بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
نرحب بكم يا طيب في

موسوعة صحف الطيبين

في أصول الدين وسيرة المعصومين



التحكم بالصفحة + = -
❀✺✸☼❋❉❈❊

تكبير النص وتصغيره


النص المفضل

لون النص والصفحة
حجم النص

____ لون النص ____

أحمر | أزرق | أخضر | أصفر |
أسود | أبيض | برتقالي | رمادي |

____ لون الخلفية ____




صحيفة النبوة العامة والخاصة لنبينا محمد بن عبد الله

صلى الله عليه وآله وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبين محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

تعريف صحيفة النبوة :

يا طيب هذه صحيفة نزول روح القدس والروح الأمين على رسول الله الذي بعثه الله سبحانه وتعالى وعز وجل وجعله أفضل وأكرم عباده وحبيبه وخليله وصفيه ونجيبه السابق إلى طاعة ، فكان أتم مظهرا لأسماء الله الحسنى ومعه آله المتجلين بنورها في التكوين ، معلمي كلام الله المجيد وكتابه القرآن الكريم وكل حلال يرضاه وحرام قلاه .

ذو الخلق العظيم : ورحمة الله للعالمين سيدنا و مولانا ونبينا أبو القاسم محمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله و سلم ، فهو خير خلق الله البشير النذير السراج المنير الطيب الطاهر الدر الفاخر البحر الزاخر العلم الظاهر المنصور المؤيد الرسول المسدد المصطفى الأمجد المحمود الأحمد حبيب إله العالمين .

و أنه سيد الأولين و الآخرين : وسيد الأنبياء والمرسلين وخاتمهم، القائم بالقسط والفاتح بالخير معدن الوحي والتنزيل المبلغ عن الله ونور الله الذي يستضاء به وحجة الله على الأولين و الآخرين ، والمهيمن على رسل الله والخاتم لأنبيائه الشاهد على خلقه الشفيع إليه والمكين لديه والمطاع في ملكوته ، الأحمد من الأوصاف المحمد لسائر الأشراف ، الكريم عند الرب والمكلم من وراء الحجب الفائز بالسباق والفائت عن اللحاق ، صاحب المقام المحمود ولواء الحمد والوسيلة إلى نعيم الله تعالى ورضوانه ، المبلغ لرسالة الله والداعي إليه بالحق الناصح لأمته المجاهد في سبيل ربه الصادع بأمره المتحمل للأذى في جنبه ، الداعي إلى سبيل الله بالحكمة و الموعظة الحسنة الجميلة ، مؤدي الحق الذي عليه ، الرحيم الرؤوف بالمؤمنين الشديد الغليظ على الكافرين ، العابد لله المخلص بكل يقين ، المبلغ المهدي الهادي من الضلال رحمة الله للعالمين ، فوز ونجاة وشفيع المؤمنين ، وموصلهم لأتم سعادة وخير وبركة ونعيم بصراط مستقيم في الدارين .

وتجد يا طيب : في هذه الصحيفة أدلة وبراهين ضرورة النبوة العامة والخاصة وحياة نبينا الأكرم وولادته ونبوته وفضائله ومناقبه ومواعظه وحكمة وتعاليمه و معجزاته وأخلاقه وسلوكه وسيرته مع أهل زمانه حتى شهادته .

اللَّهُمَّ : صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ، وَصَلَوَاتِ مَلَائِكَتِكَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَ أَنْبِيَائِكَ الْمُرْسَلِينَ ، وَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ، وَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ ، وَ مَنْ سَبَّحَ لَكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ ، عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ ، وَ نَبِيِّكَ وَ أَمِينِكَ ، وَ نَجِيِّكَ وَ حَبِيبِكَ ، وَ صَفِيِّكَ وَ صَفْوَتِكَ وَ خَاصَّتِكَ ، وَ خَالِصَتِكَ وَ خِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ ، وَأَعْطِهِ الْفَضْلَ وَ الْفَضِيلَةَ ، وَ الْوَسِيلَةَ وَ الدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ ، وَ ابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَ الْآخِرُونَ .

الراجي لرحمة ربه وأن يجعله عبدا مخلصا له و من أنصار أوليائه نبينا محمد وآله صلى الله عليهم وسلم ومنهجهم الحق حقا

خادم علوم آل محمد عليهم السلام

الشيخ حسن الأنباري

موسوعة صحف الطيبين


صحيفة النبوة الأصل الثالث للدين روابط الصفحة
https://www.alanbare.com/a3
الصحيفة كتاب الكتروني
https://www.alanbare.com/a3/a3.pdf

صحيفة النبوة

مصحيفة النبوة

دارمي يشوقنا لقراءة صحيفة النبوة

مصحيفة النبوة

رحم الله الشيخ حسن الِأنباري إذ قال ما يشوقنا لقراءة صحيفة النبوة


يا طيب لحضرتك صحيفة النبوة الخاصة والعامة

وفيها سيرة سيد المرسلين وسلوكه وكل حياة تامة

+

يا رسول الله أمرت بالصبر وأنت للمؤمن أسوة

نواليك وآلك وهداك ونروح لكم جميعنا فدوة

+

يا رسول عظمت مصيبتك حيث أنقطع خبر السماء

وحجب خبر الوحي إلا مشاء الله من آلك ممن رضى

+

أفجعت يا سيد المرسلين برحيلك سادة التكوين

فاطمة وعلي والحسن والحسين ومعهم كل الموالين

+

يا رسول الله عظمت رزيتك في السماوات والأرض

وحزنت على طول السنين الطيبين ومن عنده حض

+





المقدمة :
حمدا لله ولرسوله وعملنا في صحيفة :

الحمد لله والصلاة على نبينا محمد وآله :

الحمد لله والشكر لله : الأول قبل الإنشاء ، والآخِر بعد فناء الأشياء ، الذي خلق الخلق ابتداء وابتداع ، فكون الكون وكائناته بأحسن اصطناع ، ومن غير مثال ولا أصول أوليه فهدى كل كائن لما فيه شأنه وعلاه ، ورتبه بمراتب حسب شرفه في الوجود وجمّله بهداه ، فتنزلت برحمته وإحسانه الكائنات لمرتبة عالم الشهادة وبقاهريته لأدناه ، وبربوبيته وقيمويته تتم الغاية لكل شيء فيصل لمنتهاه ، فأرجع الشريف منها والمطيع لما فيه كرامته ورضاه ، وبكل سعادة ونعيم وتكون الجنة مأواه ، ونزل العاصي لعالم أسفل في نار يصلى فيها فتكون مثواه ، أبعدنا الله منه ومن كل شيء ربنا حرّمه وقلاه .

وأسأل الله رب العالمين ومرسل خير عباده بالدين الحق المبين : أن يصلي على جميع الأنبياء والمرسلين من الأولين والآخرين ، وبالخصوص رحمته ونوره الذي كرمه وحبه وآواه ، فجعله يشرق بنور هداه على كل مؤمن يحب الرب ورضاه ، حتى كان فخر الكائنات وسيد الأنبياء والمرسلين ، وختم بنبوته ورسالته تنزيل معارف الهدى والدين ، فكان بكل ما علّمه وظهر به أسوة وقدوة لكل العالمين ، ومن تبعه وأطاع وتولاه صار في رحمة الله ربنا أرحم الراحمين ، فكان في رضا الله ونعيمه وفي جنة الخلد مع الحور العين ، والولدان المخلدين وهواء لطيف وأكل طيب وماء من معين ، ومن هجره ولم يتصل به وآذاه في نفسه وآله في عذاب الله في أسفل السافلين ، ويصلى في الجحيم وله طعام من غسلين ولا ينفعه مال ولا بنون ولا شفاعة الشافعين .

فيا ربي وخالق كل شيء وهاديه : صلي وسلم على السراج المنير والبشير النذير نبي الرحمة المصطفى الأمين محمد ، وعلى آله الطيبين الطاهرين الغر الميامين أئمة المؤمنين والواجب إطاعتهم على كل المسلمين ، والذين حافظت بهم على معارف كتابك المنزل على أشرف الأنبياء وأكمل المرسلين ، خلفاء رسولك وورثة هداه والظاهرين به في كل حين ، حتى كانوا بحق ولاة نور هداك ومعرفي عبوديتك لكل المؤمنين والطالبين ، وزدهم يا رب من فضلك بالكرامات والنور وأرفع شأنهم حتى المقام المحمود في أعلى عليين.

واجعلنا يا رب يا حي يا قيوم : متنورين بنور هداهم وأسلك بن صراطهم المستقيم حتى نقيم عبوديتك مع الإخلاص واليقين ، وتقبل منا وأرضى عنا حتى تجعلنا معهم نحف بهم تحت ضل عرشك مع الشهداء والصالحين والصديقين ، وأحسن لنا بهم رفقه حتى لتجعلنا معهم في مقام الكرامة والمجد والعز على سرر متقابلين ، فإنك أرحم الراحمين ووليي اليوم وفي كل حين ويوم الدين ، فأكرمنا بمعرفتهم يا رب حتى أقول مع الطيبين في جنة الخلد في آخر دعاء لنا الحمد لله رب العالمين ، وأجعل لعنتك وغضبك وتمام نقمتك على أعدائهم وكل من منع الناس من معرفتهم وحرفهم عن هداهم ودع لأئمة الكفر والضلال إلى أبد الآبدين ، وأرحم يا رب من يقول آمين .

أهمية بحث النبوة : الأصل الثالث للدين :

أما بعد يا أخي الطيب : فإن النبوة ومعارفها هي من أصل الإيمان وركن ركين من أركان الدين ، وبها نعرف بحق المعرفة الممكنة عظمة رب العالمين ، وبالنبوة يُعرف هدى الله وما يحب من المعارف أن يعبد بها ويرضى بإقامتها مع الإخلاص له وحده لا شريك له ، فمن عرف الله وآمن به فلابد له من طلب معرفة عظمته وشأنه الكريم وأسماءه الحسنى وهداه الحق ودينه القيم من المنعم عليهم وأهل الصراط المستقيم ، والذين أيدهم بالكتاب والحكمة وجعلهم أدلة عليه وعلى معارف نوره وهداه إلى يوم الدين .

فمن وفقه الله : لمعرفة الأنبياء وبالخصوص نبينا الأكرم سيدهم وخاتم المرسلين ومعارفه بحق من آله الطيبين الطاهرين ، والصادقين المصطفين الأخيار الذين أختارهم رب العالمين لهداه ودينه ، وجد في تطبقها وأخلص لله في إقامتها ، دخل جنة الرب وتنعم بنعيم الأبد في وجوده وبكل محيطه خالدا إلى يوم الدين ، ومن لم يُوفق أو أنحرف وتبع أهل الضلال أو أئمة الكفر ولم يطلب هدى الله من أهله المطهرين ضل وهوى ، أبعدنا الله منه وعن تقصيره بل وقصوره .

وبهذا نعرف يا أخي الطيب : إن حقيقة السعادة والفرح والسرور بعد معرفة الله وعدله ، وهو أن نعرف نبيه الأكرم الذي بعثه برسالته وكيف حافظ الله على تعاليمه ، حتى نعرف عظمته ودينه القيم وهداه الحق الذي يُسعد العباد ، ويُفرحهم في كل حين ويوم المعاد ، وهي معرفة النبوة والنبي وبالخصوص خاتم المرسلين بمعرفة كريمة تلي معرفة الله عز وجل وعدله في عباده ، فمن وفقه الله لها عرف الله وعدله ، ومن لم يوفق ضل عن رحمة الله ونأى فتجبر وطغى أو فرط وهوى .

ولذا يا أخي الكريم : بعد إن كتبنا صحف التوحيد من موسوعة صحف الطيبين ، ندخل في صحيفة النبوة العامة ومعناها وضرورتها وأسسها وأصولها ، ثم النبوة الخاصة لنبينا الأكرم وخاتم المرسلين المصطفى الأمين نبينا محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين وكل أصحابه الكرام المنتجبين والذين هم بودهم وحبهم وطاعتهم والهين ، وبمولاتهم بحق فرحين ، وبهم مقتدي متأسيين ، ولله بدينهم مخلصين ، لا مغضوبا عليهم ولا ضالين ولا ظالمين ، بل عبدوا الله بهدى أصحاب النعيم وبصراط مستقيم فنالوا رضا الرب الكريم .

ولذا نجعل يا طيب : بحوث النبوة ومسائلها في أبواب تُعرفن أمور لابد من تيقن ضرورتها وأهميتها والشرف المختص بها وكرامتها على الله ، بل نعرف ولي الله الذي يحققنا بنور معارف هداه وأفضل مخلوق في كل مراتب الكائنات ، وحبيب لله الذي جعله مصطفى مختار لكل الفضائل والمكرمات ، ولذا تكون معرفة النبوة وختمها من أفضل المعارف ، وفيها أحلى علم وأجمل نور بهي يهب الإنسان صراط الهدى والعروة الوثقى ، والسبب المتصل بدا وعودا بين الأرض والسماء ، ويتصل بإنا لله وإنا إليه راجعون بأفضل نور نازل وصاعد وبكل حُسن وجمال وسناء .

لأنه بالنبي ورسالته : نعرف محل الكرامة والعز والمجد والشرف ونور الهدى الإلهي ، وكل شيء من معاني عبودية الله والتوجه له بكل طاعة حتى بم يخص الحياة وشؤونها ، وبكل فضائل العدل والإحسان ، وبأجمل الأخلاق الحسنة والآداب الكريمة ، وبحق النعيم والحلال الطيب ، وبها نرتفع عن الرذائل والخسة والسفه والباطل وكل شين ليس من شأن الإنسان الكريم الفاضل البر ، فلذا يكون من يعرف النبوة والنبي الحق يشتاق لطلب معارف الهدى منه ، ومع الاطمئنان للروح بالعلم بها ، وبراحة للنفس بتطبيقها ، ومع الإخلاص والحب للتحلي بها ، ووهبنا الله معارفها وحقائقها وزين أرواحنا بتطبيقها بعد العلم بها .

أبواب : صحيفة النبوة العامة والخاصة وبحوثها :

يا طيب سنجعل البحث هنا : في كل ما يوصلنا لليقين بالنبوة العامة لكل الأنبياء ، وبالنبوة الخاصة لخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليهم وآلهم وسلم ، ونذكر كل شاهد وبرهان قوي يُدخل نور معارفها في قلوبن بأفضل الإيمان ، فنصدق بنور المبعوث بالنبوة من الله تعالى في أي مكان وزمان ، حتى لا نفرق بين أحد من الأنبياء والمرسلين ، ونقر بكل وله وعبودية وخضوع فنقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله المصطفى الأمين ، بل وللفطن ببحوث صحيفة النبوة : يشهد إن عليا وأولاده المعصومين أولياء الله وهداه وبحق إنهم أئمة المؤمنين ، ولذا ستكون بحوث صحيفة النبوة وهي الأصل الثالث للدين في أبواب المعارف التالي :

الباب الأول : في معنى النبوة العامة وتعريفها ومعارفها وضرورة وجود النبي وفق الهدى الكوني والتشريعي والاجتماعي ، وخواصه وصفاته وكل ما يتعلق بعصمته وشأنه الكريم ، والتي ترينا أصولا لابد من مراعاتها لمعرفة صدق مدعي النبوة وأحقيته وضرورة إطاعته بكل هداه .

والباب الثاني وما بعده : في النبوة الخاصة ، وهي المعرفة بنبوة نبينا الكريم والمصطفى الأمين سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنطبق ما عرفنا من الأصول والأسس في الباب الأول ، لمعرفة شأنه الشريف وضرورة رسالته وفضله على كل البشر وكرامته عند الله بالعقل والنقل . وهذا الباب وسابقة يكون فيهما المعرفة النظرية بالنبوة ، وضرورة وجود الأنبياء وبالخصوص نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم في الباب الثالث : نذكر شواهد كريمة تعرفنا صدق دعوته صلى الله عليه وآله وسلم ، فنجعل الباب فيما يعرفنا وجود الكمال التام في صفاته الذاتية والشخصية في المرتبة الأولى : للصفات الذاتية للنبي العظيم في عوالم الغيب والشهادة وشرفه ونسبه الكريم ، وفي المرتبة الثاني : نتعرف على طيب مولده المبارك ونشأته وصباه وزواجه حتى مبعثه الشريف .

ثم يأتي الباب الرابع : فنجعله في معرفة علو همته في تبليغ دينه القويم ، فنعرف به أمرا آخرا لضرورة بعثة نبينا الأكرم ، وهو من خلال معرفة مبعثه الشريف وثباته وجهاده في مكة المكرمة .

وأما الباب الخامس : فسيكون في ظروف هجرته الشريفة وأمر الله في تبليغ دينه في طيبة المدينة المنورة وثباته وجهاده الكريم فيها ، فينشر دعوة الرب سبحانه وتعالى ويبلغ رسالته بنصر الله له فيها لكل أهل الدنيا.

و الباب السادس : نعرف به خُلقه العظيم ومكارم سيرته ومحاسن صفاته وآدابه الفاضلة الشريفة ، ونسأل الله أن يجعنا ممن يقتدي به بكلها .

فيكون لنا معرفة بنينا الأكرم بعد المعرفة النظرية معرفة عملية بشأن نبينا الكريم وجهاده وثباته لنشر دين الله بنفس وجوده الطاهر الطيب .

وتأتي الآن المعرفة العلمية بنبينا الأكرم لمعرفة شيء من هداه ومعجزاته الكريمة حتى رحيله إلى الله سبحانه وتعالى ومعرفة حكمته في الأحداث بعده .

ففي الباب السابع : نذكر أحاديث شريفة تعرفنا بعض معارف حكمته ببليغ الكلام وقصار الحكم وفي معارف قيمة متعددة، فتعرفنا بعض هداه.

وأما الباب الثامن : فنعرف به شيء عن معجزته الخالدة القرآن المجيد ، والذي شرفه الله به ليثبت صدقه وأحقية دينه ورسالته الإلهية ، والتي خصه الله بها واصطفاه سبحانه لتعليمها .

وكذا الباب التاسع : نعرف به شيء عن معجزات نبينا الأكرم الكونية الأخرى التي أيده بها الله سبحانه وتعالى ، وعرّف كرامته عليه ليثبت دعوته فيقبله الطيبون ويؤمنوا به حتى اليقين ، ولتطمئن نفوسهم الكريمة بهداه ، وكذا لكي يقيم حجته على المعاندين ويريهم آيات المقدرة الربانية التي كرمه الله بها ، فيجعلهم موقنين بخطئهم وضلالهم عن الحق وعنادهم لدين الله القيم ولهداه الواقعي ، ولسعادتهم الحقيقية التي توجب عليهم إقامة دين الله تعالى فيموتوا بالحسرة والندامة في الدني قبل الآخرة .

فنعرف بهذه الأبواب يا أخي الكريم : أهم شواهد الصدق وما يجلب اليقين على نبوة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونعرف به أدلة حق على رسالته وصدقه ، فنقيم كل برهان قوي محكم يبين كرامته عند الله ، وما جعله بحق أكرم رسول وأعظم نبي وسيد أهل الدنيا والآخرة ، وشرّفه الله تعالى بعزه وبمجده ، وكرمنا الله به ونورنا به ليخرجنا من الظلمات إلى النور بإذنه ، بل تنور الوجود الكوني بكل مراتبه وحسُن خلقه ووجوده ، حين يسكن به أفضل خلق الله ووليه بالحق نبي الرحمة الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل من بلغته رسالته فأقم عبودية الله وشكره بما يحب الله ويرضى فوصل لسعادته ولأفضل غايته ولتمام نعمته وكمال نوره .

ثم نجعل الباب العاشر : في خاتمة بحوث النبوة الخاصة ، ومن خلال معرفة رحيل نبينا الأكرم إلى ربه وأهم الأحداث حينها وبعدها، وبه نعرف ختم الرسالة والنبوة ، وكيف يختبر الله عباده المؤمنين ، وضرورة معرفة الدين بهداه الحق عن علم ويقين ، وضرورة تتبع ومعرفة هداه من الصادقين ، فيغتصب الأمر من لم يأتمنه على تبليغ آيات معدودة ، ثم ينتقل الحكم لمن يحارب الإسلام بكل وجوده حتى آخر عمره ، وهو تعالى يطلب من المؤمنين متابعة المصطفين الأخيار بعد إن حافظ الله بهم على دينه وهداه ، فجعلهم مطهرون ككتابه المجيد الذي فيه كلامه الطاهر ، وصدق طُهرهم بسيرتهم وسريرتهم مع النبي الأكرم ، فقرن حياتهم بحياته ودينهم بدينه ، وكانوا بعد رسول الله أئمة المؤمنين بحق .

ونسأل الله سبحانه وتعالى : أن يوفقنا لبيان معارف النبوة حتى يرضى عنا ويهبنا حبه وحب كل الأنبياء والمرسلين ، وبالخصوص خاتمهم وأشرفهم نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين صلى الله عليهم وسلم أجمعين .

وأهدي صحيفة النبوة الأصل الثالث للدين هذه : لوينا وإمام عصرن الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى ظهوره المبارك : وجعلنا من أنصاره وأعوانه في الدنيا بنشر تعاليم دينه الذي عرفوه لنا بفضل الله عليهم وعلينا ، حتى يرضى عنا ويجعلنا تحت رايته ومن جنده في يوم ظهوره ودولته لإقامة العدل والقسط والإحسان بفضل الرب المنان ، وفي يوم القيامة حين يدعى كل أناس بإمامهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بلقب سليم ، فيحشرنا معهم سبحانه في معارفهم بالدني وبنعيمهم وملكهم العظيم من الكتاب والحكمة في الدارين ، وفرحين مسرورين بالهدى الحق بكل يقين ، ومطمئنين بنور رضاه وما يهبنا من كمال المجد ونور العز والنعيم مكرمين ، حتى يجعلنا معهم راضيين مرضيين ، فنحف بنبي الرحمة محمد وآله الطيبين الطاهرين ومعنا كل الشهداء والصالحين والصديقين والأنبياء والمرسلين وصحبهم المنتجبين وفي أعلى عليين ، إنه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين , والحمد لله رب العالمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

أخوكم في الإيمان بالله ورسوله وبكل ما أوجبه تعالى

خادم علوم آل محمد عليهم السلام

الشيخ حسن جليل حردان الأنباري

موقع موسوعة صحف الطيبين

يوم ميلاد نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم

17 / ربيع الأول /1425 ــ 7/5/2004

آيات تجمل بحث النبوة وتجمله :

يا طيب : قال الله سبحانه وتعالى في التكوين كله :

{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا (27) } ص .

{ ومَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَ إِلاَّ بِالْحَقِّ (85) } الحجر.

وبخصوص خلق الإنس والجن :

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } الذاريات .

ولكي يعبدوا الله سبحانه قال :

{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً

أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ

فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) } النحل .

وأما في سيد المرسلين ونبينا الأكرم خاتمهم ومن آمن به فقال :

{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} البقرة 285 .

وبعد ما عرفنا غرض الخلقة ومجمل التعاليم ، هذه بعض مواصفات نبين الأكرم قال الله تعالى :

{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ (2)} الجمعة.

{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (1)} الأعراف .

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)

قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) } الأنبياء .{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}القلم .

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرً وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا} الأحزاب47 .

وهذا الدين : كما عرفت ليس عبثا ، وإنما حافظ عليه وعلى تعاليمه وكتابه سبحانه وتعالى إلى يوم القيامة بقوله :

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } الحجر.

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ

إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) } الرعد .

{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ

وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ

وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) } النحل.

ولكي نعرف : المحافظ على الدين الهادي بعد النبي والشاهد على العباد ، أمر سبحانه بإتاء ذي القربى ، وجعل مودتهم حسنة وأجر الرسالة وهو نفعه لنا لأنه بمودتهم الله يغفر لنا ويشكر عملنا ، وقد قال سبحانه :

{ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُو وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى

وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) } الشورى. وقد عرفهم الله تعالى بقوله : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَ وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَ لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) } آل عمران .

وهذا هو الصراط المستقيم : لمن تبع المنعم عليهم بهداه ، وبه نبتعد عن المغضوب عليهم والضالين ، والذي نسأل الله أن يهدينا له ويثبتنا عليه في الدنيا بل والآخرة في كل صلاة مرتين حين قراءة سورة الفاتحة .

ويا طيب : بعد أن عرفنا ملخص التكوين وهداه ووجودنا فيه ، وغرض الخلقة ، بأنه لابد من عبودية لله تعالى بهدى رسول هو منذر ومؤيد مسدد من الله ، ومن ثم الاقتداء بالهادي والشاهد بعده ، وهم قرباه وآله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولهذا بعد الأصل الأول والثاني التوحيد والعدل ، عقدنا في هذا الجزء بحث النبوة وضرورتها في الأصل الثالث للدين ، ثم يأتي الأصل الرابع للدين الإمامة للحفاظ على القرآن و الدين بأئمة حق نصبهم الله تعالى وأختارهم ، ثم الجزاء من الثواب للمؤمنين حقا والعقاب للضالين واقعا في الأصل الخامس الدين المعاد يوم القيامة ، إن شاء الله تعالى .

مصباح هدى
وفيه باب واحد في النبوة العامة وضرورة وجودها

الباب الأول
النبوة العامة ومعناها وأدلتها

في هذا الباب : بحوث تعرفنا معنى النبوة وضرورة وجودها وفق الهدى الكوني والتشريعي لهداية العباد بمعارف الله ، فيُشكر ويعبد سبحانه ويسعد الإنسان بدين قيم يكون بتطبيقه كماله ونعيمه الحقيقي، ونعرف به أسس وأصول بتطبيقه على شريعة كل نبي ومرسل نتيقن نبوته وصدق دعوته ورسالته وكرامته عند الله .

النور الأول
تعريف ومعنى النبي والنبوة والوحي والرسول والرسالة والكتاب

وفيه أمور في إشراقات و قبسات نور :

الإشراق الأول : تعريف لفظ النبي ومعناه :

النبي : هو ذلك الإنسان الذي له طهارة الروح وصفاءها والاستعداد النفسي التام والقوي جداً ، بحيث يؤهله لتلقي الوحي الإلهي المخبر عن تعاليم هدى الله تعالى ومعارفه التي توصل الإنسان لحقيقة عبوديته سبحانه ، والتي بإقامته سعادة البشر في جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيره ، بحيث يجعلهم تطبيقها في واقع النعيم والعدالة والإحسان والفرح والسرور في الدني والآخرة .

والنبي عليه السلام : هو الذي أختاره الله العالم بحقيقة العباد واصطفاه لما عِلمه سبحانه من حقيقته الروحية والبدنية التي تظهر بتعاليمه بكل جد ونشاط وصدق وإخلاص ، فكان أشرف الخلق في زمانه وأحسنهم في تبليغ رسالته فضلا عن العلم بها وتطبيقها ، فلذا يُعلمه الله ويؤيده بالمعجزة بما يثبت دعواه حتى يصدقه العباد وكل طالب لنور هدى الله الموافق لحقيقة نور فطرته الطالبة للكمال .

وهذه الصفات للنبي هي : من المواصفات الذاتية الدالة على صدق مدعي النبوة لمن يريد معرفة النبي الأكرم في زمانه ، أو قبله مما ينقل عن النبي وعن تعاليمه التي علمها وما حكاه التأريخ عن مواصفاته وسيرته وسلوكه .

الإشراق الثاني : تعريف النبوة ومعناها :

النبوة : هي سفارة بين الله وبين ذوي العقول من عباده لتعليمهم ما يوصلهم لعبودية الله ولسعادة الدنيا والآخرة .

وبعبارة أخرى النبوة : هي حالة إلهية غيبية يتلقى بها النبي المعارف الإلهية التي توحد البشر نحو العبودية لله تعالى ، وترفع التناقض والاختلاف بينهم بما يوصلهم لحقيقة تعاليم الله تعالى وللسعادة في الدارين .

فالنبوة : هي منصب ألهي لمن تحصل له حالة معنوي فيها قد صفت روحه وطابت وطهرت واستعدت للارتقاء في الغيب ، وقدرت على التلقي للمعارف الإلهية ، ثم له القدرة على الإنباء عنها وإظهارها للناس وتعليمها .

ومعنى النبوة : مأخوذ إما من معنى ، النبوة : أي الرفعة ، أو من معنى النبأ : الذي هو الخبر ، وعلى كل الأحوال المراد من النبوة : هو التشرف بالاتصال بالعالم العلوي للغيب لتلقي الوحي الإلهي الموصل لتعاليم الله ومعارفه ، وذلك لكي يتعلمها ويطبقها ويبلغها للبشر ، فيعرفهم عبودية لله ويوصلهم للسعادة في الدارين ، وهي أفضل منزلة لبني الإنسان وأكرم حبوة من الله لعبادة سواء في نفس وجود النبي الكريم أو تشرف أولي الألباب به فيتعلمون منه.

الإشراق الثالث : تعريف الوحي ومعناه :

الوحي : إشارة سريعة مُعرفة للمقصود ، وهو حالة الاتصال الروحي للنبي بما وراء المادة ، بعالم الغيب لتقي وأدراك المعارف والتعاليم الإلهية الحقيقية بالطرق التي بينها الله تعالى في كتابه المجيد ، ونسبة النبي فيها إلى الناس نسبة المستيقظ إلى النائمين ، وإن نفس النبي وروحه الطاهرة هي التي تتلقى وتدرك الوحي بالكلام والرؤية ، وقيل : من غير مشاركة للحواس الجسدية المادية .

ولتلقي الوحي طرق ثلاث : وهي إما :

وحي إلهام : وإلقاء في القلب ونفث في الروع .

وإما من وراء حجاب : و ليس وراء بمعنى خلف و إنما هو الخارج عن الشيء المحيط به و هذا كما كُلم موسى عليه السلام في الطور وكما أوحي إلى الأنبياء في منامهم .

أو إرسال ملك الوحي : كالروح وجبرائيل وميكائيل وغيرهم من الملائكة وقد قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا : وَحْيًا ، أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }الشورى51.

الإشراق الرابع : النبي الرسول وأولي العزم والكتاب:

الرسول : وهو النبي الذي ينزل عليه الملك بالوحي فيراه ويكلمه .

والنبي : ـ الذي لم يبلغ مرتبة الرسول ـ هو الذي يرى الوحي في المنام فأوحي إليه فيه ، والاثنان مأموران بالتبليغ للتعاليم التي يتلقوه .

أولي العزم : هم الأنبياء و الرسول الذين يأتون بتعاليم مكملة للرسالة السابقة أو ناسخة لها وفق عصر الناس واستعدادهم الجديد لتلقي تعاليم الرب وتطبيقها ، والأنبياء الرسل والمعروفون بأولي العزم هم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ونبينا محمد صلى الله عليهم وآلهما أجمعين ، ومعنى العزم : هو الثبات على العهد الأول المأخوذ على الأنبياء ، وكل واحد منهم صاحب شرعة ومنهاج وكتاب ، ودينهم الإسلام .

والنبي : سواء كان قد وصل لمرتبة الرسول أو لا فهو مأمور بتبليغ التعاليم الإلهية التي تلقها ، سواء كانت نازلة عليه لكونه رسول من أولي العزم أو نبي تابع للرسول السابق عليه ، وهو محافظ على تعاليم الله وناشر لها ومبينه وعنده من تعاليم الله كل ما يحتاج إليه أهل زمانه ، ويوصلهم لعبودية الله تعالى وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، وهو نافي لتحريف التعاليم التي تغيرت بمرور الزمان بيد المنحرفين عن الرسول السابق ، ورافع للاختلاف بينهم .

وأولي العزم : خصوا بأن لهم صياغة جدية لتعاليم الله تعالى والمناسبة لعصرهم ولشأنهم ولحال الناس في القدرة على تعلمها وتطبيقها ، وهو أسلوب يناسب استعداد البشر الجديد وتكاملهم في زمانهم الذي هم فيه وزمان آتي بعدهم ، وهذا لا ينافي كون دين الله تعالى واحد ، حيث أن التعاليم نفسها داعية إلى عبودية الله تعالى وتوحيده وإلى سعادة البشر بأسلوب له تعاليم جديدة مناسبة لعصرهم وم بعده حسب استعداد البشر وطاقتهم لتطبيق المعارف الربانية.

والرسالة : هي نفس التعاليم الإلهي التي تلقاها النبي وبلغه للناس .

فالنبوة : هي حالة تلقي الوحي والتعاليم .

والرسالة : هي نفس المعارف والتعاليم التي تلقاها لغرض تبليغه .

والكتاب : هو ما يجمع بين دفتيه أصول التعاليم والمعارف الإلهية التي تلقاها النبي المرسل للتبليغ ، وفيه كل حكم إلهي مفروض وواجب الإتباع ول يقبل النقض ، وبعض الأنبياء خصوا بصحف ، وسيأتي فيها الكلام أن شاء الله .

النور الثاني
ضرورة بعثة الأنبياء

وبيانه بإشراقات نور :

الإشراق الأول : وجود الخلق وغرضه يستدعي وجود النبي :

قد عرفنا في مباحث التوحيد : في غرض الخلقة وغاية الوجود إن الله تعالى سخر للإنسان كل شيء بعد إن أتقن خلقه ، وهداه بهدى تكويني وهدى تشريعي ، وذلك حتى يتمكن من الوصول لغرضه الوجودي الذي هو خلاصة غرض الوجود ويقيم العبودية لله تعالى ويشكره عن اختيار ، ومع وجود تمام الظروف الملائمة فيصل الإنسان لأحسن غايته وما به تمام سعادته في الدارين .

ولما كان الله سبحانه وتعالى خالق الوجود وكل شيء فيه وهادي له : وهو تعالى لا يباشر عباده ولا يخالطهم لأنهم لا يطيقون نوره ول هو مثلهم لأنه ليس كمثله شيء ، فلابد من اختيار أفضل العباد وأحسنهم في كل زمان لتبليغ هداه لهم ، فينزل عليهم وحيه وتعاليمه ليهدوا العباد الهدية التشريعية الموصلة لهم للصراط المستقيم الذي فيه بيان لكيفية العبودية له بحقيقة تعاليمه سبحانه ، والتي فيها كل ما فيه خير وصلاح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، وهؤلاء المصطفون هم الأنبياء وأوصياهم عليهم الصلاة والسلام ، ولهذا يكون بعث الأنبياء ضرورة وجودية كونية وتشريعيّة ليتم غرض الخلقة والوجود بأحسن صورة ممكنة وبالخصوص بني الإنسان .

الإشراق الثاني : الطبيعة الإنسانية تستدعي وجود النبي:

وهذا بيان أخر لضرورة وجود النبي بين البشر : وبحثه من حيث الطبيعة النفسية والاجتماعية والمدنية للإنسان ، والتي بنفسها مع الغض عن النظر لغاية الوجود كله ، هي بنفسها تستدعي وجود النبي أو وصيه بينهم ليعلمهم بصدق وينفي الانحراف عن الهدى الحق والاختلاف فيه بينهم .

وذلك حيث أنه قد أتفق أهل الملل قاطبة على ضرورة بعث الأنبياء من قبل الله تعالى إلى الناس كافة ، وذلك لحكمة الوجود الاجتماعي والمدني للإنسان ، وإنه بوجوده يتمكن من الوصول إلى كماله بهداية ربانية تشريعيّة تعلمه الصراط المستقيم ، والذي يجب عليه سلوكه ليصل لسعادته وتمام هدايته، وبيانه:

حيث إن الإنسان : بطبعه الاجتماعي والمدني وبما أعطاه الله تعالى من المواصفات في الخلقة من المدنية والاجتماع والاختلاف في تشخيص المصالح والتخاصم الشديد في تطبيقها ، فإنه يحتاج لمرشد وهادي يعلمه سبيل الوصول لتمام سعادته وحقيقة أهدافه في جميع شؤون حياته المادية والمعنوية وبالخصوص إقامة حقيقة العبودية لله تعالى ، وكل ذلك وفق قانون عادل ودقيق ومتقن يصلح لجميع البشر في جمع الآفاق والبقاع ، و في جمع الأزمنة حتى في حال ختم النبوة ، أو حين غيبة النبي عن مجتمعه لظرف ما أو لبعدهم عنه في زمانه .

وبوجود النبي الكريم : يعرف هدى الله الحق ، وينفصل التخاصم بينهم في تعلم الهدى وتطبيقه ، ويرتفع الاختلاف بما يعلمه بشكل صريح وقاطع ، كم يمنع من الكذب على الله في ادعاء النبوة أو تعليم ضلال وتحميله على هدى الله ودينه الحق ، فلذا الواجب على كل البشر بعد الإيمان بالله البحث عن نبي مبعوث عرفه الله لهم بما يؤيد رسالته ويُعرف صدقه ، وبهداه الحق تتم لهم إقامة عبوديته ويتم صلاحهم بالعدل والإحسان وشكر الرب المنان بما يحب ويرضى .

البيان الثالث : تعاليم الله ترشدنا لضرورة النبوة:

قال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } البقرة 213 . والآيات في هذا الباب كثيرة ، فهو تعالى يعلمنا إنه لابد لنا من نبي يرفع الاختلاف بيننا ويعلمنا هداه الحق المرضي له وهذا ما يطلبه العقلاء والوجدان.

ثم إن الله تعالى : العالم بحقيقة البشر وبجميع ما يحتاجون إليه لتطهير أرواحهم و ما ينتظم به أمر معاشهم ؛ هو الذي يختار أفضلهم وأطهرهم وأنزههم واتقاهم وأنقاهم وأعلمهم وأصلحهم لتبليغ تعاليمه ولقيادتهم لكمال صلاحهم ، لذا لا يحق لأحد أن يرشح نفسه للنبوة ولا خليفة للنبي أو أن يكون وصي له ، ما لم يكن الله قد اختاره لتبليغ رسالته أو بيانها بعد نبيه ، فلذا قال الله تعالى:

{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }القصص 69.

{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} الحج 76 .

{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } آل عمران 34 .

والآيات في هذا المعنى : كثيرة وبها تجد تفصيل الاصطفاء واختيار الأنبياء من قبله تعالى على علم منه بطهارتهم وصدقهم ، راجع مثلاً الآيات من 1 _ 61 من سورة آل عمران ، ترى فيها تفصيل اختيار الأنبياء من لدن آدم إلى نبين محمد وذريته ، وذلك لعلمه تعالى بصدقهم في تعلم وتطبيق وتبليغ دينه الحق الرافع للاختلاف بين الناس ، وبهذا المعرفة للتأريخ الديني نعرف ضرورة النبوة.

الإشراق الثالث : سادت الحكماء يرشدون لضرورة النبوة :

وفيه بيانان :

أولاً : قال الإمام علي عليه السلام في اختيار الأنبياء :

... وَاصْطَفى سُبْحَانَهُ مِنْ ـ وَلَدَ آدم ـ أَنْبيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَعَلَى تَبْليغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ .

لَمَّا بَدَّلَ : أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللهِ إِلَيْهِمْ ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ ، واتَّخَذُوا الأنداد مَعَهُ ، وَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرفَتِهِ ، وَاقتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ .

فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ :

لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ :

مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ ، وَآجَالٍ تُفْنِيهمْ ، وَأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ ، وَأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ .

وَلَمْ يُخْلِ اللهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ : مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ ، أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ ، رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ .

وَلاَ كَثْرَةُ المُكَذِّبِينَ لَهُمْ : مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ ، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ ، عَلَى ذْلِكَ نَسَلَتِ القُرُونُ ، وَمَضَتِ الدُّهُورُ ، وَسَلَفَتِ الأباء ، وَخَلَفَتِ الأبناء... )

نهج البلاغة الخطبة 1 ، وسيأتي تمامها في ضرورة بعثة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ثانياً : الإمام الصادق يعرفنا ضرورة النبوة :

عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام أنه : قال للزنديق الذي سأله : من أين أثبت الأنبياء والرسل ؟

قال عليه السلام : ( إنه لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجهم ويحاجوه .

ثبت أن له سفراء في خلقه : يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفى تركه فناؤهم .

فثبت : الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه عز وجل ، وهم الأنبياء عليهم السلام وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس - على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب - في شيء من أحوالهم مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة .

ثم ثبت ذلك : في كل دهر وزمان مم أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين ، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته ) .

كافي ج1ص410ک4ب1ح434/ 1 . علل الشرائع ج1ص120ب99ح3 .

فلما عرفنا يا طيب : إنه لابد من وجود نبيا مرسلا من قبل الله سبحانه بين الناس يُعرفهم دين الله وهداه الواقعي الصادق الحق ، والذي به يشكر الله ويعبد ، وبه يكون معارف هداهم وصلاحهم في كل أحوالهم ، وبه يرفع الاختلاف بينهم لما فيه تمام سعادتهم حين إتباعه .

وذلك لأنه لله لم يجبر أحد على عبوديته وتطبيق هداه ، وذلك بعد إن هداهم السبيل بصراط مستقيم لوجود المنعم عليه بالنبوة والهدى الإلهي بالوحي أو بالتعليم ، ويدل عليه وعلى ضرورة وجوده العقل وإتقان الوجود وتعاليم الدين ، والكلام الحسن الصادق الموافق للفطرة الذي يعلموه سادت البشر والمصلحين فيهم .

نذكر أمر أخر مهم : وهو سبب ختم النبوة ، وما هي الظروف الموجبة لختمها ، وضرورة وجود من يقوم مقام الأنبياء بين العباد من أوصياءهم وخلفائهم ، مادامت مصلحة العباد مستوجبه لوجود الصادق الذي يقوم بتعريف هدى الله الواقعي ، وبه يرفع الاختلاف المتواجد بين المبشر الذي هو من طبيعة وجودهم ، ونشير لما يجب به أن يُعرف الوصي للنبي وخليفته بالحق بعده .

النور الثالث
أسباب ختم النبوة وظروفه

تمهيد : تختم النبوة إذا حصل سببان :

يا طيب من المتفق عليه : إن دين الله تعالى واحد وهو الإسلام ، وكلما ينحرف الناس عن الصراط المستقيم الذي بتعاليمه يتوصل الناس للسعادة المادية والمعنوية واختلفوا فيه ؛ يرسل الله تعالى من يجدد تعاليمه بالأسلوب المناسب لهم ووفق الاستعداد الحاصل للناس في تلك الفترة ، فيرسل الله سبحانه وتعالى مبشرين ومنذرين من الأنبياء والرسل لتبليغ تعاليمه الحقيقية .

فإذا استكمل الناس من الجهة الروحية والمعنوية : لتمكنهم من إقامة التعاليم الربانية وفق أخر استعداد معنوي واجتماعي لهم إلى يوم القيامة ، ينزل الله تعالي خاتمة تعاليمه وفق استكمالهم الأخير ، ويتم أمر إرسال رسول لتبليغ أحكام الله تعالى وتعاليمه الجديدة الموافقة لصلاحهم وشأنهم في إقامة العبودية الله .

وإذا أمن رفع الاختلاف بين الناس : وأمكن الحفاظ على تعاليم الله تعالى من التأويل والتحريف بمؤَمن ، وبهذا المؤَمن يتم الحفاظ على حقيقة التعاليم من غير تحريف ، وهو وجود من يقوم مقام النبي والرسول بتعرف حقيقة تعاليم الله وشرحه وتفسيرها من غير وحي مباشر ، ختم الرسالة والنبوة بالاكتفاء بهؤلاء المؤَمنين والذين يسمون بأمير المؤمنين وهم أوصياء أخر نبي وخلفائه وهم أئمة الناس بعده ، ولهم يرجع العباد في تعلم حقيقة التعاليم ويرجع لحكمهم عند الاختلاف في الآراء ، ولبيان وشرح هذان السببان لختم النبوة نقول :

السبب الأول : استكمال البشر :

من المعروف بوضوح في التاريخ لمن سبره ودرسه : أن البشر ل يزالون يستكملون ويقوى استعدادهم الروحي والمعنوي والاجتماعي والثقافي لتلقي المعارف الربانية ، فينزل الله تعالى في كل مرتبة من الاستعداد من التعاليم ما يرفع احتياجهم ، وحين يستكمل أخر استعداد لهم يُنزل الله تعالى أخر تعاليمه ومعارفه الهادية للبشر والكافية لإيصالهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم لسعادة الدنيا والآخرة على طول الزمان المتبقي حتى تقوم القيامة ، وبه تقام عبودية الله بما يحب ويرضى وبه فلاحهم وسعادتهم ونعيمهم في الدارين .

و ما ذكرنا لا ينافي أن دين الله واحد : بل يؤكد أن الله تعال مهتم بهداية البشر وفق أخر استعدادهم بما يصلحهم ، فإذا وصلوا لحالة من تقبل القوانين الروحية والمعنوية وفق آخر استعداد للبشر ، أنزل الله تعاليمه التامة وختم دينه ، ولم يحرمهم فيضه وهدايته بعد تكاملهم الروحي والاجتماعي وغيره .

وما قد يقال : إن البشر في القرن الحادي والعشرين وم قبله قد تطور بشكل سريع اقتصادياً ، وتوسعت معرفته كثيراً في كل مجالات الحياة وبالخصوص التقنية والتكنولوجية والفلسفية الفكرية والاجتماعية والظروف المدنية ، فيحتاج لتعاليم جديدة ربانية مناسبة فيحتاج رسولا فضلا عن النبي .

