بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في أصول الدين وسيرة المعصومين
صحيفة التوحيد الإلهي / الثانية / للكاملين

التحكم بالصفحة + = -

تكبير النص وتصغيره


لون النص

أحمر أزرق أخضر أصفر
أسود أبيض برتقالي رمادي

لون الخلفية


النص المفضل

لون النص والصفحة
حجم النص

الباب الثاني
أدلة توحيد الله تعالى المتقنة وبراهينه المحكمة




الذكر التاسع

معارف إلهية للإمام علي تنورنا الإيمان بالله وحده

 

يا طيب : لما كان علم توحيد الله والإيمان به : ومعرفة أسماءه الحسنى وصفاته العليا سبحانه ، علم واسع وهذه الصُحف لا يمكن أن نستقصي بها كل بحوثه ، ومن أراد المزيد والبحث العميق يرجع لكتب الفلسفة والكلام ، لأنها في الغالب كتب عقلية مبنية على مقدمات كثيرة تثبتها كأصول مسلمة ، ثم تدخل في أهم بحوث التوحيد ومسائله ، وخير من كتب بها صدر المتألهين في الأسفار الأربعة ، كما إن الأستاذ آية الله السبحاني له باع طويل في كتبه في هذا المضمار وإن استغنى عن المقدمات الفلسفية ، وتجد كثير منها في كتاب تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي رحمه الله ، وفي ما أختصره من مقدمات الحكمة والفلسفة في كتابية بداية الحكمة ونهاية الحكمة ،وجعلها كلها في اثني عشر بحثا وخصص آخره في مباحث التوحيد ومعارفه القيمة ، وتوجد كتب كثير غيرها يطول الكلام فيها وذكرنا تكملة لهذا جزء صحيفة الأسماء الحسنى ، وذكرنا بحوث أعمق وإن كانت بدون مقدمات فلسفية في صحيفة التوحيد  الثالثة للعارفين ، تجدها في توحيد ، موسوعة صحف الطيبين ، فمن أحب المزيد فعليه مراجعتها .

وما مر من البراهين والأدلة : كان كافي لمن ألقى السمع وهو شهيد فأتبع أحسنه ، وكان بحث عقلي مدعوم بكلام الله عزّ وجلّ ورسوله وآله الأطهار صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين ، كما ويقره الوجدان الحي والفطرة السليمة ، وكان تدبر في الكون وفي النفس ، وبهدى الله تعالى في إرسال الرسل وإنزال الكتاب وبالخصوص القرآن المجيد على خاتم المرسلين ، وجعل المحافظين عليه ، والأدلة الأخرى في التوحيد كثيرة كانت في كل ذكر وإشراق وإشعاع مر عليك ، والذي يقر لها العقل السليم قبل النفس ، ويذعن به كل من له أدنا إنصاف في المعرفة وأصولها ، وكل طيب يقر للأدلة المحكمة وللبراهين البينة الصادقة ، فكانت تُرسخ إيمان المؤمنين ، وتدعوا الطيبين لأن يلتحقوا بهم ، فيعتقدون الدين القيم والهدى ذو الصراط المستقيم لكل نعيم أبدي حقا.

وبما ذكر ومر عليك يا طيب : يمكن فهم أغلب براهين الإيمان بالله تعالى وأدلة التوحيد ، لأنها ترجع كلها في الحقيقة للتدبر في الكون والنفس وعجيب الخلق ودقة الصنع وهداه وحسن نظمه وتدبيره ، كما إن هدى الله تعالى هو الهدى الحق وبعده الضلال ، وبقيت مسائل في المعرفة في إثبات بعض صفات الله تعالى وأسماءه الحسنى وفعله وخلقه وتدبيره وعلاقته تعالى مع خلقه ، وهي تفهم وتثبت بعد الإقرار والإيمان بالله تعالى وتوحيده .

