بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في أصول الدين وسيرة المعصومين
صحيفة التوحيد الإلهي / الثانية / للكاملين

التحكم بالصفحة + = -

تكبير النص وتصغيره


لون النص

أحمر أزرق أخضر أصفر
أسود أبيض برتقالي رمادي

لون الخلفية


النص المفضل

لون النص والصفحة
حجم النص

الباب الثاني
أدلة توحيد الله تعالى المتقنة وبراهينه المحكمة



الذكر الأول

برهان نور الفطرة الداعية لمعرفة الله وتوحيده

فيه مشارق نور تهدينا الإيمان بالله والإقرار بتوحيده بكل اطمئنان إن شاء الله :
 

الإشراق الأول :

 الفطرة المغروسة في أعماق الإنسان تطلب الكمال :

يا طيب : إن بحث الإنسان وتوجهه لمعرفة الخالق القادر على كل شيء أمر وجداني ذاتي ، مجبولة عليه فطرته التي خُلق بها ، ومغروسة في ذاته الطبيعية التكوينية والنفسية والعقلية والفكرية التي تنموا في وجوده وتتكامل معه .

 وذلك لأنه : خُلق الإنسان بطبيعته وذاته ، إنسان باحث عن الكمال ومبتعد عن النقص ، وإنه يرى كل شيء في الوجود له نفس خصائصه في طلب الكمال ، ويراه مستكمل بعد نقص ، ويسعى لأن يكون في أحسن حالة ممكنة ووضع مناسب ، ويرفض كل مُنفر ويبتعد عن النقص والحاجة ، ويحاول أن يجلب كل ما يساعده على البقاء والاستمرار بكل صورة ممكنة إن أستطاع .

وهذه السجية لطلب الكمال : وضعها في الموجودات خالقها وموجدها الذي أتقن كل شيء صنعه وحسّنه ، ويُعرف هذا بالتوجه لكل شيء في الوجود وأحواله فتراه يطلب الكمال ، ولا يحتاج لجهد لمعرفة هذه الحقيقة ، فإنك بأقل توجه لأي موجود : من الجماد وعناصره وتعاونه في تركيبه حتى تتوفر له ظروف جيدة فيتكون منه النبات ، ثم الحيوان ، والإنسان المفضل ، والإنسان لما كان أكمل الموجودات الأرضية وأكرمها ، فإنه من أول يومه يطلب الكمال ويحب الترقي في الوجود بكل أبعاده المادية والمعنوية والعلمية ، ويظهره فيه البحث عن الكمال بشكل جلي بكل تصرف له ، وتعرفه حين التدبر بصفاته وأحواله بأنه له شعور وعقل وناطق متفكر ومتحرك عن اختيار وبالإرادة ، وعنده العزم الذي يسبقه التصور والتصديق والحب والشوق لما يراه نافع له ومفيد ، فيتحرك لطبه ويحاول جذبه إليه والاستفادة منه بأحسن صورة ممكن وحسب تعقله وغرضه .

وإذا كان الإنسان : وهو أكمل الموجودات يطلب الكمال المطلق الذي لا نقص فيه ، وهو لا يمكن أن يمنحه لنفسه فضلاً من أن يمنحه له من هو أقل منه من الموجودات ، فتراه يتوجه لواهب الكمال لكل شيء وموجده ، ويحاول أن يقترب منه لينال منه الكمال والنعيم وكل خير وبركه وفضيلة ، ليسعد ويستقر في راحة واطمئنان عند رضاه عليه ، ولكل إنسان له رب كمال يطلبه منه .