فإنه يقال : إن القوانين الإسلامية كافية للإنسان ، وتحل كل مشاكله ويسعده تعلمها وإقامتها بحدودها ، وبها يتنعم إذا طبقها اقتصاديا أو في حالته الاجتماعية وكذا في جميع مجالات الحياة ، فإن الإنسان لم يستعد معنوياً لقبول أكثر من التعاليم الإسلامية لإقامة حياته المدنية وما فيه ترقيه في المعرفة المعنوية في العبودية والتوجه له والإخلاص في طاعته أكثر مما جاء في خاتم الأديان ، فمثلاً الآن لا يطيقون صلاة الليل فيوجبها عليهم أو يوجب المواساة بنصف المال بدل العشر في الزكاة أو الخمس أو يوجب واجبات أخرى تقربهم وتربطهم بخالقهم والمنعم عليهم أكثر، بل حتى بينهم في المساواة والبر والإحسان ، ولو كان لهم استعداد أكثر لم ختم الله دينه ، أو لختمه وأمر بتطبيق بعض التعاليم بعد كذا من السنين ، كما قد يقال : بحق في زمان ظهور الحجة بن الحسن آخر أوصياء خاتم الأنبياء عجل الله تعالى ظهوره ، والذي يرافق ظهور المعجزة ونزول الخيرات وكثير من الأمور التي قد لا تعد تطور طبيعي ولا تطبيق اختياري لمعارف الله بدون عناية لتمام الهدى لمن يهتدي والرض بما قسم الله له ، كما وتمام الضلال والهوان لمن يتعصى ومع العقاب الدنيوي فضل عن الأخروي ، وهذه حالة أخرى لآخر الزمان الذي يقام به العدل والقسط بالتمام مع شيء من الإجبار.

ولكون إن هذه الحالة العامة قبل قيام القائم وظهور آخر الزمان في حياة الإنسان باقية ولا تتطور ليوم القيامة ، أي بقاء استعداده فقط لتحمل تعاليم الإسلام التي فيها كل ما يحتاجه الإنسان في كل مجلات حياته المادية والمعنوية ، قد ختم الله بالإسلام نزول معارف وتعليم جديدة لهم ، لأنه بتطبيقها فقط يمكن أن يسعد البشر وهي التي توصلهم لسعادة الدنيا والآخرة ، وبهذا كانت ختم النبوة بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله ، وقد قال تعالى :

{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ : وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ

وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ

وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } الأحزاب40.

وعرف سبحانه أن القرآن فيه تبيان لكل شيئاً من التعاليم بقوله تعالى :

{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ :

تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } النحل 89 .

وبهذا عرّفنا سبحانه إن ختم النبوة وتعاليم الدين لما أنزل ما به تبيان كل شيء من الهدى والرحمة ، تم وكمل معنى ما عرفنا إن نبينا محمد صلى الله عليه وآله خاتم النبيين ، وقد أثبتت التجربة والبرهان على أن تعاليم الإسلام كافية لجميع العصور الماضية والآتية ، وبقي الحفاظ عليها وهذا يتم بيانه بالإشراق الثاني :

السبب الثاني : أمن التحريف للتعاليم الربانية :

بعد إن عرفنا : أن اهتمام الله بهداه الحق يدعوه للحفاظ عليه ، ولا يكفي إنزال آخر التعاليم والمعارف الربانية مع عدم الأمن من التحريف والاختلاف ، ومن دون ما يوجد من يرجعون إليه في تعلم المعارف الربانية الحقيقية من غير تحريف ، ويكفي لهذه المهمة أوصياء الأنبياء حيث لا يحتاجون لتلقي وحي جديد وتعاليم جديدة ، بل يمكنهم معرفة جميع ما يحتاجون إليه من كتاب الله الكريم وسنة نبيه المطهرة ، وقد عرفت أن القرآن فيه تبيان كل شيء ، وبقي لطف الله وحكمته وتدبيره لخلقه وربوبيته وهداه ورحمته ، ولبيان جديته في دعوته وإرادته للعبودية الصحيحة من غير اختلاف ولا انحراف وبالتعاليم الحقيقية هو:

أن يبين لنا تعالى ويعرفنا : المعلم للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بحقيقة تعاليمه بعد وجود نبينه الذي ختم به النبوة ، ويكون هؤلاء المعلمون هم أوصياء النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله ، والحق هم آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا كما ستعرف في الأصل الرابع للدين في بحث الإمامة من هذه الموسوعة أو راجع فيها صحيفة الثقلين وغيرها من بحوث صحيفة الإمام علي أو صحيفة الإمام الحسين عليهم السلام في موسوعتنا أو غيرها من الكتب .

ثم إنه لا يعقل : أن يقرر سبحانه وهو المهتم بدينه وتعاليم هداه أن وجود الاختلاف بين الناس بالبغي والظلم والعدوان باقي ، ثم يختم دينه وهداه ولا يعرفنا من يرفع الاختلاف ولا يرشدنا لخليفة نبيه الصادق في شرح وتعليم هداه الحق والواقعي الذي يرضى أن يعبد به وبه سعادة البشر ، مع أن الدين عنده واحد وهو الإسلام ، وذلك كما عرفت وكما عرفنا في قوله تعال :

{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } البقرة 213 .

وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} آل عمران 7 .

وقال سبحانه : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } آل عمران 144 .

فالله تعالى : بين أن الناس مختلفون في القرآن وبعد نبيه الأكرم كما بين سبب اختلاف الناس ، والله تعالى ختم النبوة فلا مصحح لانحرافهم بعد النبي الأكرم بوحي جديد أو رسالة جديدة أو نبوة جديدة ، والإسلام خاتم الأديان ويطول زمانه ليوم القيامة ، وقد تفنن الناس في البيان وحصل لهم الاستيعاب للتطور الاجتماعي بسرعة وهو موجب للاختلاف وحب المنصب والجاه وزينة الحياة الدنيا والسلطة والسيطرة والطغيان ، مما يوجب وجود وعاظ سلاطين ومفسرين تعجبهم آرائهم وكلامهم وقياسهم واستحسانهم ، وما ويوجب سرعة الاختلاف وكثرته ، وقد أشار الله تعالى لهذا في القرآن الكريم في مواضع كثيرة منها قد تلوناها عليك في الآيات السابقة .

وبعد كل هذه الأسباب : الموجبة للاختلاف والانحراف عن الصراط المستقيم ، فمن غير المعقول ولا مناسب لجدية الله لإرادة العبودية الحقيقية والتعاليم الإسلامية الصحيحة ، وقد ختم النبوة ، وعند هذه الحالة فلا يضع وصي بل أوصياء للنبي بعد الوصي الأول قد أختارهم عن علم واصطفاهم ، ثم عرفنا بهم وبيّن مواصفاتهم أو أشار لهم في كتابه الكريم وعلى لسان خاتم الأنبياء نبيا محمد صلى الله عليه وآله وسلم . فعليه : إذا علمنا بختم النبوة من قِبله سبحانه وتعالى ، فلابد لن من معرفة الوصي والخليفة الحقيقي للنبي الأكرم الذي به يُعصم الناس من الاختلاف ، ويجب أن يكون عنده علم الكتاب وعلم النبي الأكرم ومُطهر مثله وصادق بحق .

ثم لا يعقل : ولا يتصور أنه سبحانه يصر على أن يحافظ على كتابه الكريم من التحريف لفظاً دون أن يحافظ عليه معناً وتفسيراً وشرحاً وبياناً وتعليماً وهو القائل سبحانه { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } الحجر 9 ، فلذا لا يتم الحفاظ على الدين كما عرفت إلا بتوسط الأنبياء أو أوصيائهم ، وقد عرفت انه قد تم ختم النبوة ، فلابد من أن يوجد لخاتم الأنبياء أوصياء هم الذين يرفعون ما يقع من الاختلاف في الدين ، ويدلون الناس على الصراط المستقيم ويبنون لهم حقائق التعاليم الربانية ، كما أنه لابد أن يكون قد بينهم الله تعالى للناس ودل عليهم نبيه الأكرم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقلن أن أوصياء نبينا هم آله وأهل بيته الطيبين الطاهرين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين .

وهذا له كثير من الشواهد : راجع فيه بحث الإمامة أو ما ذكرن من الصحف ، أو بالرجوع للكتب المطولة مثل الغدير أو إحقاق الحق أو عبقات الأنوار أو المراجعات وإثبات الهداة وغيرها ، ويكفيك قوله تعالى بجعل الولاية للمؤمن وهو في حالة صلاة والركوع والمعطي للزكاة بهذه الحالة ،وهو الإمام علي ، بعد ولايته سبحانه وولاية نبيه حين قال تعالى:{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }المائدة55.

فهذا الآية يا طيب : باتفاق المسلمين قد نزلت في حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ووليهم بعد أخيه سيد المرسلين عليهم وعلى آلهم صلاة الله وسلامه والملائكة وكل الطيبين ، وولايته وآله امتداد لولاية الله في هداية عباده بأحسن سبيل وأوضح طريق وصراط مستقيم لتعريف هداه التام في كل حين بإمام حق .

النور الرابع
أمور تعرفن صدق مدعي النبوة

يُعرف صدق مدعي النبوة بأمور وهي :

الإشراق الأول: احتياج المجتمع لنبي يهديه :

إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وهو عليم وحكيم بعباده ، وبر رحيم بهم وهادي لهم قيوم عليهم ، وهو الذي يبعث النبي في زمان يحتاج فيه المجتمع لنبي يدلهم على مكارم الأخلاق وكل ما فيه صلاح حالهم وخيرهم ، فيعرهم ويرشدهم لضرورة الإيمان بالله تعالى ، ويدلهم على معارف هداه الذي فيه نعيمهم وسعادتهم، وما يجب عليهم من العمل عن اعتقاد بهداه وبالعدل الإحسان بينهم ، وضرورة الصدق في أقوالهم وأفعالهم ليسود بينهم التعامل باللطف و الوئام ، وذلك بعد أن كان قد ساد بينهم الشرك والكفر والظلم والغش والخيانة والجهل والعدوان أو كاد أن يعمهم ، فيرتفع بهم بما أنزل الله عليه من ذل الانحطاط والكفر إلى عز الإيمان والحكمة ليصلوا لسعادة الدنيا والآخرة.

وبالتدبر في رسالة الأنبياء ودعوتهم للإصلاح : نعرف هداهم الحق في تعاليمهم وفي سيرتهم وسلوكهم وما دعوا له من العدل والإحسان وضرورة الإيمان بالله الرب الحنان المنان ، ولا يمكن إنكار خير وبر وهدى رسالة المرسلين وما تدعو له من الهدى ، ويكفيك التدبر في القرآن المجيد لتعرف المهام التي جاء بها الأنبياء ، فراجع سورة الأنبياء والآيات المتعرضة لقصص الأنبياء ، وقد قدمنا كلام الإمام علي عليه السلام في سبب بعث الأنبياء فتدبر فيه تعرف ما رمنا .

وقال الله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } النحل 36 .

وقال سبحانه : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } الحديد 25 . وقال عز وجل : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } الجمعة 2 .

وآيات القرآن المجيد : كلها يمكن إرجاعها لهذا المطلب ، وهو بأن البشر محتاج لهداة كلما بدلوا حقيقة الأحكام الإلهية ، فيتفضل الله عليهم بمن يعلمهم هداه الحق ولم يخل زمان مما فيه صلاحهم ، ومع وجود المصلح لهم والرافع للاختلاف بينهم والمبين لهداه الحق فيهم إن تبعوه بعد تعريفه لهم :

وقد قال سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } الرعد7.

وقال الله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ

وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَ دَاوُودَ زَبُورًا ، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، وكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا

رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } النساء 163 ـ 135 .

وبهؤلاء المطهرين المصطفين الأخيار يقيم الله حجته ، فإنه بهم عرف البشر هداه ، وعليهم إطاعتهم لأنه بما علموه وبينوه يكون صلاح العباد ، وهذا يدركوه بعقولهم وبفطرتهم الطالبة للكمال من الرب المتعال ، كما عرفت من ضرورة وجود النبي المعرف لهدى الله ولكل ما يصلح البشر ، ولعنايته سبحانه بهم ولكونه حكيم وهادي لهم وقيوم عليهم ، يوصلهم لأحسن غاية لهم إن أقاموا تعليمه ومعارفه المنزلة على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام .

الإشراق الثاني: وجود الكمال التام في صفات النبي الذاتية:

يجب أن يكون النبي : فيه مواصفات ذاتية متعلقة بشخص النبي الكريم تؤيد دعوته وتصدقه ، وهذه الصفات الفاضلة هي التي تؤهله لمقام النبوة وتحمله أعباء الرسالة وتبليغها ، ونذكرها هنا على نحو الشرح المختصر ، وراجع أصولها في بحث العصمة الآتي ، والصفات وهي :

أولاً : الصفات الذاتية للنبي الكريم :

النبي : يجب أن يكون طاهر مطهر ، وهي أن تكون له صفة النزاهة عن دناءة الآباء وعهر الأمهات ، وأن يكون وليد بيت شرف ورفعة و من عائلة كريمة في أخلاقها ونسبها لسراية العرق الوراثي في الأبناء وتأثيره ، كما يجب أن يكون سالم الخلق في البدن وعدم وجود ما ينفر الناس منه لا في ذاته ولا في لوازمها حتى يتوجه إليه مجتمعه ويؤثر فيهم فيطيعه الناس بكل ما يُعلم من هداه.

كما يجب أن : يكون سيد مجتمعه في طهارة النفس من الضلال والأمور الخسيسة ، ويجب أن يكون له العقل الكامل وذو لب حكيم والذكاء والفطنة والعلم والفهم والحلم ، وذلك لكي تؤثر دعوته في الناس ويقبلون منه تعاليمه ولا ينتقص في شيء من النسب والمواصفات الخلقية والعلمية والعملية .

قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ …. فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } آل عمران 33،34ـ61 ، وبهذه الآيات الكريمة : عرفنا سبحانه الاصطفاء لمن يعلم خيره وصلاحه وصدقه ، ثم بين في تلك الآيات لو تتلوها كلها بتمامها لطهارة مريم ويحيى ثم يباهلهم بالنبي وآله الطيبين الطاهرين ، وينفي عنهم الكذب ، وبهذ يدل العباد وكل المنصفين ، لملاك النبوة والاصطفاء واختيار الرسل وأوصياءهم من بعض.

ثانياً : يجب أن يكون النبي أفضل الناس أخلاقا :

يا طيب : يجب أن يكون النبي ذو طباع كريمة وسيرة حسنة شريفة ، ومنها العدالة في التصرف والأمانة والصدق والوفاء بالعهد والوعد ، ويجب أن يكون عطوف رؤوف رحيم بر محسن وجامع لجميع الأخلاق الحميدة والصفات الفاضل على نحو الكمال والتمام ، وبهذه المواصفات يصدقه الناس ويتبعوه ويحبوه ويتعلموا ومنه ويطيعوه في كل معارف هداه .

فلذا يجب أن لا يكون لئيم ولا فض غليظ القلب ولا يستخدم الغش والخيانة ، ولا إي صفة أخرى تدل على خسة الطبع ولا حتى قلة المروءة ولا الابتذال في التصرف ولا الانكباب على الدنيا وزينتها ، ويعمل بما يعلم من مكارم الأخلاق ، فقد قال تعالى :

{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَ غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } آل عمران 161 .

ويكفيك : أن تراجع حياة الأنبياء وكيفية دعوتهم لأممهم وكم مدحهم الله تعالى وزكاهم ، وعرفنا سبحانه في قصصهم في كثير من الآيات علو خُلقهم وكمال دينهم وحسن سيرتهم ، وأيضا راجع بحث العصمة الآتي ، وراجع البحث السابق في احتياج مجتمع النبي له ، وانظر قوله تعالى :

{ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } النحل 125 .

و هذا سبيل : جميع الأنبياء في دعوتهم راجع قصصهم تعرف إنهم على خُلق عظيم .

ولهذه المطالب : يكفي دليل بأنهم أنبياء مختارون لله ومصطفون لتعليم دينه القيم وهداه الموصل لكل خير ونعيم ، ولا ينال هذا المنصب إلا من كان أفضل أهل زمانه وأحسنهم وأكملهم علما وتعليما وتبليغا بكلامه وسيرته وسلوكه وبكل تصرف ، حتى يكون قدوة حسنه يوصل لعبودية الله والإخلاص له بكل مظهر له.

الإشراق الثالث : علو همة النبي وعزمه القوي على تبليغ دين الله :

بالإضافة إلى الكمال الذاتي والخُلقي ، يجب أن يكون النبي : عنده الشجاعة على تبليغ رسالته والإصرار على نشر مبادئه ، ويكون ثابت على دعوته مؤمن بتعاليمه ، بحيث يطبقها في الأول على نفسه كما يطلب من الآخرين الإيمان والعمل بها ، وأن يكون عنده حسن السياسة والتدبير وحكيم في القيادة والهداية ، وقوي على الوعظ والإرشاد والتبليغ وبأحسن بيان ، متحمل للمصائب والمحن في سبيل تحقيقها ، ولا يداهن على مبادئه ولا يتنازل عن تعاليمه ، مصر على المضي في سبيله ودعوته لدين الله .

كما و يجب : أن لا يستعمل النبي لنشر معارف هدى الله الغش والخداع والمكر والحيلة والغدر ، ولا أي صفة من الصفات المنافية لكرامة المبد ولشرف المقصد في تحقيق هدى الله في عباده ونشره لمعارف دينه القيم .

وثبات الأنبياء : في تبليغهم تعاليم الله حكاه سبحانه في كتابه الكريم راجع قصص حياتهم الكريمة ، تعرف كم تحملوا في سبيل إعلاء كلمة الله ودينه ، وكم الله تعالى أثنى عليهم وعلى صبرهم ، حتى قال تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة 24 .

وقال عز وجل : {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ، وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } الأنعام 33 ـ 34 .

الإشراق الرابع: أن يبشر نبي سابق بالنبي ألاحق :

ومن الأمور المهمة التي تعرفنا صدق مدعي النبوة : هو أن يخبر ويبشر بالنبي المبعوث الذي يراد تصديقه ، النبي السابق عليه ، بذكر بعض مواصفاته واسمه وبعض أحوال عصره ومكان ظهوره ، كما إنه يجب هو كذلك أن يصدق دعوا الأنبياء السابقين عليه ، وذلك لأنهم أنبياء ومرسلون وهداه لرب واحد أحد لا شريك له ، والله يريد بكل سبيل ممكن أن يعرف هداه من آدم إلى خاتم الأنبياء بل وإلى يوم القيامة يعرفنا الخلفاء والأوصياء لكي لا نختلف بهم ، بتعريف صفاتهم وملاك إمامتهم وسبب اصطفائهم واختيارهم كما تصدقهم سيرتهم .

والله صدق في القرآن دعوا جميع الأنبياء الذين أرسلهم والذين شهد التأريخ بوجودهم ، ولهذا شاهد معروف وواقعي في قصص الأنبياء في مثل انتظار بني إسرائيل موسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليم وآلهم وسلم ، حتى هاجر قسم من اليهود وسكن المدينة وما حولها ، وهجرة سلمان الفارسي معروفة عند المؤمنين ، وقصص الرهبان الذين بشروا بالنبي لجده بعد المطلب وعمه أبو طالب أو عرفوه في أيام رحلاته للتجارة للشام كثيرة ذكرها كل من تكلم عن السيرة النبوية المطهرة .

وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } الصف 6.

الإشراق الخامس :ظهور المعجزة على يدي النبي المبعوث :

والمعجزة : هي الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدي ، وعدم امكان معارضته .

والمعجزة : أمر مهم في تعريف النبي لتصدق دعوته لدين الله الحكيم العليم القادر ، وحتى تقام تعليمه هداه ومعارف دينه القيم ، ويطاع بإخلاص له وبتوجه تام لعبودية الله في السر والعلن ، وهذا التأييد الرباني للأنبياء لكي لا يبقى حجة لضعاف النفوس لعدم الإيمان بالنبي وعدم قبول دعوته ، ولإقامة الحجة البالغة من الله على الناس .

كما إن هذا التكريم للنبي بالمعجزة حتى يُتبع وتعرفه الناس بفضل من الله ورحمة ومنّة للنبي وللعباد ، وإلا كان يكفي لتصديقه هو : أصل النبي الكريم وخُلقه الحسن وآدابه الكاملة ومعارف هداه القيم الذي به كمال الفطرة وطلبه له ، وتصديق الأنبياء له من آدم حتى خاتم الأنبياء وتعريفهم لمحل ظهوره ومكانه ومواصفاته ، وبسلسلة متصلة من أول نبي مخلوق حتى خاتمهم وتعريفهم لبعضهم البعض ، وذلك بعد إن آمنا بالله وإنه لابد من هادي يُعرف دينه بالعقل .

ثم المعجزة لكي تكون معجزة بما عرفت من التعريف يجب أن تكون :

أولاً : خارقة للعادة : ووجودها حقيقي وبأسباب غير معروفة عادة ، وخفي على البشر العاديين الوصول لسرها وعمل مثلها .

ثانياً : مقترنة بالتحدي : أن تكون المعجزة للنبي مقرونة بالتحدي لتأييد دعوة النبي ، وإلا إذا لم تكون مقرونة بالتحدي فهي كرامة مثل الرزق الذي أعطي لمريم عليها السلام ابتداء من غير تحدي لأحد فقط لبيان فضلها ، مع عدم امكان إتيان الناس مثلها وعدم القدرة بمعارضتها فهي تفضل من غير تحدي لأحد.

ثالثاً : وأن لا تكون عن رياضة وتمرين وتدريب ، بحيث يمكن لغيره لو تمرن من إتيانها ، كما ويجب أن يمكن النبي من عمل غيرها من المعجزات بإذن الله وتأييد، وحسب الضرورة التي بها يمكنه أن يثبت بها دينه وتوجيه الناس لله تعالى.

رابعاً : وأن يكون الغرض من إتيانها دعم دعوة النبي وتأييد منزلته عند الله القادر على كل شيء ، وتساعد على دعوة الناس لمبادئ النبي وعقائده .

خامساً : ويجب أن يكون ما يقوله النبي فيما سوف يأتي به من المعجزة مطابق لقوله ـ لا يقول شيء ويحصل شيء آخر مثل مسيلمة الكذاب تفل في بئر قليلة الماء ليزيده فغار جميع مائه ونشف ـ .

و في الغالب تكون أهم معجزة النبي غالبة وفوق ما اشتهر من فنون عصره وزمانه ، كما يمكنه عمل غير ذلك ، وقد اشتهر السحر في زمان نبي الله موسى عليه السلام فجاءهم بمعجزات تماثل أعمالهم وتفوقهم كاليد البيضاء والعصا وغيرهن ، والطب في زمن عيسى اشتهر فكان عليه السلام يحيي الموتى ويبرأ الأكمة والأبرص ويشافي المرضى ، والبلاغة اشتهرت في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءهم بالمعجزة العظمى القرآن الكريم .

وبعض المعجزات خالدة كالقرآن الكريم ، وبعضها تختص بزمان محدود ، وبعضها من الإخبار بالمغيبات وتحققها بعد حين ولو بعد زمان حياته ، ومعجز الأنبياء تناقلتها الأخبار والأمم ، وبعضها لها آثر باقية كما حكي عن سفينة نوح ووجوده في جبال تركية مع ألواح نقش عليها أسماء أهل البيت عليهم السلام ، وهكذا توجد آثار عاد وثمود والفراعنة وتسخير اليهود لبنائها وغيره في الأمم .

واعظم معجزة : هي معجزة القرآن الكريم الخالدة التي أيدت دعو جمع الأنبياء وصدقتهم ، فضلاً عن تصديق دعوة خاتم المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلام ، وذكر فيه تحقق المعجزة من النبي وآله كثير في معارف الدين وتأريخه، كما أن السنة المطهرة زاخرة في شرح معجزات الأنبياء .

ونتبرك هنا : بذكر بعض الآيات الذاكرة لبعض معجزات الأنبياء والتفصيل في حياة كل نبي في صحف الأنبياء من موسوعة صحف الطيبين في المستقبل إن شاء الله إن مد الله بعمرنا ، وأما معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالخصوص القرآن الكريم فسوف نتكلم عنها في النبوة الخاصة إن شاء الله تعالى ، وقال سبحانه : {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } المجادلة 20ـ21 .

وقال سبحانه:{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا …فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا }يوسف93، 96.

وقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورً فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا }الإسراء 101ـ 103.

وقال عز وجل : { أ َنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } آل عمران49 .

وقال تعالى : { وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } يونس 37 ـ 39 .

وسيأتي بيان الشاهد للحي القرآن المجيد وبتصديق ما فيه تصديق لنبينا الأكرم ولكل معجزات الأنبياء المذكورة فيه ، وفيه معارف جمة تؤيد تحقق آياته في الآفاق والأنفس ،ودلالاته في البيان والبرهان محكمة لتعريف حقه وهداه بحق .

النور الخامس
ضرورة عصمة الأنبياء عليهم السلام

وفيه أمور :

الإشراق الأول : تعريف العصمة والمعصوم :

العصمة : هي من الصفات النفسية الدالة على علو الهمة وكمال الروح في التوجه لله وتطبيق هداه بما يحب ويرضى ، وبها يعتصم النبي أو وصيه ويتنزه عن الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها وعن الخطأ والنسيان والغفلة عن ذكر الله بكل حال له ، وكذا التنزه والطهارة عن ارتكاب ما يدل على خسة طبع وما يخالف المروءة في جميع أحواله سواء في فرحه أو في غضبه أو حله أو ترحاله .

فالعصمة : هي ملكة تقوى الله تعالى الحاصلة عن المعرفة به تعالى في أعلى مرتبة ممكنة للبشر ، وهي مطلقة في العلم والعمل والتبليغ والظهور بكل معارف الله وتعاليمه، ونشرها حسب الوسع والطاقة بأحسن صورة ممكنة لعبد من العباد ، غير محدودة في جانب معين ، وتحصل للأنبياء ولأوصيائهم بلطف من الله تعالى، وباقي الناس قد تحصل لهم عصمة حسب مراتب تقواهم وقوتهم في الكون مع الله وذكره بكل حال لهم ، وقد تكون من جوانب أو في جانب معين.

وتحصل العصمة للمعصوم : لعلمه القطعي بعواقب الأمور من حسن الطاعة وقبح المعصية والدناءة ، فتسموا وتوله نفسه في حب الله وطاعته ، وتطهر عن معصيته ولا يطيب له فعل إلا فيما يكون به رضا الله مع الإخلاص له ؛ وبهذا يشتغل المعصوم في جميع أحواله في إطاعة الله وعبوديته ورفض معصيته علما وعملا ، وكل ذلك عن إرادة واختيار من المعصوم من غير جبر على ترك المعصية والخطأ ، بل خوف الله وحب طاعته ورجاء فضله ، فلطف الله به وبره يوصله لمقامها ، فإن من يكون في هذه المرتبة من التقوى يسدده الله في القول ويوفقه في العمل ويختاره لتبلغ رسالته وتعليم معارفه وبيانها للناس ويؤيده بالمعجزة .

فالعصمة : هي لطف من الله تعالى لمن له ملكة راسخة في إطاعة الله تعالى ، وعن علم حقيقي وتقوا شديدة تصونه عن الوقوع في الخطأ والمعصية .

والمعصوم : هو الذي له ملكة العصمة ويختاره الله تعالى على علم على العالمين لتبليغ تعاليمه ، ويكون المعصوم هو المبين للمعارف الإلهية ومع القدرة على القول الحسن والعمل الصالح بكل حال له حتى في السيرة والتقرير لما يرى من الأمور ، وبهذا يثق به و يصدقه الناس ويطمئنون بأنه لا يقول شيء من عنده إل ويكون له أصل فيما شرعه الله له و لمن يتبعه ، ولولا هذا لما كان مؤثر في التربية والتعليم ، ولما قبلت دعوته ودافع عنه أصحابه وأتباعه مع الإصرار على قبول تعاليمه على طول الزمان .

ولمِا مرّ يجب أن نؤمن : أن جمع الأنبياء ومن يقوم مقامهم من الأوصياء في كل زمان ومكان كانوا فيه ، لأنه لا تخل أرض الله من حجة إلى يوم القيامة ، ولله الحجة البالغة التامة ، كلهم معصومون في القول والفعل سرا وعلناً قبل البعثة وبعدها وفي جميع أحوالهم ، وذلك لكي يقبلهم الناس لصلاحهم وحسن وجودهم وهداهم في كل حال وزمان لهم ، وعلى هذا نعرف يجب أن يكون المعصوم معصوم في أمران مهمان يجمعها معنى واحد ينطوي فيه التفصيل وهو :

الإشراق الثاني : العصمة في التعلم والتطبيق والتعليم :

القبس أول : العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي وتطبقه وتبليغه :

غرض الله سبحانه وتعالى : في عصمة أولياء دينه القيم وهداه الحق ، هو هداية البشر لحقيقة تعاليمه التي شرعها لهم أو رفع ما اختلفوا فيه من بينهم بالمعصوم ، فلابد أن يكون من يبعثه الله تعالى لتبليغهم تعاليمه ومعارفه له القدرة والقوة والفهم الصحيح لتقيها بصورة تامة ، ووفق ما أراد الله تعالى لتعليمه للبشر حقيقة من دون أي تخلف ولا اختلاف ، وإلا لو كان رسوله يخطأ في تلقيها وتعلمه ، أو في تطبيقها والظهور بها ، أو في تعليمها وتبليغها لأخل بغرضه وتخلف مقصودة سبحانه في بعث الأنبياء واصطفاء الرسل وأوصياءهم ، وهذا ينافي إحاطة الله تعالى وعلمه وحكمته بالعباد وما يصلحهم ، بل وخلاف قدرته وعدله في تبليغ تعاليمه وإيصالها لعباده ، وفي عدم علمه بالأصلح في اختياره للرسل بل للأنبياء وأوصياءهم ، وتعالى الله عن ذلك علواً كثيرا ، وقد قال سبحانه :

{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيه } البقر 213 . وقال تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } الجن 26ـ28 .

وقال تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} الرعد7 .

ولو كان يغلط ويخطأ المبلغ عن الله لتعاليمه لما كان النبي الأكرم منذر ولم يكن وصيه هادي حقيقي كما يريد الله ، وتعالى الله من أن يصطفي من لا يفي بغرضه لتبليغ هداه القيم وتعاليمه الصالحة المصلحة للنفس وهداها بما يحب .

فهذه الآيات : تبين أن الله تعالى يبعث الأنبياء لرفع اختلاف الناس ويبين لهم حقيقة تعاليمه جميعها من دون اختلاف ولا تخلف ، وهذا معناه أن النبي والهادي بعده لا يمكن إلا أن يكون معصوم ولا يخطأ في تلقي الوحي وتبليغه .

القبس الثاني : العصمة عن المعصية التي فيها هتك للعبودية :

يا طيب عرفت إن العصمة : تكون حاصلة لمن له مرتبة عالية من المعرفة و التقوى ، ولمن حصل له لطف من الله تعالى ليختاره لتبليغ تعاليمه ، وهي حاصلة لنبي أو ولصي نبي ، وذلك لأن الله تعالى غرضه إيصال تعاليمه للناس ليقبلوه ، ولو كان مبلغها قد عصى الله أو صدر منه ما هو مخالف للمروءة لم تقر له الروح ولا تسكن النفوس إلى صدقه وقبول دعوته .

والإنسان المبلغ للتعاليم الدينية : ليس مثل غيره ممن يتعلم تعاليم أخرى ويعلمها ، فلكي تسكن النفس الطالبة لكمالها بتعاليم الله تعالى ، ولتطمئن بأن هذه التعاليم حقيقة من الله تعالى لابد أن يكون مبلغها معصوم من المعصية صغيره وكبيرها قبل التبليغ والجهر بالدعوة وبعدها من أول عمره لأخره ، وذلك لكي يكون أكثر قبولا عند الناس من إنسان صدرت منه بعض المعاصي ولو تعد صغيره ، وهذا بالخصوص لمن يدعي النبوة والإمامة بل والخلافة والوصاية للنبي ، وأن تعاليم الله الحقيقة عنده ، وأن الله قد اختاره ووفقه لهذا المنصب العظيم الذي وأجب على الناس أتباعه والعمل بأقواله .

نعم لو كان فرد يقول : أنا من أتباع النبي أو أنا قد أخط ولا يدعي إن جميع تعاليم الله عنده التي أنزلها لتعليم عباده وهدايتهم ، لأمكن القول : أنه يكفي أن يكون متقي ظاهر الصلاح الآن ، بل من الممكن أن يكون تائب بعد معصية وان كان اطمئنان الناس وقبول التعاليم منه أقل تأثير وليس مثل من لا يُعلم منه معصية ولا وقعت عنه أصلاً .

والله تعالى : إذا كان يريد أن يوصل حقيقة تعاليمه ويريد من الناس أن يقبلوها بكل وجودهم وبتمام الطاعة بكل حال لهم ، فيجب أن يكون قد أختار ووفق بعض البشر بلطفه للعصمة عن المعصية قبل البعثة وبعدها وعلى طول حياتهم من الولادة إلى الممات ، وذلك لكي تتم حجته ، ويكون أبلغ في تبليغ تعاليمه وقبوله من قبل عباده ، وليتم غرض دعوته لدينه وهداية للناس لتعاليمه سبحانه ، وبأحسن صراط مستقيم وهدى قويم ، وبهذا تكون له الحجة التامة البالغة عز وجل . وقال الله سبحانه :

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ } النساء64. ولو أطيع من يخطأ في القول والفعل ومن تصدر منه المعصية ، ثم يُقتدى به في جمع حالاته ، لكان الله أمر بما يخالف غرضه من هداية الناس لتعاليمه ، والله تعالى يريد قطع عذر الناس وقبول تعاليمه بأحسن وجه ، وقد قال تعالى :

{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } النساء 164 .

ولو كان مبلغ رسالاته عاصي في فترة من حياته لكان للناس عذر في عدم طاعته ولفترات فضلا عن فترة ومره أو في شيء منها كل العمر ، ولكان لهم حق التواني في إجابته أو الإبطاء في تطبيق تعاليمه أو بعضها .

كما وحسب ما عرفنا سبحانه : إنه من يكون نبي لابد أن لا يلبس أيمانه بظلم ، وكل معصية هي ظلم من العبد لحق المعرفة بالله وهداه ، وقد قال تعالى:

{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ

وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } 82 –90 .

وجعل آل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرباه وآل بيته : هم المعصومون بعده لتعليم الناس معالم دينهم ، إذ عرفت أن آخر الآيات السابقة أن أجر رسول الله ذكرى للعالمين وهو به يتم الهدى ، ثم جعل الله تعالى الذكرى للعالمين هي متابعة آله وقرباه ومودتهم بقوله تعالى :

{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُو الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } الشورى 23 ، فجعل اقتراف الحسنات وزيادتها هي نفس متابعتهم ومودتهم ومعناه اخذ تعاليم الله تعالى منهم بعد نبيه .

فإنه لا أسألكم عليه أجرا إلا أن يكون ذكرى تنفع تعليمكم ، ولا أسألكم عليه أجر إلا المودة في القربى ، فنفس الأجر في الآيتين متحد وهو : المذكر لهدى الله هو يتم ونتمكن منه حين المودة للقربى ، وبه تحصل لن الحسنات ومغفرة الله تعالى لعباده بل وشكره لنا لإطاعته بتعاليمه الحقة من المهتدون بحق.

ويؤيد هذا المعنى ما حكى الله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام : لأنه طلب من الله أن يبعث رسل يزكوهم ، فلابد أن يكون من يزكي الناس زكي طول حياته إذ قال : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } البقرة 129 .

والمراد من التزكية هو التطهير من الرذائل ودعوتهم للهدى ، فلذا جعل بعده أئمة المسلمين مطهرون بالحصر التام والعناية الكاملة منه تعالى إذ قال سبحانه: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}الأحزاب33 . وقال : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} الجمعة 2 .

فلذا كان المبلغ عن الله تعالى : زكي طاهر من المعصية لأنه عالم بمعارف الله وراسخ فيها حتى لا يعصيه ، وبهذا عرفنا أنه راسخ في تطبقيها في كل شيء لا رجس له لا في فكره ولا في تطبيقه ولا في تبليغه ، ولا له شيطان يعتريه ولا يفلت في حكم وموقف يتسلط به على رقاب الناس ويحكم بهم برأيه وقياسه ، بل يجب أن يكون قد اعتنى به الله تعالى ورسوله وعلمه .

وفي بحوث العصمة : أدلة كثيرة من يريدها كلها ، يرجع للمطولات وبالخصوص بحوث الإلهيات لآية الله السبحاني أو تفسير الميزان وغيرها ، ونكتفي بهذ المختصر ، ونذكر ما يجعل خاتمة بحثنا مسك في عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكر ما قال الله عزّ وجلّ :{بسم الله الرحمن الرحيم : وَالنَّجْمِ إِذَ هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ } النجم 1 ـ 3 . وبقي بعض القول في تفسر بعض الآيات التي يقال يشم منها عدم عصمة الأنبياء ، ذكرها ممن تسول له نفسه أن الله قد يجعل تعليم اصل معارفه بيد العصاة ، وتركنها لركاكة استدلالهم ومن أراد أن يعرف المزيد عليه بكتب التفسير كتفسير الميزان للعلامة الطباطبائي قدس الله نفسه الزكية يعرف الحق في ذلك ، أو راجع كتاب الانتصار ( أهم مناظرات الشيعة في شبكات الانترنيت ) الجزء الرابع ، فإن فيه بحوث عميقة وكثر الجدل والنقاش فيه بين الطائفة المحقة القائلة بعصمة الأنبياء ، والطائفة المبطلة الباطل قولها يعصمون ممن دونهم من علمائهم ولا يقولون بعصمة الأنبياء.

النور السادس
أمور كليه في معارف النبوة العامة

الإشراق الأول: تطبيق بحوث النبوة العامة في النبوة الخاصة:

يا طيب : إن غرضنا مما ذكرنا من المعارف والبحوث للنبوة العامة ، وهو أن تكون أسس لما يجب تطبيقه في معرفة الأنبياء وكان هذا مختصر الكلام في النبوة العامة ، وبقيت أمور ومناقشات لا يسعها هذا المختصر ، ومن أراد فعليه بالكتب المختصة المطولة ، وأما الكلام في النبوة الخاصة لكل نبي من أنبياء الله تعالى فسوف نتعرض له في صحف الأنبياء ونقدم البحث الآن في نبوة نبيينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونطبق ما ذكرنا من الأسس في معرفة النبوة العامة ، ثم نذكر بحوث باقي الأنبياء من آدم إلى عيسى عليهم السلام ، ونذكر ما يمكن أن يستفاد من العبر والموعظة البالغة في معارف نبوتهم وتبليغهم وسيرتهم في أنفسهم ومع قومهم ، والتي إن شاء الله تقوي إيماننا وتهبنا العزم على تطبيق معارف الله وهداه ، وبكل إخلاص وعلم حق ، بل وتبليغ ونشر بحسب القوة والوسع والطاقة ، حتى لنكون من الصالحين بفضل الله وتوفيقه وفضله .

وبهذا عرفنا يا طيب : إنه كان ما ذكر هنا في النبوة العامة هو معرفة وأسس أهم البحوث التي يجب طرحاه في البحث عن النبوة الخاصة وكأصول عامة تُطبق فيها ، أي عند البحث عن نبوة كل نبي من الأنبياء ، ولما كان تصديقنا بالبحوث العامة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله بنفسه يكون أساس لتصديق نبوة جميع الأنبياء ، لأنه لا يمكن الاطلاع الحقيقي عن خواص الأنبياء ومواصفات دعوتهم إل من خلال هدى ومعارف القرآن الكريم ومن شرح سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لمعارف دعوتهم وسيرتهم بالحق ، وذلك لأن كتبهم قد حُرفت وأممهم قد غبرت ولا يوجد منه إلا آثار قليلة .

ولهذا قد ذكرنا : ضمن البحوث السابقة في النبوة العامة بعض الشيء عما يتعلق بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويثبت ضرورة بعثته عليه السلام وخاتميته نبوته وبعض ما خص اصطفاءه و معجزاته صلاة الله عليه وعلى آله وسلم ، لأنه بها يعرف خواص ممن كان قبله من الأمم وأوصياءهم ، لأنه صدقهم وعرف أحقية هداهم وضلال من خالفهم .

هذا فضلا عن قُرب سيرة نبينا وتديننا بمعارفه : وما كان من العناية الإلهية للمحافظة على هداه في كتابه المنزل عليه ، والذي فيه كل شيء يمكن أن يُعلم البشر ويُعرف أسس الحقائق عن كل شيء حتى أنبياء وسنن الهداة للأمم السابقة وما يجب أن تكون عليه مواصفاتهم ، ولذا سنقدم البحث عن نبوة نبينا صلى الله عليه وآله في الباب الآتي وما بعده ثم نحلق به معارف الهداة قبله وبعده.

الإشراق الثاني : عدد الأنبياء والمرسلين وشرائعهم :

يا أخي الطيب : من الأمور العامة التي يتم بحثها في النبوة كمعرفة كليه ، هي عدد الأنبياء والمرسلين أو أوصيائهم كمبلغين معصومين عن الله يعرفون عباد الله هداه والمصطفون الأخيار من قبله تعالى ، ولأنهم أحسن البشرية والخلق في كل علمهم وعملهم ، ومن أول الخليقة حتى نهاية الدنيا ، وحسب ما وردن من معارفهم ومعرفتهم ، وإن كان بينهم تفاضل ودراجات أيضا .

و قد صرح الله سبحانه : في كتابه الكريم بأسماء عدة من الأنبياء وقصصهم مع أممهم ، ولم يذكر عز وجل أسماء جميع الأنبياء ، ولهذا قال تعالى : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُّسُلاً : مُّبَشِّرِينَ ، وَمُنذِرِينَ ؛ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ، وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } النساء 164 - 165 .

والأنبياء والرسل الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن المجيد { 27 } اسم من أسماء الأنبياء ، وهم عليهم السلام : { آدم ، نوح ، إدريس ، هود ، صالح ، إبراهيم ، لوط ، إسماعيل ، اليسع ، ذو الكفل ، الياس ، يونس ، اسحق ، يعقوب ، يوسف ، شعيب ، موسى ، هارون ، داود ، أيوب ، سليمان ، أيوب ، زكريا ،يحيى ، إسماعيل صادق الوعد ، عيسى ، نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم } .

كما وبعض الأنبياء لم يصرح الله سبحانه وتعالى بأسمائهم ولكن أشار لشيء من قصصهم ، والكثير الباقي لم يصرح بأسمائهم ولا أشار لقصصهم ، وجاء في الروايات عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

( أن الأنبياء عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نبياً ) .

وسادت الأنبياء هم أولي العزم : وهم كما عرفت خمسة ( نوح ، إبراهيم ، موسى ، عيس ، محمد ، صلاة الله عليهم وآلهم أجمعين ) وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

وعرفت : إن كل نبي من أولي العزم كتاب فيه أحكام إلهية مناسبة لعصره ولما بعده حتى زمان النبي المرسل بعده ، وخاتمة التعاليم الإلهية هي تعالم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

كما أن بعض الأنبياء لهم صحف وكتب ، لكنها لا تحتوي على أحكام زائدة على ما في كتب أولي العزم ، مثل زبور داود المخصص للدعاء .

الإشراق الثالث : يجب الإيمان بجميع الأنبياء :

واعلم يا أخي الكريم : إنه يجب أن نؤمن بجميع الأنبياء والمرسلين الذين أخبر الله عنهم وعرفنا بهم ، فنؤمن بأنهم أنبياء ورسل الله لتبليغ هداه وإن تعاليمهم من الله ، وإن مَن أطاعهم فقد أطاع الله وهو في جنة الخلد في رضا الله ورحمة الله عليه ، وإن من عصاهم في نار جهنم خالد وعليه لعنة الله وبالخصوص من قاتلهم وحاربهم ومنع من نشر هداهم ، ولذا قال تعالى :

{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } البقرة 285 .

ولهذا : المكذب لواحد منهم يكون مكذب لهم جميعهم ، لأن دينهم واحد ودعوتهم واحدة وكلمتهم متفقة على التوحيد ، قال الله تعالى في قوم نوح مع إنهم كذبوا نوح ، عرفنا بأنهم كذبوا جميع الرسل قال تعالى :

{ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمً } الفرقان 37 .

وفي الحقيقة : إنكار دعوة الأنبياء إنكار لجدية الله تعالى في دعوته لدينه القيم ، وتنقيص لاهتمامه بهداه الحق وما يريد من حقيقة عبوديته بما يحب ويرضى .

الإشراق الرابع : إن الله لا يقبل غير الإسلام ديناً :

كما يجب أن نؤمن : أن الإسلام أخر الأديان السماوية وهو ناسخ لجميع الأحكام السابقة والمبين لحقيقة تعاليم الله تعالى ، وغير التعاليم الإسلامية من المتبقي بيد غير المسلمين شرائع محرفة غير مقبولة عند الله تعالى ولا يرضى أن يعبد بها ، ولذا قال تعالى : { قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } آل عمران 84 -85 .

