع أحكام الله تعالى في كتابه الكريم .
كما أن هناك قضاء شرعي وهو يخص التكاليف التي أمر الله تعالى بها مما أوجبه على الإنسان وهي خارجة عن هذا البحث موضوعاً لأنها أمور تشريعية محلولة بفهم ما مر .
كما أن قد يعبر عن خلاصة كل ما مر من البحوث وقد يسمى كل العدل الإلهي بمسألة القضاء والقدر ، وكثير من الناس يعبرون عن عدل الله تعالى بمسألة القضاء والقدر ، وذلك لكون هذه المسائل متداخلة جدا وفهم واحدة منها يفي بفهم الباقي للمتدبر ، وإنما التكثر فيها يأتي من جهة البحث فمرة من جهة الإنسان واختياره فتأتي مسألة الجبر والتفويض والأمر بينهما ، ومرة من جهة استطاعة وحوله وقوته فيأتي بحث الاستطاعة ، ومرة من جهة علم الله تعال وأخرى من جهة تقديره تعالى وقضائه فيأتي بحث القضاء والقدر ، وحسب ما قالوا :
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشيرُ

وخلاصة القول : إن الله صادق في وعده ووعيده وعادل في جزاءه لا يُظلم عنده أحد ولو بمقدار ذرة من الحق وعمله يرجع لصاحبه سواء له أو عليه حقه ، والله تعالى لا يجور في حكمه ولا يحيف في قضائه ، وقد قدر الله تعالى وقضى أن يعمل الإنسان بالحيل والقوة المستمدة منه ووفق ما يختار من الأعمال الصالحة والطالحة بدون منع وإجبار ولا تفويض مطلق يخرجه عن سلطان ربه ، كما انه تعالى قضا وقدر أن يفي بوعده ووعيده وبكل ما ذكره في كتابه من الثواب والعقاب ولا تنقصه المقدرة ولا يأتيه النسيان والجهل ، ومسائل القضاء والقدر متفرعة كثير نكتفي بهذا المقدار منها لكي لا نخرج عن الاختصار .



إلى الأعلى







البحث الخامس : الفناء والبقاء :
وخلاصة البحث : هو أن الإنسان بعد أن ينظر في وجوده فإنه يحب البقاء والخلود ، ويود أن يكون له استمرار في الحياة ، كما انه يخاف من الموت والفناء ، وقد يستشكل على وجود الموت يقول ليس من العدل أن يوجد مفكر الوجود الإمكاني وأعقله وأجمل مخلوقاته وأحسنه ؛ ثم يهرم ويموت ويفنى وكأنه لم يكن كباقي الموجودات الغير عاقلة ، فلماذا هذا العناء والتعب في خضم الحياة من الصغر إلى الكبر والموت والفناء ؟ .
وأما المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخرة بمجرد التدبر في الوجود و بما أخبره الله تعالى في القرآن الكريم والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، يعلم الإنسان إنه خلق للبقاء وليس للفناء ويكون جوابه حاضر بأن :
الإنسان خلق في الدنيا لكي يستعد للدخول للدار الآخرة والاستقرار فيها ، وأنه بالموت ينتقل من دار إلى دار وسوف يحاسب على جميع أفعاله ، والدنيا رحم الآخرة بالنسبة للإنسان ، ولكن عليه أن يفعل الأفعال الصالحة باختياره ويقيم حقيقة العبودية لله تعالى بالطريق الصحيح ، حسب ما أمره الله تعالى
.
فلهذا ترى المؤمن مطمئن بالحياة الدنيا وأنه سيحصل على السعادة في الآخر ويحصد نتيجة أعماله الصالحة ولا يخاف الموت مثل ما يخافه الكافر ، ويعلم شيء عما سيلاقيه وليس بغافل ولا متغافل عن مصيره ، وإن كان يخاف عدل الله حيث لا يطيقه شيء ، لكنه يرجو فضله وكرمه الذي أدخله في عدله بالوعد والوعيد كرامة لأوليائه وبالخصوص الشفاعة لنبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين حيث قال تعالى ((وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى )) الضحى 4-5 ولا توجد كرامة في الدنيا ولا في الآخرة مثلها ، فنبينا لا يرض محب الله ومحب آل بيته وتابعهم أن يدخل النار لذنوب قليلة نسي التوبة عنها من غير إصرار كما لا يرضى لمبغض آله ومحب أعدائهم أن يدخل الجنة .