 

الإشراق الثاني :

الإنسان العاقل يطلب الكمال من الله تعالى :

إن الله تعالى : هو الكمال والجمال والجلال المطلق ، وهو واهب الكمال لكل شيء وهاديه لكل خير ، فهو سبحانه الخالق والمدبر لكل شيء ومعطيه هداه ، وكل ما يديم به وجوده وما يستمر به للوصول لغايته بأحسن صورة ممكنة ، وعنده يستقر بحث كل طالب كمال وجمال وخير وفضيلة وعز وكرامة ، ولما عند الله تقر نفس الإنسان الطيب ، وكل طالب بحق لنعيم مادي أو هداية معنوية ، أو لنظم حياة سعيدة حقا بكل صورها لفرد أو لأسرة أو لمجتمع أو لدولة ، وذلك لأنه سبحانه هو الخالق والمدبر والرب الهادي ، وهو حكيم في خلقه ، وإن من يتوجه له سبحانه يتوجه لمطلق الكمال من العالم الخبير والقادر الواسع ، والمنعم الفرد الصمد والواحد الأحد ، والذي لا مانع من فيضه ولا مزاحم في إنزال نعمه وهداه لمن يستحقه من خلقة ، ولأنه تعالى هو الموجد للوجود وهاديه ومعطي كل بركة ونعمة وكمال ، وساد نقص كل محتاج في هذا الكون الواسع .

وإذا عرفنا الله تعالى : بهذه الأوصاف يجب أن نطلب المزيد منه لا من غيره ، وهذا شأن كل الوجود ، فتراه يشكر الله ، ويعبده ويسجد له ويسبحه بوجوده وحسب حاله ، ويخضع له لتنزل عليه نعمه فترفعه في أعلى مراتب الكمال والجمال والمجد والنعيم ، وسواء في ذلك كانت الموجودات الكونية الطالبة للكمال بنفس وجودها وبحال تكوينها ، أو الإنسان الطالب للكمال التكويني والتشريعي بنفس حاله ومقاله وعبوديته ، وبحق رافضا للنقص وللحاجة.

 وللإنسان : بالإضافة للهداية والنعيم الكوني وهبه الله تعالى الكمال والهدى التشريعي ، والذي فيه كل بركة وخير وفضيلة وكرامة ، وقد قال تعالى : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }إبراهيم34 سواء السؤال الحالي التكويني ، أو الهدى والتعاليم والقوانين التي تحكم بين الناس بالعدل والإحسان وتدعو له ، وإنه من يتدبرها يرى فيها كل نور يسير بالناس على صراط مستقيم لأفضل هدى ونعيم .

ويا أخي إن هذا البحث : عن الكمال التام الواقعي الصادق ، يكون من الإنسان العاقل الواعي الطيب وذو الفطرة السليمة ، هو في الحقيقة بحث عن الخالق ، وعن معطي نعمة الوجود وكماله وهداه ، فيبحث عنه ليعرفه وليتقرب منه وليتزلف لديه بما يحب ، وليعطيه من فيضه ونعمه ما يسعده ، ولينعمه بأحسن صورة ممكنة ، ولكي يشكره على ما أعطاه منه .

وبحث الإنسان العاقل المتزن : عن واهب الكمال الحقيقي والواقعي الصادق والمحسن عليه بكل خير ونعمة ، وحب التعرف عليه والإيمان به والتقرب منه لينال رضاه ، وكل خير وبركة وكرامة وعز عنده ، وهدى ونور أُنزل منه .

هو يا أخي كما عرفت أمرا فطريا : مجبول عليه الإنسان في ذاته وباحث عنه بنفسه ومن غير احتياج لتعليم ، وهو من موهبة الله في خِلقت الإنسان ومن عطاياه في تكوينه الذاتي له ، ويجده الإنسان بأدنى توجه لحاله ، ولأوضاعه بالنسبة للوجود وما يحتاج له منه في الهداية التكوينية والتشريعية ونعيمهما .