فإن الإيمان : بأن الله بعث أنبياء للأمم السابقة وأنزل عليهم كتب وشريعة ، وأمرنا بالتصديق بما يدعوا إليه العقل من طلب الكمال والهدى الذي فيها بالنسبة للأمم السابقة ، وإن معارفهم حقه قد أخبر بها الله تعالى في القرآن ، وإن أمرها يقره الدين في زمانهم ، فهذا أمر ضروري يجب الإيمان به لأنه له أثار كريمة في تعريفنا جدية الله وعنايته بخلقه ، وإنه تعالى يهدي الهدى التكويني والتشريعي ، ولكل العباد في كل البلاد في كل الزمان ، ولم يهمل رعاية عبادة بتعريف دينه بالصادقين الأخيار الأبرار وبهدى كان فيه صلاحهم وخيرهم .

وأما الآن : إن ما بين المتدينين بالأديان السابقة هي نفس ما أنزل الله على الأنبياء ، وهي غير محرفة أمر آخر ، لم يقره الله لهم ، ولهذ كما كانت تعاليم المسيح عليه السلام ناسخة للتعاليم التي كانت بيد بين إسرائيل المنسوبة لموسى عليه السلام ، مع الوجوب بالإيمان ببعثة موسى والمسيح عليهم السلام ، وهكذا نسخت تعاليم موسى تعاليم نبي الله إبراهيم التي حرفها من جاء بعده وهكذ هو حاله مع شريعة نوح ونوح مع آدم .

فإن الإسلام كذلك : ناسخ لما يتعبدون به ولم يرضى الله غير الإسلام دينا لأنهم انحرفوا عن دينهم وبدلوا فيه ، وإن الدين الإسلامي هو المراد فعلا التعبد به وهو أكمل لهداية البشر في استعدادهم وحالهم الجديد وللزمان مع تطور البشر في كل جميع مجالات الحياة ، وبالخصوص في معارف العبودية والشكر لله وإطاعته بما يحب ويرضى .

فلذا نحن نؤمن : ببعث الأنبياء والرسل السابقين وأن ما أتو به هو تشريع من الله تعالى، كما نؤمن أن شرائعهم منسوخة بالإسلام والمراد لله تعالى الآن هو التعبد بهدى خاتم الأديان ، كما وإن الموجود من التعاليم بين المتدينين كاليهود والمسيح هي تعاليم محرفة وليست هي التي أنزلها الله تعالى ، وأن الحق هو ما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وآله، وهو خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وبدينه القيم يريد الله سبحانه من جميع الناس أن يعبدوه به وبه صلاحهم .

الخامس: ثبوت نبوة نبي الإسلام تثبت النبوة والإمامة :

يا طيب : ما بحثنا وذكرنا في النبوة العامة كانت أهم الأصول العامة لبحث النبوة ، وسنطبقها في البحث عن النبوة الخاصة لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيها نبحث عن أهم الشواهد الموجبة لضرورة وجوده المبارك وبعثته .

وبإثبات صدق نبينا وأن دينه حق ونبوته واقعية ، يؤيدها تأريخ الدين وتعاليمه والعقل والوجدان ، ولها شواهد صدق لا يمكن إنكارها ولا تجاهله ويجب الإيمان بها حتى يمكن معرف تعليم الله وصفاته وشكره بما يحب ويرضى ، وإن نبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء ، وإن كتابه الكريم خاتم تعاليم الله ، وإن سنته الكريمة وأخلاقه الفاضلة وأقواله وأحاديثه الشريفة هي بتعليم الله ورعايته له ، وهي التي بها يهدي عباده للصراط المستقيم .

فبعد إثبات ما ذكرنا ومعرفته : يمكن معرفة صحة دعوة باقي الأنبياء وحقيقة وجودهم ومعرفة أحوالهم ، بل معرفة الأوصياء وأئمة المسلمين بعده وخلفائه الحقيقيين .

وذلك بما يبين لنا : كتاب الله المجيد القرآن الكريم ، وسنة نبينا الأكرم وأقواله الشريفة الدالة والمبرهنة على أحوال الأنبياء السابقين والأئمة بعده ، وبما يعرفاه لنا مما يجب أن تكون عليه حقيقتهم وأوصافهم وخصائصهم وملاك إمامتهم وولايتهم .

فلذا يكون البحث : بعد هذا الباب وفي الأبواب الآتية في شواهد الصدق في النبوة الخاصة الدالة والمبرهنة على وجود نبوة نبينا الكريم وضرورته ، ونوكل البحث عن باقي الأنبياء من آدم حتى عيسى عليهم السلام لصحفهم الخاصة ، وكما وسيأتي بعد هذا الكتاب البحث عن الإمامة وضرورة وجود خلفاء وأوصياء لنبين الأكرم حقيقيين ومختارون من قبل الله تعالى ، وقد عرفنا بهم في كتابه الكريم وفي سنة نبيه المطهرة ، وبهذا نقيم الشواهد عليها ونثبت ضرورة وجود الأئمة من آل نبين الكريم بعده صلى الله عليه وسلم أجمعين .

وبهذا يكون معرفة صدق نبوة نبينا الكريم كخاتم الأنبياء ، شاهد صدق لنبوة جميع الأنبياء قبله ولإمامة جميع خلفائه الذي عرفنا بهم وبأوصافهم بعده ، وذلك لما سنرى بأنه لا يوجد كلام لله تعالى فيه حقيقة تعاليمه إلا القرآن الكريم ، وهو المعجزة الخالدة التي سنتكلم عنها في الباب الثامن لنبوة نبينا الكريم ، وكذا سنته المطهرة : التي نقلها عنه أهل بيت النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وصحبهم النجباء .

وعن آل نبينا عن نبينا وما عرفونا من نبوة الأنبياء وأحوالهم مع أممهم وتعاليمهم وعن القرآن الكريم وشرحهم له ، نعرف أخبار الأنبياء وقصصهم على الحقيقة وما يستفاد منها من العبر والموعظة بواقع التعاليم الهادي لهدى الله ، كما بها تتم معرفة جدية الله تعالى في دعوته لدينه في تواتر الأنبياء والإصرار على عدم خلو أرضه من خليفة حقيقي منصوب من قِبله ، سواء قبل نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو بعده من أهل بيته الطيبين الطاهرين كأوصياء وخلفاء حق له ، ويكون كل واحد في زمانه هو ولي الناس وقائدهم لتعاليم الله الحقيقة ، ويكون هو الذي يوصلهم للصراط المستقيم بما أنعم عليهم سبحانه من التوفيق للعصمة في الذات والصفات والقول والعمل وبكل ما يؤيد صدقه من سيرته الحسنة وكلامه البليغ الحكيم .

ولما عرفنا أن الله تعالى : قد ختم النبوة ولابد من محافظ على التعاليم الإلهية من الاختلاف فيها والانحراف عن صراطه المستقيم بمصطفين مختارين من قبله لهداية الناس ، وقد أنعم عليهم بالعصمة بالذات والصفات والقول والعمل ، ويجب أن يكون أحسن المسلمين وخيرة المؤمنين هو ولي دينهم ومعلمهم تعاليمه ورافع للاختلاف بينهم والانحراف عنه ، فيكون قد جعلهم سبحانه هم القادة لعباده المسلمين ، وهم الهداة لدينه الحق وأولياء المؤمنين وخلفاء الرسول الصادقين ،وهم الأئمة المعصومين وبهم يجب أن يأتم المسلمون لمعرفة حقائق دين لله القويم .

ولهذا يأتي البحث في الأصل الرابع للدين الذي هو الإمامة بعدم عرفنا التوحيد والعدل والنبوة ، والآن تعال معي يا طيب لمعرف أبواب شواهد الصدق لضرورة وجود نبينا الكريم وتعاليمه الواجب أن يتعبد بها لله ، فنطبق ما عرفنا من أسس المعارف للنبوة العامة في النبوة الخاصة ، ونسأل الله أن يهبنا التوفيق لبيانها والشكر التام بإقامة تعاليمها فضلا عن الإيمان بها ، إنه أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

سفينة نجاة
النبوة الخاصة
نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم

الباب الثاني في الكتاب
براهين ضرورة نبوة وبعثة نبينا محمد الأمين
صلى الله عليه وآله وسلم

في هذا الباب : بعد معرفة النبوة العامة ، نتعرف على أول تطبيق لما ذكرنا من أسس وأصول تطبيق معارف النبوة العامة في النبوة الخاصة لكل نبي ، فهنا إقامة براهين وشواهد الصدق على ضرورة بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين نبين الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

الذكر الأول
النبوة الخاصة لخاتم الأنبياء والمرسلين وأشرفهم نبينا محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وآله وسلم

هذه صحيفة النبوة الخاصة :

لسيد المرسلين والسادات ، وملتقى رحمة الله والمكرمات ، نبي الأنبياء ، وصفي الأصفياء ، نجي الله ونجيبه ، وخليل الله وحبيبه ، صاحب المقام المحمود ، وغاية إيجاد كل موجود ، شمس سماء العرفان ، واس بناء الإيمان ، شرف الأشراف ، وغرة عبد مناف ، بحر السخاء ، ومعدن الحياء ، هادي العباد ، وربيع البلاد ، الذي به اكتسى الفخر فخرا والشرف شرفا ، أفضل مخلوق في كل مراتب التكوين ، وشفيع العباد هنا و يوم الدين ، ونور الله الساطع ومصباح الهدى وسفينة النجاة ، والذكر الحكم ، والهادي المستقيم ، والصراط للنعيم ، البشير النذير ، والسراج المنير ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، المصطفى الماجد الأمين ، المعروف بالسماء بأحمد وبالأرض :

أبو القاسم محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم.

تمهيد : سُبل البحث في النبوة الخاصة وضرورة البعثة:

يا طيب : قد وضح الأمر في مسألة ضرورة النبوة في التكوين والتشريع والمجتمع في الباب الأول وبان لنا أهمية بعثة الأنبياء في النبوة العامة ، وكان بصورة تكفي لاطمئنان المؤمنين ببعثتهم ، وتقطع لجاجة المعاندين لهم ، وترفع الشك من المشتبهين بعدم أهميتهم ، وبه يكون لدينا دليل مقنع على اعتقاداتنا بالأنبياء وبرهان قوي لسبب أيماننا بهم ، وبه نعرف أصلا ثالثاً من أصول الدين ، وواجب معرفته بالبرهان والدليل لتطمئن القلوب الطيبة وليزداد إيمان الخيرين .

ولذا يا طيب : هنا نحاول أن نشبع بحث ضرورة بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله ، وبأسلوب آخر وبمعنى أوسع ليكون ذكرى لنا ويرسخ في قلوبن .

وقد عرفت يا أخي : في الباب الأول لبحوث النبوة العامة أهم الأصول التي يجب طرحها في البحث عن نبوة كل نبيا من الأنبياء ، وإن تطبيق هذه البحوث في النبوة الخاصة لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسليمها والإذعان لأدلته ، كما يثبت ضرورة التصديق بنبوة نبينا الأكرم ، كذلك يثبت وجوب التصديق بنبوة جميع الأنبياء ، بل وأئمة الحق بعده إلى يوم الدين ، وبنفس الضرورة يكون وجود كلا في زمانه .

فلذا نقدم هنا : بيان لأهم ما يدل على ضرورة نبوة نبينا الأكرم وضرورة بعثته لكافة البشر بالإضافة لما عرفت ، وبنفسه يعرفنا أهميها وخواصها وكثير من المعارف المرتبطة بتكريم الله له ولنا به ، بل للأنبياء وأممهم قبله بما شرفهم ببعثتهم وهداهم الذي فيه سعادة المؤمنين وكل عباد الله المطيعين .

ولذا يكون بمعرفة ضرورة بعثة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله بمعرفة كريمة وفق الدليل والبرهان ، معرفة لأمور مهمة عرفنا أصولها في النبوة العامة ، وهي ضرورة بعثة نبينا الكريم للحاجة الملحة لحضوره في المجتمع في زمانه ولكل زمان بعده إذ ختمت به النبوة والرسالة الإلهية ، فضلا عن ضرورة وجود النبي بأكمل هدى هو من الضرورة الكونية التشريعية في الوجود لما فيه من إتقان الصنع والهدى ، وببعثته يرفع الله سبحانه العباد من الكفر والظلم والعادات الخسيسة التي تخالف الكرامة الإنسانية ، ويجعلهم في أرقى معارف تسعدهم في كل شيء من النعيم الحق ، سواء في الروح أو البدن أو الأخلاق الكريمة والآداب الحسنة الراقية ، وفي العدل والإحسان والحلال الطيب وكل ما يُعبد به الله تعالى من طاعته وشكره ، ولهذا البحث براهين عدة .

وهذه البراهين والأدلة هنا : هي كشاهد حق لبنوة وبعثة نبين الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتأتي في الأبواب الأخرى بحوث لشواهد عدة تعرفنا صدقه وعناية الله به وتكريمه ورعايته في كل أحواله وتأييده ونصره في كل ما ينشر دين الله ويُعرف هداه الحق ، وتوفيقه بفضل الله وكرمه للظهور بكل نور هداه علما وعملا وتبليغا ، ولكل البشر فضلا عن مجتمع وزمانه ، وحافظ على هداه بما يُعرفه وجود دينه القيم بحق عند المنعم عليهم من آله صلى الله عليهم وسلم ومن سار على صراطهم المستقيم لمعرفة عظمة الله وهداه ، فنسأل الله التوفيق لبيانها والانتفاع بها إنه ولي حميد :

الإشراق الأول : بالتفكر نعرف ضرورة بعثة الأنبياء ونبينا :

يا طيب : التفكر والتدبر في هذا الوجود الواسع والمترامي الأطراف بوجوده المتقن والمحكم والذي يسير لغايته بأحسن نظم دقيق وهدى متقن ، وبكل مدد نور يصلحه ويجعله بأجمل تكامل وبكله المجموع وبما في ذلك الإنسان فيه ، كما يدل الإنسان الواعي والمتفكر على وجود خالق له ، نفس هذا التفكر والتدبر يدل الإنسان الواعي إن خير من يسد النقص ويعطي كل حاجة وكل أمر ضروري وغير ضروري سواء من الأمور المادية أو المعنوية ، هو الطلب من خالق الكون والتضرع له والسير لما يوصل لوده ورضاه وبالدعاء والعبودية وشكره على نعمه سبحانه ولطلب المزيد من كراماته وهداه ونعيمه الطيب الذي يسعد العبد به ويرتاح بالتصرف به والكون فيه .

ولما كان الإنسان : بعد النعم المادية ، باحث بطبعه عن النعم المعنوية التي بتطبيقها كقوانين ينعم بالنعم المادية فضلاً عن المعنوية ، ويسير بها في حياته بأمن وسلام وسعادة ، ويتكامل وجوده بفرح وسرور ، وباطمئنان قلبي بم قسم له .

ولما كان الإنسان العادي : يقصر عن الوصول لما عند الله تعالى من التعاليم يسعى للبحث عن مَن عنده تلك التعاليم ، ومَن تمكن مِن الوصول للحصول عليها وأخبر إنه منبئ عنها وعن هدى معارفها ، فيبحث عن الأنبياء وأوصياءهم لأخذ تعاليم الله تعالى منهم ، ويجد في تطبيقها العاقل وذو اللب المتفكر في طلب حقيقة سعادته وروحه .

وبعبارة أخرى : إن الإنسان بوجوده ونفسه و في طبيعته وفي ذاته يحب الكمال ويسعى إليه ويحاول أن يحصل على كل ما ينفعه ويُكمله ويسد نقصه ويرفع حاجته المادية والمعنوية ، فيتجه إلى من عنده الكمال المطلق وهو الله تعالى فيحاول الاتصال به بنفسه ، وإذا عجز بحث عمن قد ساعدته العناية الربانية وأتصل بخالق الكون ليأخذ منه كل ما يُكمله ويوصله للكمال المطلق وما أنزل إليه من المعارف والتعاليم الربانية .

ونفس هذا التفكر : يدعوا الإنسان الباحث عن الكمال الحقيقي بأن يبحث عن آخر تعاليم الله من غير تحريف واختلاف ، ويجب أن يؤمن بآخر الأنبياء ، وإذا اخبر بختم النبوة يجب عليه البحث عن أوصياءه الحقيقيين وبالدليل المحكم وبالبرهان الواقعي القطعي ليتصل بهم وبمعارفهم فيأخذ هدى الله منهم .

وإذا عرفت هذا يا أخي الكريم : تعرف أن النبوة ضرورة فطرية مغروسة في فطرة الإنسان السليمة ، وهي تبع للفطرة الباحثة عن إله والطالبة للكمال منه والساعية لرافع النقص والحاجة عند الإنسان ، وبالوصول للنبوة وعند معرفة ختمه ، يدعوه الوجدان والعقل للبحث عن الأمام والخليفة الحق بعد النبي .

وأما من فسدت فطرته : واتبع هواه وأغواه الشيطان فهذا له كلام أخر ويكون في الغالب يرى كماله في المصالح الشخصية الآنية دون المستقبلية ، ويتهرب من المسؤولية الدينية والعبادية ، ولهذا يكون أيضا ممن جحدوا بها واستيقنته أنفسهم ، وبالخصوص إن عرف الله ولم يطلب هداه بحق .

والله تعالى : قد أرشدنا لما ذكرنا في القرآن الكريم في مواطن متفرقة :

فقال تعالى : { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }طه50.

وقال سبحانه : { اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } إبراهيم 32 ـ 34 .

وقال عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } النحل 36 .

فإذا عرفنا : أن الله أعطى كل شيء خلقه ثم هداه الهداية التكوينية ، نعرف أن الهداية التشريعية هي غاية وجود الإنسان الذي هو خلاصة الوجود وثمرته ، والتي بها سخر الله تعالى له كل شيء وأعطاه كل ما سأله في وجوده وحاله ومقاله ، فبعث سبحانه في كل أمة رسولا يهدي العباد الهداية التشريعية ويُعلم المعارف والتعاليم الربانية ، وهذا مشهود لكل من يسير في أفاق وجود الكون ونفسه ليشعر أن الله تعالى كما خلقه بعث له هداة يعلموه ما يجب عليه سلوكه في مسيره في هذه الحياة وما هو المراد منه فيها وما يوصله لنعيمه الآن ويكون خالدا فيه ، ونفس الشيء يحصل لكل من يسير بتفكيره السليم في أفق التأريخ الديني للأمم الماضية ، فيرى كل البشر طالبين لهادي من رب العباد ولكن بعضهم قد يجد ويصيب ولي دينه ، وبعض قد يقصر أو يُقصر أو يعاند لطمع بالدنيا أو لكسل في تحصيل مصلحته الحقيقة ونعيمه الأبدي فيضل .

والله تعالى : أمرنا أن نسأله في كل يوم الهداية مع أنا مهتدون لدينه مسلمون له ، وما ذلك إلا لنبحث عن الحقيقة الإيمانية التي يجب تعلمها من خاتم أنبياءه و ببيان أوصياءه وخلفاءه الحقيقيين ، فقال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَـــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } الفاتحة 5 ـ 7 .

فمن هذا الجانب يا طيب : بأن وجود الإنسان يستلزم الهداية التشريعية المستلزم لبعث الأنبياء ، وجب البحث عن التعاليم الربانية منهم بعد معرفتهم بالدليل والتحقيق لا من كل مدعي لوجود التعاليم الربانية عنده .

وقد عرفنا : إن الله ختم دينه بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله عز وجل : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } الأحزاب 40 .

وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } الفتح 48 ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } التوبة 33 . ولذا قال سبحانه وتعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } آل عمران 85 .

فأراد الله بعد ما ختم النبوة أن يظهر دينه برفع راية الإسلام وينصر رسوله ، وقد وفي الله بوعده كما يشهد لهذا تاريخ الإسلام وكثرة من اسلم ، ففاق المسلمون كل مذهب ودين ، وأن كان المطلوب منهم بعد الإيمان ومعرفة النبي الكريم ، وهو البحث عن حقيقة التعاليم الإسلامية التي عند أهلها من أوصياء النبي الحقيقيين وبالخصوص حين يعرفوا وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، حيث أمرهم سبحانه وتعالى بطلب الهداية للصراط المستقيم من المنعم عليهم بتعليم هداه ولهم خصوصيات وملاك عرّفه لنا الله بسنة نبيه وفي كتابه وفي كل يوم عشر مرات طلب منا أن سأله هذه المعرفة والتوفيق لمعرف المنعم عليهم بحق لنكون معهم ومنهم لا من المغضوب عليهم ولا الضالين ، ولله الحجة البالغة ، وعلى الناس معرفة الهداة الصادقين والحقيقيين بالدليل والبرهان للصراط المستقيم بعد النبي الكريم ووجوب إتباعهم وعدم الانحراف عنهم م داموا مؤمن بالله.

الإشراق الثاني : بعثة الأنبياء ونبينا ضرورة تكوينية وتشريعية:

في الحقيقة ضرورة بعث الأنبياء وتجديد عهد التعاليم الربانية لهداية البشر التشريعية في كل فترة حسب استعدادهم لتحملهم المسؤولية الدينية ، ضرورة لا بد منها ، ومسيرها مرافق لمسير الهداية التكوينية بل هو منها وإن سميت بعثة الأنبياء ورسالتهم هداية تشريعية ، فكما أن الوجود محتاج في كل آن لربوبية الله وهداه وقيومية التكوينية ليسير الكون بكائناته إلى غايته وغرض وجوده ومستقره الذي أعده له الله تعالى بأحسن صورة ممكنة للخلق ، فإنه لابد لبقاء الكائنات من مدد نور الله وفيض رحمته ليستمر وجودها وليتكامل وإلا يفنى وينعدم .

كذلك البشر وكل وجود مُشرف بالهداية التشريعية والواجب عليه إطاعة التعاليم الربانية والتي بها صلاحهم ونعيمهم ، يحتاج لربوبية الله وهدايته وقيومية التشريعية ، ويجب أن يكون سيرهم لتطبيقها وفق صراط الله المستقيم الذي أعده الله تعالى لهم بكل معارف دينه القيم ، وبه يصل العباد لحقيقة عبوديته سبحانه ولسعادتهم بنعيم في الدارين .

ثم إن الهداية التكليفية : متعلقة بأفعال العباد لتسلك بهم وتهديهم وتربيهم لحقيقة التعاليم الربانية في نعم الأخلاق وطلب الحلال والعبودية وفي جميع شؤون الحياة ووفق آخر استعداد لهم ، كما كانت ولا زالت الهداية التكوينية متعلقة بذواتهم ونفس وجودهم ، وتنعم عليهم بالبقاء والاستمرار بالحياة وفق أحسن الظروف والأحوال المناسبة لهم ، وهذا غاية التكوين كما عرفت .

وبعثة الأنبياء وتواترهم : واحد بعد الآخر ، ضرورة وجودية تشريعية ملازمة للهداية التكوينية ، ومكملة لمسير تكامل الكائنات في كل مرحلة ومرتبة وجودية وفي نفس الزمان الأرضي .

بل الهداية التشريعية : هي غرض الهداية التكوينية وغايته ، وبها يتم حسن وجود الخلق وجمال فعل الله تعالى وبه تمام الكمال الكوني ، ويمكن أن يقال لا معنى للهداية التكوينية بدون وجود الهداية التشريعية.

ونبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته في آخر وأعلى استعداد للبشر لتلقي وتعلم المعارف الربانية ، كان ضرورة تشريعية لابد منها لتتم به هداية الله تعالى وربوبيته وقيومية التكليفية التي ينزلها للبشر وليوصلهم به لسعادة الدنيا والآخرة ، ولو كان بعد يوجد هناك تطور واستعداد أعلى للبشر لتعلم المعارف الربانية لما ختم الله تعالى النبوة به .

ولكنه سبحانه ختم النبوة : وجعل لنبينا الأكرم أوصياء وخلفاء أوجب حبهم ومودتهم وطاعتهم بنص كتابه المجيد ، وكما قام سبحانه باختيار الأنبياء وجعل لهم أوصياء و خلفاء وأئمة مختارون ومصطفون من قبله تعالى ، فإنه بعده يقومون مقام الأنبياء في المحافظ على الدين وتعاليمه الربانية ولكن من غير تشريع جديد ولا يحتاج لتنزل معارف أخرى بالوحي كما كان في السابق للأنبياء .

فسبحانه أتم علينا نعمة الهداية التشريعية وفق أخر استعداد للبشر ، وأنزل تعاليمه في خاتم الأديان لكل العباد ولكل الناس في كل البلاد وإلى يوم الدين ، وإلا يكون ختم الدين مع عدم نصب من يعتصم به المسلمون من الاختلاف في تعاليم الله والمعارف التي أنزلها لهداية البشر هداية تشريعية ، خلاف غرض الخلقة والهداية التكوينية والتشريعية .

وبهذا نعرف : إن الله تعالى جعل أنبياء على طول التأريخ والزمان وختم النبوة بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله ، لأنه لا استعداد للبشر أفضل في تلقي معارف جديد غير الدين الإسلامي ، وحافظ على تعاليمه وهداه بكتاب أنزله ، وحافظ عليه بتعليمه بكل معانيه بما يحب ويرضى بأوصياء للنبي الخاتم ، وهم يبينون تعاليمه ومعارفه وحقائقها وشرحها وفق ما أنزلت على خاتم الأنبياء ، ومن دون أي تحريف واختلاف وتخلف ؛ وبهذا تتم نعم الله ويكمل دينه وتختم النبوة ويحصل بمتابعة الأوصياء رضا الرب .

وهذا دليل عقلي عرفت أصله في الباب الأول وهنا ، ويؤده الله في كتابه الكريم ، وتبرهن عليه السنة المطهرة لخاتم الأنبياء ، ويقر به كل منصف ومتتبع لتعاليم الله تعالى وسنة نبيه وتأريخ الديانات ، ويقنع به كل من له إلمام بسيط بالثقافة والتعاليم الربانية ومؤمن بمعارفه ، وهذا بنفسه يثبت ضرورة بعثة نبينا الأكرم لاحتياج البشر لرسالته وختم النبوة به وجعل الأوصياء له .

والآن يا طيب : في البرهان الآتي ندعم ما ذكرنا هنا وهناك بالآيات القرآنية والشواهد الأخرى تيمنا وتبركاً ، وليطيب قراءة البحث للمؤمنين ، ويحسن تكامل شرح البرهان للخيرين ، والطالبين بحق معارف الهدى من أصول الدين ، وبالخصوص معارف النبوة وتكاملها بتمام معناها وخواصها.

الإشراق الثالث : ضرورة بعث نبينا الكريم بنص كلام الله ولطفه:

قد بينا في بحث النبوة العامة وأشرنا هنا بأن : أهم الأمور لبعث الأنبياء هو هدايتهم لمعارف الله ، وهذا معناه احتياج البشر للنبي ولتعاليمه التي فيها حقيقة العبودية الله والموصلة لنعيمه في الدارين ، وبالخصوص حين تتغير معارف الله المنزلة على الأنبياء السابقين والرسل من أولي العزم الماضيين ، فضل عن كون البشر قد استعد لتحمل معارف رسالة جديدة وفق ظروف زمانه الجديد وتطوره العقلي والبشري ، فيكون بحاجة شديدة لنبي مرسل به تُعرف معارف هدى الله الحق والذي به سعادة البشر وما يحب الله سبحانه أن يعبد به وفق أخر تكامل لهم وتطور في وجودهم فضلا عن فقدانهم لمعارفه الواقعية والصادقة .

وحينها : بعد أن يُحرف دين الله تعالى وتفقد تعاليمه ومعارفه من الأرض بالتحريف ، فيعم المجتمع والبشر الضلال عما يرضي الله وعما به سعادتهم وينتشر الكفر ، وهم في أنفسهم تكون عندهم الطاقة لمعرفة أكمل معارف لله التي يمكن أن تسعدهم .

يكون من لطف الله ورحمته : أن ينزل معارف دينه القيم الذي يهدي به عباده بأفضل أهل الأرض في ذلك الزمان ، وأحسنهم قدرة وطاقة لتعلم وتعليم وتطبيق معارف الله مع طهارته في نفسه ، فيقوم النبي المرسل صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ دين الله تعالى بكل طاقة وسعة ممكنة له ، وينشر بها دين الله تعالى وهداه ، ويكون مُجد له همة عالية في نشر دينه وتعليمه فضلا عن تطبيقه في نفسه ، وهذا ما تشهد له معارف نبينا محمد صلى الله عليه وآله وحال مجتمعه ونفس همته وجديته في تطبيق معارفه ، كما ستعرف .

وهذا البرهان : يشهد له الوجدان الحق والفطرة الطالبة لنور هدى الله ، والتي يراها بحق متحققة بتعاليم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويؤيده بكل يقين تأريخ الدين وتعاليم رب العالمين في الأمم السابقة ، وما سنعرف من تأريخ سيد المرسلين .

فإنه باليقين : بمعرفة ما عليه الناس في زمان النبي من التوجه للبلاغة والشعر وكل ما يلهم الفخر وحب الظهور ، فضلا عن جهلهم التام بمعارف الله حتى عبدوا الأصنام ، فقام سبحانه بإنزال أحكم تعاليم وأبلغ كتاب هدى ، وبه عرفن بحق المعرفة العظيمة لحُسن هدايته ، والتي تصلح لكل البشر وفي كل زمان ومكان ، حتى لتوجب علينا إطاعة نبينا وحبه وحب معارفه لما فيها من البركة والخير في كل شيء من معارف الحياة والعبودية لله ، وشكره على نعمة الهدى الكبرى ، كما ويوجب علينا تعلم هداه وتطبيقه بكل جد ، وكما يحب الله ويرضى بوجوب تعلمه من الصادقين المصدقين .

وبعبارة أخرى : أن الهداية الربانية ضرورة وجودية كالهداية التكوينية لتصل بالبشر لسعادة الدنيا والآخرة ، وهي موافقة لأخر استعداد لهم ، وذكرنا في البرهان الأول آيات من القرآن الكريم تبين ذلك للمتدبر بها ، فإنه وإن كان البرهان الأول : أعد للنظر في نفس الكون وحكمة الله في حسن تدبيره ومن خلال تفكر الإنسان الفطري فيه ، والبرهان الثاني : ناظر لتكامل الوجود بالهداية التشريعية وهي غاية له من جهة عليا موجبة لوجود النبي في كل زمان ومكان أو من يقوم مقامه من الأوصياء ، وهذا البرهان الثالث : ناظر للطف الله حين ينحرف العباد عن الهدى الحق ،و مع وجود استعداد لهم لتقبل معارف أعلى وهدى أكمل لإصلاح حالهم ومآلهم .

لكن التدبر : في الآيات السابقة نفسه يرينا حيثية هذا البرهان كما يرشدنا للبرهانين السابقين ، وهنا نذكر آيات سورة الجمعة الدالة على ضرورة بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لما كان عليه حال مجتمعه بل دين الله في كل بقاع الأرض من الاختلاف فيه بين الأمم ومن الانحراف عن واقع تعاليمه ، فتفضل على العباد بدينه القيم وهداه الجديد المنزل بمعارف خاتم الأديان ، وبه تعرف لطف الله ببعث نبينا الأكرم وتفضيله بالنبوة والرسالة ، وتعريفه لنا بما علمه وما أقدره على تبليغ هداه .

فقال الله تعالى : { بسم الله الرحمن الرحيم

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }الجمعة 1-4 .

فهذه آيات من سورة الجمعة : تبين أن الله برحمانيته ورحيميته وبحكمته وعزته التي لا يحتاج بها لمساعد ، جعل معنى للوجود المخلوق وقيمة حسنى وجمال أكمل حين جعل كل شيء يسبح بحمد خالق الكون ويقدسه بتكوينه ووجوده ، ويظهر علو مقام موجده وعظيم علمه وقدرته ، كما إن الكون بعجائب موجوداته ودقت صنعها وسعة كونها وكثرتها يدل على جسيم نعمه التي لا تحصى ، وهي كلها مسخرة للإنسان لكي يقيم هدى الله تعالى ، فجاء دور عصارة الوجود والمفضل على كثير من الخلق أقصد الإنسان بعد أن أصبح ضالا عبد الأصنام وأشرك بالله ، و لا يعرف شيء من تزكية النفس ول من التعاليم الله الحقة ولا معارفه الواقعية التي تسعده ، ولو بقي هكذا لفقد حكمة وجوده.

فبعث الله العزيز الحكيم : من نفس هؤلاء البشر الأميين رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وهو سبحانه المتفضل عليه وعليهم ، فعمهم خيره وفضله بتعاليمه لتشمل جميع جوانب الحياة و لكل من يطلب الحق سواء كان في زمن النبي الأمي الأمين ، أو لمن يأتي بعده ، لأن الله ختم بتعاليمه التي أنزلها عليه النبوة ونزول الوحي منه ، وذلك بعد أن جعل عليها محافظ من أوصياءه وآله الطاهرين أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وذريته من بعده ، الذي بقي خلفه يصلي في تلك الجمعة المشهودة ومن أقر له بعد رسول الله بالخلافة ولم يتبع اللهو والتجارة كما عرفن سبحانه في باقي السورة ، حيث أنفض المسلمين من حوله.

فإن الباقين وإن كانوا يصلون خلفه نبي الرحمة: في تلك الجمعة لكن لنداء بيع وشراء لشيء من زينة الحياة الدنيا ، تركوا النبي يصلي بهذا الرهط المختار لتحمل تعاليم الله ، فصلى بهم تلك الجمعة المشهودة التي نزلت بها هذا السورة.

وبهذا السورة الكرية: شبه الله تعالى الحادثة بمن يحمل علم الله ولا يعمل به مثل اليهود والحمار الذي يحمل أسفاراً لا يعرف ما يحمل ، تدبر سورة الجمعة إلى آخرها تعرف ما ذكرنا واستعلم حال من بقي يصلي خلف رسول الله من العلماء بالله تعالى وتعاليمه ومن تبع اللهو التجارة تعرف الأمام والخليفة الحق بعد رسول الله من غيره .

ويا طيب : الآيات كثيرة في ضرورة وجود نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وضرورة بعثته وحاجة الناس له بعد فترة من الرسل ، والله هو اللطيف الرحيم والبر بعباده لم يتركهم سدى بعد إن خلقهم ، ولكن كرمهم بهداه وبتعاليمه الكريمة التي تهبهم معنى الحياة الراقية في كل أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية في تعاملهم وملكهم وزواجهم وكل شيء من سلوكهم ، فضلا عن التوجه له تعالى والاطمئنان بذكره وفضله ووعده ووعيده ، كما في قوله تعالى :

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } المائدة19.

وفي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجً مُنِيرًا } الأحزاب46 .

وفي قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }الحديد9.

وفي قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} سبأ 28 .

أقول : القرآن كله هو نور هدى الله لعباده ليهديهم للصراط المستقيم وليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وكذا خُلق النبي وسيرته وكل تعاليمه ، وحاجة البشر للنبي الكريم وتعاليمه صلى الله عليه وآله وسلم هي اشد من حاجتهم للماء والهواء والغذاء ، ما قيمة الإنسان أن يكون عنده كل ما يحتاج من المادة ولوازم زينتها ، وهو يتعلم ويعمل بها بكل ما مكنه الله ليظلم أبناء جنسه ويعتدي على آخرين ويتسلط عليهم ، ويفسد في الأرض بكل ما آتاه الله من قوة ، فضلا عن ارتكاب الفسق والفجور وكل ما يخالف شأن الإنسان الكريم في نفسه وفي أسرته وفي مجتمعه وفي تعامله ، فضلا عن الكفر بالله وعدم شكره على نعمه التي لا تحصى ، ويفقد كل ما تطمئن به نفسه من القيم وكل ما يريح بها باله من مكارم الأخلاق والآداب الحسنة ، إذا لم يكن له وازع ديني يحثه عليها ولا أيمان بالله يدعوه للتمسك بها ، ولا فطرة سليمة تجعله يتوق للتحلي بها .

فيا أخي الكريم : لولا تعاليم الله تعالى المنزلة على الأنبياء وبالخصوص خاتمهم وسيد المرسلين ، لكان الإنسان أضل من الحيوان ، بل الحيوان ليسمو عليه ويكتفي بما يسد رمقه ووحش الغاب لا يعتدي بعد الشبع ، والإنسان طماع لا يشبعه ملك الدنيا ، ولو ملكها لطب الفضاء وطرق السماء ليحب أن يتسلط عليها ويتملكها ولو لأيام قليلة في حياته الدنيا وبكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة ، ومع علمه إنه سيفارق كل ما جمعه مع حسرة وندامة مادام لم يتفرغ للتمتع به بحق ولأيام تستحق هذا التعب وألم الحرب والغصب ومنغصات المقاومين من المظلومين وتأنيب الضمير إن بقي عنده منه شيء يذكر .

ولكن بتعاليم الله تعالى : يسموا الإنسان ويكون لحياته قيمة ولوجوده معنى ، وكم من التعاليم التي بثها الإسلام حتى في المعاندين له وألزم به أشد أعداءه وجعلهم أناس يحترمون الأخلاق الفاضلة وينادون بها ، ويتشبثون بأنهم يطبقوها ويتظاهرون بها ، وإن كانوا في الداخل من وجودهم يشم الفطن منهم كل مكر وحيله وخداع وحب الوعد والوعيد والتسلط من غير حياء ، وترى بأقل تدبر في سيرتهم إن في فكرهم وعلمهم وعملهم غير ما يذكرون .

فإن الإسلام وتعاليمه الكريمة : هي التي تملئ عقل الإنسان وقلبه معنى واقعي لحب البر والإحسان وطلب المغفرة من الرب الرحمان ، حتى جعل الإنسان الآن بما عرفنا من تعاليمه فيه بعض الخير والصلاح واحترام للحقوق ولو ظاهرا ، وهذا كافي لأن يسير الإنسان بسلام بعض الوقت ، حتى يقيم الله دولة الحق في اليوم الموعود ويمكن عباده ، إذ قال الله تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } القصص5 .

فنسأل الله أن يظهر دينه بوليه الحق ويجعلنا معه إنه أرحم الراحمين .

الإشراق الرابع : الإمام علي يبين ضرورة بعثة نبينا الأكرم:

كان في زمان بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم : المجتمع البشري بصورة عامة في جميع بقاع الأرض وبالخصوص في شبه الجزيرة العربية ؛ بحاجة ماسة وضرورة قائمة لنبي كريم يقوم بأعباء الرسالة والتبليغ لأحكامه الله تعالى وتعاليمه ، ولكي يرفع الناس إلى العدل والإنصاف والإيمان بالله تعالى ويدلهم على مكارم الخلاق والصفات الحميدة ، وبصورة صحيحة ليصل بهم لسعادة الدنيا والآخرة ، وذلك بعدما ساد الجهل والظلم و انحطوا في الكفر والشرك والنفاق وتعاملوا بالخيانة والغدر والمكر والحيلة ، و بدلو أكثر الناس نعم الله كفرا ، وضلوا عن سموا معرفته وعبوديته ، وآياته الحكيمة لتربيتهم وتهذيبهم وعن أحكامه الطيبة وتعاليمه المطهرة للروح وللبدن ولكل شيء في المجتمع .

فبعث الله سبحانه وتعالى : نبي كريم في ذاته ونسبه وصفاته و شريف في جمع خصائصه وحالاته ، سيد المرسلين وخاتم للنبيين وحبيب لقلوب العالمين ، آلا وهو نبينا محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أجمعين صلاة الله وسلامه ، وأيده بنصره بالنبوة ومعارف الكتاب والحكمة ، فأنزل عليه كلامه الكريم القرآن المجيد بعد أن نص عليه بالتوراة والإنجيل الغير محرفين ، وعرّفه الأنبياء السابقين لأممهم وبشروا به مجتمعاتهم ، فضلا عما أختص به صلى الله عليه وآله وسلم من خُلق عظيم يفوق جميع من سبقه ومن لحقه من الأولين والآخرين .

وهذه وصية لوصي النبي وخليفته بالحق : علي بن أبي طالب عليه السلام يبين حال الناس في زمان بعثة نبينا الأكرم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويبين ضرورة بعثته وحاجة الناس إليه ، وكيف إنه مختار مصطفى على علم بإخلاصه في تبليغ دينه ، وهي تعرفنا شرفه وكرامته عند الله وتكامل هداه لكل البشر فيسعدهم تطبيقه ، ولكي لا أطيل عليك الكلام يا طيب ، نذكر كلام سيد البشر عليه السلام بعد نبينا ، وقد ذكرنا قسمه الأول في النبوة العامة ، وهذا القسم الآخر في النوة الخاصة ونتدبر فيه :

قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام :

(( .... إِلَى أَنْ بَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله لإنجاز عِدَتِهِ وَتَمامِ نُبُوَّتِه ِ.

مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلادُهُ.

وَأهْلُ الأرض يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ ، وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِِ بِخَلْقِهِ ، أَوْ مُلْحِدٍ في اسْمِهِ ، أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرهِ .

فَهَدَاهُمْ بهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ ، وَأَنْقَذَهُمْ بمَكانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ .

ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمحَمَّدٍ صلى الله عليه لِقَاءَهُ ، وَرَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ ، فَأَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا ، وَرَغِبَ بِهَ عَنْ مُقَارَنَةِ البَلْوَى ، فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً ، وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأنبياء في أُمَمِها ، إذْ لَم يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً ، بِغَيْر طَريقٍ واضِحٍ ، ولاَ عَلَمٍ قَائِمٍ )) .

نهج البلاغة ، الخطبة الأولى .

وقال عليه السلام في خطبة أخرى له : (( وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَالعَلَمِ المأْثُورِ ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ ، والأمر الصَّادِعِ .

إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ ، وَتَحْذِيراً بِالآيَاتِ ، وَتَخْويفاً بِالمَثُلاَتِ .

وَالنَّاسُ في فِتَنٍ انْجَذَمَ ، فِيها حَبْلُ الدِّينِ ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي ، اليَقِينِ ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ ، وَتَشَتَّتَ الاََْمْرُ وَالمَصْدَرُ .

فَالهُدَى خَامِلٌ ، واَلعَمَى شَامِلٌ .

عُصِيَ الرَّحْمنُ ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ ، وَخُذِلَ الإيمان ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ ، وَتَنكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ ، أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ ، وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ ، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلامُهُ، وَقَامَ لِوَاؤُهُ .

في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا ، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَ ، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا ، فَهُمْ فِيهَا : تَائِهُونَ حَائِرونَ ، جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ ، في خَيْرِ دَارٍ ، وَشَرِّ جِيرَانٍ ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ ، بأَرْضٍ عَالِمُها مُلْجَمٌ ، وَجَاهِلُها مُكْرَمٌ )) .

نهج البلاغة الخطبة الثانية .

وقال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة له يصف فيها العرب قبل الإسلام :

(( إِنَّ اللهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ، وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ .

وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ : عَلَى شَرِّ دِينٍ ، وَفِي شَرِّ دَارٍ ، مُنِيخُونَ (1) بَيْنَ حِجارَةٍ خُشْنٍ (2) وَحَيَّاتٍ صُمٍّ (3) تشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ الجَشِبَ (4) وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ ، الأصنام فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ ، والآثام بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ ))

نهج البلاغة الخطبة 26 ، والشرح 1. مُنِيخُون: مُقيمون ، 2 . الخُشْن: جمع خَشْنَاء من الخشونة ، 3 . وصف الحيّات «بالصّمّ» لاَنها أخبثها إذ لا تنزجر بالأصوات كأنها لا تسمع ،4. الجَشِب: الطعام الغليظ أوما يكون منه بغير أدم.

ومن خطبة له عليه السلام في الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وبلاغ الإمام عنه وقال فيها :

(( أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ (1) مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الاَُْمَمِ ، وَاعْتِزَامٍ (2) مِنَ الْفِتَنِ ، وَانْتَشَارٍ مِنَ الاَُْمُورِ ، وَتَلَظٍّ (3) مِنَ الْحُرُوبِ ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ ، عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا ، وَإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا ، وَاغْوِرَارٍ (4) مِنْ مَائِهَا ، قَدْ دَرَسَتْ أعْلامُ الْهُدَى ، وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرِّدَى ، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ (5) لاََِهْلِهَا ، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَ ، ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ (6) وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ (7) وَشِعَارُهَا (8) الْخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا (9) السَّيْفُ .

فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ ، وَاذْكُرُوا تِيكَ الَّتي آبَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ(10) وَعَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ .

وَلَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَلاَ بِهِمُ الْعُهُودُ ، وَلاَ خَلَتْ فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم الاََحْقَابُ (11) وَالْقُرُونُ ، وَمَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ كُنْتُمْ فِي أَصْلاَبِهِمْ بِبَعِيدٍ )) . نهج البلاغة الخطبة السادسة والعشرون ص 89 .

والشرح : 1ـ الفَتْرة: ما بين زماني الرسالة. 2 ـ اعتزام، من قولهم: «اعتزم الفرس» إذا مرّ جامحاً. 3 ـ تَلَظٍّ: أي تَلَهّب. 4ـ اغْوِرار الماء: ذهابه. 5 ـ متجهّمة، من «تجهمه»: أي استقبله بوجه كريه. 6 ـ ثَمَرُها الفتنة: أي ليست لها نتيجة سوى الفتن. 7 ـ الجيفة : إشارة إلى أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار. 8 ـ الشّعار من الثياب: ما يلي البدن. ،9 . الدّثار: فوق الشّعار. 10ـ مُرْتَهَنُون : أي محبوسون على عواقبها في الدنيا من الذل والضعف. 11ـ الاَحْقَاب: جمع حُقب ـ بالضم وبضمتين ـ قيل: ثمانون سنة، وقيل أكثر، وقيل: هو الدهر.