وقد قضى له الله تعالى وحكم قضاءه لنبيه على كل قضاء حباً له ولإخلاصه قد شنأ الله مبغضيه وأبعدهم وجعل بغضه وبغض آله من بغض الله تعالى ومعصية لا يفوقها معصية الكفر والنفاق لأن الكافر لم يؤمن ولم يعتني بالإيمان فحسب ولكن لم يبغض الله وقد لا يخطر وجود الله في ذهنه حتى يبغضه وهذا خلاف مبغض النبي وآله حيث يؤدي بغضه هذا ونصبه العداء لهم إلى بغض الله تعالى .
وعلى هذا لا يحق للإنسان أن يستشكل ويقول لماذا خلق ، وما الفائدة من وجوده إذا كان مصيره الفناء ، ولماذا هذا العناء والتعب في هذه الحياة وهل من العدل يوجد الإنسان ثم يموت ويفنى ؟ ، حيث إنه لا فناء بل خلق الإنسان للبقاء و الله تعالى سيكرم أوليائه وأحبائه وعباده الصالحين ، ومن اختار الكفر والنفاق والضلال والعصيان لا يحق له أن يستشكل ، لأن حجة الله قائمه وبراهينه في عدله وقدره وقضائه محكمه لا يفوتها العاقل والمنصف بدون اعتبار إلا من أغتر بالحياة الدنيا وتبع هواه وتغطرس وباع حضه بالثمن الأوكس .



إلى الأعلى






البحث السادس : الثواب والعقاب _ جزاء الأعمال _ :

في الحقيقة لأعمال الإنسان عدة أنواع من الآثار والنتائج : إلا أن المهم منها هو جزاء الأعمال في الآخرة ، وهو لماذا على هذه الأعمال المعدودة والتي تعد بالسنين يكون الجزاء الكثير في الآخرة وعلى نحو الخلود ؟.
ولماذا الجنة التي عرضها السماوات والأرض للمطيع والخلود بالنار التي تشوي الوجوه للعاصي ؟ فهل من العدل أن يعطى من يطيع سنوات معدودة الخلود في النعيم ، ومن عصى أيام معدودة أن يخلد في النار ؟
والجواب : يعرف بأقل تدبر في الوجود والتفكر في حالات النظام الاجتماعي فيه ، وهو من يقترب من الرياض والبساتين والمناطق الجميلة ينتعش ويفرح ومن يقرر السكنى فيها يعيش و يموت ويدفن فيها ، ومن يختار الانتحار بالدخول والسكنى في براكين الدنيا يحترق فيها ويموت فيها ويقبر فيها ، والإنسان بأعماله الصالحة يكون من النوع الأول وبالأعمال الطالحة يكون من النوع الثاني .
وهكذا من يتقرب بالطاعات ويود ويتزلف ويبين إخلاصه من ملك الملوك بحبه وحب أولياءه سوف ملك الملوك يرضى عنه ويحبه فينعم بنعيمه ويعطيه من ملكه ما يحب ويقربه إليه ، ومن يخرج عن طاعة ملك الملوك ويتمرد على أوامره ويعصيه ويدعو الناس لعصيانه ويعادي أوليائه ويحب أعدائه فإنه يستحق حرمانه وأن يوضع في أتعس سجونه المظلمة المنتنة .
والإنسان بالاختيار كما عرفنا له أن يختار أن يعيش في بستان ملك المملوك أو أن يعيش طول عمره خالدا في سجنه الناري المنتن .

وطول الثواب وكثرته يعتمد على النية التي يقرر الإنسان بها أن يطيع ملك يوم الدين ما عاش حتى لو خلد في الحياة فيستحق الخلود في نعيمه وقد دل صدقه على نيته بما فعله في أيام الاختبار والامتحان في أيام الدنيا ، وهكذا طول العقاب للعاصي حيث يستحق على نيته على عدم الطاعة و ارتكابه المعصية طول حياته حتى لو خلد في الحياة وقد ثبت سوء نيته في الدنيا حيث لم يطع مولاه فاستحق عقابه ودخول ناره بما اختياره . وعلى كل حال إنما هي أعمال الإنسان ترد إليه .

ويؤيد هذا المعنى القرآن الكريم والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
قال تعالى
(( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ )) القمر 47 - 55 ، وآيات القرآن جميعها تدعوا لهذا المعنى وكذا السنة المطهرة راجع بحوث المعاد تجد معنى ما ذكرنا ، والبحث في المعاد لا يبحث هل من العدل الثواب والعقاب وكثرته وقلته والتوبة والشفاعة بل يذكر أدلة المعاد وتفاصله ، فالبحث هنا غير البحث هناك فتدبر رزقنا الله وإياك حسن العاقبة .