 

الإشراق الثالث :

كل البشر  يطلبون الكمال من الله تعالى بفطرتهم وباختيارهم :

يا طيب : تدبر في أي فرد من البشر ، وفي جميع أدوار التأريخ ، وفي جميع بقاع الأرض ؛ تراها يحب أن يعبد إله ورب يطلب منه الكمال وكل خير وبركة ، وإن كل البشر وكل فرد فيهم بدون استثناء لهم إله ورب منه يحبون أن يسدوا النقص والحاجة الموجودة عندهم ، وقد دلت على هذا الآثار وما بقي من الأديان بين الناس تبرهن على ذلك ، ولا تجد منهم اليوم أمّة إلا ولها إله تعبده وترى عنده الكمال وإنه يسد للنقص والحاجة ، وتدبر حال كل فرد في هذا الزمان بما سنبينه من التدبر ترى له رب وإله يعبده ويجعل كل همته في طاعته ، وما ذلك إلا لكون حب البحث عن مكمل لوجوده وساد للنقص حالة مغروسة في فطرة الناس ، وإنها قد جبلت عليها طبيعتهم ، وعنده يستقرون لتحصيل كمالهم .

  وقال الله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا

فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا

لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } الروم 30 ، والفطرة : هي الخِلقة التي جُبل عليها وجود الناس .

 والفطرة : هي طبيعة الشيء وذات الموجودات المحبة لمعرفة الخالق ، والطالبة لشكره وبالخصوص في بني البشر ، وبها وجُدوا وفُطروا وفُلق تكوينهم ، وهذه الآيات منه تعالى إرشاد ودليل يبين لنا به حقيقة ما مزروع في ذواتنا وكيفية حقيقة وجودنا ، وأنه سبحانه هو الخالق والهادي لمعرفته ولتوحيده بما زرع في وجود الخلق ، وفي حقائق تكوينهم ، وبها يتم طلب حبه وعبوديته ، ويدل على وجوب شكره .

ولكن يا طيب : إن طلبه سبحانه لعبوديته وطاعته وشكره بالاختيار من بني الإنسان لا بالإجبار ، ولذا قد يتخلف العباد ، ويُعصى فلا يطاع من بعضهم ، ولكن لا لعجزه ولا لعدم قدرة ، ولا لعدم تدبير منه ، بل يريد أن يبين عظمته وقدرته على الإعطاء والمن حتى على من يشرك ويكفر به فيمهله ويختبره ، وإن أصر يحرمه ويجعله يشتعل في نار الحاجة والنقص في الآخرة ، وهذا عدم الحرمان في حين العصيان منه تعالى تفضل وكرامة للإنسان الظلوم ، واستدراج وإتمام حجة على غير الشاكر للمنعم عليه نعم لا تحصى ، وحتى لا يبقى له عذر حين قطع نعمه ومدده وكل شيء يكرمه به حين أجله وبعده .

وقد قال سبحانه : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ  (137)

 فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } البقرة 138.

والصبغة : هي نفس الفطرة والخلقة الباحثة عن إله تحب أن تعبده ، وتود أن تشكره على هداه وخيره ، وعلى ما وهب لها من الوجود ونعيمه ، ولتطلب منه المزيد بل الدائم والخالد الباقي ، وليُبعد عنها كل نقص وحاجة وفقر نفرت منه ورفضته ، وتخاف أن يصيبها في العاجل والأجل .

وهذا معناه : إن الإنسان بالفطرة وبالطبيعة وبالسجية الذاتية يطلب الكمال الحقيقي الواقعي الصادق ، ومن إله له الكمال والجمال والهادي المطلق سبحانه وتعالى ، وسؤاله ودعوته للإيمان به هو ليعطيه كل ما يتكامل به ويهديه للصراط المستقيم والنعيم الحقيقي ، سواء نعيم الكمال : في الهداية التكوينية الوجودية حيث سخر لنا كل شيء لنشكره عليها ، ولنستزيد من خيره ونعيمه وبركاته ، أو نعيم الكمال في الهداية التشريعية المتعلقة بمعرفته والتسليم له وإيماننا به وتوحيده ، ومعرفة ما بعث من الأنبياء والرسل ، وما جعل لهم من الأوصياء المحافظين على تعاليمه التي فيها كل خير وبركة وفضيلة ، وهدى ونور يوصلنا لسعادة الدنيا والآخرة ونعيمها الدائم ، وهذا بنفسه معناه حقيقة دفع كل نقص وحاجة وفقر نخافه وننفر منه ، وهذه حقيقة الفطرة ودعوة الله لنا لنرجع لأنفسنا فنستخبرها لتطلب الكرامة الدائمة والنعيم المحقق من صاحب الكمال المطلق.