والله الكريم : إنها لمعارف قيمة وحكيمة في قصر لفظها وكبير معناها ، ولترين كل تأريخ الدين وأهل في صدر الإسلام وقبله وبعده ، وتعرفنا حال عباد الله ، وترشدنا لعظمة الله في تدبير خلقه وحبه لهم ليعلمهم ما به صلاحهم وخيرهم ، حتى ليتنعموا بعبوديته وطلب الحلال من ورزقه ، والعدل والإحسان والبر بينهم ، ويتوجهوا بكلهم لطاعة الرب والكون في رضاه .

وهي بنفسها : ترينا إن التفكر يدل على الله تعالى وهداه التشريعي حتمي وإن مجتمع النبي الكريم محتاج له بأشد ضرورة ، فكان بلطف الله بعثته وإنزال تعاليمه عليه ، ونسأل الله أن يجعلنا من المهتدين به وبآله ورحم الله من قال آمين.

الإشراق الخامس : ضرورة بعثت نبينا ببيان فاطمة الزهراء :

قالت بضعة المصطفى سيدة نساء أهل الجنة فاطمة الزهراء بنت النبي عليه السلام في خطبة لها في مسألة غصب فدك ، تعرفنا معرفة كريمة في معرفة أحوال المجتمع البشري أو قوم أبيها النبي الأكرم قبل البعثة ، وإنه كان بعثته لهم بفضل الله ولطفه ووفق أمرا مقضيا لعلمه بثباته وطهارته في عبوديته وتبليغ رسالته ، وجده وجهاده لنشر دينه حتى يُعرف ويحلي عباده بكل كمال لوجودهم ولإنسانيتهم من هدى دينه القيم ، فاسمعها يا طيب وهي تقول بأفصح كلام وأبلغه ، فإنها فاطمة الزهراء أم أبيه نبي الرحمة صلى الله عليهم وسلم : (( … واشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمّن القلوب موصولها ، وأنار في التفكير معقوله .

الممتنع : من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيته ، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثاله ، كونها بقدرته ، وذرأها بمشيته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلا تثبيتاً لحكمته ، وتنبيهاً على طاعته ، وإظهار لقدرته ، وتعبداً لبريته ، وإعزازاً لدعوته ، ثمّ جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادة لعباده عن نقمته ، وحياشة إلى جنته .

وأشهد أنّ أبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله ، أختاره وانتجبه قبيل أن أرسله ، وسماه قبل أن اجتبله ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونه ، علم من الله بمآل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بعواقب الأمور .

أبتعثه الله تعالى : إتمام لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنقاذ لمقادير حتمه . فرأى الأمم : فرقاً في أديانها ، وعكفاً على نيرانه ، عبادة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها .

فأنار الله بابي محمد صلى الله عليه وآله : ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الصراط المستقيم ...

فجعل الله الإيمان تطهيرا ، لكم من الشرك، والصلاة تنزيه لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق ، والصيام تثبيتا للإخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب.

وطاعتنا : نظاما للملة، وإمامتنا أمانا للفرقة .

والجهاد : عزا للإسلام ، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ، ومنماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، و اجتناب القذف حجابا عن اللعنة، وترك السرقة إيجابا للعفة، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية ، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وأطيعوا الله فيما أمركم به و نهاكم عنه فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء... )).

الاحتجاج ج1ص145 ، وذكر في الغدير ج7 ص192 أهم مصادرها .

في الحقيقة هذه الخطبة الكريمة : الصادرة من بضعة المصطفي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها فلسفة وحكمة خلق الخلق وبعثة الأنبياء وأسبابه وضرورتها بكل المعاني العقلية الثلاثة التي عرفتها كبراهين في أول هذا الباب ، والمتدبر في ما ذكرنا يفهم غاية الخلق والغرض من وجود الإنسان وتكليفه وبعث الأنبياء ، وحاجة المجتمع البشري لخاتم الرسل كأمر مقضي له فضلا عن اختلاف الناس وحاجتهم لهداه في كل زمان حتى الآن ، وبالخصوص يعرف المتابع للخطبة في خواص العبادات وحال المسلمين قبل وأثناء البعثة وبعدها ، فيفهم المرام التام لضرورة بعثة النبي وأهمية وجوده الكريم ودينه القويم لكل زمان ومكان والآن بما لا مجال لإنكاره لمنصف ولكن الإنسان يعصي ولا يتحقق بهدى الله تعالى مع البراهين الجلية لدينه القويم والهادي لكل نعيم ، ومن يريد المزيد فليرج للخطبة في الاحتجاج والغدير وفي الكتب المكتوبة في فدك وحياة الزهراء عليها السلام .

الإشراق السادس : جعفر الطيار يجعل النجاشي يقر لهدى الإسلام:

يا طيب : إن من شواهد الصدق على شرف بعثة نبينا الكريم وخاتم الأنبياء والمرسلين وسيدهم ، وضرورة وجوده في مجتمعه هو ما نعرف من البراهين الحتمية لتدبير الله وإتقانه لكل شيء بما في ذلك هدى الإنسان والإذعان له عقلا ولباً ، ويدعمه ما ذكرنا من حال المجتمع الإنساني وما يصل إليه من الخساسة بقصوره وطمعه لحب الدنيا وزينتها ، وكل ما فيها من العجب والفخر والخيلاء بإقامة الباطل والتظاهر بالغطرسة والظلم ، ولكن عرفت إنه بهدى الله وببعثة النبي الكريم رفع هذا الظلم والكفر من وجود كثير من الناس ، وكان حجة على باقيهم وإن لم يؤمنوا ظلما وطغيان على أنفسهم ومجتمعهم ، وإنكاراً لنعم ربهم مع تمتعهم بها .

وقد عرفت هدى العقل وأئمة الحق : وهذا أبن عم النبي وأخي الوصي وجعفر الطيار في الجنة يعرفنا ، حال المجتمع الضال قبل البعثة ، وما كرم الله به نبيه من الهدى الذي تحلوا به ، فنرى ضرورة البعثة لخاتم الأنبياء حتى لقد أذعن النجاشي حاكم الحبشة لفضله وكرامة تعاليمه وأحقية هداه ، فرفض هدايا الكفرة والظلمة، وأوى المؤمنين لإنصافه للحق وإذعانه للهدى في داخل وجوده.

فنذكر يا طيب : بعد ما عرفنا كلام الله في سورة الجمعة ، وأقوال الإمام علي عليه السلام ، وبضعة النبي فاطمة الزهراء عليها السلام ، التي تعرف حال المجتمعات التي كانت تسود ذلك العصر الذي عمه الجهل والأمية وحرفت جميع الأديان ولم يبقى من تعاليم الله تعالى شيء يعتد به للتقرب به لله تعالى ، أو للتعامل البشري المنصف فيما بينهم ، بل أخذ الإنسان يظلم عائلته ويقتل بنته فضلاً على غصب حق غيره أو هدم بناء مجتمعه . قال : جعفر بن أبي طالب للنجاشي : حين سأله عن حقيقة دينهم ، وذلك لما قريشا وجهت بعمرو بن العاص وعمارة بن الوليد المخزومي إلى النجاشي بهدايا .

وسألوه أن يبعث إليهم بمن صار إليه من أصحاب رسول الله وقالو :

سفهاء من قومنا : خرجوا عن ديننا ، وضللوا أمواتنا ، وعابوا آلهتن ، وإن تركناهم ورأيهم لم نأمن أن يفسدوا دينك .

فلما قال عمرو وعمارة للنجاشي هذا . أرسل إلى جعفر فسأله .

فقال جعفر الطيار رحمه الله :

( إن هؤلاء على شر دين : يعبدون الحجارة ، ويصلون للأصنام ، ويقطعون الأرحام ، ويستعملون الظلم ، ويستحلون المحارم .

وإن الله بعث فينا نبيا : من أعظمنا قدرا ، وأشرفنا سررا ، وأصدقن لهجة ، وأعزنا بيتا . فأمر عن الله : بترك عبادة الأوثان ، واجتناب المظالم والمحارم ، والعمل بالحق ، والعبادة له وحدة ) .

فرد النجاشي على عمرو وعمارة الهدايا ، وقال : أدفع إليكم قوما في جواري على دين الحق . وأنتم على دين الباطل ! ...) .

تأريخ اليعقوبي 39.

من معجزات نبينا الأكرم هو معرفته بإنصاف النجاشي وعدله بفضل الله عليه وتعريفه له ولذا أمر المسلمين للهجرة للحبشة عنده ، وصدق الله ورسوله ، فإن هذا الكلام صدقه النجاشي وقوم النبي الذين كانوا يحاربوه وأذعنوا لفضله ولم يستطيعوا أن ينكروا ما عرفه جعفر الطيار رحمه الله ، وهذا بيان حق لولاية الله وعظمته وعنايته بخلقه وحبه لهداهم حتى بعث لهم أكرمهم وأفضلهم ، فنسأل الله أن يعرفنا دينه وهداه الحق ويحققنا به إنه أرحم الراحمين .

الإشراق السابع : تبشير الرسل بنبينا يعرفنا ضرورة بعثته :

ذِكر نبينا الأكرم : والتبشير به من قبل الرسل في الأمم الماضية ، تعرفنا به كثير من الشواهد ، حتى ليكون برهان حق على توحيد الله ، وإتمام لحجته بولي دينه بحيث يبعثه ليتمم مكارم الأخلاق ويرفع الاختلاف بين الأمم ويحل لهم الطيبات ، ويهديهم لمعرفة عظمة الله بقدر الوسع والطاقة ، فيعرفهم عظمته وأسماءه الحسنى وصفاته العليا التي لا توجد في أحد من الأديان غيره .

وهذا أمر معجز : يسير في الزمان حيث يصدق الله الأنبياء السابقين ، فيبعث خاتم المرسلين بهدى كريم ، ويدل عليه كما بشر به الأنبياء والمرسلين ، ويبرهن على هذا الأمر بالقطع والبت أمور منها :

القبس الأول : تبشير الرسل بنبينا الكريم حكاه الله كتابه :

قال الله تعالى في كتابه المجيد :

{ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (26)

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَ وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَ بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) } البقرة .

وسكن قريش في مكة من ذرية إبراهيم : وبناء الكعبة ، شاهد لظهور نبياً كريم يعرفهم الكتاب والحكمة وهدى الله ، وإنه يظهر لعرفهم ما عرفت وما قال سبحانه : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}المائدة 15.

وقال سبحانه وتعالى في القرآن الكريم :

{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ

وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } الصف 6 .

وقال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ 8

يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ .

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُو النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } الأعراف 158 .

القبس الثاني : هجرة اليهود لشبه الجزيرة العربية :

فإنه لتبشير الأنبياء السابقين : هجر أهل البلد المبارك بالخيرات من الماء والنبات وكل ما يساعد على سكن الإنسان بنعيم فلسطين ، وتركوا بلدهم بعض الناس من المؤمنين في زمانهم وسكنوا هم وعائلاتهم عند مهاجر النبي ، وكانوا يرجون في ذلك أن يكرم الله أحدهم فيجعل فيه أو في ذرية النبوة ، ولكن بتناسل الذرية وتقادم المدة ضل عن الهدى الحق أكثرهم وحرفه بعضهم واختلفوا.

ثم لما بعث النبي الكريم من غيرهم لم يؤمنوا به ، وحكايتهم وقصصهم وحروبهم للنبي وقبله وتبشيرهم بظهوره في مكة والمدينة وغيرها وبناء معاقل في فدك وخيبر وسكن بني النضير وغيرهم ، يشهد له التأريخ والقرآن المجيد وآثارهم والوقائع التي كانت بينهم وبين المسلمين ، وكانت عندهم مواصفاته الكريمة حتى قال الله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } البقرة 146 .

القبس الثالث : معرفة سلمان الفارسي والنصارى والأنصار بنبينا :

يا طيب معرفة سلمان الفارسي : رحمه الله به وهجرته إليه ، وإسلام بعض اليهود ، لدليل على معرفتهم ببعثته ونبوته صلى الله عليه وآله وسلم .

وحكاية كثير من القصص في معرفته من قبل النصارى في أثناء سفره للشام بل حكيت قصص عن الرهبان في معرفته ، بل عرفوا نوره الكريم في صلب أجداده وأبيه ، ولسرد كل ما ذُكر عن معرفة أهل الأديان السابقة ببعثة نبينا الكريم وزمانه بل مواصفاته يحتاج لكتاب .

وإن هذا البرهان وحده : يدلنا بالقطع والبت على بعثة نبين الكريم بالحق ، وإنه جاء بهدى الله الصادق ، لأنه معجز أن يبشر به من آلاف ومئات السنين ويظهر بأحسن دين كما عرفوا من صفاته ومكارم دينه ، وإنه يصدقهم ويصدقونه ، يصدقهم في كتاب الله ، ويعرفوه ويبشرون به بكل سيرتهم من سكنهم وأقوالهم وأكرم ظواهر أحوالهم لرجاء ظهوره بينهم ، بل حتى الأنصار لما آمنوا به ودعوه لأن يأتي للمدينة لكثرة ما سمعوا منهم بظهور نبي الرحمة في هذا المكان والزمان ، فطلبوه ونصروه وآمنوا به ونشروا دينه ورسالته ، وستأتي هجرة للمدينة وبقائه فيها في أبواب تالية فانتظر يا طيب حتى حين .

الإشراق الثامن والتاسع : عالمية وختم هدى الله بالإسلام يثبت نبوة نبينا :

عرفنا بعض الشيء المهم عن حال زمان نبينا الكريم ، وبه عرفن حاجة مجتمعه له وضرورة بعثته عليه السلام ، وكان بيان لما قبل الإسلام وحينه ظهوره ، وهنا نشير إلى عالمية الإسلام وهداه الحق وخاتميته لنزول هدى الله بعد نبين الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا يشهد له بحق ويصدقه بواقع الوجود كل متتبع للتاريخ البشر الديني والمدني ، فيرى إن هدى الإسلام وتعاليمه تصدع بمسألة عالمية الإسلام وشموله لكل البشر ، وأنه به ختم الله معارف هداه ولا يرضى بغيره بدلاً ، وصدقه التأريخ وحكاه الله بنفس كتابه المجيد وبسنة نبيه ومعارف دينه ، وإنه للإسلام هدى شامل لجميع جوانب الحياة ، وله معارف واسعة ومحكمة متقنة تصليح لكل البشر ولكل زمان ومكان .

فإنه يا طيب : قد جاء الإسلام للناس كافة ، وهو رحمة لهم ، ويرفع الآصار والأغلال عنهم ، ويهديهم الصراط المستقيم ولحقيقة عبودية الله ويوصلهم لسعادة الدنيا والآخرة وبهذا :

قال الله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } الأعراف 158. وقال عز وجل : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء 107 .

وقال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَ يَحْكُمُونَ (59) … تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) …

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ

وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء

وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }النحل 91 .

وقال الله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } المائدة 48 .

وقال الله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} آل عمران 164.

عرفت يا طيب : إنه كانت قد فقدت قبل زمان بعثته صلى الله عليه وآله وسلم كل القيم ا2لإنسانية ، حتى جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجمعهم على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، ونصر الله دعوته حتى عمت أهم أقطار الأرض بعد فترة وجيزة وتمت حجت الله تعالى على جميع البشر .

هذا ولم يأتي نبي بعد نبينا محمد : صلى الله عليه وآله وسلم ، من يدّعي النبوة وعنده شاهد صدق على دعوته ونبوته ، ولا من حجة ودليل وبرهان يدعم مقولته ، حتى عرف بين البشر جميعهم بعد النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يوجد نبي صادق ، وكل مدعي للنبوة بعده كاذب ، ولكن لو تتبعت قبل ظهوره تأريخ الدين لوجدت كثير من الرسل والأنبياء وما أنزل الله تعالى من الهدى على الأمم ، ولكن بعده لم يوجد أحد .

وهذا يدل على أمرين مهمين : الأول : علمية هدى الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

والثاني : هو خاتم النبوة به وبتعاليمه صلى الله عليه وآله وسلم ، وبهذا ، نعرف تمام الدين ورضى الرب به .

فلذا يا أخي الكريم : نعرف إن بختم النبوة كانت تعاليم الإسلام تسع البشرية كلها وفي جميع شؤونها وفي جميع الأزمنة والعصور .

وإن وقوع الظلم في البلاد من الحكام ، ليس لقصور في الدين أو رب العالمين ، بل الله لا يجبر عبد بعد بيّن الرشد من الغي ، وإن الإنسان على نفسه بصير في طلب الكمال الحق والعدل والإحسان في تعاليم الرب الرحمان ، أو الطغيان ومتابعة هوى النفس والشيطان ، فيقوم من أجل كسب ممتلكات الدنيا بالظلم والعدوان ، فإن الإنسان قد خلق ومكن من الفطرة الطالبة للجمال والكمال والحق والعدل والإحسان وشكر المنعم ، وعليه أن يختار الحق وينصره ويطلب نعيمه وثوابه التام في الحياة الآخرة ، وهنا إن صبر ، أو جاهد إن كانت الظروف مناسبة فله أجر كريم عند الله في الآخرة والكرامة والعز هنا في الدنيا.

هذا وقد ذكرنا في بحث النبوة العامة : أسباب ختم النبوة بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وذكرنا إذا تم استعداد البشر لتلقي أعلى ما يمكنهم من التعاليم الربانية ووجد من يحافظ عليها على طول الزمان المتبقي من الدنيا ، يختم الله النبوة ويتم إنزال تعاليم جديدة فراجعه إن أحببت أن تعرف التفصيل ، وبهذا المقدار نختم بحث ضرورة بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وأله وسلم .

والفوز والنجاة وراحة البال للطيبين ولهم رحمة الله وهداه ونصره ، وعند الصباح في يوم الحشر الأكبر يحمد القوم ربهم بأن تكون أخر دعواهم الحمد لله رب العالمين ، الذي جعلهم يتبوءون من الجنة والنعيم حيث يشاءون عنده مع العز والكرامة والمجد ومُلك لا يبلى ، والخزي والعار والنار لكل ظالم ومعتدي وضال لم يطلب الحق في معارف الرب الرحمان عز وجل ، ولم يهتدي للنور الذي فيه العدل والإحسان في دين الله القيم .

وإذا عرفنا هذا يا طيب : عرفنا إن نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم النبيين وهو سيد المرسلين ، وبه نعرف إن دعوة شاملة لجميع البشر إلى يوم الدين ، وإن الله تعالى حافظ على دينه بأوصياء له كرام من آله الطيبين الطاهرين كما تثبته بحوث الإمام وسيرة آله بعده ، وما عرفنا سبحانه في كتابه من ملاك الإمامة الذي حلاهم بها وصدقته معارفهم التي ظهروا بها بكل شيء من وجودهم .

وبعد إن عرفنا : إن نبينا الكريم المصطفى المختار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قد بعثه الله ويصدقه العقل والتأريخ وهدى الدين والإنسان المنصف ، نذكر أمور من معارف أحواله الذاتية الكريمة ونتعها بسيرتها ، وبكلها نعرف حين تطبقها ، كرامته الذاتية في وجوده حين ذكر أصله وفصله الكريم في النسب ، ونذكر همته وجديته في تطبيق ما بعثه الله به ، وسعيه الكريم لتبليغه بأحسن خلق كريم ، ونعرف آدابه وصفاته ، فنعرف بهذا أمر كريم وهو معرفة النبي والنبوة ، ونتحقق إن شاء الله باليقين بهدى الدين الحق ، وإنه منزل على أشرف الأنبياء والمرسلين .

ونسأل الله أن يجعلنا مع نبينا وآله الطيبين الطاهرين وكل الأنبياء والمرسلين والطيبين والصالحين والشهداء والصديقين وصحبهم المنتجبين ، نحف بهم عند الحوض وتحت لواء الحمد وتحت عرش الرحمان في المقام المحمود في جنة الخلد ولمك لا يبلى وحياة طيبة كريمة أبدية بفضله ومنه وتوفيقه ، وهو أرحم الراحمين ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .


الباب الثالث
ذكر وجود الكمال التام في صفات نبينا الأكرم
الذاتية والشخصية

هذا الباب : في النبوة الخاصة وفيه من شواهد الصدق على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث نعرف فيه مجده وعلو أصله ونسبه وأسمه ونشأته في صباه وشبابه وزواجه ، والمكرمات له حتى نعرف بكلها أنها تستوجب بعثته وأن يكون رسول الله وخاتم النبيين وسيد المرسلين .

تذكرة : شواهد الصدق للنبوة في ذات نبينا وصفاته :

ذكرنا يا أخي الكريم : في بحث النبوة العامة أن من أهم الأصول التي يُبحث فيها بعد ضرورة بعث كل نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وآلهم وسلم ، هو البحث في البراهين والشواهد المصدقة لدعوة كل نبي من الأنبياء ، وهي بنفسه أدلة وبراهين تسلك في معرفة خواص النبي في نفسه وفي رسالته وكل ما يدعونا بحق وبجد للإيمان بدعوته وإتباع هداه والتحقق به والدفاع عنه ، فهي أمور إذا توفرت في شخص مدعي النبوة وفي رسالته وهداه ، يجب التصديق بنبوته ويجب علينا إطاعته والتمسك به حتى ننال الخير والبركة والنعيم وهدى الله تعالى ورضاه وكل ما يحب ويرضى مم تقام به عبوديته والإخلاص له سبحانه .

فبعد أن عرفنا ضرورة بعثة نبينا : محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفق التفكر في عظمة الله وفي الهداية التكوينية والتشريعية وغرض التكوين من جانب ، واحتياج الإنسانية إليه في عصره وبعده في بيان الهدى الحق المناسب لهم ، و لرفع للاختلاف الحاصل بين الأديان وتكميل التعاليم الإلهية وفق أخر استعداد للبشر بلطف الله وفضله ، وما عرفنا من براهين ضرورة هداية العباد بعد انحطاطهم في الكفر والرذائل ، ورفعهم إلى الفضائل وكل عدل وإحسان ، وهدى حق فيه صلاحهم وما به يشكر الله الرحمان .

حان الآن يا طيب في هذا الباب : أن نذكر بعض المواصفات الشخصية لنبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والتي تعرفنا بنسبه ونوره ، وم يُعرفنا سيرته وسلوكه قبل البعثة ، ويأتي في الأبواب الآتية علو همته في تبليغ رسالته و معجزاته وخُلقه وتعاليمه وحِكمه التي تهدي العباد لصلاحهم وخيرهم.

ويا أخي : إن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحقيقة إنها من الأمور المسلمة لكل منصف من ذوي العقول ، ولكل من يريد أن يصل لحقيقة تعاليم الله الهادي للعباد ، فإنه لا يجد ما فيها من المعارف الكريمة والآداب الحسنة وروح ما يعبد به الله تعالى في غير الإسلام من باقي الأديان الأخرى في كل المعمورة لا الوضعية ، ولا فيمن يدعي أنها سماوية من الله وغير محرفة .

فإن من يتدبر في شأن النبي الكريم بنفسه وذاته وفي جميع مراتب وجوده لا يمكنه إلا أن يعتقد بأن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبعوثا من الله تعالى وإن هداه بحق تاما متكاملا ولكل البشر ، وإن الله تعالى لا يقبل غير الإسلام ديناً ، وذلك لشواهد كثيرة تحف به وتصدقه ولا تتوفر في أي دين سابقا عليه ، وإن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة للتشريع الإلهي لتخصصها بالمحافظين عليها باللفظ والمعنى .

وفي هذا الباب معارف كريمة تستحق أن يقال فيها : وقل ربي زدني علماً ، لأنه بها معرفة عن حبيب الله والمؤمنين ، وعن خواص دعوة وشواهد لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم ، وبه نعرف شيء عن الصفات الذاتية والتكوينية له صلى الله عليه وآهل وسلم وبعض حياته الشخصية قبل بعثته ، و حتى يأتي البحث عن ثباته وخلقه و معجزاته وتعاليمه ، وكثير من الأمور التي يجب أن نتعلمها منه فنقتدي به وندافع عنها وننشرها فضلا عن التحقق بها كلها .

فالآن في هذا الباب : نذكر نور شرفه ومجده عليه السلام ، وليكون البحث في رتب وأدوار حاكية لشيء من تاريخ حياته وتكون شاهدا يصدق دعوته ومؤيد وبرهانا تاما لأحقية رسالته ، حيث كلها تبين طهارته وطيبه في نفسه وفي تصرفاته وسيره وسلوكه ، وتبين أحواله التي لا توجد إلى في نبي مختار من قبل الله تعالى ، وقد اصطفاه من بين جميع البشر لتبليغ رسالته وتعاليمه ومعارفه التي لا يمكن أن تنزل إلا على طيب طاهر صادق أمين مختار من رب العالمين ، وتجمع هذه الخواص والمواصفات في نبي الرحمة وخاتم الأنبياء وسيد الرسل ونبينه في بحثين كريمين : الأول : في صفاته الذاتية ومعرفة نوره ، والثاني : مولده ونشأته حتى بعثته، وأم صفاته الخلُقية فنبحثها في أبوبا آتيه إن شاء الله .

الذكر الأول
نور نبين الكريم في عالم الغيب والشهادة ونسبه

يا طيب في هذا البحث : نتعرف على نبينا الأكرم محمد وآله معه في صفاتهم الذاتية التي تخصهم صلى الله عليهم وسلم ، فنذكرها في أمور ، الأول: نوره في مراتب من الوجود الكوني في عالم الغيب والملكوت الأعلى ، وتقلبه في أصلاب آبائه الكرام . والثاني : نذكر فيه نسبه ، والثالث : بعض كرامته في صلب آباءه الكرام ورعاية الله لهم حتى ظهوره ، ونذكرها باختصار غير مخل ، حتى ندخل في البحث الثاني في نفس وجوده من ولادته حتى بعثته الشريفة .

ومن أراد التوسعة والشرح المفصل في معرفة نور نبينا الكريم وشأنه العظيم ، فليراجع صحيفة سبطه الإمام الحسين عليه السلام في أجزاءها الثلاثة الأولى بالخصوص ، فإنه فيها شرح قيّم وعظيم لنور نبينا وآله في كل مراتب الوجود وفي هداهم ، وهي معرفة كريمة وشريفة عالية وعزيزة على المؤمنين ، وتحققهم بالنور وترشدهم لحقيقة الوجود وأكرم الخلق فيه في كل مراتبه ، وهي معرفة نبينا محمد وآله وهداه والوجود الطيب كله بالمعرفة النورانية ، فتدبر بها وراجعه إن أحببت المزيد من معرفة نور نبينا وآله وهداه .

ونسأل الله أن يكرمنا بنوره وهداه حتى لنكون معه نحف به في رضا الله وكرمة في جنة النعيم الأبدي ، إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبين وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الإشراق الأول : نور نبينا وآله في عالم الغيب والشهادة :

يا مؤمن : لنبينا الأكرم ولآله الطاهرين معه صلى الله عليهم وسلم أجمعين ، نسب علوي غيبي في الخلق الأول تؤيد شرح وجود نوره جمع من آي القرآن ، وذلك مثل آيات الذر والميثاق والعهد المأخوذ على الأنبياء ونون والقلم وسورة الإسراء وسورة المعارج وغيرهن ، وآيات سورة النور المُعرفة للنور النازل والمشرق من رجال البيوت المرفوعة بذكر الله وغيرها ، كما تفصلها أحاديث كثيرة وتحكي عنه ، وذلك كأحاديث العقل الأول والنور والاصطفاء وغيرها الكثير ، وتجد بحوثها المفصلة في صحيفة الإمام الحسين عليه السلام .

وأما النسب الدنيوي : فهو أشرف نسب في الوجود حيث كان نور يتنقل في أصلاب الأنبياء وأوصيائهم من آدم إلى والد النبي ولآله الطيبين الطاهرين ، ولم يوجد في الدنيا نسب اعتنى الله سبحانه وتعالى به في ذكره ورعايته وتهذيبه والإشادة به ، ورفعه وبيان علو قدره مثل نسب نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين المصطفين الأخيار الصادقين صلى الله عليهم وسلم أجمعين .

بل اعتنى بنسب نبينا الأكرم وبيان شرفه : الناس والمسلمون والمؤمنون وأشادوا بعلوه ورفعت مقامه في نقله وحفظه والتحدث عنه ، وذلك لأن نسب نبينا محمد صلى الله عليه وآله الله تعالى هو الذي جعله كوثر الخير والبركة ونور للوجود ، وهدى لكل عبد يحب أن يتنور بمعارف الله والقرب منه والكون في كرامته ، فضلا عن كون نور له ولآله ولأجداده ، فهم ذرية الأنبياء ولهم المجد والشرف التليد والعلو والرفعة والنعيم في الدنيا والآخرة صلى الله عليهم وسلم .

ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم : وإن كان فخر أجداده به لا فخره بأجداده كما أن فخر ذريته وآله الكرام وأهل بيته به صلى الله عليهم وسلم أجمعين ، ولكن لأجداده من شيم الأخلاق وعظيم المنزلة والتاريخ المشرف ما تناقله الناس كقصص يعتني بها كل من أراد أن يتوغل في تاريخ الأنساب ويتبحر في علم شرف الأصلاب ، كما سنذكر نسبه .

ولنور نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله سلم : المتنقل في صلب أجداده حكايات أخرى عرفها المتفرسون ، وذكرها العارفون لأجداده أن في صلبكم نبي آخر الزمان وسيد الأنبياء من قبل تولده بسنوات كثيرة ، وهذه الحوادث والتي قبله يحتاج لها كتيب أو كتاب ، ولا يسعها مختصرنا هذا والذي نحب به أن نُعرف النبوة العامة والخاصة في كتاب واحد يكون أحد كتب أصول الدين من موسوعة صحف الطيبين ، وسوف نجمع تفاصيل أخرى إن وفقنا الله في موسوعة حياته الكريمة وسيرته وسلوكه وكثير من شأنه ، ومن غير اختصار في البحث كما هنا ، ونجعله إن شاء الله باسم صحيفة سيد المرسلين ، فتكون صحيفة من صحف سيرة المعصومين من موسوعة صحف الطيبين فنكتب التفصيل هناك إن شاء الله ، أو راجع صحيفة الإمام الحسين عليه السلام لمعرفتهم بالنورانية .

ولما كان : ما لا يدرك جله لا يترك كله نذكر بعض الآيات والروايات الحاكية عن نوره في الميثاق وتقلبه في الأصلاب الطاهرة ، لتكون مقدمة للبحث في سيرته الشريفة ونسبه المبارك ، ولنعرف علو مجده وعلو آله الطيبين الطاهرين ، ولتمهد لحكاية تولده صلى الله عليه وآله وسلم ، فنقول والله المستعان :

قال عز وجل : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَ مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا } الأحزاب 7،8 .

قال الطبرسي رحمه الله في قوله تعالى : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) : أي واذكر يا محمد حين أخذ الله الميثاق من النبيين خصوص بأن يصدق بعضهم بعضا ، ويتبع بعضهم بعضا .

وقيل : أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله ، وأن يصدق بعضهم بعضا ، وأن ينصحوا لقومهم ، ومنك : يا محمد ، وإنما قدمه لفضله وشرفه ( ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) خص هؤلاء لأنهم أصحاب الشرائع ( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) أي عهدا شديدا على الوفاء بم حملوا من أعباء الرسالة ، وتبليغ الشرائع .

وقيل : على أن يعلنوا أن محمدا رسول الله ، ويعلن محمد أن لا نبي بعده . ( ليسأل الصادقين عن صدقهم ) قيل : معناه : إنما فعل ذلك ليسأل الأنبياء والمرسلين ما الذي جاءت به أممكم[1] .

ومثله يشهد لأخذ الميثاق من النبي في العالم العلوي للتبشير بالنبي الآتي بعده وبالخصوص خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال تعالى :

{ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ

لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ

ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ

قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي

قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } آل عمران 81 .

ولكي نعرف : مختصر من بحث نور نبينا وآله وشأنهم الكريم وبيتهم الطاهر المطهر ، الذي يشرق بنور الله هدى صافي لا ضلال فيه ولا ظلام له نذكر بحث من صحيفة الإمام الحسين عليه السلام من بابها الرابع للجزء الأول وإن أحببت التفصيل فراجعها لعل الله ينفعنا بنورهم ويهدينا لفضلهم ومجدهم فنكون معهم :

بعد ما عرفنا : بأن الله تعالى هو نور السماوات والأرض وكيف تنزل نوره في الباب السابق ، وبالخصوص بعد ما عرفنا وتلونا آيات النور والبيوت المرفوعة وكيف يشرقون بالهدى بكل حال ، لا أعتقد يوجد مؤمن يشك بأن هدى الله نور يشرق من مصباح النور نبينا محمد وآله الكوكب الدري وزجاجة النور الإلهي المحيط به إلى آخر الدنيا بمدد الله وفضله عليهم وعلينا .

وإنهم عليهم الصلاة والسلام : نور مشرق بكل معارف الله ، نور ذكر وصلاة وصيام وزكاة مع الخشوع والخضوع لله بأحسن عبودية ، وبكل الزمان غدو وآصال وكل حال لهم حتى البيع والشراء لم يلههم عن تعريف نور الله والظهور به بغير إظهار عبودية الله تعالى ، ومن تحقق بالعلم والمعارف منهم تحقق بالنور الإلهي حين يظهر به تعليما وتطبيقا ، وإنه من لم يقتبس منهم نور فلا نور له لأنه لم يهتدي لنور الله ، بل يكون حسب حاله في الابتعاد عنهم أو منع الناس منهم أو محارب لهم في ظلام تام ومتراكم .

ولكي نتذكر بعض معنى آيات النور النازل على رجال البيت المرفوع بذكر الله والمتحلين والمتجلين بنوره ، لنعرف إن الإيمان بالله ورسوله نور ، وإن هدى الله ودينه والإسلام وأئمة الحق بكل حال لهم مشرقون به نور ، وبهذا نعرف إن ذكر الله وكل أمر يعبد به من طاعته نور ويحقق بالنور ، وكل معصية وحرام وبعد عن معارف الله ظلام حين التدبر بهذه الآيات الكريمة وغيرها ، حتى نتحقق معنى ما يأتي ذكره من معارف هذا الباب لمعرفة نور وجودنا وكيف تحققنا بمعرفة إسلامية تنورنا بنص دين الله وكتابه المنير والمنعم عليهم بالإشراق بنور هداه وبأحاديثهم الشريفة ، والتي تعرفنا صراط الله المستقيم للتحقق بالنور وجودا وإيمانا وعلم ومحيطا وعملا وسيرة .

فهذه الآيات الكريمة : أتلوها وتدبر بها يا طيب لتعرف نور الحق والهدى وأهله ، ولنبتعد عن الضلال والظلام وأهله فنخرج من قربهم لكل نور وأهله :

{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا

وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) ......... .

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ :

مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ .

الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ .

يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ

يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ .

نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ .

وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

ـ فهذا كان مسير النور من الله تعالى حتى يتنزل و يتحقق في رجال البيوت المرفوعة لنبي الرحمة وآله الكرام فهم نور على نور ، وإمام بعد إمام مشرق بالنور لمن يطلبه من إمام زمانه حتى يوم القيامة ، ويهدي الله لنوره من يشاء ويطلب النور منه .

والإنسان مخير لطلب هدى نور الله فيتحقق بنور الإسلام ، فيأخذ نوره من أئمته الصادقين المصطفين الأخيار ويتصل بنور الله فيكون معهم ومنهم .

وذا عرفت مسير النور في الوجود من الله نور السماوات والأرض حتى لمن يهتدي لنور الله حسب مراتبه ، فهذه آيات بعد الآيات السابقة تشرح وتأكد مسير النور ووجوده في نبينا وآله الطاهرين وكيفية إشراقه من كل حال لهم لم يلههم لا بيع ولا شراء بل حتى بيعهم وشراهم ذكر لنور الله والإشراق به لمن طلبه ، فتدبر تسبيحهم الدائم وذكرهم لله وصلاتهم المُعرفة لحقيقة الصلاة التامة المحققة بالنور وزكاتهم التي تشرق بنور الحلال وفضله ، وحالهم الدائم مع الله وفي خوفهم ورجائهم في عبادتهم المرضية لله حتى عرفها لنا سبحانه بأحسن بيان ينير الإنسان ، وطلب من أن نهتدي بنورها فنتحلى به ونتحقق وبالظهور ليتجلى منا مثلهم نور تام لنا ومن ، وهذا تنزل نور الله في الآيات السابقة وتتمته ـ

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ

وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ

يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36)

رِجَالٌ : لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ

عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)

ـ وهذا جزائهم وجزاء من يتصل بهم ويكون مقتبس نور الله منهم ـ

لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ

وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

ـ جزاء عظيم نسأل الله أن يرزقنا منه حتى ليكون كل وجودنا مع رجال البيت المرفوع بنور ذكر الله ومدده لهم ولنا في أعلى مراقي الملكوت .

وأما من لم يتصل بالنور يفقد نور وجوده الفطري ، ويكون في ظلام تام علما وعملا بل وجودا ومحيطا ، وهو الحرمان التام من نعيم نور الله والكون في نار ـ

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا

وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) } النور

وبهذا نعرف إن هدى الله ودينه القيم في الإسلام هو نور منه تعالى يحقق به وجودنا حين نطلبه من المشرقين به ، فنتعلم الذكر الذي ينورنا وهو مثل صلاة النور وزكاة النور والبيع والشراء نور فيحل رزقنا ويتنور وجودنا بطاعة الله بما يحب ويرضى ، وإلا فالظلمات الشديدة لمن يعاندهم ولم يتصل به فيأخذ معارف دينه منهم فلم يطلب نور الله بحق ولم يعبده ولا توجه له بما يحب ، لأنه من لم يجعل الله له نور فما له من نور ، وبالخصوص من يعادي المشرق بالنور مؤمن كان أو إمام للمؤمنين،بل يكون ظلمات متراكبة بقدر بعده عنهم وعدائه لهم.

وستعرف أن كل شيء يسبح الله ويقتبس من نوره بوجوده ، لأنه ما من شيء إلا ويذكر الله ويسبحه إذ قال تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }الإسراء44 . ، ولذا كان الله كما عرفت نور السماوات والأرض وبنوره تستمد وتبقى منيرة ذاكرة لعظمته ومبينه لآياته ونعمه التي لا تحصى ، ولكن للإنسان بعض الاختيار لاكتساب نوره منه تعالى بإطاعة أولي الأمر ومن يشرق بنوره كما سترى في بحوث صحيفة الإمام الحسين ، وكما عرفت في آيات النور بأنه تسبيح الله الدائم ومعارف الصلاة والزكاة وكل ذكر الله من رجال البيت المرفوع بذكر الله ، هو مدد نور الله لهم ويشرق منهم لمن طلبه منهم ، فيؤخذ منه معارفه فيقتبس نور العلم منهم وبتطبيقه يظهر على الوجود الطيب المؤمن الذي يقيم عبودية الله خالصة من كل ظلام لأعدائهم ، فيكون وجوده إيماني منور وله محيط نور جزاء لعمله بالهدى وله مزيد من رحمته وفضله ، وهذا معنى كون كل شيء من نور الله وحقيقته الكونية النازل من مراتب النور العليا للوجود في عالم الغيب ، ثم الظهور في عالم الشهادة وشرحه وتحقيقه كما عرفت في بحوث صحيفة الإمام الحسين وإن نوره سر تمجيده والانتساب إليه والأجزاء الباقية ، وخلاصته إن حقيقة المؤمن نور الإيمان بالله ورسوله نور ويحقق بالنور فيتنور الإنسان من ولي نور لله في أرضه كما قال تعالى . { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) } التغابن .

وبهذا نعرف لا يحقق بالنور إلا من يشرق به وهم هداة البشر نبينا وآله الكرام من قبله ومن بعده كلا في زمانه ، وفي كل مراتب الوجود ومنه الوجود الأرضي لآبائه الكرام كما عرفت ذرية بعضها من بعض ، يهدون لنور الله الذي نورهم الله به بكل وجودهم .

ولمعرفة تقلبه في الأصلاب والأرحام الطاهرة قال تعالى :

{ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }الشعراء 227،228 .

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : ( الذي يراك حين تقوم ) في النبوة ( وتقلبك في الساجدين ) قال : في أصلاب النبيين. تفسير القمي ص 474 .

ومثله جاء في كنز جامع الفوائد عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله عز وجل : ( وتقلبك في الساجدين ) . قال : يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه .

من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه السلام .

وعن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول :

( كنت أنا وعلي عن يمين العرش ، نسبح الله قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلما خلق آدم جعلنا في صلبه ، ثم نقلنا من صلب إلى صلب في أصلاب الطاهرون وأرحام المطهرات حتى انتهينا إلى صلب عبد المطلب، فقسمنا قسمين:

فجعل في عبد الله نصفا ، وفي أبي طالب نصفا ، وجعل النبوة والرسالة فيَّ ، وجعل الوصية والقضية في علي ، ثم اختار لنا اسمين اشتقهما من أسمائه : فالله المحمود وأنا محمد ، والله العلي وهذا علي ، فأنا للنبوة الرسالة ، وعلي للوصية والقضية ).

أمالي الشيخ الطوسي ص 115

وعن أمير المؤمنين عليهم السلام قال : قال النبي صلى الله عليه وآله :

( يا علي : خلقني الله تعالى وأنت من نور الله حين خلق آدم ، فأفرغ ذلك النور في صلبه ، فأفضى به إلى عبد المطلب ، ثم افترق من عبد المطلب أنا في عبد الله ، وأنت في أبي طالب .

لا تصلح النبوة إلا لي ، ولا تصلح الوصية إلا لك ، فمن جحد وصيتك جحد نبوتي ، ومن جحد نبوتي كبه الله على منخريه في النار ).

أمالي الشيخ الطوسي ص 185 .

بالإسناد عن أنس بن مالك قال : قلت للنبي صلى الله عليه وآله :

( يا رسول الله علي أخوك ؟ قال : نعم علي أخي .

قلت : يا رسول الله صف لي كيف علي أخوك ؟

قال : إن الله عز وجل خلق ماء تحت العرش قبل أن يخلق آدم بثلاثة آلاف عام ، وأسكنه في لؤلؤة خضراء في غامض علمه إلى أن خلق آدم .

فلما خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤة فأجراه في صلب آدم ، إلى أن قبضه الله ، ثم نقله إلى صلب شيث .

فلم يزل ذلك الماء ينتقل : من ظهر إلى ظهر حتى صار في عبد المطلب ، ثم شقه الله عز وجل نصفين : فصار نصفه : في أبي عبد الله بن عبد المطلب ، ونصفه : في أبي طالب ، فأنا من نصف الماء ، وعلي من النصف الآخر ، فعلي أخي في الدنيا والآخرة .

ثم قرأ رسوله صلى الله عليه وآله : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } الفرقان54 ) .

أمالي الشيخ الطوسي ص 197 .

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( إن بعض قريش قال لرسول الله صلى الله عليه وآله : بأي شيء سبقت الأنبياء وفضلت عليهم وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ؟

قال : إني كنت أول من أقر بربي جل جلاله ، وأول من أجاب ، حيث أخذ الله ميثاق النبيين ، وأشهدهم على أنفسهم : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } الأعراف 172؟ { قَالُوا بَلَى }.

فكنت أول نبي قال : ( بَلَى ) فسبقتهم إلى الإقرار بالله عز وجل ).

معاني الأخبار ص52 .

وحكيت كثير من القصص في نوره وتقلبه في الأصلاب وبعبارات مختلفة كلها تعبر عن معنى كون الوجود من نور الله إذا عرفنا المعرفة النورانية للوجود المؤمن الطيب وكيف تنزله في مراتب الوجود .

ومعرفة أهل العلم والرهبان لنور نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في صلب أجداده حكاه أهل السير فضلا عن كتاب الله كما عرفت ، وكل هذه الأحاديث تشرح وتبين ما ذكرنا من الآيات السابقة ، ولولا أن يطول المقام بذكر تفاصيل نوره الشريف لذكرناها هنا ، ولكن نسأل الله أن يوفقنا لكتابة صحيفة سيد المرسلين المفصلة لسيرته الكريمة ، ولكن راجع صحيفة الإمام الحسين تعرف كثير من نور النبي الكريم الذي كان نور سبطه الحسين قبسا من نوره الكريم وهداه العام والخاص لكل طالب له في كل زمان ومكان .

وبعد إن عرفنا : نور نبيا في الملكوت وتقلبه في الأصلاب حتى ظهوره من الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة هو وأخيه علي بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام ، نذكر نسبه الأرضي لهذه الأصلاب ونسأل الله أن يلهمنا الصواب فنكتبه ويعلمن الحق فنريه للطيبين :

الإشراق الثاني : نسب نبينا محمد صلى الله عليه وآله في عالم الشهادة :

نبينا الأكرم هو سيد البشر والأنبياء والمرسلين وخاتمهم ونور الله في ملكوته وأرضه واسمه وسم آبائه الكرام هو :

محمد : بن عبد الله بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن مرة بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة مدرك بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، وهم سادت العرب وقريش ، وجدهم الكبير هو أبو الأنبياء إبراهيم خليل الرحمان من ابنه نبي الله إسماعيل المفدى من الذبح ، كما أن بني إسرائيل من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أخو إسماعيل الأصغر .