فمنها إن الله تعالى : غير محدود لأن الحد نقص وتعالى الله عنه ، والله تعالى قديم وأزلي ، وإلا أحتاج لخالق وسبحانه من الحاجة ، وعدم الإيمان بهذا يجعل الكلام يدور ويتسلسل ولا يثبت لا خالق ولا مخلوق وهذا خلاف الواقع ، وهكذا إن الله قادر وعليم وحكيم ومدبر مطلق وله الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وإن صفاته تعالى عين ذاته المقدسة وغير زائدة عليها ، ومن فيضها تجلى في الوجود وخُلق الخلق وتمت هدايته لغايته بالحق ، وبيان بعض مسائل التوحيد الأخرى ، فأنتظر موجز في بيان ما لم يتم بيانه بإذن الله في الأبواب الآتية ، وحتى الجزء الأتي للأسماء الحسنى من صحيفة التوحيد للكاملين هذه .

وبعد أن عرفنا : أهم براهين ضرورة الإيمان بالله تعالى وأشرنا لكثير من مسائله ، وقبل الدخول في تفصيل بعض مسائل التوحيد وأنواعه ومراتبه ، و توحيد الله بالأسماء الحسنى وفعله تعالى وإيجاده للخلق ، نذكر خطب جليلة فيها البراهين المحكمة والأدلة القوية والمعرفة الصادقة الصحيحة للإيمان بالله وتوحيده تعالى وصفاته وأفعاله في الوجود ، نذكرها لتهيئ الطيبين لقبول المعارف العالية في معنى توحيد الله عن إيمان محكم وثابت ، ومع قمة المعرفة ومنتهاها ، ولتكون ممهدة لما يأتي من البحوث في مسائل التوحيد والأسماء الحسنى وفعله سبحانه في الوجود ، ولا يستغني عنها لبيب يحب معرفة الله عن يقين وعلم ومعرفة حقيقية متقنة ترسخ إيمانه بالله تعالى ، وتعلمه كثيرا من شؤون عظمة الله تعالى .

 وهي من كلام : مولى الموحدين ووصي رسول رب العالمين ، وتدلنا على كثير من البراهين وتعلمنا لكثير من المعارف الإلهية ، وهي جامعة لأمهات مسائل التوحيد وأدلته وبراهينه ، ولا يستغني عن معرفتها وتلاوتها والتدبر فيها المؤمنون ، وكل طالب حق ومعرفة واقعية صادقة لخالقه وموجده ومدبره وهاديه ، وقد بينها عليه السلام في كلام بليغ ، وحسن جميل ، فتدبرها بل إن استطعت أحفظها ، فإن فيها أغلب بل كل مسائل التوحيد والمعارف الإلهية .

 

الإشراق الأول :  نور المعرفة الإلهية وحقائقها :

قال الإمام علي عليه السلام في خطبة له فيها جملة من صفات الربوبية والعلم الإلهي :  ( الْحَمْدُ للهِ : الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الاَُْمُورِ ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلاَمُ الظُّهُورِ ، وَامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ ؛ فَلاَ عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ ، وَلاَ قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ .

 سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ : فَلاَ شَيءَ أَعْلَى مِنْهُ ، وَقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ ، فَلاَ اسْتِعْلاَؤُهُ بِاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ ، وَلاَ قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ في المَكَانِ بِهِ .

 لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ : عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ ، ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفِتِهِ ، فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلاَمُ الْوُجُودِ ، عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ ، تعالى اللهُ عَمَّا يَقولُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ وَالْجَاحِدُونَ لَهُ عُلوّاً كَبِيراً ! )[13] .

الإشراق الثاني : نور وجوب توحيد الله ومعارف صفاته :

ومن خطبة له عليه السلام في صفات الله جل جلاله :

( الْحَمْدُ لله : الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ ، وَبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّته ، وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ .

لاَ تَسْتَلِمُهُ الْمَشَاعِرُ ، وَلاَ تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ ، لاِفْتِرَاِق الصَّانِعِ وَالْمَصْنُوعِ ، وَالْحَادِّ وَالْـمَحْدُودِ ، وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ .

 الاََْحَدُ لاَ بِتَأْوِيلِ عَدَدٍ ، وَالْخَالِقُ لاَ بِمَعْنَى حَرَكَةٍ وَنَصَبٍ ، وَالسَّمِيعُ لاَ بِأَدَاةٍ ، وَالْبَصِيرُ لاَ بِتَفْرِيقِ آلَةٍ ، وَالشَّاهِدُ لاَ بِمُمَاسَّهٍ ، وَالْبَائِنُ لاَ بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ ، وَالظّاهِرُ لاَ بِرُؤيَةٍ ، وَالْبَاطِنُ لاَ بِلَطَافَةٍ .

 بَانَ مِنَ الأشياء : بَالْقَهْرِ لَهَا ، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، وَبَانَتِ الأشياء مِنْهُ بَالْخُضُوعِ لَهُ ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ .

 مَنْ وَصَفَهُ : فَقَدْ حَدَّهُ ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ ، وَمَنْ قَالَ : كَيْفَ ، فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ ، وَمَنْ قَالَ : أَيْنَ ، فَقَدْ حَيَّزَهُ .

 عَالِمٌ : إِذْ لاَ مَعْلُومٌ ، وَرَبٌّ إِذْ لاَ مَرْبُوبٌ ، وَقَادِرٌ إِذْ لاَ مَقْدُورٌ )[14] .

الإشراق الثالث : معرفة الموحدون للتوحيد الحق وحقائقه :

ومن خطبة له عليه السلام في صفات الخالق جلّ وعلا :

( الحَمْدُ لله : خَالِقِ الْعِبَادِ ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ ، وَمُسِيلِ الْوِهَادِ ، وَمُخْصِبِ النِّجَادِ ، لَيْسَ لأوليتهِ ابْتِدَاءٌ ، وَلاَ لأزليتهِ انْقِضَاءٌ ، هُوَ الاََوَّلُ لَمْ يَزَلْ ، وَالْبَاقي بِلا أَجَلٍ .

خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ ، وَوَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ .

 حَدَّ الأشياء عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا ، إبَانَةً لَهُ  مِنْ شَبَهِهَا .

لاَ تُقَدِّرُهُ الأوهام : بِالْحُدُودِ وَالحَرَكَاتِ ، وَلاَ بِالْجَوَارِحِ والأدوات . لاَ يُقَالُ لَهُ : مَتَى ؟ وَلاَ يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِحَتَّى ، الظَّاهِرُ لاَ يُقالُ : مِمَّ ؟ وَالْبَاطِنُ لاَ يُقَالُ: فِيمَ ؟ لاَ شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى ، وَلاَ مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى .

 لَمْ يَقْرُبْ : مِنَ الأشياء بِالْتِصَاقٍ ، وَلَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ .

وَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ : مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ ، وَلاَ كُرُورُ لَفْظَةٍ ، وَلاَ ازْدِلاَفُ رَبْوَةٍ ، وَلاَ انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ فِي لَيْلٍ دَاجٍ ، وَلاَ غَسَقٍ سَاجٍ يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ ، وَتَعْقُبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ فِي الْكُرُورِ والأفول ، وَتَقْلِيبِ الأزمنة وَالدُّهُورِ ، مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ ، وَإِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ .

 قَبْلَ : كُلِّ غَايَةٍ وَمُدَّةٍ ، وَكُلِّ إِحْصَاءٍ وَعِدَةٍ ، تعالى عَمَّا يَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الاََْقْدَارِ ، وَنِهَايَاتِ الأقطار ، وَتَأَثُّلِ الْمَسَاكِنِ ، وَتَمَكُّنِ الأماكن ؛ فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ ، وَإِلَى غَيْرهِ مَنْسُوبٌ .

 ـ ابتداع المخلوقين ـ :

 لَمْ يَخْلُقِ الاَْشْيَاءَ : مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ ، وَلاَ مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ ، بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّهُ ، وَصَوَّرَ مَا صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ ، لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ ، وَلاَ لَهُ بِطَاعَةِ شَيْءٍ انْتِفَاعٌ ، عِلْمُهُ بالأموات الْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بالأحياء الْبَاقِينَ ، وَعِلْمُهُ بِمَا فِي السماوَاتِ الْعُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الاَْرَضِين السُّفْلَى .