 

الإشراق الرابع :

الإنسان المنحرف عن الفطرة السليمة يطلب الكمال المادي :

ويا أخي : فإن  كل من ينحرف : عن طلب الكمال والسعادة والخير والبركة من الكامل المطلق الواهب لكل خير وكمال ، ويطلبه من غيره ؛ فهو منحرف عن الصراط المستقيم والتعقل السليم ، ومتنكر لوجدانه حيث ترك المنعم الحقيقي والكمال الواقعي من الرب الحق الخالق لكل شيء والهادي له ، ويطلب الكمال وما يسد حاجته ويتمم نقصه من مخلوق مثله ، أو من خيال ووهم غير واقعي وليس بصادق ، وذلك لأن المخلوق يعجز مهما كان عن إعطاء الكمال الدائم والنعيم المقيم الذي لا ينغصه شيء لنفسه ، فكيف يعطيه لغيره ، وفاقد الشيء لا يعطيه .

والإنسان المنحرف : عن الله الواهب لكل خير وبركة وهدى وكمال ، فهو يطلب الكمال من إله غيره ، وهو في الحقيقة له إله يعبده ويتبعه ويتملق له ويطلب منه الكمال والسعادة شاء أم أبى ، وهو همه وغمه وفرحه وحزنه ، سواء يطلب الكمال من إنسان امرأة كانت أو رجل غير الله يقدسه ويحترمه أكثر من الله ، أو جماد مادي من زينة الحياة الدنيا كبيت أو بستان أو سيارة أو دراجة ، أو مُلهي من صوت وطرب ومسكر أو كومبيوتر أو برنامج أو لعبة ، أو غيرهما من حب الظهور والأمور النفسية الداعية له للتعلق ببعض الأمور المادية ، من طمع وحرص وعجب ، أو تكبر وخيلاء وغرور ووهم وشهوة وغضب وحقد ، أو شيطان يوسوس له ونفس تسول له إن الكمال والراحة في الطلب والسعي وراء زينة الحياة الدنيا فقط ، وبالحفاظ على ما أكتسبه منها ، ولو مع المعصية لله تعالى ، وعدم التوجه له بل إنكاره ورفض حتى الإيمان به أو عدم طاعته فقط.

 

الإشراق الخامس : من يطلب الكمال المادي فاقد للقيم الحقيقية :

يا طيب : إن من يعبد ويطلب الكمال : من شهوات وهوى وجماد ويراه فيه ، فهو قيمه ومبدئه واعتقاده ، وإيمانه على قدر تعلقه بها ، مع أنه ليس فيها كمال حقيقي ، وهو في الحقيقة يعبد هوى وشهوة وزينة دنيا جامدة ، ويطلب الكمال ويراه فيهم ، وهم الرافعون لنقصه ولحاجته ، ومثل هذه الأمور ليس لديها تعاليم ومعارف نافعة ترتقي بالإنسان في الهدى والسير على الصراط المستقيم ، وفي الكرامة والعز والفضيلة الحقيقية ، بل هو في ذل عبادة المادة وحكومة الغاب ، ووسيلته ليس العدل والإحسان والبر والتقى ، بل القوي يأكل الضعيف ، والغاية تبرر الوسيلة ، والخداع والغش والظلم والقهر ، وهذه فيها هدم للمجتمع وللأسرة وللفرد نفسه ، والسير في طريق وهمي ضال ، ومع عدم الاطمئنان بالحاضر ولا بالمستقبل ، ولا استقرار لا للقوي ولا للضعيف ، لأنه في معركة طالب ومطلوب ، وبهذا يكون فاقد الإنسان للراحة وإن حسب أنه حصل على شيء من ملاذها وشهواتها ، من إنسان أو من جماد الكون المصنع والمزين ، ولو كان بغصب الغير حقه ، أو السعي له طول العمر حتى يحصل عليه ، ولو يفقد زهرة شبابه بل كل عمره في طلبه وصرفه وهجره عند الكبر .