والإيمان الحق بنسبه الطاهر : هو أن نؤمن بأن كل أجداده نبين الأكرم وجداته إلى أدم عليهم السلام مؤمنون بالله ولم يقع نوره لا في صلب مشرك ولا رحم مشرك ، والأحاديث من الخاصة والعامة كثيرة تشير إلى ذلك ، كما أنهم كانو كلهم من الصديقين إما أنبياء وإما أوصياء أنبياء ، وكانوا على شريعة إبراهيم إلى أن وصل الأمر إلى عبد المطلب ، فجعل أبا طالب وصيه وسلم ودائع النبوة وآثارها ثم إلى خاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

الإشراق الثالث : كرامات الله لأبي النبي وآباءه ليعرفنا فضلهم عنده :

يا طيب : يكفي لمعرفة شرف النبي ونسبه الطاهر المنور بنور الله ، أن نور النبوة في وجودهم ، وإن نور هداية الناس كان لهم في آباء النبي من آدم حتى إبراهيم وإسماعيل وآباءه الكرام ، سواء كان لهم النبوة أو الإمامة ، سواء كان عليهم الجهر بالدعوة أو الانتظار حتى ظهور أمر الدعوة كما كان لنبينا في زمانه في مكة المكرمة وآباءه كانوا أوصياء أنبياء على دين نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام ولم يؤمروا بالتبليغ والجهر بدعوة لأنها كانت فترة بين الرسل يمهل الله بها العباد ، ثم لما يتم الانحراف التام عن الدين ، يبعث نبينا أو نبيا مرسلا يجهر بها ، وكان آخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبه ختمت به النبوة ثم كانت الإمام على براهين ستأتي في الأصل الرابع للدين .

ونذكر هذا الأمر : قبل أن ندخل في ولادة النبي وأحواله ، والذي عرّفه الله في كتابه وحكته سنن التاريخ والدين ، وهو شرف كريم ومنقبة عظمى له في أباءه وأجداه ، وبها نعرف رحمة الله تعالى و اعتناء الله بدينه ورعايته لولاة هداه ، وتعريفهم للناس في ولادتهم وأحوال تخصهم ، حتى لينتبه العباد لم يدعوا إليه من الهدى الذي سيظهر منهم حين دعوتهم لمعرفة الله وهداه .

وهذا أمر يعرفه الله لنا في قصص الأنبياء : وعنايته بهم كموسى وعيسى وغيرهم ، وهذه في قصة أجداد النبي الكريم لنعرف فضلهم ورعاية الله لهم وشرفهم في كل أحوالهم ، وإعدادهم لكلي يُظهر دينه بهم ويعرفهم الناس قبل تبليغهم رسالته فضلا عما بعدها وتشريفهم بالظهور بها ، و هذه بعض الأخبار نكتفي بها عن التفصيل بذكر أخبار أخرى :

القبس الأول : قصة تكريم جد النبي بماء زمزم :

وروي إنه : كَانَ فِي الْكَعْبَةِ غَزَالَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَ خَمْسَةُ أَسْيَافٍ فَلَمَّا غَلَبَتْ خُزَاعَةُ جُرْهُمَ عَلَى الْحَرَمِ ، أَلْقَتْ جُرْهُمُ الْأَسْيَافَ وَ الْغَزَالَيْنِ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ وَ أَلْقَوْ فِيهَا الْحِجَارَةَ وَ طَمُّوهَا وَ عَمَّوْا أَثَرَهَا .

فَلَمَّا غَلَبَ قُصَيٌّ عَلَى خُزَاعَةَ لَمْ يَعْرِفُو مَوْضِعَ زَمْزَمَ ، وَ عَمِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُهَا .

فَلَمَّا غَلَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَ كَانَ يُفْرَشُ لَهُ فِي فِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، وَ لَمْ يَكُنْ يُفْرَشُ لِأَحَدٍ هُنَاكَ غَيْرَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ أَتَاهُ آتٍ ، فَقَالَ لَهُ : احْفِرْ بَرَّةَ ، قَالَ : وَ مَا بَرَّةُ ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ : احْفِرْ طِيبَةَ ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ : احْفِرْ الْمَصُونَةَ ، قَالَ : وَ مَا الْمَصُونَةُ ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَالَ :

احْفِرْ زَمْزَمَ لَا تَنْزَحْ وَ لَا تَذُمَّ ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ ، عِنْدَ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ ، وَ كَانَ عِنْدَ زَمْزَمَ حَجَرٌ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّمْلُ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْغُرَابُ الْأَعْصَمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَلْتَقِطُ النَّمْلَ .

فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ هَذَا عَرَفَ مَوْضِعَ زَمْزَمَ ، فَقَالَ لِقُرَيْشٍ :

إِنِّي أُمِرْتُ فِي أَرْبَعِ لَيَالٍ فِي حَفْرِ زَمْزَمَ ، وَ هِيَ مَأْثُرَتُنَا وَ عِزُّنَا ، فَهَلُمُّوا نَحْفِرْهَا ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِكَ .

فَأَقْبَلَ يَحْفِرُهَا هُوَ بِنَفْسِهِ ، وَ كَانَ لَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ وَ هُوَ الْحَارِثُ ، وَ كَانَ يُعِينُهُ عَلَى الْحَفْرِ ، فَلَمَّ صَعُبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ تَقَدَّمَ إِلَى بَابِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ ، وَ نَذَرَ لَهُ إِنْ رَزَقَهُ عَشْرَ بَنِينَ أَنْ يَنْحَرَ أَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ تَقَرُّباً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ ، فَلَمَّا حَفَرَ وَ بَلَغَ الطَّوِيَّ طَوِيَّ إِسْمَاعِيلَ ، وَ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ عَلَى الْمَاءِ كَبَّرَ .

وَ كَبَّرَتْ قُرَيْشٌ ، وَ قَالُوا : يَا أَبَا الْحَارِثِ هَذِهِ مَأْثُرَتُنَا وَ لَنَا فِيهَا نَصِيبٌ.

قَالَ لَهُمْ : لَمْ تُعِينُونِي عَلَى حَفْرِهَا ، هِيَ لِي وَ لِوُلْدِي إِلَى آخِرِ الْأَبَدِ.

الكافي ج4ص219باب ورود تبع و أصحاب الفيل البيت ح6 .

القبس الثاني : قصة فداء أبو النبي عبدالله وجده الأكبر إسماعيل :

عن علي بن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه قال سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام عن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنا ابن الذبيحين .

قال : يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام ، و عبد الله بن عبد المطلب .

أما إسماعيل : فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم ، { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ـ و لم يقل له يا أبت افعل ما رأيت ـ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102)}الصافات .

فلما عزم على ذبحه : فداه الله بذبح عظيم ، بكبش أملح : يأكل في سواد ، و يشرب في سواد ، و ينظر في سواد ، و يمشي في سواد ، و يبول و يبعر في سواد ، و كان يرتع قبل ذلك في رياض الجنة أربعين عاما ، و ما خرج من رحم أنثى ، و إنما قال الله جل و عز له : كن فكان ، ليفدي به إسماعيل ، فكل ما يذبح بمنى فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة ، فهذا أحد الذبيحين ، ويا طيب : وهذ التفسير الظاهر ، والتفسير الباطن إن الذبح العظيم هو الحسين عليه السلام كما سيأتي في صحيفته .

و أما الذبيح الثاني : فإن عبد المطلب كان تعلق بحلقة باب الكعبة ، و دعا الله عز و جل أن يرزقه عشرة بنين .

و نذر لله عز و جل أن يذبح واحدا منهم متى أجاب الله دعوته .

فلما بلغوا عشرة أولاد ، قال : قد وفى الله لي فلأفين لله عز وجل ، فأدخل ولده الكعبة ، و أسهم بينهم فخرج سهم عبد الله ، أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، و كان أحب ولده إليه .

ثم أجالها ثانية فخرج سهم عبد الله ، ثم أجالها ثالثة فخرج سهم عبد الله فأخذه و حبسه ، و عزم على ذبحه فاجتمعت قريش و منعته من ذلك ، و اجتمع نساء عبد المطلب يبكين و يصحن .

فقالت له ابنته عاتكة : يا أبتاه اعذر فيما بينك و بين الله عز و جل في قتل ابنك . قال : فكيف أعذر يا بنية ، فإنك مباركة ؟

قالت : اعمد إلى تلك السوائم التي لك في الحرم ، فاضرب بالقداح على ابنك و على الإبل ، و أعط ربك حتى يرضى ، فبعث عبد المطلب إلى إبله فأحضرها ، و عزل منها عشرا ، و ضرب السهام فخرج سهم عبد الله ، فما زال يزيد عشر عشرا حتى بلغت مائة ، فضرب فخرج السهم على الإبل ، فكبرت قريش تكبيرة ارتجت له جبال تهامة .

فقال عبد المطلب : لا حتى أضرب بالقداح ثلاث مرات ، فضرب ثلاثا كل ذلك يخرج السهم على الإبل ، فلما كان في الثالثة اجتذبه الزبير و أبو طالب و إخوانه من تحت رجليه فحملوه ، و قد انسلخت جلدة خده الذي كان على الأرض ، و أقبلوا يرفعونه و يقبلونه و يمسحون عنه التراب .

و أمر عبد المطلب : أن تنحر الإبل بالحزورة و لا يمنع أحد منها ، و كانت مائة ، و كانت لعبد المطلب خمس سنن ، أجراها الله عز و جل في الإسلام : حرم نساء الآباء على الأبناء ، و سن الدية في القتل مائة من الإبل ، و كان يطوف بالبيت سبعة أشواط ، و وجد كنزا فأخرج منه الخمس ، و سمى زمزم لم حفرها سقاية الحاج .

و لو لا أن عبد المطلب كان حجة ، و أن عزمه على ذبح ابنه عبد الله شبيه بعزم إبراهيم على ذبح ابنه إسماعيل .

لما افتخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم : بالانتساب إليهم ، لأجل أنهما الذبيحان في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا ابن الذبيحين .

و العلة : التي من أجلها رفع الله عز و جل الذبح عن إسماعيل ، هي العلة : التي من أجلها رفع الذبح عن عبد الله ، و هي كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم و الأئمة عليهم السلام في صلبهما .

فببركة النبي و الأئمة صلى اللهم عليهم وسلم : رفع الله الذبح عنهما ، فلم تجر السنة في الناس بقتل أولادهم ، و لو لا ذلك لوجب على الناس كل أضحى التقرب إلى الله تعالى ذكره بقتل أولادهم ، و كل ما يتقرب الناس به إلى الله عز و جل من أضحية فهو فداء إسماعيل إلى يوم القيامة .

الخصال ج1ص55 قول النبي ص أنا ابن الذبيحين ح78 . عيون ‏أخبار الرض ج1ص212ب 18.

القبس الثالث : قصة أصحاب الفيل وبيان كرامة الله لأبي النبي وجده :

وعَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ آبَائِهِ عليه السلام قَالَ :

لَمَّا ظَهَرَتِ الْحَبَشَةُ بِالْيَمَنِ وَجَّهَ يَكْسُومُ مَلِكُ الْحَبَشَةِ بِقَائِدَيْنِ مِنْ قُوَّادِهِ ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا : أَبْرَهَةُ ، وَ الْآخَرِ : أَرْبَاطُ ، فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْفِيَلَةِ ، كُلُّ فِيلٍ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ لِهَدْمِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، فَلَمَّا صَارُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَقَعَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ وَ اخْتَلَفُوا ، فَقَتَلَ أَبْرَهَةُ أَرْبَاطَ وَ اسْتَوْلَى عَلَى الْجَيْشِ .

فَلَمَّا قَارَبَ مَكَّةَ : طَرَدَ أَصْحَابُهُ عِيراً لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ فَصَارَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى أَبْرَهَةَ وَ كَانَ تَرْجُمَانُ أَبْرَهَةَ ، وَ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ ابْنَ دَايَةٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ .

فَقَالَ التَّرْجُمَانُ لِأَبْرَهَةَ : هَذَا سَيِّدُ الْعَرَبِ ، وَ دَيَّانُهَا فَأَجِلَّهُ ، وَ أَعْظِمْهُ ، ثُمَّ قَالَ : لِكَاتِبِهِ سَلْهُ مَا حَاجَتُهُ ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ : إِنَّ أَصْحَابَ الْمَلِكِ طَرَدُوا لِي نِعَماً ، فَأْمُرْ بِرَدِّهَا ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى التَّرْجُمَانِ فَقَالَ ، قُلْ لَهُ : عَجَباً لِقَوْمٍ سَوَّدُوكَ وَ رَأَّسُوكَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ تَسْأَلُنِي فِي عِيرٍ لَكَ ، وَ قَدْ جِئْتُ لِأَهْدِمَ شَرَفَكَ وَ مَجْدَكَ ، وَ لَوْ سَأَلْتَنِي الرُّجُوعَ عَنْهُ لَفَعَلْتُ .

فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ هَذِهِ الْعِيرَ لِي ، وَ أَنَا رَبُّهَا فَسَأَلْتُكَ إِطْلَاقَهَا ، وَ إِنَّ لِهَذِهِ الْبَنِيَّةِ رَبّاً يَدْفَعُ عَنْهَا .

قَالَ : فَإِنِّي غَادٍ لِهَدْمِهَا حَتَّى أَنْظُرَ مَا ذَ يَفْعَلُ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، رَحَلَ أَبْرَهَةُ بِجَيْشِهِ ، فَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ فِي السَّحَرِ الْأَكْبَرِ :

يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتَاكُمْ أَهْلُ عَكَّةَ ، بِجَحْفَلٍ جَرَّارٍ يَمْلَأُ الْأَنْدَارَ مِلْ‏ءَ الْجِفَارِ ، عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الْجَبَّارِ .

فَأَنْشَأَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ :

أيُّهَا الدَّاعِي : لَقَدْ أَسْمَعْتَنِي الْأَبْيَاتَ ، لَمَّا أَصْبَحَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ جَمَعَ بَنِيهِ ، أَرْسَلَ الْحَارِثَ ابْنَهُ الْأَكْبَرَ إِلَى أَعْلَى أَبِي قُبَيْسٍ فَقَالَ انْظُرْ يَا بُنَيَّ مَا ذَ يَأْتِيكَ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ فَرَجَعَ فَلَمْ يَرَ شَيْئاً ، أَرْسَلَ وَاحِداً بَعْدَ آخَرَ مِنْ وُلْدِهِ فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الْبَحْرِ بِخَبَرٍ .

فَدَعَا بِعَبْدِ اللَّهِ : وَ إِنَّهُ لَغُلَامٌ حِينَ أَيْفَعَ ، وَ عَلَيْهِ ذُؤَابَةٌ تَضْرِبُ إِلَى عَجُزِهِ فَقَالَ [لَهُ‏] اذْهَبْ فِدَاكَ أَبِي وَ أُمِّي فَاعْلُ أَبَا قُبَيْسٍ ، فَانْظُرْ مَا ذَا تَرَى يَجِي‏ءُ مِنَ الْبَحْرِ ، فَنَزَلَ مُسْرِعاً ، فَقَالَ يَا سَيِّدَ النَّادِي :

رَأَيْتُ سَحَاباً مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ مُقْبِلًا ، يَسْتَفِلُّ تَارَةً وَ يَرْتَفِعُ أُخْرَى ، إِنْ قُلْتُ غَيْماً قُلْتُهُ ، وَ إِنْ قُلْتُ جِهَاماً خِلْتُهُ ، يَرْتَفِعُ تَارَةً وَ يَنْحَدِرُ أُخْرَى .

فَنَادَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ادْخُلُو مَنَازِلَكُمْ ، فَقَدْ أَتَاكُمُ اللَّهُ بِالنَّصْرِ مِنْ عِنْدِهِ ، فَأَقْبَلَ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ فِي مِنْقَارِ كُلِّ طَائِرٍ حَجَرٌ ، وَ فِي رِجْلَيْهِ حَجَرَانِ ، [فَكَانَ الطَّائِرُ] الْوَاحِدُ يَقْتُلُ ثَلَاثَةً مِنْ أَصْحَابِ أَبْرَهَةَ ، كَانَ يُلْقِي الْحَجَرَ فِي قِمَّةِ رَأْسِ الرَّجُلِ فَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ .

مستدرك ‏الوسائل ج9 ص340 ب12ح11037-7 عن أبو الفتح الكراجكي في كنز الفوائد.

يا طيب : إن الأحاديث في قصة كرامات الله للنبي في آباءه كثيرة وستعرف بعضها أدناه ، وهذا فضل الله ليُعرف دينه بأفضل أهل الأرض وأكرمهم عنده ، ويعرفنا بفضلهم ، وبقصص قبل تولدهم ليتوجه لهم الناس ، فيقبلوا قولهم لما يرو من كرامات الله عليهم وهداه لهم ، وستأتي معاجز النبي الكريم لنعرف عظمته عند الله وعناية الله به وشأنه وبيان فضل آباءه عليهم السلام وعناية الله بهم .

ونكتفي بهذا وندخل في أحواله مع آله قبل البعثة صلى الله عليه وآله وسلم ، لنعرف شيء من كرامته عند الله في التكوين ليعرفنا الله بمجده وما سيهبه ويمده من نور الهدى والدين والظهور به لكل العالمين فضلا عن نور وجوده المبارك ، رزقنا الله نوره حتى ليجعلنا معهم في محل الكرامة وجنة النعيم فرحين بفضله ونوره بكل خير خالدين ، إنه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الذكر الثاني
مولد نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
ونشأته وصباه وزواجه حتى مبعثه الشريف

وهنا أدور لمراحل حياة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكريمة قبل البعثة الشريفة ، نبدأها بزواج والده من أمه عليهم السلام ، ثم نذكر مولده الكريم وما يتعلق بنشأته وصباه وزواجه حتى مبعثه الشريف .

ونذكر مختصر البحث في إشراقات نور أهمها :

الإشراق الأول : زواج أبو النبي عبد الله من آمنة عليهم السلام :

ذكر اليعقوبي في تأريخه :

كان تزويج : عبد الله بن عبد المطلب ، من : آمنة ، بنت وهب .

بعد حفر زمزم بعشر سنين ، وقيل بضع عشرة سنة . وبين فداء عبد المطلب لابنه وبين تزويجه إياه سنة ، فكان اسم عبد الله أبي رسول الله عبد الدار ، وقيل : كان اسمه عبد قصي . فلما كان في السنة التي فدي فيها قال عبد المطلب : هذا عبد الله ، فسماه يومئذ كذلك .

وكان بين تزويج أبي رسول الله لامه وبين مولده على ما روى جعفر بن محمد : عشرة أشهر ، وقال بعضهم : سنة وثمانية أشهر .

وتوفي عبد الله : بن عبد المطلب أبو رسول الله على ما روى جعفر بن محمد : بعد شهرين من مولده . وقال بعضهم : إنه توفي قبل أن يولد ، وهذا قول غير صحيح ، لان الإجماع على أنه توفي بعد مولده .

وقال آخرون : بعد سنة من مولده .

وكانت وفاة : عبد الله بالمدينة عند أخوال أبيه بني النجار في دار تعرف بدار النابغة ، وكانت سنّه يوم توفي خمسا وعشرين سنة .

وسيأتي بعض الكلام عن فداء أبو النبي الكريم من الذبح كجده إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام أجمعين في الكلام عن كفالة جده له .

الإشراق الثاني : مولد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله:

ولد نبينا الأكرم محمد : صلى الله عليه وآله وسلم كما عرفت في أسرة بني هاشم وهم سادت قريش ، وبيتهم أصيل في العروبة مشهور بالكرم والسخاء والعفاف والستر ، ولا يدانيهم أحد في الفضل والكرامة .

و المشهور بيننا : إنه ولد النبي الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة المكرمة عند طلوع الفجر من يوم الجمعة ، وفي اليوم السابع عشر (17) من شهر ربيع الأول في عام الفيل ـ الذي جاءوا به أبرهة لتخريب الكعبة المكرمة فأهلكم الله بحجارة من سجيل سنة 570 لميلاد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام .

وقيل : ولد صلى الله عليه وآله في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، وعلى هذا القول بعض أهل السنة والبعض من الشيعة كالكلينين رحمه الله.

وجعل المؤمنون الحقيقيون : هذا الاختلاف في يوم تولد إشعاع نوره المعظم أيام وحدة ، وأسبوع التوحيد وجمع الشمل بين المسلمين سنة وشيعة ، ليجتمعو في مثل هذه الأيام ويعقدوا مؤتمرات وندوات وجلسات ، فيتباحثون فيها في الأمور التي تخدم الدين ، والتي تدعوا لوحدة المسلمين وقوتهم واجتماع كلمتهم أمام الأحقاد الاستعمارية والصهيونية التي تدعوا لتفرق المسلمين وتشتيت كلمتهم .

وللوقوف : أمام عملائهم الذين يروجون للتفرقة والتباغض والتباعد بين طوائف المسلمين ، فتجعل الاحتفالات في مناسبة مولده الشريف أيام فرح للتقارب بين جميع المسلمين الطيبين ، وللوصول لمعرفة حقائق الدين والبحث عن ما تهدف إليه تعاليم رب العالمين ، وللأخذ بما جاء به سيد المرسلين من الحق بالدليل والبرهان واليقين ، ونسأل الله أن يوفقهم لنصر الحق والهدى المنير الذي جاء به سيد المرسلين وعرفه آله الطيبين الطاهرين وصحبهم الأخيار الميامين ، ورحم الله من قال آمين .

الإشراق الثالث : المعجزات الحادثة يوم تولد نبينا الكريم:

يا طيب : قد وقعت حوادث كثيرة تبشر بميلاد نبي الرحمة وخاتم المرسلين وسيد البشر من الأولين والآخرين ، وحبيب رب العالمين المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يسع هذا المختصر بذكرها كلها ، ولذا نشير إلى قسم منه .

روى في البحار عن إكمال الدين والأمالي مسنداً عن أبي طالب حدث أبيه عبد المطلب قال :

بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ، فأتيت كاهنة قريش وعليَّ مطرف خز ، وجمتي تضرب منكبي ، فلما نظرت إليَّ عرفت في وجهي التغير فاستوت وأنا يومئذ سيد قومي .

فقالت : ما شأن سيد العرب متغير اللون ؟ هل رابه من حدثان الدهر ريب؟

فقلت لها : بلى إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر ، كأن شجرة قد نبتت على ظهري قد نال رأسها السماء ، وضربت بأغصانها الشرق والغرب ، ورأيت نورا يزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا .

ورأيت : العرب والعجم ساجدة لها ، وهي كل يوم تزاد عظما ونور .

ورأيت : رهطا من قريش يريدون قطعها ، فإذا دنوا منها .

أخذهم شاب من أحسن الناس وجها ، وأنظفهم ثيابا ، فيأخذهم ويكسر ظهورهم ، ويقلع أعينهم .

فرفعت يدي : لا تناول غصنا من أغصانها ، فصاح في الشاب .

وقال : مهلا ليس لك منها نصيب!. فقلت : لمن النصيب الشجرة مني ؟

فقال : النصيب لهؤلاء الذين قد تعلقوا بها وسيعود إليها ، فانتبهت مذعورا فزعا متغير اللون .

فرأيت لون الكاهنة قد تغير . ثم قالت :

لئن صدقت ليخرجن من صلبك ولد يملك الشرق والغرب ، وينبأ في الناس ، فتسرى عني غمي ، فانظر أبا طالب لعلك تكون أنت .

وكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث ، والنبي صلى الله عليه وآله قد خرج ، ويقول : كانت الشجرة والله أبا القاسم الأمين .

الأمالي للصدوق ص262م45ح1 . كمال الدين ص103 . كمال الدين و تمام النعمة ج1174ب12ح30 .

.

وفي الأمالي : روي في سنده عن أبي عبد الله الصادق صلى الله عليه وآله قال : كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات السبع ، فلم ولد عيسى عليه السلام حجب عن ثلاث سماوات وكان يخترق أربع سماوات ، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله حجب عن السبع كلها ،ورميت الشياطين بالنجوم .

وقالت قريش : هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه .

وقال عمرو بن أمية وكان من أزجر أهل الجاهلية : انظرو هذه النجوم التي يهتدي بها ، ويعرف بها أزمان الشتاء والصيف ، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شيء ، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها فهو أمر حدث .

وأصبحت الأصنام كلها صبيحة ولد النبي صلى الله عليه وآله ليس منها صنم إلا وهو منكب على وجهه .

وارتج في تلك الليلة أيوان كسرى ، وسقطت منه أربعة عشر شرفة .

وغاضت بحيرة ساوة ، وفاض وادي السماوة ، وخمدت نيران فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام .

ورأى المؤبذان في تلك الليلة في المنام إبلا صعابا تقود خيل عرابا ، قد قطعت دجلة ، وانسربت في بلادهم ، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه ، وانخرقت عليه دجلة العوراء .

وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق ، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا ، والملك مخرسا لا يتكلم يومه ذلك .

وانتزع علم الكهنة ، وبطل سحر السحرة ، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها، وعظمت قريش في العرب ، وسموا آل الله عز وجل.

قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام : إنما سموا آل الله لأنهم في بيت الله الحرام . وقالت آمنة أم النبي الأكرم رحمها الله :

إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده ، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها ، ثم خرج مني نور أضاء له كل شيء ، وسمعت في الضوء قائل يقول : إنك قد ولدت سيد الناس فسميه محمدا .

وأتي به عبد المطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت أمه ، فأخذه فوضعه في حجره ثم قال :

الحمد لله الذي أعطاني

هذا الغلام الطيب الأردن

قد ساد في المهد على الغلمان

ثم عوذه بأركان الكعبة . وقال فيه أشعارا .

قال : وصاح إبليس لعنه الله في أبالسته فاجتمعو إليه ، فقالوا : ما الذي أفزعك يا سيدنا ؟ فقال لهم : ويلكم لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة ، لقد حدث في الأرض حدث عظيم ما حدث مثله منذ رفع عيسى بن مريم عليه السلام ، فاخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث .

فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا : ما وجدنا شيئ ، فقال إبليس لعنه الله : أنا لهذا الأمر ، ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم فوجد الحرم محفوظا بالملائكة .

فذهب ليدخل : فصاحوا به ، فرجع ثم صار مثل الصر وهو العصفور فدخل من قبل حرى ، فقال له جبرائيل : ورأك لعنك الله ، فقال له : حرف أسألك عنه يا جبرائيل ، ما هذا الحديث الذي حدث منذ الليلة في الأرض ؟

فقال له : ولد محمد صلى الله عليه وآله . فقال له : هل لي فيه نصيب ؟ قال : لا . قال : ففي أمته ؟ قال : نعم ، قال : رضيت.

تفسير القمي ج1ص374 سورة الحجر الآيات 17 إلى 27 والأمالي( للصدوق ص287ب48ح1 .

وفي هذا الباب : أخبار كثيرة من أراد المزيد عليه بمراجعة البحار وكتب السيرة ، ليطلع على كثير من الأحداث المبشرة بعظمة تولد نبي الرحمة والمؤيدة لحجة الله المبلغ لتعاليمه في المستقبل ، ولتكون دليل على أن له نبأ عظيم ، وهي كمعجزات مقدمة لتأييد دعوة النبي الأكرم خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ، كما إنه كان هذا في تولد الأنبياء العظام كإبراهيم وموسى وعيس عليهم السلام .

الإشراق الرابع : أسماء النبي الأكرم وألقبه وكناه :

وأمّا أسماؤه نبينا الأكرم وصفاته : صلى الله عليه وآله ، فمنها ما جاء به التنزيل هي :

الرسول ، النبيّ ، الاُمي، والمزّمل ، المدّثّر ، النذير ، المبين ، أحمد .

محمّد ، المصطفى ، الكريم ، نورا .

نعمة ، رحمة ، عبداً ، رؤوفاً ، رحيماً .

شاهداً ، مبشراً ، نذيراً، داعياً ، منذرا ، سراجاً منيراً .

عبد الله ، مذكرّاً ، طه ، ويس .

إعلام الورى ج1ص42ب1ص41.

ومن صفاته التي جاءت في الحديث : راكب الجمل، وآكل الذراع ، ومحرّم الميتة ، وقابل الهديّة .

وخاتم النبوّة ، وحامل الهراوة ، ورسول الرحمة .

مناقب ابن شهر آشوب 1: 154، وكشف الغمة 1: 13، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 16: 120.

و عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : إن لرسول الله عليه السلام عشرة أسماء خمسة منها في القرآن ، وخمسة ليست في القرآن :

فأما التي في القرآن : فمحمد عليه السلام ، وأحمد ، وعبد الله ، ويس ، ونون . وأما التي ليست في القرآن : فالفاتح ، والخاتم ، والكافي ، والمقفى والحاشر .

الخصال ب9ص426ح2.

كنى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم :

يقال: إنّ كنيته في التوراة : أبو الأرامل . واسمه صاحب : الملحمة .

كنيته عندنا وبين المؤمنين : أبو القاسم ، أبو إبراهيم.

إعلام الورى ج1ص42ب1ص41 مناقب ابن شهر آشوب 1: 154، وكشف الغمة 1: 13، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 16: 120.

الإشراق الخامس : رضاعه من حليمة السعدية رحمها الله :

واسترضع نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم : في بني سعد بن بكر بن هوازن . وكان عبد المطلب دفعه إلى الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي زوج حليمة بنت أبي ذؤيب السعدي ، فلم يزل مقيما في بني سعد يرون به البركة في أنفسهم وأموالهم …

وردوه إلى جده عبد المطلب وله خمس سنين ، وقيل أربع سنين ، وهو في خلق ابن عشر وقوته .

الإشراق السادس : وفاة أم النبي الكريم بالأبواء :

ذكر اليعقوبي : وتوفيت أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بعد ما أتى عليه ست سنين وثلاثة أشهر ، ولها ثلاثون سنة .

وكانت وفاتها بموضع يقال له : الأبواء بين مكة والمدينة .

وذكر الكليني : توفيت وهو عليه السلام ابن أربع سنين .

وروي عن بريدة قال : انتهى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى رسم قبر فجلس وجلس الناس حوله ، فجعل يحرّك رأسه كالمخاطب ثمّ بكى .

فقيل : ما يبكيك يا رسول الله ؟

قال : ( هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربّي في أن أزور قبره فأذن لي فأدركتني رقّتها فبكيت ) فما رأيته ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة .

الطبقات الكبرى 1: 117، دلائل النبوة للبيهقي 1: 189.

وفي خبر آخر: ( استأذنت ربي في زيارة قبر اُمّي فأذن لي ، فزورو القبور تذكّركم الموت ) .

صحيح مسلم 2: 671 | 976.

الإشراق السابع : كفالة جد نبينا الأكرم عبد المطلب له :

يا طيب : عرفنا كثير من كرامات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في يوم تولده وقبله في صلبه آبائه الكرام ، وبالخصوص ما عرفنا في الأمر الثالث من البحث السابق عن كرامات جده عبد المطلب وأبيه من حفر زمزم وتولد أبي النبي الكريم وقصة الفداء بما يعرف عظمته وشأنه الكريم وفضله ، فيُعرفها الله للناس ويشير إليه ، وقصته مع أصحاب الفيل ، وغيرهن ، وهذا بعض شأن عبد المطلب الكريم في رعايته لنبي الرحمة وبعض حاله معه ، وكيف يوصي بالنبي الكريم ويشيد به ويرعاه ، حتى ليعده وليُعرف شأنه وفضله بما سيهبه الله من النبوة والرسالة وتبليغ هدى الله تعالى .

ولما توفيت أم النبي الكريم بعد أبيه كفله جده الكريم عبد المطلب ، وذكروا في أحواله الشريف وكرمه أقوال كثيرة منها :

كان عبد المطلب : جد رسول الله يكفله ، وعبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع ، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحدا ، وسقاه زمزم وذ الهرم ، وحكمته قريش في أموالها ، وأطعم في المحل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال . قال أبو طالب :

ونطعم حتى تأكل الطير فضلنا إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد

ورفض عبادة الأصنام ووحد الله عز وجل ، ووفى بالنذر وسن سنن نزل القرآن بأكثرها ، وجاءت السنة من رسول الله بها وهي : الوفاء بالنذور ، ومائة من الإبل في الدية ، وألا تنكح ذات محرم ، ولا تؤتى البيوت من ظهورها ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموءودة ، والمباهلة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزن ، والحد عليه ، والقرعة ، وألا يطوف أحد بالبيت عريانا ، وإضافة الضيف ، وألا ينفقو إذا حجوا إلا من طيب أموالهم ، وتعظيم الأشهر الحرم ، ونفي ذوات الرايات .

ولما قدم صاحب الفيل : خرجت قريش من الحرم فارة من أصحاب الفيل ، فقال عبد المطلب : والله لا أخرج من حرم الله وأبتغي العز في غيره . فجلس بفناء البيت ثم قال :

لهم إن تعف فإنهم عيالك إلا فشــئ ما بدا لك

فكانت قريش تقول : عبد المطلب إبراهيم الثاني .

وكان المبشر لقريش : بما فعل الله بأصحاب الفيل عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله . فقال عبد المطلب : قد جاءكم عبد الله بشيرا ونذير . فأخبرهم بما نزل بأصحاب الفيل .

فقالوا : إنك كنت لعظيم البركة لميمون الطائر منذ كنت .

وكان لعبد المطلب من الولد الذكور عشرة . ومن الإناث أربع :

عبد لله : أبو رسول الله ، وأبو طالب : وهو عبد مناف أبو علي ، والزبير وهو أبو الطاهر ، وعبد الكعبة وهو المقوم ، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم وهي أم حكيم البيضاء . وعاتكة ، وبرة ، وأروى ، وأميمة : بنات عبد المطلب .

والحارث : وهو أكبر ولد عبد المطلب وبه كان يكنى ، وقثم ، وأمهما صفية بنت جندب بن حجير بن زباب بن حبيب بن سوأة بن عامر بن صعصعة.

وحمزة : وهو أبو يعلى أسد الله وأسد رسول الله ، وأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي أم صفية بنت عبد المطلب .

والعباس ، وضرار ، أمهما نتيلة بنت جناب بن كليب بن النمر بن قاسط . وأبو لهب وهو عبد العزى ، وأمه لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر الخزاعي . والغيداق وهو جحل وإنما سمى الغيداق لأنه كان أجود قريش وأطعمهم للطعام ، وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل الخزاعي . فهؤلاء أعمام رسول الله وعماته .

وكان : لكل واحد من ولد عبد المطلب شرف وذكر وفضل وقدر ومجد . وحج عامر بن مالك ملاعب الأسنة البيت فقال : رجال كأنهم جمال جون ، فقال : بهؤلاء تمنع مكة . وحج أكثم بن صيفي في ناس من بني تميم فرآهم يخترقون البطحاء كأنهم أبرجة الفضة يلحقون الأرض جيرانهم .

فقال : يا بني تميم إذا أحب الله أن ينشئ دولة نبت لها مثل هؤلاء . هؤلاء غرس الله لا غرس الرجال .

وكان يفرش لعبد المطلب : بفناء الكعبة ، فلا يقرب فراشه حتى يأتي رسول الله ، وهو غلام ، فيتخطى رقاب عمومته .

فيقول لهم عبد المطلب : دعوا أبني ، إن لابني هذا لشأناً .

وكان عبد المطلب : قد وفد على سيف بن ذي يزن مع جلة قومه لم غلب على اليمن ، فقدمه سيف عليهم جميعا وآثره . ثم خلا به فبشره برسول الله ووصف له صفته ، فكبر عبد المطلب وعرف صدق ما قال سيف ، ثم خر ساجدا .

فقال له سيف : هل أحسست لما قلت نبأ ؟

فقال له : نعم ! ولد لابني غلام على مثال ما وصفت ، أيها الملك .

قال : فأحذر عليه اليهود وقومك ، وقومك أشد من اليهود ، والله متمم أمره ومعل دعوته .

وكان أصحاب الكتاب : لا يزالون يقولون لعبد المطلب في رسول الله منذ ولد ، فيعظم بذلك ابتهاج عبد المطلب .

فقال : أما والله لئن نافستني قريش الماء ، يعني ماء سقاه الله من زمزم وذي الهرم ، لتنفسني غدا الشرف العظيم والبناء الكريم والعز الباقي والسناء العالي إلى آخر الدهر ويوم الحشر .

وتوالت على قريش : سنون مجدبة حتى ذهب الزرع وقحل الضرع ، ففزعوا ، وقالوا : قد سقانا الله بك مرة بعد أخرى فادع الله أن يسقينا .

وسمعوا صوتا ينادي من بعض جبال مكة : معشر قريش إن النبي الأمي منكم ، وهذا أوان توكفه ، ألا فانظروا منكم رجلا عظاما جساما له سن يدعو إليه وشرف يعظم عليه ، فيلخرج هو وولده ليمسوا من الماء ويلتمسوا من الطيب ويستلمو الركن ، وليدع الرجل وليؤمن القوم فخصبتم ما شئتم إذا وغثتم ، فلم يبق أحد بمكة إلا قال : هذا شيبة الحمد ، هذا شيبة الحمد .

فخرج عبد المطلب : ومعه رسول الله ، وهو يومئذ مشدود الإزار ، فقال عبد المطلب : اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة ، وأنت عالم غير معلم ، مسؤول غير مبخل ، وهؤلاء عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنيهم التي أقحلت الضرع وأذهبت الزرع ، فاسمعن اللهم وأمطرن غيثا مريعا مغدقا .

فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي بثجه ، وفي ذلك يقول بعض قريش :

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنـا وقد فقدنا الكرى واجلوذ المطر

منا من الله بالميمـون طائـره وخير من بشرت يوما به مضر

مبارك الأمر يستسقى الغمام به ما في الأنام له عدل ولا خطر

وأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة .

وإلى أبي طالب : بكفالة رسول الله ، وسقاية زمزم .

وقال له : قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطئون به رقاب العرب ، وقال لأبي طالب :

أوصيك يا عبد مناف بعدي بمفــرد بعد أبيه فـرد

فارقه وهـو ضجيع المهـد فكنت كالأم له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبـد فأنت من أرجى بني عندي

لدفع ضيم أو لشد عقد

وتوفي عبد المطلب : ولرسول الله ثماني سنين ، ولعبد المطلب مائة وعشرون سنة ، وقيل مائة وأربعون سنة . وأعظمت قريش موته ، وغسل بالماء والسدر . وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر ، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتهما ألف مثقال ذهب ، وطرح عليه المسك حتى سترة ، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام إعظام وإكراما وإكبارا لتغييبه في التراب .

واحتبى ابنه بنفاء الكعبة لما غيب عبد المطلب ، واحتبى ابن جدعان التيمي من ناحية ، والوليد بن ربيعة الخزومي ، فادعى كل واحد الرئاسة .

وروي عن رسول الله أنه قال : إن الله يبعث جدي عبد المطلب أمة واحدة في هيئة الأنبياء وزي الملوك .

وسلام الله عليه يوم مات ويوم يبعث حيا وجعله مع سبطه النبي وآله .

تاريخ اليعقوبي جزء 2 صفحة 9 ـ22.

الإشراق الثامن : كفالة عم نبينا الكريم أبو طالب له :

ولعم النبي المكرم أبو طالب : كان شأن كريم في قريش بعد أبيه عبد المطلب ، وله السيادة والشرف فيهم ، وهو أخ عبد الله أبو النبي الكريم من أمه وأبيه ، ولكون كان لعبد المطلب الفضل والرحم الماسة أو صاه أبيه بكفالة أبن أخيه نبي الرحمة .

وكان بحق ربيبه حتى زوجه : وهو كان يعيش في بيته سبعة عشر سنه وسافر معه في تجارة للشام ، وبعد التزوج من خديجة والبعثة كان هو الناصر له والمحامي عنه ، وكثير مما يذكر من أحوال النبي في مكة حتى أيام من قبل الهجرة وهي سنة وفاة أبو طالب ، كان هو الناصر له والرفيق والمحامي حتى دخل الشعب معه حين محاصرة قريش له ، وله فضل عظيم وألفت كتب في شرفه وإيمانه ومنها صحيفة أبو طالب من موسوعة صحف الطيبين ، فمن أرد التفصيل عليه بمراجعتها ونحن نذكر مختصر منها، ونجعل الباقي في قصصه مع نبي الرحمة، ومما ذكروا عنه في حياته المشتركة مع رسول الله صلى الله عليهم وسلم :

فكفل رسول الله : بعد وفاة عبد المطلب أبو طالب عمه ، فكان خير كافل . وكان أبو طالب سيدا شريفا مطاعا مهيبا مع إملاقه .

قال علي بن أبي طالب : أبي ساد فقيرا ، وما ساد فقير قبله .

وخرج به إلى بصرى من أرض الشام وهو ابن تسع سنين ، وقال : والله ! لا أكلك إلى غيري .

وربته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأم أولاده جميع .

ويروى عن رسول الله : لما توفيت فاطمة ـ زوجة عمه أبو طالب والتي كان في بيتها كأمه وهي أم الإمام علي عليهم السلام ـ وكانت مسلمة فاضلة .

أنه قال : اليوم ماتت أمي ، وكفنها بقميصه ونزل على قبرها واضطجع في لحدها .

فقيل له : يا رسول الله ، لقد اشتد جزعك على فاطمة .

قال : إنها كانت أمي ، إن كانت لتجيع صبيانها وتشبعني وتشعثهم وتدهنني ، وكانت أمي .

ولما بلغ نبينا الكريم العشرين : ظهرت فيه العلامات وجعل أصحاب الكتب يقولون فيه ويتذاكرون أمره ويتوصفون حاله ويقربون ظهوره .

فقال يوما لأبي طالب : يا عم إني أرى في المنام رجلا يأتيني ومعه رجلان فيقولان : هو هو ، وإذا بلغ فشأنك به ، والرجل لا يتكلم .

فوصف أبو طالب : ما قال لبعض من كان بمكة من أهل العلم .

فلما نظر إلى رسول الله قال : هذه الروح الطيبة ! هذا والله النبي المطهر .

فقال له أبو طالب : فاكتم على ابن أخي لا تغر به قومه ، فوالله إنما قلت لعلي ما قلت ، ولقد أنبأني أبي عبد المطلب بأنه النبي المبعوث وأمرني أن أستر ذلك لئلا يغري به الأعادي .

وخرج : صلاة الله وسلامه عليه مع عمه أبو طالب للتجارة ، وعمره اثنا عشر سنة ، وكان في سفره تضله غمامة .

وعرفه : بحيرى الراهب بأنه نبي آخر الزمان وأوصى عمه به ، وظهرت له كرامات ومناقب في سفره حكاها أصحاب السير .

هذا وكانت لعم نبينا معه صلى الله عليهم وسلم حالات أخرى سيأتي ذكر قسما منها في الباب الآتي ، وهذه حالات للنبي في شبابه وقبل بعثته نذكر منه :

الإشراق التاسع : حضوره صلى الله عليه و آله حرب الفجار :

شهد رسول الله : الفجار وله سبع عشرة سنة ، وقيل عشرون سنة ، وكان سبب الفجار ، وهي الحرب التي كانت بين كنانة وقيس .

وقد روي أن أبا طالب : منع أن يكون فيها أحد من بني هاشم ، وقال : هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام ، ولا أحضره ولا أحد من أهلي ، فأخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها ، وقال عبد الله بن جدعان التيمي وحرب ابن أمية : لا نحضر أمرا تغيب عنه بنو هاشم ، فخرج الزبير .

وقيل : إن أبا طالب كان يحضر في الأيام ومعه رسول الله ، فإذ حضر هزمت كنانة قيسا فعرفوا البركة بحضوره ، فقالوا : يا ابن مطعم الطير وساقي الحجيج لا تغب عنا فإنا نرى مع حضورك الظفر والغلبة .

قال : فاجتنبوا الظلم والعدوان والقطيعة والبهتان، فإني لا أغيب عنكم . فقالوا : ذاك لك . فلم يزل يحضر حتى فتح عليهم .

وروي عن رسول الله أنه قال : شهدت الفجار مع عمي أبي طالب وأنا غلام .

وروى بعضهم : أنه شهد الفجار وهو ابن عشرين سنة وطعن أبا براء ملاعب الأسنة فأراده عن فرسه ، وجاء الفتح من قبله ( فجمعنا جميع الروايات مع الاختصار ) ومات حرب بن أمية بن عبد شمس بالشام بعد الفجار بأشهر .

الإشراق العاشر : حضوره صلى الله عليه وآله حلف الفضول :

وهذا حلف كريم : حضرة النبي، وكان يحب ذكره ومختصر الرواية فيه :

حضر رسول الله / حلف الفضول وقد جاوز العشرين .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم بعدما بعثه الله : حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما يسرني به حمر النعم ، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت .

وكان سبب حلف الفضول : أن قريشا تحالفت أحلافا كثيرة على الحمية والمنعة .

فتحالف المطيبون : وهم بنو عبد مناف ، وبنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو تيم ، وبنو الحارث بن فهر على أن لا يسلموا الكعبة ما أقام حراء وثبير وم بل بحر صوفة . وصنعت عاتكة بنت عبد المطلب طيبا فغمسوا أيديهم فيه .

وقيل : إن الطيب كان لام حكيم البيضاء بنت عبد المطلب ، وهي توأم عبد الله أبي رسول الله .

تاريخ اليعقوبي جزء 2 صفحة 9 ـ22 .