إلى الأعلى





البحث السابع : الخير والشر في الوجود .
بعد أن يعرف الإنسان أن ثواب الله تعالى وعقابه عين العدل قد يخطر في ذهنه لماذا هذا التفاوت في الخلقة حسن وسوء وجمال وقبح ؟
ولماذا تقع البراكين الزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية والمصائب العامة ؟
ولماذا هذا التفاوت الطبقي والفقر والغنى ولماذا الأمراض والمحن الشخصية للإنسان بصورة خاصة ؟
والجواب المختصر :
للأسئلة الثلاثة فهو :
أما الأول : هو إن جمع ما خلق الله في الوجود حسن والتفاوت بالحسن والقبح هو بالمقايسة بين وجود ووجود ، والتفاوت بينها والاختلاف في المقومات و الخواص هو الذي بها تتميز الموجودات وإلا كانت كلها شيء واحد ، وهذا الأمر ضروري لإيجاد الموجودات واستمرارها واستفادة أحدها من الآخر لإدامة حياتها وتداوم نسلها ، لو كان كل الموجودات بشكل شجرة واحدة لما عرفة عظمة الله ولا جمال الخلقة ، ولو كان الناس كلهم بجمال إنسان واحد ومواصفاته لما تمايزوا ولما عرف الأب أبنه ولا الزوجة زوجها وهكذا .
وإما الثاني والثالث : من الكوارث العامة والخاصة بالنسبة للإنسان حيث هو المهم في البحث ، هو لزيادة ثواب المطيع ولسرعة عقاب العاصي ، وليتم اختبار المطيع ولتعرف صدق نيته على تداوم الطاعة في جميع الأحوال ، ولتنبيه العاصي على أن عقاب الله تعالى شديد لعله يرجع ويتوب ويطيع وأن لم يطيع فهو أحق بها .
وإذا عرفت هذا تعرف أن الغنى والصحة لتمكين المطيع على الطاعة ، ولإتمام الحجة على العاصي حتى لا يقول لم أستطع الطاعة لأني غير متمكن منها .

كما أن ثواب التفاوت والاختلاف في جمع المواصفات
سواء جمال أو قبح أو صحة أو مرض أو غنى أو فقر أو جاه ومقام محفوظ مقياسه في العدل الإلهي ومحسوب تقديره وقضائه لا ظلم لأحد نالته منقصة بسب الخلقة أو حطام الدنيا ، وهي وللحاجة والنقص لها حسابها كما لشدة الإيمان ونقص مرتبته له حسابه ومقامه عند الله تعالى ، فإيمان الأنبياء اشد من غيرهم وأعلى مرتبة ولهذا كان في الجنة درجات ومقامات متفاوتة للمؤمنين حسب إيمانهم ، و كذلك لأهل النار دركات وانحطاط لأسفل سافلين حسب كفرهم وشدة عصيانهم وعناده لأمر الله تعالى ، والأمر بالكفر والفسوق والعصيان ليس مثل كافر بنفسه لم يضل أحد غيره .
فالمعدوم والفقير ليس حسابه مثل الغني ولا العالم حسابه مثل الجاهل ، ولا المعافى مثل المريض ولا المصاب مثل المترف ، فلكل شيء محصى ومحسوب ما له من الأجر وما له من الجزاء المناسب له ولبعض المصائب والبلايا ثوب قد يفوق ثواب بعض الواجبات إذا صبر عليه واحتسبها الإنسان عند الله .
هذه أهم بحوث العدل الإلهي في مختصر هذا البحث على أن نعود معكم في المستقبل بجواب مفصل وبحوث معمقة في هذه المباحث وما يتفرع عليها مما تتعلق بالعدل لإلهي أن شاء الله في الصفحة الرئيسية في موضوع العدل الإلهي .
وكخاتمة مسك لبحث العدل الإلهي نذكر سورة الإنسان ( الدهر ) وإنه كان نزولها باتفاق المسلمين بآل نبينا محمد وأهل بيته فاطمة وبعلها علي وابنيها الحسن الحسين حيث صاموا وفاء لنذر نذروه ثم أعطوا إفطارهم لمسكين وليتيم ولأسير ؛ فبين الله تعالى فضلهم في هذه السورة وقوة وشدة العمل الذي قاموا به حتى افرد لهم سورة يعتد بطولها بالنسبة لحجم القرآن وكثرة مواضيعه وأهدافه ، ويبين سبحانه وتعالى أن لآل البيت شأن هداية الناس لسبب إخلاصهم في أعمالهم مع ما لهم من المقام العالي في الجنة ، وإنك لتجد فيها خلاصة مباحث العدل الإلهي جميعها ، تدبر فيها تعرف عدل الله في خلقه وفضله وتمكينهم وإعطائهم حرية الاختيار وحكومة القضاء وما يتعلق بالجزاء :
وقد قال تعالى في سورة الإنسان - سورة 76 - عدد آياتها 31
(( بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا
إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا
وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا
وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا
قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا
إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا
وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )) .
تدبر فيها تجد كيف أكرم الله خاصة أولياءه الذين أوكل إليهم تعليم الناس لما علم منهم الإخلاص وبين مقامهم في الآخرة ، وبين كيف سوف يعذب من لم يطعهم ويستخف باليوم الثقيل يوم الحساب في يوم القيامة ، ومبين إن الإنسان يشاء بمدد الله إذا أعطاه .
هذا ،
ولم نذكر هنا الروايات الباحثة في العدل الإلهي مع كثرتها روماً للاختصار على أن نتحفكم بها في المستقبل إن شاء الله .


مع تحيات أخوكم في الله
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري




إلى الأعلى