 فمن ترك الله : الذي له الكمال المطلق ، وطلب الكمال من شهوات نفسه وهواه أو من إنسان ومادة وزينة الحياة الدنيا ، فهو وإن اعتبر نفسه غير عابد لها ولا مسئول أمامها ، ولكنه كاذب لأن نفس سعيه للحصول عليها عبادة لها ، ونفس دفاعه عنها جهاد من أجلها ، ونفس المحافظة عليها دعاء وتوسل لها وبها ، ليبقى شيء منها عنده ويسعى لأن لا يفقده .

والسعي للحصول على زينة الدنيا والشهوات النفسية : في الحقيقة هو بعينه اعتقاد بمكمل له يعبده ، وهما إلهه له ، ولكن لا يعرفه بحق المعرفة ولا عُرف له ، فهو في متاهة التفكير وضلال تسويف النفس ووسوسة الشيطان ، وفكره مظلم من غير نور يهديه في سبيله للصراط المستقيم ، وهو غافل عن الحق ، ومصر على إنكار الكمال الواقعي ، وفاقد لليقين في شيء له قيم عالية ومبادئ سامية ، والتباعد عن التعقل لفقدانه لما يبعث السكينة والاطمئنان في نفسه وأسرته ومجتمعه .

 

الإشراق السادس : لا كمال حقيقي في الأمور المادية :

وعليه يا طيب إن كل من يصر : على عناد فطرته وسجيته وما وهبه الله من البحث عن الكمال الحقيقي ، ويعاند نفسه وتعاليم خالقه الحق وهادية للصراط المستقيم ، فمهما حصل على شيء من زينة الدنيا المادية والشهوات ، وأن حسب ما يحصل عليه كمال ، ولو أقر إنه آني وهمي ، وقبل في قرار نفسه إنه زائل ، وبعده الحرمان وفقدان كل ما سعى من أجله وأتعب نفسه وفكره وبدنه في تحصيله ، وإنه سيذهب عنه ويتركه ويضل سعيه وتعبه في الحياة الدنيا ، ولكنه مع ذلك يقول إنه رجح اللذة العاجلة ، والفخر بما يملكه ، والراحة المؤقتة فيما يقتنه على ما هو فيه راحة البال للروح الأبدي ، وما فيه اطمئنان النفس والنعيم الدائم في تحصيله وبذله .

 ففي  الحقيقة :  من يطلب الكمال في المادة والشهوات والهوى تغافل إنه فضلاً عن فقدانه العاجل لها ، لكونه في سعي دائم لتحصيلها ، والفكر بها وبالمزيد منها ، وبالمحفاظ عليهأ ، هو في حقيقته عبادته لها ، ولم يستفيد منها حق الاستفادة ولا مع الراحة الحقيقية ولا الاطمئنان بها ، لأنه مشغول طول وقته بها لتحصيلها ، ولم يكن له الفراغ الكافي والفكر الصافي للراحة الواقعية فيها ، وإنه كان ما حصل عليه قيمة حقيقته وثمن روحه وشبابه وكل شأنه ، فما أقتناه من أجل الدنيا لا بقاء له عند الله وهو كل قيمه ومبادئه واعتقاده ودينه .