 ومنها :

 أَيُّهَا : الْـمَخْلُوقُ السَّوِيُّ ، وَالْمُنْشَأُ الْمَرْعِى فِي ظُلُمَاتِ الأرحام ، وَمُضَاعَفَاتِ الأستار ، بُدِئْتَ ( مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ) ، وَوُضِعْتَ ( فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ) وَأَجَلٍ مَقْسُومٍ ، تَمُورُ فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً لاَ تُحِيرُ  دُعَاءً ، وَلاَ تَسْمَعُ نِدَاءً ، ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَى دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا ، وَلَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا ؛ فَمَنْ هَدَاكَ لاِجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ ؟ وَعَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَإِرَادَتِكَ ؟!

هَيْهَاتَ : إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ والأدوات ، فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ ، وَمِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ الْمخْلُوقِينَ أَبْعَدُ ! )[15] .

 

الإشراق الرابع : الله نورنا توحيده ومعرفته وبحُسن ما خلق ودقته:

ومن خطبة له عليه السلام يحمد الله فيها ويثني على رسوله ويصف خلقاً من الحيوان  :

(ـ حمده الله تعالى ـ :

 الْحَمْدُ لله : الَّذِي لاَ تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ ، وَلاَ تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ ، وَلاَ تَرَاهُ النَّوَاظِرُ ، وَلاَ تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ ، الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وجُودِهِ ، وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ ، الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ ، وَارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِه ، وَقَامَ بِالْقِسطِ فِي خَلْقِهِ ، وَعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ .

 مُسْتَشْهِدٌ : بِحُدُوثِ الأشياء عَلَى أَزَلِيَّتِهِ ، وَبِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ ، وَبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ .

 وَاحِدٌ لاَ بِعَدَدٍ ، وَدَائِمٌ لاَ بِأَمَدٍ ، وَقَائِمٌ لاَ بَعَمَدٍ ، تَتَلَقَّاهُ الأذهان لاَ بِمُشَاعَرَةٍ ، وَتَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لاَ بِمُحَاضَرَةٍ ، لَمْ تُحِطْ بِهِ الأوهام ، بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا ، وَبِهَا امْتَنَعَ مِنهَا ، وَإِلَيْهَا حَاكَمَهَا ، لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً ، وَلاَ بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً ، بَلْ كَبُرَ شَأْناً ، وَعَظُمَ سُلْطَاناً .

منها: في صفة عجيب خلق أصناف من الحيوان :

 وَلَوْ فَكَّروا : فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ ، وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ، وَلكِنَّ الْقُلُوبَ عَلِيلَةٌ ، وَالاََبْصَارَ مَدْخُولَةٌ !

 ألاَ تَنْظُرُونَ : إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ اللهُ ، كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ، وَسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ .

 انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ : فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا ، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا ، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ ، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا ، وَصَبَتْ عَلَى رِزْقِهَا ، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا ، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا ، تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا ، وَفِي وُرُودِهَا لِصَدَرِهَا ، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا ، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا ، لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ! 

وَلَوْ فَكَّرْتَ : فِي مَجَارِي أُكْلِهَا ، وَفِي عُلْوهَا وَسُفْلِهَا ، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا ، وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا ، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً ، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً !  فَتعالى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا ، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا !  لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ .

 وَلَوْ ضَرَبْتَ : فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ ، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ ، وَغَامِضِ اخْتِلاَفِ كُلِّ حَيٍّ ، وَمَا الْجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ ، وَالثَّقِيلُ والخَفِيفُ ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ ، فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ .

 ـ خلقة السماء والكون ـ :

 وَكَذلِكَ : السَّماءُ وَالْهَوَاءُ ، وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ ، فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ ، وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ ، وَاخْتِلاَفِ هذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ ، وَكَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ ، وَطُولِ هذِهِ الْقِلاَلِ ، وَتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ ، والألسن الْمُخْتَلِفَاتِ .