الإشراق الحادي عشر : حضوره بناء الكعبة ووضعه الحجر الأسود :

وهذه مكرمة أخرى لرسول الله ومعجزة قبل بعثته وذلك ليعرف الله سبحانه بكرامة ، ويعرف شرفه ومنزلته عند ، وهو حين هدم الكعبة السيل وأراد أهل مكة بناءها ولما وصلوا لوضع الحجر الأسود في مكانه تنازعوا كلا منهم يريد وضعه ليكون ويعرف بأنه شريف قومه وسيدهم ، فكان للنبي الكريم شرف وضعه في مكانه عليه السلام ، واسمع ما ذكروا في هذا الحادث الكريم .

وضع رسول الله الحجر في موضعه حين اختصمت قريش وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وذلك أن قريشا هدمت الكعبة بسبب سيل أصابهم فهدمها.

وقيل : بل كانت امرأة من قريش تجمر الكعبة فطارت شررة فأحرقت باب الكعبة ، وكان طولها تسعة أذرع فنقضوها ، وكان أول من ضرب فيها بمعول الوليد بن المغيرة المخزومي . وحفروا حتى انتهوا إلى قواعد إبراهيم فقلعوا منها حجرا فوثب الحجر ورجع مكانه فأمسكوا .

ويقال : إن الذي بدر الحجر من يده أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، وخرج عليهم ثعبان فحال بينهم وبين البناء .

فاجتمعوا ، فقال : ماذا ترون ؟

فقال أبو طالب : إن هذا لا يصلح أن ينفق فيه إلا من طيب المكاسب فلا تدخلوا فيه مالا من ظلم ولا عدوان ، فأحضروا ما لم يشكوا فيه من طيب أموالهم ورفعوا أيديهم إلى السماء ، فجاء طائر فاختطف الثعبان حتى ذهب . فوضعوا أزرهم يعملون عراة إلا رسول الله ، فإنه أبى أن ينزع ثوبه فسمع صائحا يصيح : لا تنزع ثوبك .

ونقلت الحجارة التي بني بها البيت من جبل يقال له السيادة من أعلى الوادي ، وصيروها ثماني عشرة ذراعا ، وكانت كل قبيلة تلي طائفة منها فكانت بنو عبد مناف تلي الربع ، وسائر ولد قصي بن كلاب وبنو تيم الربع ، ومخزوم الربع ، وبنو سهم وجمح وعدي وعامر بن فهر الربع . فلما أرادوا أن يضعو الحجر اختصموا فيه ، وقالت كل قبيلة : نحن نتولى وضعه .

فأقبل رسول الله : وكانت قريش تسميه الأمين .

فلما رأوه مقبلا قالوا : قد رضينا بحكم محمد بن عبد الله ، فبسط رسول الله رداءه ثم وضع الحجر في وسطه ، وقال : لتحمل كل قبيلة بجانب من جوانب الرداء .

ثم ارفعوا جميعا . ففعلوا ذلك ، فحمل عتبة بن ربيعة أحد جوانب الرداء ، وأبو زمعة بن الأسود ، وأبو حذيفة بن المغيرة ، وقيس بن عدي السهمي ، وقيل العاص بن وائل . فلما بلغ الموضع أخذه رسول الله ووضعه بموضعه الذي هو به وسقفوها ، ولم يكن لها قبل ذلك سقف .

تاريخ اليعقوبي جزء 2 صفحة 9 ـ22.

الإشراق الثاني عشر : تزوّجه من خديجة وضم علي إليه :

القبس الأول : زواجه من خديجة صلى الله عليهم وسلم :

وهذا حدث كريم في حياة النبي صلى الله عليه ، وهو تزوجه بسيدة نساء أهل الجنة بعد بنتها فاطمة الزهراء عليها السلام ، وكان يوم مبارك عليه حيث تزوج بناصرة له بكل شيء من وجودها عليها السلام فضلا عن مالها ، وهي أول من أمنت به لما عرفت من مكارم أخلاقه وفضله وشرفه ، فلم تشك لحظة ، بل فدته بكل شيء ، وقد وهب الله للنبي منها الذرية الطيبة وكوثر الخير ، ولها ولبنتها وذريتهما من علي بن أبي طالب كانت سورة الكوثر وبركة الوجود ، ولها بعض سورة الضحى ، وذكرت أقوال في معرفة النبي الكريم بها وفي مسيره بالتجارة لها وفي زواجها منه وفي نصرها له ، نذكر منها مختصر وهو :

اليعقوبي في تأريخه قال :

وتزوج رسول الله خديجة بنت خويلد وله خمس وعشرون سنة .

وقيل : تزوجها وله ثلاثون سنة ، وولدت له ، قبل أن يبعث ، القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم ، وبعد ما بعث عبد الله ، وهو الطيب والطاهر لأنه ولد في الإسلام ، وفاطمة عليها الصلاة والسلام .

تاريخ اليعقوبي جزء 2 صفحة 9 ـ22 والأقوال السابقة منه أيضا .

وقالوا : وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتّجر لخديجة قبل أن يزوّج بها وكان أجيراً لها ، فبعثته في عير لقريش إلى الشام مع غلام له يقال له : ميسرة ، فنزلوا تحت صومعة راهب من الرهبان، فنزل الراهب من الصومعة ونظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : من هذا ؟

قالوا : هذا ابن عبد المطّلب .

قال : لا ينبغي أن يكون أبوه حيّاً ، ونظر إلى عينيه وبين كتفيه .

فقال: هذا نبيّ الاُمّة ، هذا نبيّ السيف .

فرجع ميسرة إلى خديجة فأخبرها بذلك ، وكان هذا هو الذي أرغب خديجة في تزويجها نفسها منه ، وربحت في تلك السفرة ألف دينار

إعلام الورى ج1ص103ب3ف1 . قصص الأنبياء للراوندي: 317|395 ، وتاريخ الطبري 2: 280.

القبس الثاني : ضم الإمام علي ورعايته لبيته مع خديجة :

وعن مجاهد بن جبر قال : كان ممّا أنعم الله على عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأراد به من الخير أنّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير .

فقال رسول الله للعبّاس عمّه ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ: « يا عبّاس إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق حتّى نخفّف عنه من عياله » .

فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً فضمّه إليه ، فلم يزل عليّ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى بعثه الله نبيّاً فاتّبعه عليّ وآمن به وصدّقه.

إعلام الورى ج1ص105ب3ف1 ، دلائل النبوة للبيهقي 2: 162، وكذا في: سيرة ابن هشام 1: 263، تاريخ الطبري 2: 313، مستدرك الحاكم 3: 567، السيرة النبوية لابن كثير 1: 429، البداية والنهاية 3: 25، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار18: 208 | ذيل الحديث 37.

فهذه يا طيب : كانت أهم أحداث مرت على نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته المكرمة ، وهي تعرفنا أصله الكريم وشرف ووجوده البار وسلوكه الطيب ، فكان بتوفيق الله تعالى أمين وسيد في قومه يهيئ الله تعالى له الظروف حتى ليكون مقدم عليهم في كل تصرف له ، سواء في أصله ونسبه وأجداده الكرام وأبيه ، أو في نفسه وأخلاقه وحظوته بالحجر الأسود حلف الفضول ، وكذلك في مرضعته وزواجه وتجارته ومؤاخاته لربيبه ووصيه علي بن أبي طالب في بيته حتى ليكون هو وأبيه أنصاره قبل البعثة وبعدها ، بل أتحد نسلهم وخلافتهم بأولادهم المعصومين إلى يوم القيامة .

وإن المتدبر بهذا : ليقطع بحق إن الله له عناية بدينه باصطفاء سيد رسله صلى الله عليه وآله وسلم وإنها فنس العناية في إتحاد النسل السابق في أباء النبي وحقا ما قال الله تعالى : ذرية بعضها من بعض ، وكما عرفت في الكرامة والنور والشرف وإلى يوم القيامة يهدون بأمر الله لما صبروا .

ونسأل الله أن يوفقنا للصلاة عليه بأكثر الصلاة وأنماها ، حتى ليجعلنا عارفين ومؤمنين بكل وما أراد الله من بعثته لنا وينورنا بنور هداه ، حتى ليجعلنا معهم في الدنيا مخلصين له بدينهم الحق ، وفي الآخرة في أعلى مراقي نور الملكوت في نعيم الخلد عنده ، إنه أرحم الراحمين وهو ولي التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين.


الباب الرابع
ذكر بعثة نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثباته وجهاده في مكة المكرمة

في هذا الباب: بيان الشاهد الأعظم لاصطفاء الله تعالى للنبي الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله ، وبيان ليوم بعثته الذي أنار الوجود بهداه ، وثباته وجهاده في مكة المكرمة لتبليغ دين الله ونشره بكل وجوده حتى هجرته للمدينة المنورة .

تذكرة : بعثة نبينا وعلو همته في تبليغ رسالته :

ذكرنا من سيرة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الباب السابق ما قبل بعثته الكريمة ونزول الوحي عليه لتبليغ الرسالة المشرفة ، والتي عم خيرها الوجود كله من يوم مبعثه المبارك حتى يومنا هذا ، بل من يوم ميلاده الميمون ، بل خير نبينا من عالم الذر الذي قال فيه بلى وتبعه آله والأنبياء وشيعته ومواليه وكل المسلمين حسب قربه منه وبعدهم . وكذلك خيره المبارك يشملنا إن شاء الله في الآخرة وننال رضاه ، ويشهد لنا بحبه وحب آله الكرام وودهم ، فيغفر الله لنا ويدخلنا في رحمته وشفاعته ويحشرنا معه إنه أرحم الراحمين .

يا طيب : إن نبينا الأكرم بما كرمه الله بالنبوة وخصه بالرسالة لطهارته الذاتية وكرامته الخلقية ، وبكل تصرف له حصل على ما يؤهله للنبوة بتوفيق الله ، وبكل جدارة بذل جهده المتواصل لتبليغ دين الله ونشره بكل ما يسع إنسان ممكن ، بل أثنى عليه الله في كل شيء من سيرته وخلقه حتى كان نور ورحمة وبركة الوجود وخيره وشرفه وعزه ، وموصله لغايته بهداه ونوره الذي أنزله الله عليه ليهدي وينور المفضل في المخلوقات والمكلف بإطاعة ربه ، ونسأل الله : أن يصدقنا في كل أحوالنا حقيقة عبوديته ، وذلك بالوصول لتعاليمه التي أنزلها على نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وآله من مصدرها الحقيقي ، أي متابعة خلفاءه بالحق من آله وذريته وآهل بيته الكرام ، والذين هم أفضل آل الأنبياء والمرسلين وأنعم عليهم بالهداية للصراط المستقيم وبأخر دين قويم يرضى أن يعبد به تعالى.

وفي هذا الباب : من سيرة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، نتكلم عن بعثته المباركة وثباته وتحمله للأذى في مكة وصبره وجهاده حتى هجرته للمدينة مختصراً ، والتفصيل يطلب من كتب السيرة الموسعة أو من موسوعة سيد المرسلين إن وفقنا الله لها ، وهذا المختصر نجعله في أمور أهمها هي :

الإشراق الأول :بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

ذكر في روضة الواعظين : أن الطائفة قد اجتمعت على أن :

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان رسولا نبيا ، مستخفي يصوم ويصلى على خلاف ما كانت قريش تفعله مذ كلفه الله تعالى .

فإذا أتت أربعون سنة : أمر الله عز وجل جبرائيل عليه السلام أن يهبط إليه بإظهار الرسالة ، وذلك في يوم السابع والعشرين من شهر الله الأصم ـ رجب ـ ، فاجتاز بميكائيل فقال : أين تريد ؟

فقال له : قد بعث الله جل وعز نبينا نبي الرحمة ، وأمرني أن اهبط إليه بالرسالة . فقال له : ميكائيل فأجئ معك . قال له : نعم .

فنزلا : ووجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نائما بالأبطح ، بين أمير المؤمنين وجعفر بن أبى طالب ، فجلس جبرائيل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، ولم ينبهه جبرائيل إعظاما له .

فقال ميكائيل لجبرائيل : إلى أيهم بعثت ؟

قال : إلى الأوسط فأراد ميكائيل أن ينبهه فمنعه جبرائيل . ثم انتبه النبي صلى الله عليه وآله ، فأدى إليه جبرائيل الرسالة عن الله تعالى.

فلما نهض جبرائيل عليه السلام ليقوم : أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثوبه ، ثم قال : ما اسمك ؟ قال له : جبرائيل .

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلحق بغنمه ، فم مر بشجرة ولا مدرة إلا سلمت عليه وهنأته .

روضة الواعظين 25.

ذكر في قصص الأنبياء للراوندي : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم :

لمّا أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأنّ آتياً أتاه ، فيقول : يا رسول الله ، فينكر ذلك ، فلمّا طال عليه الأمر ، وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب ، فنظر إلى شخص يقول له : يا رسول الله .

فقال له : من أنت ؟ قال : جبرئيل أرسلني الله ليتّخذك رسولاً .

فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خديجة بذلك ، وكانت خديجة قد انتهى إليها : خبر اليهودي ، وخبر بحيراء ، وما حدّثت به آمنة أمه .

فقالت : يا محمّد إنّي لأرجو أن تكون كذلك. انتهى .

إعلام الورى ج1ص102ب3ف1. قصص الأنبياء للراوندي 317|395.

وهذا اليوم الشريف لنبوة نبينا الكريم محمد : صلى الله عليه وآله وسلم ومبعثه الشريف ليهدي البشر كلهم في كل زمان ومكان ، كان هو يوم السابع والعشرين ( 27 ) من رجب الأصم وكان عمره العامر بالبركة أربعون سنة كريمة ، وبهذا العمر أخذ النبي يبلغ دين الله حتى آخر لحظات عمره الشريف ، فعم خيره الدنيا ونور هداه كل الوجود ، فطابت نعم الله للمؤمنين وبانت حجة الله على العالمين إلى يوم الدين ، وهنئ الله ملايين الناس بإطاعته وحب عبادته ، وبفضله عمهم دين الله القيم وكيفية الإخلاص له خاضعين خاشعين خاشين ، راجين لرحمته وفضله وكرامته ، وخائفين حرمان رحمته وناره وعذابه والتقصير في عدم شكره وطاعته ، ويرجون رضا الله بحبه وامتثال ما علمه صلى الله عليه وآله وسلم بكل شيء من هداه : صوم وصلاة وحج وخمس وزكاة وأمر بمعروف ونهي عن منكر وحب وبغض في الله وولاته ، وكل شيء من خُلقه الطيب والبيع والشراء والزواج ، فكان دستور حياة وعبودية وراحة لاطمئنان النفس المؤمنة بما يوصلها لنعيم الأبدي ، رزقنا الله الإيمان التام به وبكل تعاليمه وتطبيقها إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين .

الإشراق الثاني : أول ما فرض على النبي وأول من صلى معه :

في هذا الأمر : نذكر السابقين الذين تكرموا بالصلاة معه حينم فرضت الصلاة ، وهي أهم فريضة في الدين بعد الإيمان بكل تعاليم الله ، وقد ذكرو : ثم كان جبرائيل عليه السلام يأتيه ، فلا يدنوا منه إلا بعد أن يستأذن عليه .

فأتاه يوما وهو بأعلى مكة ، فغمز بعقبه بناحية الوادي ، فانفجرت عين توضأ جبرائيل عليه السلام وتوضأ الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم صلى الظهر .

وهى أول صلاة فرضها الله عز وجل ، وصلى أمير المؤمنين عليه السلام تلك الصلاة مع رسول الله ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يومه إلى خديجة ، فأخبرها فتوضأت وصلت صلاة العصر من ذلك اليوم .

روضة الواعظين 25.

وذكر اليعقوبي : وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر ، أتاه جبريل فأراه الوضوء ، فتوضأ رسول الله كما توضأ جبرائيل ثم صلى ليريه كيف يصلي ، فصلى رسول الله .

وروى بعضهم : أن الظهر الصلاة الوسطى أول صلاة صلاها رسول الله ، وكان يوم جمعة . ثم أتى خديجة ابنة خويلد فأخبرها فتوضأت وصلت ، ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل .

تاريخ اليعقوبي 23 .

الثالث : بدأ الدعوة الإسلامية لعشيرته الأقربين :

يا طيب : وبعد ما بعثه الله كان أياما يصلي هو وهذا الرهط المبارك ، حتى أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين ، ليختار الناصر القوي الأمين منهم ، وحتى يكون وصيه وأمير المؤمنين بعده ، وليكن من آله الكرام الشرفاء ذو النسب الأصيل ، وإن الله أراد أن يصدع بدعوته بتبليغ دينه الكريم لهم وهم أول رهطه ، وإن كان قد أعد له أبو ذريته من أبنته فاطمة وصي وخليفة بعده ، فيكون ملازم له حتى آخر لحظة من حياته حتى ليتوفى في حجره ويودع الدنيا وهو يعلمه باب فيه ألف باباً من علم هدى الله تعالى ، كما سترى في باب وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا أول أمر من الله لتبليغ دينه ونشره بين أهله الكرام ، وقد ذكروا : لم نزلت هذه الآية : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } الشعراء 214.

جمع رسول الله صلى الله عليه وآله بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا ، الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس ، فأمر عليا برجل شاة فأدمه ثم قال : ادنوا بسم الله .

فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا ، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا باسم الله ، فشربوا حتى رووا .

فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما سحركم به الرجل .

فسكت يومئذ ولم يتكلم .

ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب : ثم أنذرهم رسول الله فقال : يا بني عبد المطلب ، إني أنا النذير إليكم من الله عز وجل والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا .

ثم قال : من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي يقضي ديني ؟ ! فسكت القوم .

فأعادها ثلاثا ، كل ذلك يسكت القوم .

ويقول علي : أنا .

فقال في المرة الثالثة : أنت .

فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع أبنك فقد أمر عليك .

عن الكشف والبيان ورقة163 سورة الشعراء و راجع التفاصيل في الغدير ج8ص278.

نعم هو علي بن أبي طالب أخيه وابن عمه وشريكه بالنسب الأصيل ، هو وصيه وولي المؤمنين وخليفته بعده وله شواهد في كتاب الله ، تدبر فيها في صحيفة الإمامة وفي صحيفة الثقلين ، وصحيفة الإمام علي ، وفي صحيفة الإمام الحسين عليهم السلام ، من موسوعة صحف الطيبين ، أو راجع الغدير وإحقاق الحق وغيرها من الكتب لتعرف إنه هو المختار للوصاية وللولاية وللإمام بعده ، وهو الشارح لسنته وكتابه وكل تعاليمه بالحق بما منحه الله من مرافقته للنبي ونصره وجهاده معه وتعلمه وتعليمه الذي يؤيده كل قول وتصرف له ، حتى كان من رسول الله في كل شيء ومعه وناشر هداه ومبلغه بعده ، وأستمر الأمر لهم في ذريتهم وآلهم الكرام إلى يوم القيامة ذرية بعضه من بعض .

ولتعرف حقيقة هذا الأمر تتبع سيرة الإمام علي مع سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه الصحيفة ، سترى إنه كان لهم وحدة النسب وكان النبي في بيت أب علي وعلي في بيت النبي كما عرفت في الباب السابق ، وسترى هنا وفي كل هذه الصحيفة الوحدة والملازمة بينهم كأنهم رجل واحد بل كان نفس النبي بنص آية المباهلة قل تعالوا ندعوا ... وأنفسنا وأنسكم ، فتابع يا يطب البحث .

الإشراق الرابع : سرية بدأ الدعوة الإسلامية :

ثم بعد هذا الذي عرفت : أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينشر دعوته ويبلغ رسالته التي كرمه الله بها سرا ، وقد ذكروا في مدة الدعوة السرية وخواصها مقال وهو :

وأقام رسول الله بمكة ثلاث سنين يكتم أمره.

وهو يدعو إلى توحيد الله عز وجل ، وعبادته والإقرار بنبوته .

فكان إذا مر بملأ من قريش ، قالوا : إن فتى ابن عبد المطلب ليكلم من السماء حتى عاب عليهم آلهتهم ، وذكر هلاك آبائهم الذين ما توا كفارا .

وعن عفيف أنه قال : كنت أمرؤا تاجراً ، فقدمت منى أيّام الحج .

وكان العباس بن عبد المطلب أمراءً تاجراً ، فأتيته أبتاع منه وأبيعه .

قال : فبينا نحن إذ خرج رجلٌ من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ، ثمّ خرجت امرأة فقامت تصلّي ، وخرج غلام يصلّي معه .

فقلت : يا عبّاس ما هذا الدين ؟ إنّ هذا الدين ما ندري م هو ؟

فقال : هذا محمّد بن عبد الله يزعم أنّ الله أرسله ، وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه ، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به ، وهذا الغلام ابن عمّه عليّ بن أبي طالب آمن به .

قال عفيف : فليتني كنت آمنت به يومئذ فكنت أكون ثانياً .

إعلام الورى ج1ص105ب3ف1 عن دلائل النبوة للبيهقي 2: 162، وكذا في: تاريخ الطبري 2: 311، مستدرك الحاكم 3: 183، ووافقه الذهبي في ذيل المستدرك، ذخائر العقبى: 59، السيرة النبوية لابن كثير1: 429، البداية والنهاية 3: 25، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18: 207 | 37.

فكان لا يصلّي إلاّ رسول الله وعليّ وخديجة عليهم السلام خلفه.

فلمّا أتى لذلك أيّام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه جعفر ، فنظر إلى رسول الله وعليّ عليهما السلام بجنبه يصلّيان ، فقال لجعفر : يا جعفر صل جناح ابن عمّك .

فوقف جعفر بن أبي طالب عليه السلام من الجانب الآخر ، فلمّا وقف جعفر على يساره بدر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من بينهما وتقدّم.

وأنشأ أبو طالب في ذلك يقول :

إنّ عليّاً وَجعفـّراً ثـقـتــي عندَ ملمِّ الـزمـان والكربِ

والله لا أخـذلُ الـنـبـيّ ولا يَخذِلهُ مِن بنيّ ذو حـسـبِ

لا تـخـذلا وانصرا ابن عمّكما أخـي لاُمّـي مِن بينهم وأبي

ثمّ خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بعض أسواق العرب فرأى زيداً ووجده غلاماً كيّساً فاشتراه لخديجة ، فلمّا تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهبته منه .

فلمّا نبئ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأسلم علي أسلم زيد بعده ، فكان يصلّي خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علي وجعفر وزيد وخديجة .

إعلام الورى ج1ص103ب3ف1 . قصص الأنبياء للراوندي: 317|395 ، وتاريخ الطبري 2: 280. وقد عرفت قصة جعفر عليه السلام معه ووصله وصلاته خلفه .

الإشراق الخامس : أول من أسلم من المسلمين :

وكان أول من أسلم : خديجة بنت خويلد من النساء ، وعلي بن أبي طالب من الرجال ، ثم زيد بن حارثة ، ثم أبو ذر .

وقيل : أبو بكر قبل أبي ذر ، ثم عمرو بن عبسة السلمي ، ثم خالد بن سعيد بن العاص ، ثم سعد بن أبي وقاص ، ثم عتبة بن غزوان ، ثم خباب بن الارت ، ثم مصعب بن عمير .

تأريخ اليعقوبي 23 .

الإشراق السادس : الجهر بالدعوة وأذى قريش ودفاع عمه عنه :

قال عليّ بن إبراهيم : فلمّا أتى لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } الحجر 95 .

فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقام على الحجر فقال :

« يا معشر قريش ويا معشر العرب :

أدعوكم إلى عبادة الله تعالى وخلع الأنداد الأصنام .

وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله .

وأنّي رسول الله .

فأجيبوني : تملكوا بها العرب ، وتدين لكم العجم، وتكونون ملوكاً في الجنّة » .
فاستهزأوا منه وضحكوا وقالوا :

جنّ محمّد بن عبد الله ، وآذوه بألسنتهم .

فقال له أبو طالب: يا بن أخي ما هذا ؟

قال : يا عمّ هذا دين الله الذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه .

ودين إبراهيم والأنبياء من بعده ، بعثني الله رسولاً إلى الناس .

فقال : يا ابن أخي إنّ قومك لا يقبلون هذا منك ، فاكفف عنهم ؟

فقال : ( لا أفعل ، فإنّ الله قد أمرني بالدعاء ) . فكفّ عنه أبو طالب.

وأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : في الدعاء في كلّ وقت يدعوهم ويحذّرهم ، فكان من سمع من خبره ما سمع من أهل الكتب يُسلمون ، فلمّا رأت قريش من يدخل في الإسلام جزعوا من ذلك ومشوا إلى أبي طالب وقالو : اكفف عنّا ابن أخيك فإنّه قد سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّانن ، وفرّق جماعتنا .

فدعاه أبو طالب فقال : يا ابن أخي إنّ القوم قد أتوني يسألونك أن تكفّ عن آلهتهم .

قال : ( يا عمّ لا أستطيع ذلك ، ولا أستطيع أن أخالف أمر ربيّ ) .

فكان يدعوهم ويحذّرهم العذاب ، فاجتمعت قريش إليه .

فقالوا : إلى ما تدعو يا محمّد ؟

قال: ( إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وخلع الأنداد كلّها ) .

قالوا : ندع ثلاثمائة وستّين إلهاً ونعبد إلهاً واحدا ؟!

فحكى الله سبحانه قولهم : { وَعَجِبُوا اَن جَاءهُم مُنذِرٌ مِنهُم وَقالَ الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّاب* اَجَعَلَ الآلِهَةَ اِلهاً واحِداً اِنّ هذا لَشَيءٌ عُجابٌ ـ إلى قوله: ـ بَل لَمّا يَذُوقُوا عَذابِ } ص4 ـ 8 .

ثمّ اجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب إن كان ابن أخيك يحمله على هذا الفعل العدم ، جمعنا له مالاً فيكون أكثر قريش مالاً.

فدعاه أبو طالب وعرض ذلك عليه ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( يا عمّ مالي حاجة في المال ، فأجيبوني تكونوا ملوكاً في الدني وملوكاً في الآخرة ، وتدين لكم العرب والعجم ) .

فتفرّقوا ثمّ جاءوا إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب أنت سيّد من سادتنا وابن أَخيك قد سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وفرّق جماعتنا.

فهلمّ ندفع إليك أبهى فتى في قريش وأجملهم وأحسنهم وجهاً ، وأشبّهم شباباً وأشرفهم شرفاً عمارة بن الوليد ، يكون لك ابناً وتدفع إلينا محمّداً لنقتله .

فقال : ما أنصفتموني ، تسألوني أن أدفع إليكم ابني لتقتلوه وتدفعون إليّ ابنكم لاُربّيه !

فلمّا آيسوا منه كفّوا .

إعلام الورى ج1ص106ب3ف1،انظر:تفسير القمي1: 378ـ380،قصص الأنبياء للراوندي: 318|396، مناقب ابن شهر آشوب 1: 57،تاريخ الطبري 2: 322

وفي تفسير علي بن إبراهيم : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ { ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } قال : هو قسم و جوابه : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ } يعني في كفر ، و قوله : { كَمْ أَهْلَكْن مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ } أي ليس هو وقت مفر .

و قوله : { وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } .

قال : نزلت بمكة لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة بمكة اجتمعت قريش إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا ، و سب آلهتنا ، و أفسد شبابنا ، و فرق جماعتنا ، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش و نملكه علينا .

فأخبر أبو طالب : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك .

فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لو وضعوا الشمس في يميني ، و القمر في يساري ما أردته ، و لكن يعطوني كلمة يملكون بها العرب ، وتدين لهم به العجم ، و يكونون ملوكا في الجنة .

فقال لهم أبو طالب ذلك ، فقالوا : نعم و عشر كلمات .

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تشهدون أن لا إله إلا الله ، و أني رسول الله .

فقالوا : ندع ثلاثمائة و ستين إلها ، و نعبد إله واحدا ، فأنزل الله تعالى : { وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إلى قوله .. ـ إِلَّا اخْتِلاقٌ ـ أي تخليط ـ أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي } ... .

تفسير القمي ج2ص228ب38 . نص الآيات : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) } ص .

وذكر بن أبي الحديد : اجتمع ... العاص بن وائل و نبيه و منبه ابنا الحجاج و أمثالهم من رؤساء قريش ، فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آراءنا ، فإما أن تكفه عنا ، و إم أن تخلي بيننا و بينه .

فقال لهم أبو طالب : قولا رفيقا و ردهم ردا جميلا ، فانصرفو عنه و مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله و يدعو إليه ، ثم شرق الأمر بينه و بينهم تباعدا و تضاغنا ، حتى أكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينها و تذامروا فيه ، و حض بعضهم بعضا عليه فمشوا إلى أبي طالب مرة ثانية ، فقالوا :

يا أبا طالب : إن لك سنا و شرفا و منزلة فينا ، و إنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، و إنا و الله لا نصبر على شتم آبائنا ، و تسفيه أحلامنا.

وعيب آلهتنا ، فإما أن تكفه عنا أو ننازله و إياك حتى يهلك أحد الفريقين .

ثم انصرفوا . فعظم على أبي طالب فراق قومه و عداوتهم ، و لم تطب نفسه بإسلام ابن أخيه لهم و خذلانه ، فبعث إليه فقال :

يا ابن أخي : إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لي : كذ و كذا ، للذي قالوا : فأبق علي و على نفسك ، و لا تحملني من الأمر ما لا أطيقه .

قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، و أنه خاذله و مسلمه ، و أنه قد ضعف عن نصرته و القيام دونه.

فقال : يا عم و الله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك ، ثم استعبر باكيا و قام .

فلما ولى ناداه أبو طالب : أقبل يا ابن أخي ، فأقبل راجع فقال له : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا .

شرح ‏نهج‏ البلاغة ج14ص54الفصل الأول إجلاب قريش على بني هاشم‏.

وذكر اليعقوبي :لما نزل قوله تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَ تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}الحجر. وأمره الله عز وجل أن يصدع بما أرسله ، فأظهر أمره وأقام بالأبطح فقال :

إني رسول الله أدعوكم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيى ولا تميت .

فاستهزأت منه قريش وآذته .

وقالوا لأبي طالب : إن ابن أخيك قد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا وضلل أسلافنا فليمسك عن ذلك وليحكم في أموالنا بما يشاء.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله لم يبعثني لجمع الدني والرغبة فيها وإنما بعثني لأبلغ عنه وأدل عليه .

وآذوه أشد الإيذاء ، فكان المؤذون له منهم : أبو لهب ، والحكم بن أبي العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وعمرو بن الطلاطلة الخزاعي ، وكان أبو لهب أشد أذى له .

وروى بعضهم : أن رسول الله قام بسوق عكاظ ، عليه جبة حمراء ، فقال : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا .

وإذا رجل يتبعه له غديرتان كأن وجهه الذهب وهو يقول : ي أيها الناس إن هذا ابن أخي وهو كذاب فاحذروه . فقلت : من هذا ؟

فقيل لي : هذا محمد بن عبد الله ، وهذا أبو لهب ابن عبد المطلب عمه .

وكان المستهزئون به : العاص بن وائل السهمي ، والحارث ابن قيس بن عدي السمهي ، والأسود بن المطلب بن أسد ، والوليد بن المغيرة المخزومي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بم لا يحب حتى إنهم نحروا جزورا بالحزورة ورسول الله قائم يصلي ، فأمروا غلاما لهم فحمل السلى والفرث حتى وضعه بين كتفيه وهو ساجد .

فانصرف فأتى أبا طالب ، فقال : كيف موضعي فيكم ؟

قال : ما ذاك يا ابن أخي ؟ فأخبره ما صنع به .

قال : فأقبل أبو طالب مشتملا على السيف يتبعه غلام له فاخترط سيفه وقال : والله لا تكلم رجل منكم إلا ضربته .

ثم أمر غلامه فأمر ذلك السلى والفرث على وجوههم واحدا واحدا .

ثم قالوا : حسبك هذا فينا يا ابن أخينا .

وهو قول الله تعالى: { اِنّا كَفَيناكَ المُستَهزئينَ (95) } الحجر ، فقد أصاب كل واحد من المستهزئين آفة أو مرض راجع قصصهم في كتب السير .

وروى عليّ بن إبراهيم بن هاشم بإسناده قال : كان أبو جهل تعرّض لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وآذاه بالكلام ، واجتمعت بنو هاشم فأقبل حمزة وكان في الصيد فنظر إلى اجتماع الناس فقال : ما هذا ؟

فقالت له امرأة من بعض السطوح : يا أبا يعلى إنّ عمرو بن هشام تعرّض لمحمّد وآذاه .

فغضب حمزة ومرّ نحو أبي جهل وأخذ قوسه فضرب بها رأسه ، ثمّ احتمله فجلد به الأرض ، واجتمع الناس وكاد يقع فيهم شرّ ، فقالوا له : يا أب يعلى صبوت إلى دين ابن أخيك ؟

قال: نعم ، أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، على جهة الغضب والحميّة . فلمّا رجع إلى منزله ندم فغدا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا ابن أخ أحقاً ما تقول ؟

فقرأ عليه رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم سورة من القرآن ، فاستبصر حمزة ، وثبت على دين الإسلام ، وفرح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وسرّ بإسلامه أبو طالب ، فقال في ذلك :

صبراً أبا يعلى على دين أحمـد

وكن مظهـراً للدين وفّقت صابـرا

وحط من أتى بالدين من عنـد ربّه

بصدق وحقّ لا تكن حمزة كافرا

فقـد سرّني إذ قلتَ أنّك مؤمن

فكـن لرسـول الله في الله ناصـرا

وناد قـريشاً بالذي قد أتيتـه

جهاراً وقـل ما كان أحمد ساحرا

إعلام الورى ج1ص123ب3ف5 ، قصص الأنبياء للراوندي: 321 | 401، مناقب ابن شهر آشوب 1: 62، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 18: 210.

وهذه كانت بعض مراجعات قوم نبينا لأبي طالب ، وهي متعددة ونقلت بصورة مختلفة تعرفنا ثباته في تبليغ رسالة ربه وصبره في جنب الله وتحمله كل الأذى في سبيل الله ، وبكل مراجعة كان جواب النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحد ، وهو الإصرار على الدعوة وبيان دين الله ونصره بنفسه وبعمه وبكل من تبعه ، ولم يغره مال ولا جاه كاذب بل رضا الله تعالى .

وإنه صلى الله عليه وآله كان مع الله فكان الله تعالى معه ، ولذا كرمه الله بكرامة أخرى مع بعثته وتؤيد نبوته وتبثه على أمره ، وهو ليريه ملكوته الأعلى ليعرفه فيعرفنا نوره وسعة نعيمه المعد لعبادة وليريه كل شرف له ولمن يتبعه فيخلص لله بهداه الحق ، بل الأنُس معه في نور الجبروت الأعلى وملك لا يبلى إن طلب الحق من الهدى وتولى أولياءه وتبعد لله فأخلص، فأنظر الأمر الآتي:

الإشراق السابع :كرامة الله لنبينا المصطفى بالإسراء والمعراج :

إن الله عز وجل : قد أرى رسول الله من آياته الكبرى ليخبر عنها عن معاينة ، وليخفف عنه ألم الأذى والتكذيب له من قريش ، وليكون عارفا بعظمته سبحانه ولمقامه الكريم عند الرب عز وجل بحق اليقين ، أسرى به وعرج لله عز وجل لأعلى مراتب الملكوت والجبروت وأراه من المكارم والنور والتعاليم الكثير مما أخبر عنه ، وقد جمعت أخبار الإسراء والمعراج في كتب كثيرة ، ونختصر المقال فنذكر:

وأسري به وأتاه جبريل بالبراق ، وهو أصغر من البغل واكبر من الحمار مضطرب الاذنين ، خطوه مد بصره ، له جناحان يحفزانه من خلفه ، عليه سرج ياقوت ، فمضى به إلى بيت المقدس فصلى به ، ثم عرج به إلى السماء ، فكان بينه وبين ربه كما قال الله :

قاب قوسين أو أدنى ، ثم هبط به فنزل في بيت أم هانئ بنت أبي طالب .

فقص عليها القصة ، فقالت له : بأبي أنت وأمي ، لا تذكر هذ لقريش فيكذبوك .

وفي الليلة التي أسري به افتقده أبو طالب : فخاف أن تكون قريش قد اغتالته أو قتلته ، فجمع سبعين رجلا من بني عبد المطلب معهم الشفار وأمرهم أن يجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش ، وقال لهم : إن رأيتموني ومحمد معي فأمسكوا حتى آتيكم ، وإلا فليقتل كل رجل منكم جليسه ولا تنتظروني .

فوجدوه على باب أم هانئ ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه ، فأعظموا ذلك وجل في صدورهم ، وعاهدوه وعاقدوه أنهم لا يؤذون رسول الله ولا يكون منهم إليه شيء يكرهه أبدا.

تاريخ اليعقوبي : 26.

يا طيب : إن ما راءه رسول الله في سفره في الملكوت والجبروت ، وما رأى من نور الحي الذي لا يموت في محل القرب لكثيرة الأخبار والمعنى ، وهي بها نعرف حقيقة الوجود الطيب والمتنور بطاعة الله ، وذكرنا قسم منها في صحيفة الإمام الحسين عليه السلام ، وراجع التفاصيل في الكتب المختصة .

الإشراق الثامن : تعذيب قريش للمستضعفين وهجرتهم للحبشة :

فأخذت قريش : من استضعفت منهم إلى الرجوع عن الإسلام والشتم لرسول الله ، فكان ممن يعذب في الله :

عمار بن ياسر ، وياسر أبوه ، وسمية أمة حتى قتل أبو جهل سمية ، طعنها في قبلها فماتت ، فكانت أول شهيد في الإسلام ، وخباب بن الأرت ، وصهيب بن سنان ، وأبو فكيهة الازدي ، وعامر بن فهيرة ، وبلال بن رباح .

وقال خباب بن الارت : يا رسول الله ادع لنا .

قال صلى الله عليه وآله وسلم : إنكم لتعجلون ، لقد كان الرجل ممن كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه ، والله ليتممن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على عتره .

واشتد على القوم العذاب : ونالهم منه أمر عظيم فرجع عن الإسلام نفر وهم : أبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، فروي أن فيهم نزلت هذه الآية : { { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) } النحل .

ولما رأى رسول الله ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب ، وم هو فيه من الامن بمنع أبي طالب عمه إياه ، قال لهم :

ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار .

فخرج في المرة الأولى : اثنا عشر رجلا ، وفي المرة الثانية سبعون رجلا سوى أبنائهم ونسائهم ، وهم المهاجرون الأولون ، فكان لهم عند النجاشي منزلة ، وكان يرسل إلى جعفر فيسأله عما يريد .

فلما بلغ قريشا ذلك : وجهت بعمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد المخزومي إلى النجاشي بهدايا .

وسألوه أن يبعث إليهم بمن صار إليه من أصحاب رسول الله . وقالو : سفهاء من قومنا : خرجوا عن ديننا ، وضللوا أمواتنا ، وعابوا آلهتن ، وإن تركناهم ورأيهم لم نأمن أن يفسدوا دينك .

فلما قال عمرو وعمارة للنجاشي هذا ، أرسل إلى جعفر فسألة ، فقال : إن هؤلاء على شر دين : يعبدون الحجارة ، ويصلون للأصنام ، ويقطعون الأرحام ، ويستعملون الظلم ، ويستحلون المحارم .

وإن الله بعث فينا نبيا : من أعظمنا قدرا ، وأشرفنا سررا ، وأصدقن لهجة ، وأعزنا بيتا ، فأمر عن الله بترك عبادة الأوثان ، واجتناب المظالم والمحارم ، والعمل بالحق والعبادة له وحدة .

فرد على عمرو وعمارة الهدايا وقال : أدفع إليكم قوما في جواري على دين الحق وأنتم على دين الباطل !

وقال لجعفر : اقرأ عليّ شيئا مما أنزل على نبيكم .

فقرأ عليه : كهيعص ، فبكى وبكى من بحضرته من الأساقفة .

فقال له عمرو وعمارة : أيها الملك إنهم يزعمون أن المسيح عبد مملوك ، فأوحشه ذلك وأرسل إلى جعفر ، فقال له : ما تقول وم يقول صاحبكم في المسيح ؟

قال : إنه يقال : إنه روح الله وكلمته ، ألقاها إلى العذراء البتول .

فأخذ عودا بين إصبعيه ثم قال :

ما يزيد المسيح على ما قلت ولا مقدار هذا .

وكان عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد تلاحيا في طريقهما ، وكان عمارة رجلا مغرما بالنساء وكان معه امرأته رابطة بنت منبه بن الحجاج السهمي. فقال عمارة : قل لها فلتقبلني . فقال : سبحان الله ! أتقول هذا لابنة عمك ؟ قال : والله لتفعلن أو لأضربنك بهذا السيف . فقال لها : قبليه .

ثم إن عمارة اعتقل عمرا فألقاه في البحر ، فعام عمرو وأوهمه أنه فعل هذا مزاحا . فقال : ألق إلى ابن عمك الحبل ، سبحان الله أهكذا يكون المزاح ؟ فألقى إليه الحبل ، فخرج .

فلما أراد عمرو وعمارة الانصراف وأيسا من عند النجاشي ، قال عمرو لعمارة : لو أرسلت إلى امرأة الملك النجاشي فلعلنا ننال منها حاجتنا عنده .

ففعل ذلك ولاطفها : حتى أرسلت إليه بطيب من طيب الملك ، فكاد عمرو عمارة ، وقال للنجاشي : إن صاحبي هذا أرسل إلى امرأة الملك حتى أطمعته في نفسها وبعثت إليه بطيب من طيب الملك .

فأخذه النجاشي فنفخ في أنثييه السم وقيل الزئبق ، فهام مع الوحوش على وجهه ، فلم يزل هائما حتى قدم قوم من بني مخزوم ، فسألوه أن يأذن لهم في أخذه ، فنصبوا له فأخذوه . فلم يزل يضطرب في أيديهم حتى مات . وانصرف عمرو إلى المشركين خائبا .

وأقام المسلمون : بأرض الحبشة حتى ولد لهم الأولاد . وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة ولم يزالوا بها في أمن وسلامة .

واسم النجاشي : أصحمة .

تاريخ اليعقوبي : 27 .

الإشراق التاسع : حصار قريش لرسول الله وخبر الصحيفة :

حصار قريش لرسول الله وخبر الصحيفة ، وهمت قريش بقتل رسول الله وأجمع ملأها على ذلك ، وبلغ أبا طالب فقال :

والله لن يصلـوا إليك بجمعهـم حتى أغيـب في التراب دفينا

ودعوتني وزعمـت أنك ناصـح ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعـرضت دينا قد علمـت بأنه مـن خـير أديان البرية دينا

فلما علمت قريش : أنهم لا يقدرون على قتل رسول الله ، وأن أبا طالب لا يسلمه ، وسمعت بهذا من قول أبي طالب ، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة : ألا يبايعوا أحدا من بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يعاملوهم حتى يدفعو إليهم محمدا فيقتلوه .

وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا ، وختموا على الصحيفة بثمانين خاتما ، وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ، فشلت يده .

ثم حصرت قريش رسول الله وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبد مناف في الشعب ، الذي يقال له : شعب ، ست سنين من مبعثه .

فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله ماله ، وأنفق أبو طالب ماله ، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها ، وصارو إلى حد الضر والفاقة .

ثم نزل جبريل على رسول الله فقال : إن الله بعث الأرضة على صحيفة قريش ، فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم إلا المواضع التي فيها ذكر الله .

فخبر رسول الله أبا طالب بذلك ، ثم خرج أبو طالب ومعه رسول الله وأهل بيته حتى صار إلى الكعبة ، فجلس بفنائها وأقبلت قريش من كل أوب .

فقالوا : قد آن لك يا أبا طالب أن تذكر العهد وأن تشتاق إلى قومك وتدع اللجاج في ابن أخيك . فقال لهم : يا قوم أحضروا صحيفتكم فلعلن أن نجد فرجا وسببا لصلة الأرحام وترك القطيعة ، وأحضروها وهي بخواتيمهم .

فقال : هذه صحيفتكم على العهدلم تنكروها . قالوا : نعم . قال : فهل أحدثتم فيها حدثا ؟ قالوا : اللهم لا .

قال : فإن محمدا أعلمني عن ربه أنه بعث الأرضة فأكلت كل ما فيه إلا ذكر الله ، أفرأيتم إن كان صادقا ماذا تصنعون ؟

قالوا : نكف ونمسك . قال : فإن كان كاذبا دفعته إليكم تقتلونه .

قالوا : قد أنصفت وأجملت ، وفضت الصحيفة فإذا الأرضة قد أكلت كل ما فيها إلا مواضع بسم الله عز وجل .

فقالوا : ما هذا إلا سحر ، وما كنا قط أجد في تكذيبه من ساعتنا هذه .

وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم وخرج بنو هاشم من الشعب وبنو المطلب فلم يرجعوا إليه.

تاريخ اليعقوبي 34 .

قال عكرمة : لما اجتمعت قريش على إدخال بنى هاشم وبنى عبد المطلب شعب أبى طالب كتبوا بينهم صحيفة ، فدخل الشعب مؤمن بني هاشم وكافرهم ومؤمن بنى عبد المطلب وكافرهم ، ما خلا أبو لهب وأبو سفيان بن الحرب .فبقى القوم في الشعب ثلاث سنين ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اخذ مضجعه ونامت العيون ، جاءه أبو طالب فأنهضه عن مضجعه وأضجع عليا مكانه.

روضة والواعظين 54 .