كما أنه تغافل : عن كونه لا عز فيه ولا كرامة ولا أخلاق سامية واقعية بدون الإيمان بالله ودينه ، ولا قيم له ومبادئ وعقائد صادقة تهدي للخير والفضيلة بدون المعارف الربانية ، وهذا نفسه سلب للاطمئنان وللراحة ، وهو فقدان لما سعى من أجله ، ولم تستقر روحه وبحثه عند الحصول على شيء منه ، بل يطمع بالمزيد منه وبالكمال الدائم الذي ليس له ، والنعيم المقيم المفقود فيه ، وهذا واقعه وحقيقية التي لا تنكر ، وشاء أم أبى الإقرار بها ، وإن لم يكن يحسب إن في ما يجمعه ويسعى له خلوده ودوامه ونعيمه ، ولا كماله المطلق وسد الحاجة التامة الأبدية لما يطلب من البقاء ولا سعادة وراحة وسرور بعد زمن قصير أو لا.

فتدبر يا أخي : كل من يسعى للدنيا وللشهوات ولامتلاكها ، فتراه في سعي وعبودية لها حتى حين عجزه وشيبه ، وحين عدم تمكنه الاستفادة الحقيقة منها عند الحاجة الحقيقية لها في الكبر وتقادم العمر ، فيعجز الغير المؤمن حتى عن صرفها في موطن يكون فيه الخير والفضيلة والكرامة لما عليه شأن الإنسان ، وهو في خلاف مع المؤمنين الذين أكلوا حلال طيب ، وصرفوه أو أبقوه لطيبين يقتدون به في الإيمان والعمل الصالح .

 

 

الإشراق السابع :

 التدبر في حال الناس يدلنا على أن الكمال للمؤمن لا لغيره :

يا أخي إن هذا الكلام والبرهان : ـ على إن كل كمال من الله والمؤمن يرتاح عنده ، والكافر لا كمال له يرتاح به وتطمئن نفسه له ولا يأمن شر فقده ـ يشعر به الإنسان لأقل توجه لحالة مع الأوضاع المحيطة به من الكون وتكامله وهداه ومسيره لغاته ، وفي تدبره في حال الناس الماديين وإن أدعو مسلمين ، وفي التدبر في حال المؤمنين الحقيقيين ، وما تراه في الطرفين من الطمع والقناعة ، والاعتقاد والتدين ، ونظرهم للأشياء المادية والإلهية .

 أو خذ التدبر : في معارف الأقوام والأحكام والأديان الوضعية والمنحرفة ، وقايسها مع تعاليم الإسلام وهداها ، وأحوال العبودية وما يدعوا له من الأخلاق الكريمة والسنن الطاهرة والتعاليم الشريفة ، والتي فيها كل خير وفضيلة وعز وكرامة ، ولا يقاس به شيء منها لا في تعاليم التوحيد التي فيه ، ولا في كيفية العبودية ، ولا في الأخلاق الفاضلة ولا في السنن الحسنة ، ولا في الأحكام التكليفية الفرعية التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتدعوا للنظر السامي للحياة الدنيا ، فلا يؤخذ منها إلا للحلال والطيب الطاهر .

فلذا يا أخي : ترى إنه لا عز ولا كرامة ولا راحة ولا اطمئنان ، ولا عقائد حقيقية ودين صادق في الهدى ، إلا في دين الله الحق وعبودية الله والإقرار لما تقر له الفطرة المزروعة في وجود الإنسان ، والتي تدعوه للإقرار بالله وهداه وللإخلاص في الإيمان به وحده لا شريك له ، وبكل ما أمرنا وشرفنا من تعاليم الإيمان به والعمل بهداه وتعاليمه وما يوجبه السير على صراطه المستقيم .