 فَالوَيْلُ : لِمَنْ جَحَدَ الْمُقَدِّرَ ، وَأَنْكَرَ الْمُدَبِّرَ !

 زَعَمُوا : أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارعٌ ، وَلاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ ، وَلَمْ يَلْجَأُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيَما ادَّعَوا ، وَلاَ تَحْقِيقٍ لِمَا أَوْعَوْا ، وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ ، أَوْ جِنَايَةٌ مِن غَيْرِ جَانٍ ؟!

 ـ خلقة الجرادة ـ :

 وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ ، وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ ، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِم ، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا ، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا ، وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً .

 فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي ( يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَالاََْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) ، وَيُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَوَجْهاً ، وَيُلْقِي بِالْطَّاعَةِ إلَيْهِ سِلْماً وَضَعْفاً ، وَيُعْطِي الْقِيَادَ رَهْبَةً وَخَوْفاً !

 فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لأمرهِ ، أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَالنَّفَسَ ، وَأَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَالْيَبَسِ ، قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا ، وَأَحْصَى أَجْنَاسَهَا ، فَهذَا غُرابٌ وَهذَا عُقَابٌ ، وَهذَا حَمَامٌ وَهذَا نَعَامٌ ، دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بَاسْمِهِ ، وَكَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ .

 وَأَنْشَأَ ( السَّحَابَ الثِّقَالَ ) ، فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا ، وَعَدَّدَ قِسَمَهَا ، فَبَلَّ الأرض بَعْدَ جُفُوفِهَا ، وَأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا [16].

 

الإشراق الخامس : خطبة جامعة في معارف التوحيد الإلهي :

ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد وتجمع هذه الخطبة من أصول العلوم ما لا تجمعه خطبة :

( مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَه ُ، وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ ، وَلاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ ، وَلاَ صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ .

 كُلُّ مَعْرُوفٍ : بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ ، وَكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ .

 فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَةٍ ، مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَةٍ ، غَنِيٌّ لاَ بِاسْتِفَادَةٍ .

 لاَ تَصْحَبُهُ الأوقات ، وَلاَ تَرْفِدُهُ الأدوات ، سَبَقَ الأوقات كَوْنُهُ ، وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ ، وَالاِبْتِدَاءَ أَزَلُهُ .

 بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ ، وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الاَُْمُورِ عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ ، وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الأشياء عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ .

 ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ ، وَالْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ ، وَالْجُمُودَ بِالْبَلَلِ ، وَالْحَرُورَ بِالصَّرَدِ ، مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا ، مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا ، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِداتِهَا ، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا .

 لاَ يُشْمَلُ بِحَدٍّ ، وَلاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ ، وَإِنَّمَا تَحُدُّ الأدوات أَنْفُسَهَا ، وَتُشِيرُ الاَْلاَتُ إِلَى نَظَائِرِهَا ، مَنَعَتْهَا "مُنْذُ" الْقِدْمَةَ ، وَحَمَتْهَا "قَدُ" الاََْزَلِيَّةَ ، وَجَنَّبَتْهَا " لَوْلاَ " التَّكْمِلَةَ  بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ ، وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ .

 لاَ يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ ، وَكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ ، وَيَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ ، وَيَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَةُ  ؟!  إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ ، وَلَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ ، وَلاَمْتَنَعَ مِنَ الاََْزَلِ مَعْنَاهُ ، وَلَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ ، وَلاَلْـتَمَسَ الـتَّمامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ ؛ وَإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ ، وَلَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ ، وَخَرَجَ بِسُلْطَانِ الاِْمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤثِّرُ فِي غَيْرِهِ .

الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الأفول ، لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً ، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً ، جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الاَْبْنَاءِ ، وَطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ .

 لاَ تَنَالُهُ الأوهام فَتُقَدِّرَهُ ، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ ، وَلاَ تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ ، وَلاَ تَلْمِسُهُ الأيدي فَتَمَسَّهُ .

 وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ ، وَلاَ يَتَبَدَّلُ فِي الأحوال ، وَلاَ تُبْلِيهِ اللَّيَالي والأيام ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَالظَّلاَمُ ، وَلاَ يُوصَفُ بِشَيءٍ مِنَ الأجزاء  ، وَلاَ بِالجَوَارِحِ والأعضاء ، وَلاَ بِعَرَضٍ مِنَ الاََْعْرَاضِ ، وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ وَالاََْبْعَاضِ .

 وَلاَ يُقَالُ : لَهُ حَدٌّ وَلاَ نِهَايَةٌ ، وَلاَ انقِطَاعٌ وَلاَ غَايَةٌ ، وَلاَ أَنَّ الأشياء تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ ، أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ ، فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ .

 لَيْسَ فِي الأشياء بِوَالِجٍ ، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِجٍ .

 يُخْبِرُ لاَ بِلِسَانٍ وَلَهوَاتٍ ، وَيَسْمَعُ لاَ بِخُروُقٍ وَأَدَوَاتٍ ، يَقُولُ وَلاَ يَلْفِظُ ، وَيَحْفَظُ وَلاَ يَتَحَفَّظُ ، وَيُرِيدُ وَلاَ يُضْمِرُ .

 يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ ، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ .

 يَقُولُ لِمَا أَرَادَ كَوْنَه ُ: ( كُنْ فَيَكُونُ ) ، لاَ بِصَوْتٍ يَقْرَعُ ، وَلاَ بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ ، وَإِنَّمَا كَلاَمُهُ سبحانهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ ، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ كَائِناً ، وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلهاً ثَانِياً .

 لاَ يُقَالُ : كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْـمُحْدَثَاتُ ، وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ ، وَيَتَكَافَأَ المُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ .

 خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ .

 وَأَنْشَأَ الأرض فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ ، وَأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ ، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ ، وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعائِمَ ، وَحَصَّنَهَا مِنَ الاََْوَدَ وَالاِِْعْوِجَاجِ ، وَمَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ ، وَالاِنْفِرَاجِ أَرْسَى أَوْتَادَهَا ، وَضَرَبَ أَسْدَادَهَا ، وَاسْتَفَاضَ عُيُونَهَا ، وَخَدَّ أَوْدِيَتَهَا ، فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ ، وَلاَ ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ .

 هُوَ الظّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ ، وَهُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ ، وَالْعَالي عَلَى كَلِّ شَيْءٍ مِنهَا بِجَلاَلِهِ وَعِزَّتِهِ .

 لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ ، وَلاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ ، وَلاَ يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ .

 خَضَعَتِ الأشياء لَهُ ، وَذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ ، لاَ تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَضَرِّهِ ، وَلاَ كُفؤَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ .

هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا ، حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا .

 وَلَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إنْشَائِهَا وَاخْتِرَاعِهَا ، وَكَيفَ وَلَوْ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَبَهَائِمِهَا ، ومَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَسَائِمِهَا ، وَأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَأَجْنَاسِهَا ، وَمُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَأَكْيَاسِهَا ؛  عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ ، مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا ، وَلاَ عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا ، وَلَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذلِكَ وَتاهَتْ ، وَعَجِزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ ، وَرَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً ، عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ ، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا ، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إفْنَائِهَا ؟!

 وَإِنَّهُ سبحانهُ ، يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لاَ شَيْءَ مَعَهُ ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا ، كَذلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا ، بِلاَ وَقْتٍ وَلاَ مَكَانٍ ، وَلاَ حِينٍ وَلاَ زَمَانٍ ، عُدِمَتْ عِنْدَ ذلِكَ الاَْجَالُ وَالاََْوْقَاتُ ، وَزَالَتِ السِّنُونَ وَالسَّاعَاتُ ، فَلاَ شَيْءَ إِلاَّ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الاَُْمُورِ ، بِلاَ قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا ، وَبِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا ، وَلَوْ قَدَرَتْ عَلَى الاِمْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا .

 لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ ، وَلَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ  وَخَلَقَهُ ، وَلَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ ، وَلاَ لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَنُقْصَانٍ ، وَلاَ لِلاِْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ ، وَلاَ لِلاِْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ وَلاَ لِلاِْزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ ، وَلاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ ، وَلاَ لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا .

 ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا ، لاَ لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَتَدْبِيرِهَا ، وَلاَ لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ ، وَلاَ لِثِقَلِ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ . لاَ يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا ، لكِنَّهُ سبحانهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ ، وَأمسَكَهَا بِأَمْرِهِ ، وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ.

 ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا ، وَلاَ اسْتِعَانَةٍ بَشَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا ، وَلاَ لاِنصِرَافٍ مِنْ حَال وَحْشَةٍ إلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ ، وَلاَ مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَعَمىً إِلَى حَالِ عِلْمٍ وَالْتمَاسٍ ، وَلاَ مِنْ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ إِلَى غِنىً وَكَثْرَةٍ ، وَلاَ مِنْ ذُلٍّ وَضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَقُدْرَةٍ )[17] .

يا طيب : هذا أعلى كلام موجود في المعارف الإلهية عند البشر شرحا ، وإن كان أسسه وأصله في كلام الله ، وهو عليه ربي بيد القدرة وبتربية رسول الله صلى الله عليهم وسلم ، وإنه بحق يا أخي كانت كلمات قمة في بيان براهين مسائل التوحيد بكل بحوثه ، وجامعة لأسس معارفه وأركانه ، وفيها كل ما يحتاج الإنسان من المعرفة للأسماء الحسنى الإلهية ، وتجليها في الوجود مع بيان إحكامه وإتقان خَلقه ، وهي صادرة من ولي الله والعارف بتعاليم الله ورسوله ، والذي هيئوه لتعليمها لعباد الله المخلصين ، ومن يستغني عن كلامه لا معرفة له حقيقية متقنة بالله تعالى وتوحيده وبكل مسائله.

 وبما ذكرنا : يكفي للمنصف دليلا وبرهانا قاطعا على وجوده تعالى ، والإيمان به حتى اليقين ، ووجوب توحيده في جميع مراتب التوحيد ، كما أرجو أن يفرحك بيانها إن شاء الله في بحث مراتب التوحيد ، سواء في ذاته المقدسة أو في صفاته أو في أفعاله أو في العبودية أو في الخالقيّة والربوبية والمالكية والرازقية أو في الولاية والتقنين والتشريع والهداية ، ويلتذ قلبك الطيب بما ستقرأ من مباحث الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وكيف نصف الله تعالى بها ونوحده فيها ، حتى يحصل المؤمن على اليقين بمعارف توحيد الله ، وبما يجب عليه من الإيمان بالله ، وبكل ما يترتب على الإيمان بالله مما يجب على الإنسان الذي هو عصارة الوجود ، وبما يجب عليه من العبودية لله والطاعة والإخلاص له وحده .

 وكما يجب على المؤمن المخلص : أن لا يطيع أحد إلا أن يكون له إذن من الله في بيان الأحكام ، كنبي أو وصي نبي أو معين من قبلهم شارح لكلامهم مستشهد بما في كتاب الله وسنة رسوله وأوصياءه المعصومين ، حتى لا يضل الإنسان عن الصراط المستقيم الذي لم يأمر الله به ، بل يتبع صراط الذين انعم الله تعالى عليهم من النبيين وأوصيائهم وبالخصوص نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين صلاة الله عليهم أجمعين وممن يستقي منهم علومه ويشرحها للطيبين من المؤمنين.


[13]نهج البلاغة الخطبة 49.

[14] نهج البلاغة الخطبة 152.

[15] نهج البلاغة الخطبة 163.

[16] نهج البلاغة الخطبة 185.

[17] نهج البلاغة الخطبة 186.

تم الكتاب

15 شعبان 1423 يوم مولود إمام زماننا الحجة بن الحسن العسكر عجل الله تعالى فرجه الشريف
أخوكم في الإيمان بالله ورسوله وآله وبكل ما أوجبه تعالى
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة صحف الطيبين
http://www.alanbare.com