يا طيب : إن تفصيل البحث في الشعب في صحيفة أبو طالب عليه السلام من موسعة صحف الطيبين .

العاشر : وفاة خديجة وأبو طالب عليهم السلام :

وتوفيت خديجة : بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين ، ولها خمس وستون سنة ، ودخل عليها رسول الله وهي تجود بنفسها .

فقال : بالكره مني ما أرى ، ولعل الله أن يجعل في الكره خير كثيرا ، إذا لقيت ضراتك في الجنة يا خديجة فاقرئيهن السلام . قالت : ومن هن يا رسول الله ؟

قال : إن الله زوجنيك في الجنة ، وزوجني مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وكلثوم أخت موسى . فقالت : بالرفاء والبنين .

ولما توفيت خديجة : جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول : أين أمي ؟ أين أمي ؟ فنزل عليه جبريل فقال : قل لفاطمة إن الله تعالى بنى لامك بيتا في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب .

وتوفي أبو طالب : بعد خديجة بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة .

وقيل : بل تسعون سنة ، ولما قيل لرسول الله إن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه ، واشتد له جزعه ، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات .

ثم قال : يا عم ربيت صغيرا ، وكفلت يتيما ، ونصرت كبيرا ، فجزاك الله عني خيرا ، ومشى بين يدي سريره ، وجعل يعرضه ، ويقول :

وصلتك رحم وجزيت خيرا .

وقال : اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان ، لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا ، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب .

تاريخ اليعقوب 35 .

وفاة أبو طالب برواية الكليني :

ذكر الكليني رحمه الله في الكافي : في أبواب التاريخ باب مولد النبي ووفاته :

ولد النبي : ... في منزل عبد الله بن عبد المطلب ، و ولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف ( وهي منزل النبي سميت باسم من أشتراها وبنى بها قصرا كبير فعرفت باسمه ) ، في الزاوية القصوى عن يسارك و أنت داخل الدار ، و قد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجدا يصلي الناس فيه .

و بقي بمكة : بعد مبعثه ثلاث عشرة سنة ، ثم هاجر إلى المدينة ، و مكث بها عشر سنين ....

و توفي أبوه : عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة عند أخواله و هو ابن شهرين.

و ماتت أمه : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، و هو ابن أربع سنين .

و مات عبد المطلب : و للنبي نحو ثمان سنين .

و تزوج خديجة : و هو ابن بضع و عشرين سنة ..

و ماتت خديجة : حين خرج رسول الله صلى الله عليه وأل من الشعب ، و كان ذلك قبل الهجرة بسنة .

و مات أبو طالب : بعد موت خديجة بسنة .

فلما فقدهما رسول الله : شنأ المقام بمكة و دخله حزن شديد ، و شكا ذلك إلى جبرئيل ، فأوحى الله تعالى إليه :

اخرج : من القرية الظالم أهلها ، فليس لك بمكة ناصر بعد أبي طالب و أمره بالهجرة .

الكافي ج1ص 440 باب مولد النبي .

يا طيب : هذا شاهد قوي على أن أبو طالب عليه السلام توفي قبل الهجرة بخمسة أشهر ، ثلاثة منها حرم ، الشهر الأول لانذهالهم بوفاة أبو طالب ، والثاني شوال لم يكن لقريش تصميم لانشغالهم بالإعداد للحج ، وإعداد أموالهم وإصلاحه للتجارة والبيع والشراء على الحجاج ، وكانت هذه المناسبة هي أقوى مصدر عيشهم وهي موسم بيعهم وشرائهم ، ولم يكن مناسب لهم أن يعقدوا مؤتمرا تلومهم عليه العرب ، ولم يكن وقت لهم ليجتمعوا لما هم عليه من إعداد سوقهم وما يشتروه لبيعهم من جميع المناطق وجمعه في مكة المكرمة ليبيعوه على الحجاج في هذا الموسم .

كما يؤكد الحديث : أنه بعد فراغهم وفي أخر صفر أمر النبي بالخروج من مكة الظالم أهلها ، لأنهم تفرغوا بعد أشهر الحرم من البيع والشراء ، ورجعو لمهمتهم في محاربة النبي الأكرم ، فأمر الله تعالى بالخروج .

الحادي عشر : دعوة نبينا للقبائل وخروجه إلى الطائف .

واجترأت قريش : على رسول الله بعد موت أبي طالب وطمعت فيه وهموا به مرة بعد أخرى ، وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم شريف كل قوم ، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه .

ويقول : لا أكره أحدا منكم ، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي . فلم يقبله أحد ، وكانوا يقولون : قوم الرجل أعلم به .

فعمد لثقيف بالطائف ، فوجد ثلاثة نفر أخوة هم يومئذ سادة ثقيف وهم : عبد ياليل بن عمرو ، وحبيب بن عمرو ، ومسعود بن عمرو ، فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء .

فقال أحدهم : ألا يسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك ؟ وقال الآخر : أعجز على الله أن يرسل غيرك ؟ وقال الآخر : والله لا أكلمك أبد ، لئن كنت رسولا كما تقول لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك . وتهزأوا به .

وأفشوا في قومهم ما قالوه له ، وقعدوا له صفين .

فلما مر رسول الله رجموه بالحجارة حتى أدموا رجله .

فقال رسول الله : ما كنت أرفع قدما ولا أضعها إلا على حجر .

ووافاه بالطائف : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومعهما غلام لهما نصراني ، ويقال له : عداس ، فوجها به إلى رسول الله ، فلما سمع كلامه أسلم . ورجع رسول الله إلى مكة.

تاريخ اليعقوبي 35.

الإشراق الثاني عشر : قدوم الأنصار مكة ودعوة رسول الله لهم :

وكانت الأوس والخزرج : ابنا حارثة بن ثعلبة أهل عز ومنعة في بلادهم ، حتى كانت بينهم الحروب التي أفنتهم في أيام لهم مشهورة .

منها : يوم الصفينة : وهو أول يوم جرت الحرب فيه .

ويوم السرارة ، ويوم وفاق بني خطمة ، ويوم حاطب ابن قيس ، ويوم حضير الكتائب ، ويوم أطم بني سالم ، ويوم أبتروه ، ويوم البقيع ، ويوم بعاث ، ويوم مضرس ومعبس ، ويوم الدار ، ويوم بعاث الآخر ، ويوم فجار الأنصار ، وكانوا ينتقلون في هذه المواضع التي تعرف أيامهم بها ويقتتلون قتالا شديدا .

فلما ضرستهم الحرب : وألقت بركها عليهم وظنوا أنها الفناء ، واجترأت عليهم بنو النضير وقريظة وغيرهم من اليهود خرج قوم منهم إلى مكة يطلبون قريشا لتقويهم.

تاريخ اليعقوبي 35.

وقال علي بن إبراهيم : قدم أسعد بن زرارة ، وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب ، وهما من الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حربٌ قد بغوا فيها دهراً طويلاً ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان اخر حرب بينهم يوم بعاث ، وكانت للأوس على الخزرج .

فخرج : أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حربٌ وقد جئناك نطلب الحلف عليهم .

فقال له عتبة : بعدت دارنا من داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء .

قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟

قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله ، سفّه أحلامنا .

وسبّ آلهتنا، وأفسد شبّاننا، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد : من هو منكم ؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطّلب ، من أوسطنا شرفاً ، وأعظمن بيتاً .

وكان : أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم ـ النضير وقريظة وقينقاع ـ : أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة ، لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود .

قال: فأين هو ؟

قال: جالسٌ في الحجر ، وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلّمه فإنّه ساحرٌ يسحرك بكلامه .

وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشّعب .

فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر ، لابدّ لي أن أطوف بالبيت ؟

قال : ضع في اُذنيك القطن .

فدخل أسعد المسجد : وقد حشا اُذنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم ، فنظر إليه نظرة فجازه .

فلمّا كان في الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهل منّي ، أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أتعرفه حتّى أرجع إلى قومي فاُخبرهم ؟ ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به وقال لرسول الله صلّى عليه وآله وسلّم: أنعم صباحاً .

فرفع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحيّة أهل الجنّة السلام عليكم .

فقال له أسعد : إنّ عهدك بهذا لقريب ، إلى ما تدعو يا محمّد ؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم :

إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله .

وأدعوكم : إلى أن لا تشركوا به شيئاً ، وبالوالدين إحساناً ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاها ، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منه وما بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ذلك وصاكم به لعلّكم تعقلون ، ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه ، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلّكم تذكّرون.

فلمّا سمع أسعد هذا له قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّك رسول الله ، يا رسول : الله بأبي أنت واُمّي ، أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبالٌ مقطوعة ، فإن وصلها الله بك فلا أجد أعزّ منك ، ومعي رجلٌ من قومي ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرن فيك ، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشّروننا بمخرجك ، بصفتك ، وأرجو أن تكون لله دارنا هجرتك ، وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له .

ثمّ أقبل ذكوان فقال له أسعد : هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشّرنا به وتخبرنا بصفته ، فهلّم فاسلم ، فأسلم ذكوان ، ثمّ قالا : يا رسول الله ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن ويدعو النّاس إلى أمرك.

فقال : رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لمصعب بن عمير ، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضّلانه على أولادهما ولم يخرج من مكّة ، فلمّا أسلم جفاه أبواه ، وكان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الشعب حتّى تغّير وأصابه الجهد .

فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالخروج مع أسعد ، وقد كان تعلّم من القرآن كثيراً، فخرجا إلى المدينة ومعهما مصعب بن عمير .

فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره ، فأجاب من كلّ بطن الرجل والرجلان ، وكان مصعب نازلاً على أسعد بن زرارة ، وكان يخرج في كلّ يوم فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الإسلام فيجيبه الأحداث.

وكان عبد الله بن اُبيّ شريفاً في الخزرج ، وقد كان الأوس والخزرج اجتمعوا على أن يملّكوه عليهم لشرفه وسخائه ، وقد كانوا اتّخذوا له اكليلاً احتاجوا في تمامه إلى واسطة كانوا يطلبونها ، وذلك أنّه لم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بعاث ولم يعن على الأوس .

وقال : هذا ظلم منكم للأوس ولا اُعين على الظلم ، فرضيت به الأوس والخزرج ، فلمّا قدم أسعد كره عبد الله ما جاء به أسعد وذكوان وفتر أمره .

فقال أسعد لمصعب : إنّ خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس ، وهو رجلٌ عاقل شريف مطاع في بني عمرو بن عوف ، فإن دخل في هذا الأمر تمّ لنا أمرن ، فهلمّ نأتي محلّتهم .

فجاء مصعب مع أسعد إلى محلّة سعد بن معاذ ، فقعد على بئر من آبارهم واجتمع إليه قوم من أحداثهم وهو يقرأ عليهم القرآن ، فبلغ ذلك سعد بن معاذ فقال لاُسيد بن حضير وكان من أشرافهم : بلغني أنّ أبا أمامة أسعد ابن زرارة قد جاء إلى محلّتنا مع هذا القرشي يفسد شبّاننا ، فأته وانهه عن ذلك .

فجاء اُسيد بن حضير ، فنظر إليه أسعد فقال لمصعب : إنّ هذ رجلٌ شريفٌ ، فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن يتمّ أمرنا فأصدق الله فيه .

فلمّا قرب اُسيد منهم قال : يا أبا أمامة ، يقول لك خالك : لا تأتنا في نادينا ، ولا تفسد شبّاننا ، وأحذر الأوس على نفسك .

فقال مصعب : أو تجلس فنعرض عليك أمراً ، فإن أحببته دخلت فيه ، وإن كرهته نحّينا عنك ما تكرهه . فجلس فقرأ عليه سورة من القرآن .

فقال : كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر ؟

قال: نغتسل ونلبس ثوبين طاهرين ونشهد الشهادتين ونصلّي ركعتين.

فرمى بنفسه ممع ثيابه في البئر ، ثمّ خرج وعصر ثوبه .

ثمّ قال : أعرض عليَّ .

فعرض عليه : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فقالها ، ثمّ صلّى ركعتين ، ثمّ قال لأسعد : يا أبا أمامة ، أنا أبعث إليك الآن خالك وأحتال عليه في أن يجيئك .

فرجع اُسيد إلى سعد بن معاذ ، فلمّا نظر إليه سعد قال : اُقسم أنّ اُسيد قد رجع إلينا بغير الوجه الذي ذهب من عندنا .

وأتاهم سعد بن معاذ فقرأ عليه مصعب (حمَ تنزيلٌ منَ الرّحمن الرّحيم) فلمّا سمعها .

قال مصعب : والله لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلّم ، فبعث إلى منزله وأتى بثوبين طاهرين واغتسل وشهد الشهادتين وصلّى ركعتين ، ثمّ قام وأخذ بيد مصعب وحوّله إليه وقال : أظهر أمرك ولا تهابّن أحداً .

ثمّ جاء فوقف في بني عمرو بن عوف وصاح : يا بني عمرو بن عوف لا يبقيّن رجلٌ ولا امرأة ولا بكر ولا ذات بعل ولا شيخ ولا صبيّ إلاّ خرج ، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب .

فلمّا اجتمعوا قال : كيف حالي عندكم ؟

قالوا : أنت سيّدنا والمطاع فينا ولا نردّ لك أمراً فمرنا بم شئت .

فقال : كلام رجالكم ونسائكم وصبيانكم عليّ حرام حتّى تشهدوا :

أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمّداً رسول الله ، فالحمد لله الذي أكرمنا بذلك وهو الذي كانت اليهود تخبرنا به .

فما بقي دارٌ من دور بني عمرو بن عوف في ذلك اليوم إلاّ وفيه مسلمٌ أو مسلمة ، وحوّل مصعب بن عمير إليه وقال له :

أظهر أمرك وادع الناس علانية .

وشاع الإسلام بالمدينة وكثر ، ودخل فيه من البطنين جميعاً أشرافهم ، وذلك لما كان عندهم من أخبار اليهود .

وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ الأوس والخزرج قد دخلوا في الإسلام ، وكتب إليه مصعب بذلك .

وكان كلّ من دخل في الإسلام من قريش ضربة قومه وعذّبوه ، فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة .

فكانوا يتسلّلون رجلاً فرجلاً فيصيرون إلى المدينة فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم .

إعلام الورى ج1ص139ب3ف7 ، أنظر : تفسير القمي 1: 272 ، وقصص الأنبياء للراوندي : 332 | 412 ، والسيرة النبوية لابن هشام 2: 77 ـ 83 ، والطبقات الكبرى 1: 221 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2 : 430 ـ 446 ،والوفا بأحوال المصطفى 1 : 224 ، والكامل في التأريخ 2 : 96 ـ 98 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 8 | 5 .

الإشراق الثالث عشر : بيعة الأنصار لرسوله الله في العقبة:

فلما كان العام القابل خرج إليه جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج فوافى منهم سبعون رجلا وامرأتان فأسلموا وصدقوه ، وأخذ رسول الله عليهم بيعة النساء .

فسألوه أن يخرج معهم إلى المدينة ، وقالوا : إنه لم يصبح قوم في مثل ما نحن فيه من الشر ، ولعل الله أن يجمعنا بك ويجمع ذات بيننا فلا يكون أحد أعز منا.

فقال لهم رسول الله : قولاً جميلاً ، ثم انصرفوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام ، فكثر حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر حسن من ذكر رسول الله ، وسألوه الخروج معهم وعاهدوه أن ينصروه على القريب والبعيد والأسود والأحمر .

قال له العباس بن عبد المطلب : وإني فداك أبي وأمي آخذ العهد عليهم ، فجعل ذلك إليه عليهم العهود والمواثيق أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم ، وعلى أن يحاربوا معه الأسود والأحمر ، وأن ينصروه على القريب والبعيد ، وشرط لهم الوفاء بذلك والجنة .

تاريخ اليعقوبي 38.

قال علي بن إبراهيم : فلمّا قدمت الأوس والخزرج مكّة جاءهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال لهم :

تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربكم وثوابكم على الله الجنّة ؟

قالوا : نعم يا رسول الله ، فخذ لنفسك وربّك ما شئت .

فقال : موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق .

فلمّا حجوا رجعوا إلى منى ، وكان فيه ممّن قد أسلم بشرٌ كثير ، وكان أكثرهم مشركين على دينهم وعبد الله بن اُبّي فيهم .

فقال لهم رسول الله صلّى الله وآله وسلّم في اليوم الثاني من أيّام التشريق: فاحضروا دار عبد المطّلب على العقبة ولا تنبّهوا نائماً ، وليتسلّل واحد فواحد.

وكان رسول الله نازلاً في دار عبد المطّلب ، وحمزة وعليّ والعبّاس معه ، فجاءه سبعون رجلاً من الأوس والخزرج ، فدخلوا الدار ، فلمّا اجتمعو قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنّة ؟

فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام:

نعم يا رسول الله ، فاشترط لنفسك ولربّك .

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : تمنعوني ممّا تمنعون أنفسكم، وتمنعون أهلي ممّا تمنعون أهليكم وأولادكم .

قالوا : فما لنا على ذلك ؟

قال: الجنّة ، تملكون بها العرب في الدنيا ، وتدين لكم العجم وتكونون ملوكاً . فقالوا : قد رضينا .

فقام العباس بن نضلة وكان من الأوس فقال : يا معشر الأوس والخزرج تعلمون على ما تقدمون عليه ؟ إنّما تقدمون على حرب الأبيض والأحمر ، وعلى حرب ملوك الدنيا ، فإن علمتم أنّه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلا تغرّوه ، فإنّ رسول الله وإن كان قومه خالفوه فهو في عزّ ومنعة .

فقال له عبد الله بن حرام وأسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التيّهان :

مالك وللكلام يا رسول الله ؟ بل دمنا بدمك ، وأنفسنا بنفسك ، فاشترط لربّك ولنفسك ما شئت.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً .

فقالوا : اختر من شئت .

فأشار جبرائيل عليه السلام إليهم فقال : هذا نقيبٌ ، وهذا نقيبٌ حتّى اختار تسعة من الخزرج ، وهم: أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، وعبد الله بن حرام أبو جابر بن عبد الله ، ورافع بن مالك ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع ، وعبادة بن الصامت .

وثلاثة من الأوس وهم : أبو الهيثم بن التيّهان ـ وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرو بن عوف ـ، واُسيد بن حضير ، وسعد بن خيثمة .

فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .

صاح بهم إبليس : يا معشر قريش والعرب ، هذا محمّد والصباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم . فأسمع أهل منى ، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح .

وسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم النداء فقال للأنصار: تفرّقوا .

فقالوا : يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.

فقال رسول الله صلّى الله وآله وسلّم : لم اُومر بذلك ، ولم يأذن الله لي في محاربتهم .

فقالوا : يا رسول الله فتخرج معنا .

قال : أنتظر أمر الله .

فجاءت قريش: على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح .

وخرج حمزة ومعه السيف: فوقف على العقبة هو وعليّ بن أبي طالب عليه السلام .

فلمّا نظروا إلى حمزة قالوا : ما هذا الذي اجتمعتم عليه ؟

قال : ما اجتمعنا ، وما هاهنا أحد ، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلاّ ضربته بسيفي .

فخرجوا وغدوا إلى عبد الله بن اُبي وقالوا له : قد بلغن أنّ قومك بايعوا محمّداً على حربنا . فحلف لهم عبد الله أنّهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك ، وأنّهم لم يطلعوه على أمرهم ، فصدّقوه .

وتفرّقت الأنصار : ورجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مكّة.

إعلام الورى ج1ص140ب3ف7 ، أنظر : تفسير القمي 1: 272 ، وقصص الأنبياء للراوندي : 332 | 412 ، والسيرة النبوية لابنهشام 2: 77 ـ 83 ، والطبقات الكبرى 1: 221 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2:430ـ 446 ،والوفا بأحوال المصطفى 1: 224،والكامل في التأريخ 2: 96ـ 98 ،ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19:8|5.

الإشراق الرابع عشر : هجرة نبينا ومبيت الإمام علي في فراشه :

وأجمعت قريش على قتل رسول الله ، وقالوا :

ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب ، فأجمعوا جميعا على أن يأتوا من كل قبيلة بغلام نهد ، فيجتمعوا عليه فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد ، فلا يكون لبني هاشم قوة بمعاداة جميع قريش .

فلما بلغ رسول الله : أنهم أجمعوا على أن يأتوه في الليلة التي أتعدوا فيها ، خرج رسول الله لما اختلط الظلام ومعه أبو بكر .

وإن الله ، عز وجل : أوحى في تلك الليلة إلى جبرائيل وميكائيل أني قضيت على أحدكما بالموت فأيكما يواسي صاحبه ؟ فاختار الحياة كلاهما.

فأوحى الله إليهما : هلا كنتما كعلي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمد ، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر ، فاختار علي الموت وآثر محمدا بالبقاء وقام في مضجعه ، اهبطا فاحفظاه من عدوه .

فهبط جبريل وميكائيل فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوه ويصرفان عنه الحجارة ، وجبرائيل يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب من مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سماوات !

وخلف عليا على فراشه لرد الودائع التي كانت عنده .

وصار إلى الغار فكمن فيه .

وأتت قريش فراشه فوجدوا عليا فقالوا : أين ابن عمك ؟

قال : قلتم له اخرج عنا ، فخرج عنكم .

فطلبوا الأثر فلم يقعوا عليه ، وأعمى الله عليهم المواضع فوقفو على باب الغار وقد عششت عليه حمامة ، فقالوا : ما في هذا الغار أحد ، وانصرفوا.

تاريخ اليعقوبي 136 .

ثمّ اجتمعت قريش في دار الندوة : وكانوا أربعين رجلاْ من أشرافهم ، وكان لا يدخلها إلاّ من أتى له أربعون سنة ، سوى عتبة بن ربيعة فقد كان سنّه دون الأربعين ، فجاء الملعون إبليس في صورة شيخ .

فقال له البوّاب : من أنت ؟ قال : أنا شيخ من نجد .

فاستأذن فأذنوا له ، وقال : بلغني اجتماعكم في أمر هذ الرجل ، فجئتكم لاشير عليكم ، فلا يعدمكم منّي رأي صائب .

فلمّا أخذوا مجلسهم قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إنّه لم يكن أحدُ من العرب أعزّ منّا ونحن في حرم الله وأمنه ، تفد إلينا العرب في السنة مرّتين ، ولا يطمع فينا طامع ، حتّى نشأ فينا محمّد ، فكنّا نسمّيه الأمين لصلاحه وأمانته ، فزعم أنّه رسول الله ، وسبّ آلهتنا ، وسفّه أحلامنا ، وأفسد شبّانن ، وفرّق جماعتنا ، وقد رأيت فيه رأياً ، وهو أن ندسّ إليه رجلاً يقتله ، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات .

فقال إبليس : هذا رأي خبيث، فإنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على الأرض أبداً، وتقع بينكم الحروب في حرمكم.

فقال آخر: الرأي أن نأخذه فنحبسه في بيت ونثبته فيه ونلقي إليه قوته حتّى يموت كما مات زهير والنابغة.

فقال إبليس : إنّ بني هاشم لا ترضى بذلك ، فإذ جاء موسم العرب اجتمعوا عليكم وأخرجوه فيخدعهم بسحره .

وقال آخر : الرأي أن نخرجه من بلادنا ونطرده فنفرغ نحن لآلهتنا.

فقال إبليس : هذا أخبث من الرأيين المتقدّمين ، لأنّكم تعمدون إلى أصبح الناس وجهاً، وافصح الناس لساناً ، وأسحرهم ، فتخرجوه إلى بوادي العرب فيخدعهم بسحره ولسانه ، فلا يفجأكم إلاّ وقد ملأها عليكم خيلاً ورجلاً .

فبقوا حيارى . ثم قالوا للملعون إبليس : فما الرأي عندك فيه ؟

قال: ما فيه إلاّ رأي واحد ، أن يجتمع من كلّ بطن من بطون قريش رجلٌ شريفُ ، ويكون معكم من بني هاشم واحد، فيأخذون حديدة أو سيفاً ويدخلون عليه فيضربوه كلّهم ضربة واحدة ، فيتفرقّ دمه في قريش كلّها ، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه ، فما بقي لهم إلاّ أن تعطوهم الدية، فأعطوهم ثلاث ديات.

قالوا : نعم وعشر ديات .

وقالوا بأجمعهم: الرأي رأي الشيخ النجدي.

فاختاروا خمسة عشر رجلاً فيهم أبو لهب على أن يدخلوا على رسول الله فيقتلونه .

فأنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله : ( واذ يمكُرُ بك الّذين كفرُوا ليُثبتُوك أو يقتلوك او يُخرجُوك ) الأنفال 30.

ثمّ تفرّقوا على هذا وأجمعوا أن يدخلوا عليه ليلاً وكتموا أمرهم ، فقال أبو لهب : بل نحرسه فإذا أصبحنا دخلنا عليه .

فباتوا حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم

وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يفرش له ، وقال لعليّ بن أبي طالب عليه السلام : يا عليّ افدني بنفسك .

قال: نعم يا رسول الله .

قال: نم على فراشي والتحف ببردي .

فنام عليه السلام على فراش رسول الله والتحف ببردته .

وجاء جبرائيل عليه السلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له :اُخرج .

والقوم يشرفون : على الحجرة ، فيرون فراشه وعليّ عليه السلام نائمٌ عليه ، فيتوهّمون أنّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهم وهو يقرأ «يس» إلى قوله: { فاغشيناهُم فهُم لا يُبصرون(9)} يس . وأخذ تراباً بكفّه ونثره عليهم وهم نيام ومضى .

فقال له جبرائيل عليه السلام : يا محمّد ، خذ ناحية ثور .

وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فمرّ رسول الله وتلقّاه أبو بكر في الطريق ، فأخذ بيده ومرّ به ، فلمّا انتهى إلى ثور دخل الغار .

فلمّا أصبحت قريش وأضاء الصبح وثبوا في الحجرة وقصدوا الفراش.

فوثب عليّ عليه السلام إليهم وقام في وجوههم فقال لهم: ما لكم ؟ .

قالوا : أين ابن عمّك محمّد ؟

قال عليّ عليه السلام: جعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم قلتم له : اُخرج عنّا ، فقد خرج عنكم ، فما تريدون ؟ .

فأقبلوا عليه : يضربونه ، فمنعهم أبو لهب ، وقالوا : أنت كنت تخدعنا منذ الليلة . فلمّا أصبحوا تفرّقوا في الجبال ، وكان فيهم رجلٌ من خزاعة يقال له : أبو كرز يقفو الآثار ، فقالوا له : يا أبا كرز اليوم اليوم .

فما زال : يقفو أثر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى وقف بهم على باب الحجرة ، فقال : هذه قدم محمد ، هي والله اُخت القدم التي في المقام ، وهذه قدم أبي قحافة أو ابنه ، وقال : ههنا عبر ابن أبي قحافة .

فلم يزل بهم حتّى وقفهم إلى باب الغار وقال لهم : ما جازوا هذا المكان ، إما أن يكونوا صعدوا السماء أو دخلوا الأرض .

وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار ، قال : وجاء فارسٌ من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار وهو يقول لهم : اطلبوه في هذه الشعاب ، فليس ههنا . فأقبلوا يدورون في الشعاب.

وبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الغار ثلاثة أيام ، ثمّ أذن الله له في الهجرة ، وقال : اُخرج عن مكّة يا محمد فليس لك بها ناصرٌ بعد أبي طالب.

فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من الغار ، وأقبل راع لبعض قريش يقال له : ابن اُريقط . فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقال له : يا ابن اُريقط أءتمنك على دمي ؟ .

قال: إذاً والله أحرسك وأحفظك ولا أدلّ عليك، فأين تريد يا محمد ؟

قال : يثرب .

قال: والله لأسلكنّ بك مسلكاً لا يهتدي فيه أحدٌ .

قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : ائت عليّاً وبشّره بأنّ الله قد أذن لي في الهجرة فيهيّئ لي زاداً وراحلة.

إعلام الورى ج1ص146ب3ف8 ، انظر: تفسير القمي 1: 273، قصص الأنبياء للراوندي: 335/114 ــ 115، السيرة النبوية لابن هشام 2: 124، الطبقات الكبرى 1: 227، دلائل النبوة للبيهقي 2: 467الوفا بأحوال المصطفى 1: 229، الكامل في التاريخ 2: 101، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19: 48.

وروى علي بن هاشم ، عن محمّد بن عبد الله بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن جدّه أبي رافع قال : كان عليّ يجهّز النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حين كان في الغار يأتيه بالطعام والشراب .

واستأجر له ثلاث رواحل ، للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأبي بكر ولدليلهم .

وقيل : وخلّفه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يخرج إليه أهله فأخرجهم ، وأمره أن يؤدّي عنه أمانته ووصاياه وما كان يؤتمن عليه من مال ، فادّى عليّ عليه السلام أماناته كلّها .

وقال له النبيّ عليه وآله السلام : إنّ قريشاً لن يفتقدوني ما رأوك ، فاضْطَجع على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فكانت قريش ترى رجلاً على فراش النبيّ فيقولون : هو محمّد ، فحبسهم الله عن طلبه .

وخرج عليّ إلى المدينة ماشياً على رجليه فتورمت قدماه ، فلمّ قدم المدينة رآه النبيّ فاعتنقه وبكى رحمة له ممّا رأى بقدميه من الورم ، وأنّهم يقطران دماً، فدعا له بالعافية ومسح رجليه ، فلم يشكهما بعد ذلك.

تاريخ ابن عساكر- ترجمة الإمام علي (ع ) - 1 : 154 ، ودون صدره في : اُسد الغابة 4 :19 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19: 84 | 35 ، و نحوه في : قرب الإسناد : 111 | 387، تفسير العياشي 2 : 65 | 70، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19 : 293 | 36.

وكان جميع مقامه بمكة حتى خرج منها إلى المدينة ثلاث عشرة سنة من مبعثه.

تاريخ اليعقوبي ص40 .

يا طيب : بعد إن عرفنا جهاد رسول الله وثباته في مكة المكرمة وتحمله الأذى والمصائب في سبيل نشر دين الله وتبلغيه بكل جهده ، وكيف تحمل هو والمسلمون الأذى في سبيل الله والثبات على دينه والإخلاص له في طلب عبوديته ورضاه ، فقسم هاجر وقسما في الشعب بقي بتحمل الأذى والقحط ، وعرفنا كيف كرم الله نبينا الأكرم بالإسراء والمعراج ليسليه ويريه من آياته الكبرى ، فيطمئن ويحدث المؤمنون فيرجون ثواب الله ويشتاقون لنور ملكوته والكون به بعد أيام من هذه الدنيا ، حتى توفي الناصر له عمه أبو طالب وزوجته خديجة عليهم السلام ، وأخذ يخرج لخارج مكة يدعوا الناس ولم يسلم له إلا القليل ، ولكن الله منَّ عليه بالأنصار وأيده بهم لما علم إخلاصه وإخلاص المؤمنين ، فهاجر إليهم ولحقه باقي المسلمون بعد إن هاجر قسم كبير من المسلين قبله .

وفي كل هذا من ثباته وشرفه وأصله وما عرفت من براهين النبوة ، كلها تدلنا على حقيقة الدعوة ، وتكون كلها برهانا جليا ودليلا قويا يعرفنا ، عناية الله بخلقه واختياره لأفضلهم علما وعملا وسيرة وسلوكا لتبليغ رسالته ، ويؤيده بالمؤمن الصابرون معه ، وهذه مرحلة وجوده الشريف في مكة بعد البعثة .

وندخل في جهاده وثباته وإصرار على دعوته في المدينة المنورة ، لنرى دور آخر من حياته الشريفة وعلو همته لتبلغ دين الله وهو قد جاوز الخمسون سنة ، ولكنه كله نشاط وحركة من أجل الله تعالى وتعريف دينه ، فكان يظهر بمعارف الله بكل وجوده وسيرته .

ونسأل الله أن يجعلنا معه ومع آله وصحبه الكرام ، ويرزقن شفاعته إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .


الباب الخامس
ثبات وجهاد نبينا في المدينة لتبلغ الرسالة الإلهية

في هذا الباب : نعرف صبر نبينا وجهاده في هجرته وثباته في المدينة المنورة ، وما ظهر من أعلام نبوته ودلائل صدقه ورسالته حتى حجة الوداع ، وبكل قول وحركة له نعرف صدق نبوته، وشاهد بل برهان قوي لضرورة بعثته.

تذكر : بمعنى جهاد نبينا وثباته لتبلغ رسالته :

اللهم : صلي وسلم على نبينا محمد وآل محمد كما صليت وسلمت على إبراهيم وآل إبراهيم أنك حميد مجيد ، وأفتح علينا رحمتك وبركاتك كما فتحت على محمد آل محمد رحمتك وبركاتك بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .

نعم كان نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله : في قومه في مكة المكرمة وبين عشيرته ولكنه كان لم يأمن على نفسه ولا على صحبه ، ولم يستطع أن يقيم شعائر دينه ويدعوا إلى ربه ، فأمره الله تعالى أن يهاجر إلى المدينة ، فهاجر وفتح الله عليه ونشر دينه في كل الدنيا سواء بالفتح وباعتناق دينه ، أو بالإقتداء به والاقتباس من مكارم أخلاقه وتعاليمه وسواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة .

وذلك لما علم الله : من النبي الأكرم إخلاصه وتفانيه وثباته وإصراره في خدمة رب العالمين ونشر تعاليمه التي هي نور وهدى للعالمين ، فسهل الله تعالى أمر النبي ويسر عليه أمر الهجرة بمرافقة المعجزات التي عرفت بعضها وأيده بنصره وبالأنصار رحمهم الله .

وعرفت شيئا : من جهاد نبينا الأكرم وصحبه الكرام وبالخصوص عمه أبو طالب وابنيه علي وجعفر ، وزوجته خديجة الصديقة وعمه حمزة وكل المؤمنين وصحبه الكرام .

والآن نتطلع بشوق : يهزه حب فتح الله ونصره لدينه ولنبيه ، فنتصفح شيء من تأريخ وجوده المقدس في المدينة المنورة وجهاده وأهم الأمور التي مرت في حياته الكريمة ، والتي هي في الحقيقة تأريخ ديننا ومجدنا ، وعز الإنسان وشرفه وقدسيته التي جعلته إنسان ينال معرفة الله وتعاليمه ويوصله لعبوديته فينال هداه ورضاه ونعيمه ، ونجعلها في بحوث أذكار فيها أمور أذكار فيها إشراقات وله قبسات نور :

الذكر الأول : نجعل بحثه في وقائع وأحداث دخول نبينا الأكرم المدينة المنورة وسكنه فيها ، وبنائه لمسجدها وغيرها من الأمور التي تعرفنا استقراره وتعريفه للعباد تعاليم الله وتوجيه الناس إليها بفضل الله عليه وعليهم .

وأما الذكر الثاني : فيكون بحثه في بيان علو همته في جهاده ونذكر فيه أهم غزوات وحروبه وسراياه التي أقدم بها بنفسه الكريم لجهاد الكفار والمشركين بمختصر البيان وبه نعرف من نصره ومن كان المقدم عنده وقائده في كل المعارك.

وإما الذكر الثالث : فيكون بحثه في بيان وقائع وأحداث مرت عليه صلى الله عليهم وآله وسلم بعد ما نصره الله تعالى ، وبها تعرف كيف نشر دين الله بعد فترة يسيرة من غزواته ، وكيف راسل الملوك ورؤساء القبائل ، وكيف جاءته الوفود المسلمة من كل حدب وصوب ، وبالخصوص وفد نجران وقصة المباهلة والغدير في حجة الوداع ، وكيف أتم الله دينه وبوليه المحافظ على تعاليمه وتبليغه للناس كلهم بإمام حق على طول الزمان ومن ذريتهما الكريمة عليهم السلام .

فنتدبرها يا طيب : فإنها عين العز والكرامة الإلهية لأوليائه ودينه ، ونسأل الله أن يهبنا القوة لتطبيق كل معارف هداه علما وفكرا وعملا ونشر وتبليغا ، حتى يرضى عنا ويجعلنا مع نبينا وآله وصحبهم الطيبين صلى الله عليهم وسلم ، إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين :

الذكر الأول
دخول نبينا للمدينة وسكنه فيها وتعليم معارف الله

وفيه إشراقات نور :

الإشراق الأول : دخول نبينا الأكرم المدينة المنورة :

يا طيب : وروي عن ابن شهاب الزهري قال :

كان بين ليلة العقبة : وبين مهاجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أشهر ، وكانت بيعة الأنصار لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة العقبة في ذي الحجة ، وقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه في يوم الاثنين .

وكان الأنصار : قد خرجوا يتوكّفون (يتطلعون) أخباره ، فلمّ آيسوا رجعوا إلى منازلهم .

فلمّا رجعوا : أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ، فلمّا وافى ذا الحُليفة ( ميقات المدنيين على بعد ست أميال من المدينة ) سأل عن طريق بني عمرو بن عوف ، فدلّوه فرفعه الآل (أي السراب) ، فنظر رجل من اليهود وهو على اُطم (بناء مرتفع) له ، إلى ركبان ثلاثة يمرّون على طريق بن يعمرو بن عوف ، فصاح : يا معشر المسلمة هذا صاحبكم قد وافى .

فوقعت الصيحة بالمدينة : فخرج الرجال والنساء والصبيان مستبشرين لقدومه يتعاودون ، فوافى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقصد مسجد قب ونزل ، واجتمع إليه بنو عمرو بن عوف ، وسرّوا به واستبشروا واجتمعوا حوله ، ونزل على كلثوم بن الهدم ، شيخ من بني عمرو ، صالح مكفوف البصر .

واجتمعت إليه بطون الأوس : وكان بين الأوس والخزرج عداوة ، فلم يجسروا أن يأتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان بينهم من الحروب .

فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتصفّح الوجوه : فلا يرى أحداً من الخزرج ، وقد كان قدم على بني عمرو بن عوف قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ناسٌ من المهاجرين ، ونزلوا فيهم .

وروي : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا قدم المدينة جاء النساء والصبيان يقلن :

طلع البدر علين من ثنيات الوداع

وجب الشكر علين مـا دعا لله داع

وكان سلمان الفارسيّ : عبداً لبعض اليهود ، وقد كان خرج من بلاده من فارس يطلب الدين الحنيف الذي كان أهل الكتاب يخبرونه به ، فوقع إلى راهب من رهبان النصارى بالشام فسأله عن ذلك وصحبه ، فقال : اُطلبه بمكّة فثم مخرجه ، واطلبه بيثرب فثمّ مهاجره .

فقصد يثرب فأخذه بعض الأعراب فسبوه واشتراه رجلٌ من اليهود ، فكان يعمل في نخله ، وكان في ذلك اليوم على النخلة يصرمها (أي يأخذ ثمرها) ، فدخل على صاحبه رجلٌ من اليهود ، فقال :

يا أبا فلان : أشعرت أنّ هؤلاء المسلمة قد قدم عليهم نبيّهم ؟

فقال سلمان : جعلت فداك ، ما الذي تقول ؟

فقال له صاحبه : مالك وللسؤال عن هذا ، أقبل على عملك .

قال : فنزل وأخذ طبقاً وصيّر عليه من ذلك الرطب فحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما هذا ؟ .

قال : صدقة تمورنا ، بلغنا أنّكم قومٌ غرباء قدمتم هذه البلاد ، فأحببت أن تأكلوا من صدقاتنا .

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : سمّوا وكلوا .

فقال سلمان في نفسه وعقد بإصبعه : هذه واحدة ، يقولها بالفارسية. ثمّ أتاه بطبق آخر . فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما هذ ؟

فقال له سلمان : رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هديّة أهديتها أليك .

فقال صلى الله عليه وآله وسلم : سمّوا وكلوا، وأكل عليه وآله السلام.

فعقد سلمان بيده اثنين ، وقال له : هذه اثنتان ـ يقولها بالفارسية ـ.

ثمّ دار خلفه ، فألقى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن كتفه الإزار ، فنظر سلمان إلى خاتم النبوّة والشامة فأقبل يقبّلها .

فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : من أنت ؟ .

قال : أنا رجلٌ من أهل فارس ، قد خرجت من بلادي منذ كذا وكذ ، وحدّثه بحديثه ، فأسلم ـ وله حديث طويل لم ننقله ـ.

وبشّره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له : أبشر واصبر ، فإنّ الله سيجعل لك فرجاً من هذا اليهوديّ .

فلمّا أمسى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : فارقه أبو بكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بقبا نازلاً على كلثوم بن الهدم .

فلمّا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المغرب والعشاء الآخرة .

جاءه أسعد بن زرارة مقنّعاً فسلّم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفرح بقدومه ، ثمّ قال : يا رسول الله ما ظننت أن أسمع بك في مكان فأقعد عنك ، إلاّ أنّ بيننا وبين إخواننا من الأوس ما تعلم ، فكرهت أن آتيهم ، فلمّا أن كان هذا الوقت لم أحتمل أن أقعد عنك .

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للأوس : من يجيره منكم ؟

فقالوا : يا رسول الله ، جوارنا في جوارك فأجره .

قال : لا ، بل يجيره بعضكم .

فقال عويم بن ساعدة وسعد بن خيثمة : نحن نجيره يا رسول الله .

فأجاروه ، وكان يختلف إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيتحدّث عنده ويصلّي خلفه ، فبقي رسول الله خمسة عشر يوماً .

فجاءه أبو بكر فقال : يا رسول الله تدخل المدينة ؟ فإنّ القوم متشوّقون إلى نزولك عليهم .

فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : لا أريم من هذا المكان حتّى يوافي أخي عليّ .

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث إليه : أن أحمل العيال وأقدم ، فقال أبو بكر : ما أحسب عليّاً يوافي ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : بلى ما أسرعه إن شاء الله .

فبقي خمسة عشر يوماً ، فوافى عليّ عليه السلام بعياله ، فلمّ وافى كان سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة يكسران أصنام الخزرج .

وكان كلّ رجل شريف في بيته صنم يمسحه ويطيّبه ، ولكلّ بطن من الأوس والخزرج صنم في بيت لجماعة يكرمونه ويجعلون عليه منديلاً ويذبحون له ، فلمّا قدم الاثنا عشر من الأنصار أخرجوها من بيوتهم وبيوت من أطاعهم ، فلمّ قدم السبعون كثر الإسلام وفشا ، وجعلوا يكسرون الأصنام .

قال : وبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد قدوم عليّ يوماً أو يومين ثمّ ركب راحلته ، فاجتمعت إليه بنو عمرو بن عوف ، فقالو : يا رسول الله أقم عندنا فإنّا أهل الجدّ والجلد والحلفة والمنعة .

فقال عليه وآله السلام: خلوا عنها فإنّها مأمورة .

وبلغ الأوس والخزرج : خروج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فلبسوا السّلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته ، لا يمرّ بحيّ من أحياء للأنصار إلاّ وثبوا في وجهه وأخذوا بزمام ناقته ويطلّبوا إليه أن ينزل عليهم ، ورسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : ( خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة ) حتّى مرّ ببني سالم .

وكان خروج : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبا يوم الجمعة ، فوافى بني سالم عند زوال الشمس ، فتعرضت له بنو سالم فقالوا : يا رسول الله هلم إلى الجدّ والجلد والحلفة والمنعة .

فبركت ناقته : عند مسجدهم ، وقد كانوا بنوا مسجداً قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فنزل عليه وآله السلام في مسجدهم وصلّى بهم الظهر وخطبهم ، وكان أوّل مسجد صلّى فيه الجمعة ، وصلّى إلى بيت المقدس ، وكان الذين صلّوا معه في ذلك الوقت مائة رجل .

ثمّ ركب : رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ناقته وأرخى زمامه ، فانتهى إلى عبد الله بن اُبيّ ، فوقف عليه وهو يقدّر أنّه يعرض عليه النزول عنده ، فقال له عبد الله بن اُبيّ ـ بعد أن ثارت الغبرة وأخذ كمّه ووضعه على أنفه ـ : يا هذا اذهب إلى الذين غرّوك وخدعوك وأتوا بك فانزل عليهم ولا تغشنا في ديارنا . فسلّط الله على دور بني الحبلى الذرّ ( اصغر من النمل ) فخرق دورهم فصارو نزالاً على غيرهم ، وكان جدّ عبد الله بن اُبّي يقال له : ابن الحبلى .

فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء ، فإنّا كنّا اجتمعنا على أن نملّكه علينا ، وهو يرى الآن أنّك قد سلبته أمراً قد كان أشرف عليه ، فأنزل عليّ يا رسول الله ، فإنّه ليس في الخزرج ولا في الأوس أكثر فم بئر منّي ، ونحن أهل الجلد والعزّ ، فلا تجزنا يا رسول الله .

فأرخى زمام ناقته : ومرّت تخبّ (تعدوا) به حتّى انتهت إلى باب المسجد الذي هو اليوم ، ولم يكن مسجداً إنّما كان مربداً (مكان للإبل) ليتيمين من الخزرج يقال لهما : سهل وسهيل ، وكانا في حجر أسعد بن زرارة .

فبركت الناقة : على باب أبي أيّوب خالد بن زيد ، فنزل عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فلمّا نزل اجتمع عليه النّاس وسألوه أن ينزل عليهم .