ثم إنك تعلم يا طيب : إن المؤمن لا يفقد الدنيا : حين يلتزم بالعقائد الإسلامية السامية ويعمل بفروعها ، بل له نصيبه منها ، ويأخذها بالحلال بأحسن صورة ممكنة ، فإن المؤمن يسعى لرزقه بالحلال ، ويطلب الطيب منه من غير غش ولا خداع ولا حيلة ، ويعلم إن الله يكره الكسول الذي لا يعمل ، ويحب النشط الكاد على عياله ، وهو كالمجاهد في سبيل الله .

 والمؤمن بالله وحدوده : يأخذ من الدنيا حقه ، وما يدر عليه جهده وفكره بأحسن مأخذ طاهر من الظلم والعدوان ، يأخذها من غير عبودية لها ، ولا يجعلها أكبر همه ، ولا يحرص عليها ، فيأخذ منها ما كان من رزقه الحلال الطيب الطاهر ، ويُخرج منها الحقوق مختارا ، وعن طيب خاطر ، بالإضافة لتعاليم سامية ، ومعارف لها أهداف شريفة فيها التوجه للعدل والإحسان وللعفو ، ولطلب الرزق الحلال الطيب ، وللابتعاد عن الفحشاء والمنكر والبغي والظلم ، وهذا بعينه جلب للراحة الآنية بل الباقية ، والعيش بسلام وأمن واطمئنان ، وهذه هي مواصفات السعادة الحقيقية الفورية بل الأمن والراحة الدائمة ، وبها يكون الإنسان كامل شريف وفاضل كريم ، وعزيز طيب ، ومؤمن طاهر ، ولذا :

قال الله تعالى يعلم المؤمنين : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } البقرة202 .

وقال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الأعراف33 .

وقال الإمام علي عليه السلام : (( وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ : أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الاَْخِرَةِ ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ، وَلَمْ يُشَارِكُهم أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ ؛ سَكَنُوا الدُّنْيَا بَأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ ، وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ .

 فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا : بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ .

وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ .

 ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ ، وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ .

 أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ ، لاَ تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ ، وَلاَ يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ )) [2].

 

خاتمة : الفطرة الطيبة تدعوا للإيمان بالله ولتوحيده الكامل :

بهذا يا طيب : قد عرفنا إن الكمال المطلق لله وحده عز وجل ، والمؤمن يطلب الكمال الحق من الله وحده ، لأنه وحده القادر على منحه له ، وهو العالم بحاله ، وعنده يرى تعاليمه الفاضلة ، ومنه تنزل في الكون نعمه المتتالية ، فلذا ما يشعر به الإنسان المؤمن في نفسه هو إن الله تعالى وحده لا شريك له ، وإنه سبحانه له كل الصفات العليا والأسماء الحسنى ، وهذا ما يجده المؤمن في حقيقة نفسه وصافي فطرته وسليم عقله ووجدانه .

فالفطرة الطيبة : التي لم تدنس بهوى النفس وشهوات الدنيا المحرمة ولم يستحوذ عليها الشيطان بوساوسه ، فهي كما تدل على الله تدل على توحيده ، وإن له كل كمال في وجوده وصفاته ، وأن الكون مخلوق لإله واحد لا شريك له ، لا في عظمته ولا في علوه وكبريائه ، وأن كل كمال منه تعالى وحده ، ومنه يطلب تعاليمه وهداه ومعارفه التي تهديه للصراط المستقيم ، ولذا ترى المؤمن كما يطلب الحق يطلب رسله ومعلمي تعاليمه بالدليل والبرهان ، وذلك لكي لا يضل عن المعرفة الصحيحة لدين الله القيم وما يجب أن يطيعه به سبحانه من هداه الذي بحق يرضى به .

 وبعض الناس : لما أشتبه عليهم الحق ولم يسعوا سعي جدي لمعرفة الله تعالى ، أو عرفوه ولكن زينة الدنيا والشيطان أضلهم عن التوجه الصحيح لله تعالى ، وعن البحث عن معرفته الحقيقة وهداه من رسله وقلدوا الآباء والمجتمع والأصدقاء ، أو جحدوا الخالق الواحد وأضلهم الشيطان ، أو عبدوا الهوى والشهوات ، فتخيلوا آلهة متعددة هي التي عندها الكمال ، وهي التي تمنح النعم ، ثم جعلوها متجسدة من حجر أو شجر أو نار وشمس وقمر وبقر أو إنسان ، أو غيرها من خيال ووهم طرب ولهو ولعب أو خمر ، أو غرور أو كبرياء وشهوة وملك دنيا ، وإن ادعى لم يقر إنه يعبدها على نحو العبادات المتعارفة ، ولكنه آمن بها ، وإن بها كل كمال وخير وبركه له ، ولذا يسعى في طلبها وتنفيذ مأربها وما تمليه عليه للكون فيها أو لتحصيلها ، كما يسعى المؤمن بالله للكون في عبوديته وطاعته وطلبه بهدى دينه القيم الحق الموجب لواقع السعادة والنعيم .

فلذا ترى : تعددت الآلهة عن المشركين أو الكفار وعبدة الأصنام ، سواء أقروا لها بالعبودية ، وأجروا لها بعض المراسم ، أو لم يجروا لها مراسم ، وإن كان تهيئة الظروف للكون فيها هو هذا مراسم عبوديتها .

 والمؤمن الحقيقي : المتوجه لفطرته وما تدعوه من الإيمان بواهب الكمال الحق والكون في طاعته ، وهو التوجه لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له كل كمال وجمال وله الأسماء الحسنى والصفات العليا ، له مراسم أنسه الخاصة معه.

وهذا البحث يا أخي : في ما تدعوا له الفطرة وحقيقة المؤمن وغيره وواقعهم من الراحة وعدمها ، وفي قبول المعرفة والإيمان بالله وتوحيده جاري في البحوث الآتية ، فأجعله في بالك لتطبقه بإذن الله تعالى عليها ، لتعرف حقيقة الطرفين في سعيهم في الحياة الدنيا ، ونتيجتهم في الاطمئنان الدائم حتى في حال الكبر وتقادم الزمان عليهم .

وإن المؤمن : يكون في حياته في طلب الحلال وصرفه في طاعة الله ، والكافر والمشرك والعاصي ، طلب الدنيا وصرفها أو جمعها لتكون حسرة عليه ، وندامة في ما صرفه من العمر الثمين من أجل تحصيلها وتركها لغيره ليستفيد منها دونه ، وإنه ظلم وغصب لتحصيلها ، أو لا ولكن من غير إيمان وسيكون عمله هباء منثورا لا أجر له عند الله ، لأنه لم يؤمن به ، وإن خالف فطرته وطبيعته الطالبة للكمال الدائم الباقي والسعادة الأبدية للروح ، والتي تكون فقط للمؤمنين الذين يبقون في كرامة الله في الدنيا والآخرة ، وتفكر في حال الطرفين في الحياة والممات ، وفي السعادة الحقيقة هنا وهناك .

وإذا عرفنا يا طيب : ما تدعوا له الفطرة الطيبة ، نبحث في أمور أخرى هي في التكوين ، بل في فطرة التكوين ، تدعوا الإنسان وفطرة لكي يتوجه لعظمة الخالق ، وهي في البحث الآتي فتدبر .

وأسأل الله : لك ولي الإيمان به تعالى ، وبكل تعاليمه بحق الطاعة والعبودية والإخلاص له ، وحتى يجعلنا مع نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين صلى الله عليهم أجمعين ، إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .


[2] نهج البلاغة ص 485 رقم 27 ومن عهدٍ له عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر .

تم الكتاب

15 شعبان 1423 يوم مولود إمام زماننا الحجة بن الحسن العسكر عجل الله تعالى فرجه الشريف
أخوكم في الإيمان بالله ورسوله وآله وبكل ما أوجبه تعالى
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة صحف الطيبين
http://www.alanbare.com