فوثبت : اُمّ أبي أيّوب إلى الرحل فحلّته وأدخلته منزلها ، فلمّا أكثروا عليه قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أين الرّحل ؟ .

فقالوا : اُمّ أبي أيّوب قد أدخلته بيتها .

فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : المرء مع رحله .

وأخذ أسعد بن زرارة بزمام الناقة فحوّلها إلى منزله ، وكان أبو أيّوب لهم نزل أسفل وفوق المنزل غرفة ، فكره أن يعلو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال : يا رسول الله بأبي أنت واُمّي العلوّ أحبّ إليك أم السفل ؟ فإنّي أكره أن أعلو فوقك .

فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : السفل أرفق بنا لمن يأتين .

قال أبو أيّوب : فكنّا في العلوّ أنا واُميّ ، فكنت إذا استقيت الدلو أخاف أن تقع منه قطرة على رسول الله ، وكنت أصعد واُمّي إلى العلوّ خفيّاً من حيث لا يعلم ولا يحسّ بنا ، ولا نتكلّم إلاّ خفيّاً ، وكان إذا نام صلّى الله عليه وآله وسلّم لا نتحرّك ، وربّما طبخنا في غرفتنا فنجيّف الباب على غرفتنا مخافة أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دخان ، ولقد سقط جرّة لنا واُهريق الماء فقامت اُمّ أبي أيّوب إلى قطيفة ـ لم يكن لها والله غيرها ـ فألقتها على ذلك الماء تستنشف به مخافة أن يسيل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك شيء ، وكان يحضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المسلمون من الأوس والخزرج والمهاجرين .

وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة : يبعث إليه في كلّ يوم غداء وعشاء في قصعة ثريد عليها عراق (عظم عليه لحم) ، وكان يأكل معه من حوله حتّى يشبعون ، ثمّ تردّ القصعة كما هي ، وكان سعد بن عبادة يبعث إليه في كل يوم عشاء ويتعشّى معه من حضره وتردّ القصعة كما هي .

فكانوا يتناوبون في بعثة الغداء والعشاء إليه : أسعد بن زرارة ، وسعد بن خيثمة ، والمنذر بن عمرو ، وسعد بن الرّبيع ، واُسيد بن حضير.

قال : فطبخ له اُسيد يوماً قدراً ، فلم يجد من يحملها فحمله بنفسه ، وكان رجلاً شريفاً من النقباء ، فوافاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقد رجع من الصلاة ، فقال : حملتها بنفسك ؟ .

قال: نعم يا رسول الله ، لم أجد أحداً يحملها .

فقال: بارك الله عليكم من أهل بيت .

إعلام الورى ج1ص150ب3ف8 وانظر الخرائج والجرائح 1: 150 /240، وقصص الأنبياء للراوندي: 337،وسيرة ابن هشام 2: 137،والطبقات الكبرى 1: 233، ودلائل النبوة للبيهقي 2: 498، والوفا بأحوال المصطفى 1: 248،والكامل في التاريخ 2: 109 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19: 104 / 1.

الإشراق الثاني : بناء المسجد النبوي :

قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم : وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلّي في المربد بأصحابه . فقال لأسعد بن زرارة : اشتر هذا المربد من أصحابنا فساوم اليتيمين عليه فقالا : هو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

فقال رسول الله : لا ، إلاّ بثمن .

فاشتراه بعشرة دنانير : وكان فيه ماء مستنقع ، فأمر به رسول الله فسيل ، وأمر باللبن فضرب ، فبناه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وحفره في الأرض ، ثمّ أمر بالحجارة فنقلت من الحرّة ، وكان المسلمون ينقلونها ، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يحمل حجراً على بطنه ، فاستقبله اُسيد ابن حضير فقال : يا رسول الله أعطني أحمله عنك .

قال : لا ، اذهب فاحمل غيره .

فنقلوا الحجارة : ورفعوها من الحفرة حتّى بلغ وجه الأرض ، ثم بناه أوّلاً بالسعيدة لبنةً لبنةً ، ثمّ بناه بالسميط (الآجر) ، وهو لبنة ونصف ، ثمّ بناه بالاُنثى والذكر لبنتين مخالفتين ، ورفع حائطه قامة ، وكان مؤخّره [ذراع] في مائة .

ثمّ اشتدّ عليهم الحرّ ، فقالوا : يا رسول الله لو أظللت عليه ظلاً ، فرفع صلّى الله عليه وآله وسلّم أساطينه في مقدم المسجد إلى ما يلي الصحن بالخشب ، ثمّ ظلّله وألقى عليه سعف النخل ، فعاشوا فيه .

فقالوا : يا رسول الله لو سقفت سقفاً .

قال صلى الله عليه وآله وسلم : لا ، عريش كعريش موسى ، الأمر أعجل من ذلك .

الإشراق الثالث : بناء البيوت حول المسجد وسد أبوابها إليه إلا. :

وابتنى : رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وخطّ لأصحابه خططاً ، فبنوا فيها منازلهم ، وكلّ شرع منه باباً إلى المسجد .

وخطّ لحمزة وشرع بابه إلى المسجد .

وخطّ لعليّ بن أبي طالب عليه السلام مثل ما خطّ لهم .

وكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد ، فنزل عليه جبرائيل عليه السلام فقال :

يا محمد : إنّ الله يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد يسدّه، ولا يكون لأحد باب إلى المسجد

إلاّ لك ولعليّ ، ويحلّ لعليّ فيه ما يحلّ لك .

فغضب أصحابه وغضب حمزة وقال : أنا عمّه يأمر بسدّ بابي ويترك باب ابن أخي وهو أصغر منّي .

فجاءه فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم :

يا عمّ : لا تغضبنّ من سدّ بابك وترك باب عليّ .

فوالله : ما أنا أمرت بذلك .

ولكنّ الله أمر بسدّ أبوابكم وترك باب عليّ .

فقال حمزة : يا رسول الله رضيت وسلّمت لله ولرسوله .

الإشراق الرابع : زواج علي من فاطمة بأمر الله :

قالوا : وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث بنى منازله كانت فاطمة عليها السلام عنده ، فخطبها أبو بكر ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( أنتظر أمر الله عزّ وجل ) ثمّ خطبها عمر، فقال: مثل ذلك.

فقيل لعليّ عليه السلام: لم لا تخطب فاطمة ؟

فقال: والله ما عندي شيء .

فقيل له : إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يسألك شيئاً .

فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاستحيى أن يسأله فرجع ، ثمّ جاءه في اليوم الثاني فاستحيى فرجع ، ثمّ جاء في اليوم الثالث فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا عليّ ألك حاجة ؟

قال: بلى يا رسول الله .

فقال: لعلّك جئت خاطباً ؟.

قال: نعم يا رسول الله .

قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : هل عندك شيء يا عليّ ؟.

قال : ما عندي يا رسول الله شيء إلاّ درعي .

فزوّجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على اثنتي عشرة أوقيّة ونشّ (عشرون درهماً وهو نصف أوقية ) ودفع إليه درعه .

فقال له رسول الله : هيّىء منزلاً حتّى تحوّل فاطمة إليه .

فقال عليه السلام : يا رسول الله ما ههنا منزل إلاّ منزل حارثة بن النعمان.

وكان لفاطمة يوم بنى بها أمير المؤمنين عليه السلام تسع سنين .

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : والله لقد استحيين من حارثة ، قد أخذنا عامّة منازله .

فبلغ ذلك حارثة فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا رسول الله أنا ومالي لله ولرسوله ، والله ما شيء أحبّ إليّ ممّ تأخذه ، والذي تأخذه أحبّ إليّ ممّا تترك .

فجزاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً .

فحوّلت فاطمة عليها السلام إلى عليّ عليه السلام في منزل حارثة ، وكان فراشهما إهاب كبش جعلا صوفه تحت جنوبهما .

إعلام الورى ج1ص158ب3ف8 ، انظر: الطبقات الكبرى 1: 8: 19 ـ 23، 239، ذخائر العقبى: 29 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19: 111ـ112.

الإشراق الخامس : فرض الصلاة وتغيير القبلة وباقي الأحكام :

وذكر اليعقوبي : افتراض الصوم والصلاة وافترض الله عز وجل ، شهر رمضان ، وصرفت القبلة نحو المسجد الحرام في شعبان بعد مقدمه بالمدينة بسنة وخمسة أشهر ، وقيل بسنة ونصف . وأنزل الله ، عز وجل : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ ..} البقرة 144 وكان بين نزول افتراض شهر رمضان وبين توجه القبلة إلى الكعبة ثلاثة عشرة يوما .

وروى بعضهم : أن رسول الله كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة ، فلما صلى ركعتين نزل عليه : صرف القبلة إلى الكعبة ، واستدار حتى جعل وجهه إلى الكعبة .

وكان بلال يؤذن ثم أذن معه ابن أم مكتوم .

وكان أيهما سبق أذن فإذا كانت الصلاة أقام واحد .

آخر ما نزل عليه : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُو مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا }المائدة3 وهي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة ، وكان نزولها يوم النفر على شأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، صلوات الله عليه ، بغدير خم . أقول وسيأتي بيانها .

وأقام رسول الله يتلوم ويتهيأ للقتال حتى أنزل الله ، عز وجل : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } الحج 39 والآية التي بعدها ، وقال { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } النساء 84 ، فكان الرجل من المؤمنين يعد بعشرة من المشركين حتى أنزل الله عز وجل : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } الأنفال66 .

وأنزل الله عليه سيفا من السماء له غمد ، فقال له جبريل : ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا : لا إله إلا الله وإنك رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم إلا لمحقها وحسابهم على الله .

تأريخ اليعقوبي 42.

هذه يا طيب : أحاديث فرض الله ونزول آياته وأحكام دينه على نحو الاختصار ، وإلا فإن تشريع النبي كل دينه القيم في جميع مجالات الحياة ، وهذه بعض الإشارة لنعرف أنه أخذ يبلغ دين الله بكل وجوده في المدينة المنورة وسيأتي قسم آخر من أحول تعاليمه في الأبواب الآتية ، وهذا البحث الثاني في جهاده:

الذكر الثاني
جهاد رسول الله لتبليغ الدين وغزواته

وبعد إن أستقر رسول الله ونشر هداه في المدينة المنورة ، تمادت قريش فأخذت منازله في مكة ، وتحرك رسول الله وأرسل سرية ليأخذ حقه من قافلة لقريش كمقاصة ، وسمعت به قريش واستعدت لحربه ، وهكذا بإذن الله بدأت غزوات وسرايا المسلمين لفتح بلاد الله ودخل في الإسلام كثير منهم وكانوا أنصارا له ، تابع البحث يا طيب : لترى جهاده في سيبل الله وثباته وصبره وتجلده من أجل نشر دين الله ، رزقنا الله هداه وأدخله بكل تعاليمه إيمان في قلوبنا إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين :

قال أهل السير والمفسّرون : إن جميع ما غزا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بنفسه ستّ وعشرون غزوة ، وإن جميع سراياه التي بعثها ولم يخرج معها ستّ وثلاثون سريّة .

وقاتل عليه السلام من غزواته في تسع غزوات وهي : بدر ، واُحد ، والخندق ، وبني قريظة ، والمصطلق ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف .

إعلام الورى ج1ص163ب4 انظر: مغازي الواقدي 1: 7، الطبقات الكبرى 2: 5 ـ 6، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 19: 186 | 43.

ونذكر أهمها التي وقع فيها قتال وملاحم : وكانت في البدء سري وغزوات لم يكن فيها قتال يذكر ، ونذكر المهم منها وبمختصر البحث من غير نقل للأقوال المتعددة ، ولا تفاصيل المعارك ، والتفصيل يطلب مما نذكر من المصادر ومن موسوعات السيرة النبوية ، أو من بحار الأنوار .

الإشراق الأول : وقعة بدر العظمى :

وكانت وقعة بدر : يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان ، بعد مقدمه بثمانية عشر شهرا ، وأقبلت قريش مستعدة لقتال رسول الله وعدتهم ألف رجل ، وقيل تسعمائة وخمسون .

وخرج رسول الله في ثلاثمائة ، وقيل : تسعين رجلا منهم من المهاجرين واحد وثمانون ، ومن الأنصار مائتان واثنان وثلاثون رجلا ، ومعه فرسان : فرس للزبير بن العوام ، وفرس : للمقداد بن عمرو البهراني ، ويقال فرس : لمرثد بن أبي مرثد الغنوي ، ومعه سبعون راحلة .

فالتقوا يوم الجمعة : لعشر خلون من شهر رمضان ، فقتل من المسلمين أربعة عشر رجلا ، وقتل من المشركين من سادات قريش سبعون رجلا ، وأسر منهم سبعون رجل . وأخذ الفداء من ثمانية وستين رجلا ، وافتدى العباس نفسه وابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفا لهما من بني فهر . وقال العباس لرسول الله : إنه لا مال لي فدعني أسأل الناس بكفي .

فقال : أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل ؟ يعني لبابة بنت الحارث الهلالية امرأته ، وقلت لها يكون عدة .

فقال : أشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على ذلك غيري وغيره .

تأريخ اليعقوبي 45.

وقتل عليّ عليه السلام ببدر من المشركين : الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان شجاعاً فاتكاً ، والعاص بن سعيد بن العاص بن اُمّية والد سعيد بن العاص ، وطعيمة بن عديّ بن نوفل شجره بالرمح ، وقال : والله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم أبداً ، ونوفل بن خويلد ، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة قبل الهجرة بحبل وعذّبهما يوماً إلى الليل ، وهو عمّ الزبير بن العوّام .

ولمّا أجلت الوقعة قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم :من له علم بنوفل ؟ قال عليه السلام : أنا قتلته ، فكبّر النبي عليه السلام ثمّ قال : الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه .

وروى جابر عن الباقر عن أمير المؤمنين عليهما السلام فقال : لقد تعجّبت يوم بدر من جرأة القوم وقد قتلت الوليد بن عتبة ، إذ أقبل إليّ حنظلة ابن أبي سفيان فلمّا دنا منّي ضربته بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض قتيلاً .

وقتل عليه السلام : زمعة بن الأسود ، والحارث بن زمعة ، وعمير بن عثمان بن كعب ابن تيم عمّ طلحة بن عبيد الله ، وعثمان ومالكاً أخوي طلحة في جماعة ، وهم في ستّة وثلاثين رجلاً .

وقتل حمزة بن عبد المطّلب : شيبة بن ربيعة بن عبد شمس ، والأسود بن عبد الأسود المخزومي ، وقتل عمرو بن الجموح أبا جهل بن هشام ، ضربه بالسيف على رجله فقطعها ودفّف(وهو جريح) عليه عبد لله بن مسعود فذبحه بسيفه من قفاه ، وحمل رأسه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .

واستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلاً منهم :

عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب ، وذو الشمالين عمرو بن نضلة حليف بني زهرة ، ومهجع مولى عمر ، وعمير بن أبي وقّاص ، وصفوان بن أبي البيضار وهؤلاء من المهاجرين ، والباقون من الأنصار .

إعلام الورى ج1ص170ب4 ، إرشاد المفيد 1: 70 ، انظر: المغازي للواقدي 1:51، 145 ـ151، الطبقات الكبرى 2: 17 ـ 18، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 14: 207 ـ209،وسيرة ابن هشام 2: 366 ، وذكر تفاصيلها في وبحار الأنوار ج19.

ثم كانت غزوات معارك في سبيل الله منها :

غزوة السويق ثمّ كانت غزوة ذي أمّر، ثمّ كانت غزوة القردة ماء ، ثمّ كانت غزوة بني قينقاع ، ولمعرفتها بالتفصيل راجع المصادر أعلاه ، وكان أهمه .

الإشراق الثاني : وقـعــــــة معركة أحــــــــد :

وكانت وقعة أحد : في شوال بعد بدر بسنة : اجتمعت قريش واستعدت لطلب ثأرها يوم بدر ، واستعانت بالمال الذي قدم به أبو سفيان ، وقالوا : ل تنفقوا منه شيئا إلا في حرب محمد .

فكتب العباس بن عبدا لمطلب : إلى رسول الله بخبرهم ، وبعث بالكتاب مع رجل من جهينة . فخبر رسول الله أصحابه بخبرهم ، وخرج المشركون وعدتهم ثلاثة آلاف ورئيسهم أبو سفيان بن حرب .

فخرج وخرج المسلمون وعدتهم ألف رجل حتى صاروا إلى أحد .

ووافى المشركون : فاقتتلوا قتالا شديدا .

فقتل حمزة بن عبد المطلب : أسد الله وأسد رسوله ، رماه وحشي عبد لجبير بن مطعم بحربة ، فسقط ومثلت به هند بنت عتبة بن ربيعة ، وشقت عن كبده فأخذت منها قطعة فلاكتها ، وجدعت أنفه ، فجزع عليه رسول الله جزعا شديدا وقال : لن أصاب بمثلك ، وكبر عليه خمسا وسبعين تكبيرة .

وانهزم المسلمون حتى بقي رسول الله وما معه إلا ثلاثة نفر :

علي والزبير وطلحة .

وقال المنافقون : قتل محمد ، ورماه عبد الله بن قمئة فأثر في وجهه .

واقتحم خالد بن الوليد وكان على ميسرة المشركين الثغرة ، فقتل عبد الله بن جبير وجماعة من المسلمين ناشبة ، كان رسول الله صيرهم على تلك الثغرة ، ودخل عسكر رسول الله وفيه كانت هزيمة المسلمين .

وقتل من المسلمين ثمانية وستون رجلا ، ومن المشركين اثنان وعشرون رجلا ، ثم رجع المشركون وفرق الله جمعهم.

تأريخ اليعقوبي 47.وتفصيلها تجده يا طيب في صحيفة حمزة سيد الشهداء ومعركة أحد .

كما وذكروا : أصبح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم متهيّئاً للقتال ، وجعل على راية المهاجرين عليّاً عليه السلام ، وعلى راية الأنصار سعد بن عبادة ، وقعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في راية الأنصار .

ثمّ مرّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : على الرماة ـ وكانوا خمسين رجلاً وعليهم عبد الله بن جبير ـ فوعظهم وذكّرهم وقال : اتّقوا الله واصبروا، وإن رأيتمونا يخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتّى اُرسل إليكم .

وأقامهم : عند رأس الشعب .

وكانت الهزيمة : على المشركين ، وحسّهم المسلمون بالسيوف حسّاً .

فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟

فقال عبد الله : أنسيتم قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أمّا أنا فلا أبرح موقفي الذي عهد إليّ فيه رسول الله ما عهد. فتركوه أمره وعصوه بعد ما رأوا ما يحبّون ، وأقبلوا على الغنائم، فخرج كمين المشركين وعليهم خالد بن الوليد، فانتهى إلى عبد الله بن جبير فقتله.

ثمّ أتى الناس من أدبارهم ووضُع في المسلمين السلاح، فانهزمو .

إعلام الورى ج1ص102ب4ص181 انظر: المغازي للواقدي 1: 229 و 277. وتاريخ الطبري 2: 504 ـ 510، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 20: 93 | 28.

قال الصادق عليه السلام : انهزم الناس عن رسول الله فغضب غضباً شديداً ، وكان إذا غضب انحدر من وجهه وجبتهه مثل اللؤلؤ من العرق .

فنظر فإذا عليّ عليه السلام إلى جنبه فقال : مالك لم تلحق ببني أبيك ؟

فقال عليّ : يا رسول الله أكفر بعد ايمان ! إنّ لي بك اُسوة .

فقال : أمّا لا فاكفني هؤلاء .

فحمل عليّ عليه السلام فضرب أوّل من لقي منهم ، فقال : جبرائيل : إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد .

قال : إنّه منّي وأنا منه .

قال : جبرئيل وأنا منكما .

إعلام الورى ج1ص102ب4ص181 نحوه في: الكافي 8: 110 | 90، الارشاد 1: 85، مناقب ابن شهر آشوب 3: 124، تاريخ الطبري 2: 514، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 20: 95 | ضمن حديث 28.

وثاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جماعة من أصحابه ، واُصيب من المسلمين سبعون رجلاً ، منهم أربعة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطّلب ، وعبد الله بن جحش ، ومصعب بن عمير ، وشماس بن عثمان بن الرشيد، والباقون من الأنصار .

إعلام الورى ج1ص102ب4ص181 ، انظر: المغازي للواقدي1: 300، سيرة ابن هشام 3: 129، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 20: 95 ضمن حديث رقم 28.

وكان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي سفيان وهو على فرس وبيده رمح يجأ به في شدق حمزة فقال : يا معشر بني كنانة انظروا إلى من يزعم أنّه سيّد قريش ما يصنع بابن عمّه الذي قد صار لحماً ـ وأبو سفيان يقول : ذقُ عقق ـ

فقال أبو سفيان : صدقت إنّما كانت منّي زلّة اكتمها عليَّ.

انظر: المناقب لابن شهر آشوب 1: 93، المغازي للواقدي 1: 286، وسيرة ابن هشام 3: 96 ـ 100، وتاريخ الطبري 2: 527، والكامل في التاريخ 2: 160، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 20: 96 ضمن حديث 28.

فلم يجدوا قتيلاً إلاّ وقد مثّلوا به ، إلاّ حنظلة بن أبي عامر ، كان أبوه مع المشركين فتُرك له .

ووجدوا حمزة قد شُقَّتْ بطنه، وجُدع أنفه، وقُطعت اُذناه، واُخذ كبده.

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : من ذلك الرجل الذي تغسّله الملائكة في سفح الجبل ؟ .

فسألوا امرأته فقالت : انّه خرج وهو جنب.

وهو حنظلة بن أبي عامر الغسيل .

انظر: سيرة ابن هشام 3: 79 ـ 101، وتاريخ الطبري 2 : 521 ـ 528 ، ودلائل النبوة للبيهقي 3 : 285 ـ 286 ، والكامل في التاريخ 2: 158 ـ 161، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 20: 98 ضمن حديث 28.

قال : وكانت امرأة من بني النجّار قتل أبوها وزوجها وأخوه مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فدنت من رسول الله والمسلمون قيام على رأسه فقالت لرجل : أحي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟ قال: نعم .

قالت : أستطيع أن أنظر إليه ؟ قال : نعم ، فأوسعوا لها فدنت منه .

وقالت : كلّ مصيبة جلل بعدك ، ثمّ انصرفت .

قال : وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة حين دفن القتلى، فمرّ بدور بني لأشهل وبني ظفر ، فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ ، فترقرقت عينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبكى ثمّ قال:

لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم .

فلمّا سمعها سعد بن معاذ واُسيد بن حضير قالوا : لا تبكينّ امرأة حميمها حتّى تأتي فاطمة فتسعدها .

فلمّا سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الواعية على حمزة وهو عند فاطمة على باب المسجد قال : ارجعن رحمكّن الله فقد آسيتنّ بأنفسكنّ.

المغازي للواقدي 1: 292، وسيرة ابن هشام 3: 104 ـ 105، وتاريخ الطبري 2: 532 ـ 533، والكامل في التاريخ 2: 163، وفيها بني دينار بدل بني النجار. ونقله المجلسي في بحار الأنوار 20: 98 ضمن حديث 28.

ثم كانت بعد أحد عدة غزوات منها :

غزوة حمراء الأسد ,غزوة الرجيع ,غزوة بئر معونة وغزوة بني النضير وغزوة بني لحيان وغزوة ذات الرقاع وغزوة بدر الأخيرة وثم كانت أهمها :

الإشراق الثالث : وقعة الخندق ( الأحزاب ) :

ثم كانت وقعة الخندق : وهي يوم الأحزاب ، في السنة السادسة بعد مقدم رسول الله بالمدينة بخمسة وخمسين شهرا .

وكانت قريش : تبعث إلى اليهود وسائر القبائل فحرضوهم على قتال رسول الله ، فاجتمع خلق من قريش إلى موضع يقال له سلع .

وأشار عليه سلمان الفارسي : أن يحفر خندقا ، فحفر الخندق وجعل لكل قبيلة حدا يحفرون إليه ، وحفر رسول الله معهم حتى فرغ من حفر الخندق وجعل له أبوابا وجعل على الأبواب حرسا من كل قبيلة رجلا ، وجعل عليهم الزبير بن العوام وأمره إن رأى قتالا أن يقاتل . وكانت عدة المسلمين سبعمائة رجل . ووافى المشركون فأنكروا أمر الخندق وقالوا : ما كانت العرب تعرف هذا ، وأقاموا خمسة أيام .

فلما كان اليوم الخامس :

خرج عمرو بن عبدود وأربعة نفر من المشركين : نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، وعكرمة ابن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي .

فخرج علي بن أبي طالب : إلى عمرو بن عبدود ، فبارزه وقتله وانهزم الباقون ، وكبا بنوفل بن عبد الله بن المغيرة فرسه فلحقه علي فقتله .

وبعث الله عز وجل على المشركين ريحا وظلمة ، فانصرفو هاربين لا يلوون على شيء حتى ركب أبو سفيان ناقته وهي معقولة .

وفي هذه الوقعة ظهر النفاق ، وقال المنافقون : تعد يا محمد بقصور كسرى وقيصر ولأحدنا لا يقدر على الغائط ، ما هذا إلا غرور .

فأنزل الله عز وجل سورة الأحزاب ، وقص فيها ما قص .

وقتل يوم الخندق من المسلمين ستة ، ومن المشركين ثمانية.

اللفظ لتأريخ اليعقوبي 50 ، وانظر إعلام الورى ج1ص102ب4ص190 ، تفسير القمي 2: 182، إرشاد المفيد 1: 97، المغازي للواقدي 2: 470، سيرة ابن هشام 3: 235، دلائل النبوة للبيهقي 3: 436.

يا طيب : في هذه الواقعة عرف الله الثابتين والمنافقين ، وقد قصتها سورة الأحزاب ، فعرفت المطهرون ، ومن أرتاب ودخله الشك ، وأنظر الغزوة الآتية لتعرف من لم ينفذ أمر رسول الله وأعترض عليه فراجع قصصهم .

ثم كانت بعدها غزوات وسرايا كثيرة تنشر دين الله وكان أهمها .

الإشراق الـرابع : غــزوة الحـديـبـيــة :

خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : في سنة ستة (6) يريد العمرة ، ومعه ناس وساق من الهدي سبعين بدنة ، وساق أصحابه أيضا ، وخرجوا بالسلاح ، فصدته قريش عن البيت ، فقال : ما خرجت أريد قتالا وإنما أردت زيارة هذا البيت .

وقد كان رسول الله : رأى في المنام أنه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح .

فبعثوا : إليه سهيل بن عمرو ، فكلم رسول الله وأرفقه وقال : نخليها لك من قابل ثلاثة أيام . فأجابهم رسول الله وكتبوا بينهم كتاب الصلح ثلاث سنين ، وتنازعوا بالكتاب لما كتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، حتى كادوا أن يخرجوا إلى الحرب . وقال سهيل بن عمرو والمشركون :

لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك .

وقال المسلمون : لا تمحها . فأمر رسول الله أن يكفوا .

وأمر عليا فكتب : باسمك اللهم ، من محمد بن عبد الله ، وقال : اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي .

وشرطوا : أنهم يخلون مكة له من قابل ثلاثة أيام ويخرجون عنه حتى يدخلها بسلاح الراكب ، وأن الهدنة بينهم ثلاث سنين لا يؤذون أحدا من أصحاب رسول الله ولا يمنعونه من دخول مكة ، ولا يؤذي أحد من أصحاب رسول الله أحدا منهم ، ووضع الكتاب على يد سهيل بن عمرو .

فأمر رسول الله المسلمين أن يحلقوا وينحروا هديهم في الحل .

فامتنعوا وداخل أكثر الناس الريب .

فحلق رسول الله ونحر ، فحلق المسلمون ونحروا .

وانصرف رسول الله إلى المدينة : ثم خرج من قابل ، وهي عمرة القضاء ، فدخل مكة على ناقة بسلاح الراكب ، وأخلتها قريش ثلاثا ، وخلفوا بها حويطب بن عبد العزى ، فاستلم رسول الله الركن بمحجنه ، وصدق الله رسوله الرويأ بالحق.

اللفظ لتأريخ اليعقوبي 54 ، وأنظر إعلام الورى ج1ص102ب4ص203 ، إرشاد المفيد :119، والمناقب لابن شهر آشوب 1: 202،وسيرة ابن هشام 3: 322،وتاريخ اليعقوبي 2: 54، وتاريخ الطبري 628، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 20: 361| 10.

ورجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة وأنزل الله في الطريق سورة الفتح : ( اِنّا فَتَحنا لَكَ فَتحاً مُبيناً ) .

قال الصادق عليه السلام : فما انقضت تلك المدّة حتّى كاد الإسلام يستولي على أهل مكّة .

إعلام الورى ج1ص102ب4ص203 .

ثم كانت وقائع وغزوات وسرايا وكان أهمها :

الإشراق الخـامس : وقــعــة خـيـبـــر :

كانت غزوة خيبر : في ذي الحجّة من سنة ستّ ـ وذكر الواقديّ : أنّها كانت أوّل سنة سبع من الهجرة ـ وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بضعاً وعشرين ليلة ، وبخيبر أربعة عشر ألف يهوديّ في حصونهم ، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يفتتحها حصناً حصنا ً، وكان من أشدّ حصونهم وأكثرها رجالاً القموص .

فأخذ أبو بكر راية المهاجرين فقاتل بها ثمّ رجع منهزماً .

ثمّ أخذها عمر بن الخطّاب من الغد فرجع منهزماً يجبّن الناس ويجبّنونه حتّى ساء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك .

فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لأعطيّن الراية غداً رجلاً كرّاراً غير فرّار، يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ولا يرجع حتّى يفتح الله على يده.

فغدت قريش يقول بعضهم لبعض : أمّا علي فقد كفيتموه فإنّه أرمد لا يبصر موضع قدمه .

وقال عليّ عليه السلام لمّا سمع مقالة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : اللّهم لا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت .

فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واجتمع إليه الناس ، قال سعد : جلست نصب عينيه ، ثمّ جثوت على ركبتي ، ثمّ قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني .

فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أدعو لي عليّاً .

فصاح الناس من كلّ جانب : إنّه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه .

فقال : أرسلوا إليه وادعوه .

فاُتي به يقاد : فوضع رأسه على فخذه ثمّ تفل في عينيه ، فقام وكأنَّ عينيه جزعتان ( خرز يماني ) ، ثمّ أعطاه الراية ودعا له فخرج يهرول هرولة ، فوالله ما بلغت اُخراهم حتّى دخل الحصن .

قال جابر : فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا . وصاح سعد : يا أبا الحسن أربع يلحق بك الناس ، فأقبل حتّى ركزها قريباً من الحصن .

فخرج إليه مرحب في عادية اليهود ، فبارزه فضرب رجله فقطعها وسقط ، وحمل علي والمسلمون عليهم فانهزموا.

إعلام الورى ج1ص102ب4ص209 ، الإرشاد للمفيد 1: 125، والخرائج والجرائح 1: 159 | 249، المغازي للواقدي 2: 653، والطبقات الكبرى 2: 110 ـ 112، سيرة ابن هشام 3: 349، وتاريخ الطبري 3: 11، ودلائل النبوة للبيهقي 4: 209، والكامل في التاريخ 2: 219، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 21 | 17. ، تأريخ اليعقوبي 56.

قال أبان : حدّثني زرارة قال : قال الباقر عليه السلام :

انتهى إلى باب الحصن وقد اُغلق في وجهه فاجتذبه اجتذاباً وتترّس به ، ثمّ حمله على ظهره واقتحم الحصن اقتحاماً ، واقتحم المسلمون والباب على ظهره . قال : فوالله ما لقي عليّ عليه السلام من الناس تحت الباب أشدّ ممّا لقي من الباب ، ثمّ رمى بالباب رميا ً.

وخرج البشير إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أنّ عليّاً دخل الحصن ، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فخرج عليّ يتلقّاه .

فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : قد بلغني نبأك المشكور وصنيعك المذكور ، قد رضي الله عنك ورضيت أنا عنك .

فبكى عليّ عليه السلام . فقال له : ما يبكيك يا علي ؟

فقال: فرحاً بأنّ الله ورسوله عنّي راضيان .

قال : فلمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من خيبر ، عقد لواء ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم : من يقوم إليه فيأخذه بحقّه ؟

وهو يريد أن يبعث به إلى حوائط فدك ، فقام الزبير إليه فقال : أنا ، فقال له : أمط عنه ، ثمّ قام إليه سعد ، فقال : أمط عنه .

ثمّ قال : يا عليّ قم إليه فخذه .

فأخذه : فبعث به إلى فدك ، فصالحهم على أن يحقن دماءهم .

فكانت : حوائط فدك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصّاً خالصاً. فنزل جبرائيل عليه السلام فقال : إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك تؤتي ذا القربى حقّه . فقال : يا جبرائيل ومن قرباي وما حقّها ؟ .

قال : فاطمة فأعطها حوائط فدك ، وما لله ولرسوله فيها .

فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاطمة عليها السلام وكتب لها كتاباً جاءت به بعد موت أبيها إلى أبي بكر وقالت : هذا كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لي ولا بني .

إعلام الورى ج1ص102ب4ص209 ، انظر: سيرة ابن هشام 3: 349 ـ 350، وتاريخ الطبري 3: 13 ـ 14، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 22 | 17.

ـ ولم يعطي لفاطمة عليها السلام أبو بكر فدك ولا أقر لها بحق وقصة معروفة كتبت بها كتب فراجعها ـ.

قال : ولمّا افتتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خيبر أتاه البشير بقدوم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة إلى المدينة ،

فقال: ( ما أدري بأيّهما أنا أسرّ ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ).

نوادر الراوندي: 29، سيرة ابن هشام 4: 3، دلائل النبوة للبيهقي 4: 246، سيرة ابن كثير 3: 390 و 483، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 23 | 17.

ثم كانت سرايا غزوات وكانت أهمها :

الإشراق الســادس : فــتـــح مـــكـــــة :

كان فتح مكة : في شهر رمضان من سنة ثمان ، وذلك أنّ رسول الله لمّا صالح قريشاً عام الحديبية دخلت خزاعة في حلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعهده ، ودخلت كنانة في حلف قريش .

فلمّا مضت سنتان من القضيّة : قعد رجل من كنانة يروي هجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال له رجل من خزاعة : لا تذكر هذا ، قال : وما أنت وذاك ؟ فقال: لئن أعدت لأكسرنّ فاك .

فأعادها ، فرفع الخزاعي يده فضرب بها فاه ، فاستنصر الكناني قومه ، والخزاعي قومه ، وكانت كنانة أكثر فضربوهم حتّى أدخلوهم الحرم ، وقتلو منهم ، وأعانتهم قريش بالكراع والسلاح ، فركب عمرو بن سالم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فخبّره الخبر وقال أبيات شعر ، منها :

لا هـــمّ أنّي ناشدٌ محمّداً حلف أبينا وأبيه الأتـلدا

أنّ قـريشاً أخلفوك الموعـدا ونقضـوا ميثاقك المؤكّدا

وقتلونا ركعاً وسجداً

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : حسبك يا عمرو ، ثمّ قام فدخل دار ميمونة وقال : اسكبوا لي ماء ، فجعل يغتسل ويقول :

لا نصرت إن لم أنصر بني كعب .

ثمّ اجمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على المسير إلى مكّة .

وقال : اللّهمّ خذ العيون عن قريش حتّى نأتيها في بلاده .

إعلام الورى ج1ص102ب4ص216 ، سيرة ابن هشام 4: 32، وتاريخ اليعقوبي 2: 58، وانظر: تاريخ الطبري 2: 4 و 48، والكامل في التاريخ 2: 239، وسيرة ابن كثير 3: 526 و 536، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 124 |22.

وذكر اليعقوبي : كانت خزاعة في عقد رسول الله ، وكنانة في عقد قريش ، فأعانت قريش كنانة ، فأرسلوا مواليهم فوثبوا على خزاعة فقتلوا فيهم ، فجاءت خزاعة إلى رسول الله فشكوا إليه ذلك ، فأحل الله لنبيه قطع المدة التي بينه وبينهم .

وعزم على غزو مكة وقال : اللهم أعم الأخبار عنهم ، يعني قريش .

فكتب حاطب بن أبي بلتعة مع سارة مولاة أبي لهب إلى قريش بخبر رسول الله وما اعتزم عليه .

فنزل جبريل : فأخبره بما فعل حاطب ، فوجه بعلي بن أبي طالب والزبير وقال : خذا الكتاب منها ، فلحقاها وقد كانت تنكبت الطريق ، فوجد الكتاب في شعرها ، وقيل في فرجها . فأتيا به إلى رسول الله .

وخرج رسول الله يوم الجمعة : حين صلى العصر لليلتين خلت من شهر رمضان سنة 8 ، وقيل لعشر مضين من رمضان ، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر . ولقيته القبائل في المواضع التي سماها لهم ، وأمر الناس فأفطرو ، وسمي الذين لم يفطروا العصاة ، ودعا بماء فشربه ، وتلقاه العباس بن عبد المطلب في بعض الطريق .

فلما صار بمر الظهران : خرج أبو سفيان بن حرب يتجسس الأخبار ومعه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء ، وهو يقول لحكيم : ما هذه النيران ؟

فقال : خزاعة أحمشتها الحرب . فقال : خزاعة أقل وأذل .

وسمع صوته العباس فناداه : يا أبا حنظلة

فأجابه ، فقال له : يا أبا الفضل ما هذا الجمع ؟

قال : هذا رسول الله . فأردفه على بغلته ولحقه عمر بن الخطاب ، وقال : الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد . فسبقه العباس إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ، هذا أبو سفيان قد جاء ليسلم طائعا .

فقال له رسول الله : قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وجعل يمتنع من أن يقول : وانك رسول الله ، فصاح به العباس ، فقال .

ثم سأل العباس رسول الله أن يجعل له شرفا وقال إنه يحب الشرف .

فقال رسول الله : من دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن.

وأوقفه العباس حتى رأى جند الله ، فقال له : يا أبا الفضل لقد أوتي ابن أخيك ملكا عظيما . فقال : إنه ليس بملك إنما هي النبوة .

تأريخ اليعقوبي 58.

قال العبّاس : فمرّ خالد بن الوليد فقال أبو سفيان : هذا رسول الله ؟ قال : لا ولكن هذا خالد بن الوليد في المقدّمة ، ثمّ مرّ الزبير في جهينة وأشجع فقال أبو سفيان : يا عبّاس هذا محمّد ؟ قال : لا ، هذا الزبير ، فجعلت الجنود تمرّ به حتّى مرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأنصار .

ثمّ انتهى إليه سعد بن عبادة : بيده راية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا أبا حنظلة .

اليوم يوم الملحمة اليوم تستحلّ الحرمة

يا معشر الأوس والخزرج ثاركم يوم الجبل .

فلمّا سمعها من سعد خلّى العباس ، وسعى إلى رسول الله وزاحم حتّى مرّ تحت الرماح فأخذ غرزه فقبّلها ، ثمّ قال : بأبي أنت واُمّي أما تسمع ما يقول سعد ؟ وذكر ذلك القول .

فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ليس ممّا قال سعد شيء .

ثمّ قال لعليّ عليه السلام : أدرك سعداً فخذ الراية منه وأدخله إدخالاً رفيقاً ، فأخذها علي وأدخلها كما أمر .

اعلام الورى ج1ص223, نقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 127.

وقال اليعقوبي في تاريخه : ومضى أبو سفيان مسرعا حتى دخل مكة فأخبرهم الخبر ، وقال : هو اصطلام إن لم تسلموا ، وقد جعل أن من دخل داري فهو آمن . فوثبوا عليه وقالوا : وما تسع دارك ؟ فقال : ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن . وفتح الله على نبيه وكفاه القتال .

ودخل مكة ودخل أصحابه من أربعة مواضع ، وأحلها الله له ساعة من نهار ثم قال رسول الله فخطب فحرمها . وأسلمت قريش : طوعا وكرها .

وأخذ رسول الله مفتاح البيت : من عثمان بن أبي طلحة وفتح الباب بيده وستره ، ثم دخل البيت فصلى فيه ركعتين ، ثم خرج أخذ بعضادتي الباب ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلله الحمد والملك لا شريك له .

ثم قال : ما تظنون وما أنتم قائلون ؟ قال سهيل : نظن خير ونقول خيرا ، أخ كريم وابن عم كريم ، وقد ظفرت .

قال صلى الله عليه وآله وسلم : فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم . ثم قال : ألا كل دم ومال ومأثرة في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليها ، ألا وإن مكة محرمة بحرمة الله لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد من بعدي ، وإنما حلت لي ساعة ثم أغلقت ، فهي محرمة إلى يوم القيامة لا يختلى خلاه ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ، ألا إن في القتل شبه العمد الدية مغلظة ، والولد للفراش وللعاهر الحجر .

ثم قال : ألا لبئس جيران الذين كنتم فاذهبوا فأنتم الطلقاء .

ودخل مكة بغير إحرام وأمر بلالا أن يصعد على الكعبة فأذن .

فعظم ذلك على قريش ، وقال عكرمة بن أبي جهل وخالد بن أسيد : إن ابن رباح ينهق على الكعبة . وتكلم قوم معهما ، فأرسل إليهم رسول الله . فقالو : قد قلنا ، فنستغفر الله . فقال : ما أدري ما أقول لكم ولكن يحضر الصلاة فمن صلى فسبيل ذلك وإلا قدمته فضربت عنقه .

وأمر بكل ما في الكعبة من صورة فمحيت وغسلت بالماء .

ونادى منادي رسول الله : من كان في بيته صنم فليكسره ، فكسرو الأصنام.

تأريخ اليعقوبي 58.

و روى أحمد بن حنبل و أبو بكر الخطيب في كتابيهما بالإسناد عن نعيم بن حكيم المدائني قال حدثني أبو مريم عن علي بن أبي طالب عليه السلام :

قال انطلق بي : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأصنام .

فقال : اجلس فجلست إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول الله على منكبي ثم قال لي : انهض بي إلى الصنم فنهضت به فلما رأى ضعفي عنه .

قال صلى الله عليه وآله وسلم : اجلس فجلست و أنزلته عني و جلس لي رسول الله ثم قال لي : اصعد يا علي فصعدت على منكبه ، ثم نهض بي رسول الله ، فلما نهض بي ، خيل لي أني لو شئت نلت السماء ، و صعدت على الكعبة ، و تنحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فألقيت صنمهم الأكبر صنم قريش ، و كان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض ... الخبر .

ودعا رسول الله بالنساء فبايعنه . وكانت الخيل يوم الفتح أربعمائة فرس ،

ونزلت عليه سورة : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } النصر1، فقال : نعيت إلي نفسي .

وبعث رسول الله وهو بمكة بسرايا ومنها : مع خالد بن الوليد : إلى بني جذيمة بن عامر ، فقال لهم خالد : ضعوا السلاح . فقالوا : إنا لا نأخذ السلاح على الله ولا على رسوله ونحن مسلمون ، فانظر ما بعثك رسول الله له ، فإن كان بعثك مصدقا فهذه إبلنا وغنمنا فاعد عليها . فانصرف عنهم وأذن القوم وصلو ، فلما كان في السحر شن عليهم الخيل فقتل المقاتلة وسبى الذرية .

فبلغ رسول الله فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ! وبعث علي بن أبي طالب فأدى إليهم ما أخذ منهم حتى العقال وميلغة الكب ، وبعث معه بمال ورد من اليمن فودى القتلى وبقيت معه منه بقية ، فدفعها علي إليهم على أن يحللو رسول الله مما علم ومما لا يعلم .

فقال رسول الله : لما فعلت أحب إلي من حمر النعم ، ويومئذ قال لعلي : فداك أبواي .

وقال عبدالرحمن بن عوف : والله لقد قتل خالد القوم مسلمين .

فقال خالد : إنما قتلتهم بأبيك عوف بن عبد عوف .

فقال له عبد الرحمن : ما قتلت بأبي ولكنك قتلت بعمك الفاكه بن المغيرة.

تأريخ اليعقوبي 58.

الإشراق السابع : وقعة حنين :

ثم كانت وقعة حنين : بلغ رسول الله ، وهو بمكة ، أن هوازن قد جمعت بحنين جمعا كثيرا ورئيسهم مالك بن عوف النصري ، ومعهم دريد ابن الصمة من بني جشم ، شيخ كبير يتبركون برأيه ، وساق مالك مع هوازن أموالهم وحرمهم .

فخرج إليهم رسول الله في جيش عظيم عدتهم اثنا عشر ألفا : عشرة آلاف أصحابه الذين فتح بهم مكة ، وألفان من أهل مكة ممن أسلم طوعا وكرها ، وأخذ من صفوان بن أمية مائة درع ، وقال : عارية مضمونة ، فأعجبت المسلمين كثرتهم ، وقال بعضهم : ما نؤتى من قلة ، فكره رسول الله ذلك من قولهم .

وكانت هوازن قد كنت في الوادي ، فخرجوا على المسلمين .

وكان يوما عظيم الخطب : وانهزم المسلمون عن رسول الله .

حتى بقي في عشرة من بني هاشم ، وقيل تسعة وهم : علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث ، ونوفل بن الحارث ، وربيعة بن الحارث ، وعتبة ، ومعتب ابنا أبي لهب ، والفضل بن العباس ، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، وقيل أيمن بن أم أيمن .

قال الله ، عز وجل : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} التوبة 26.

وأبدى بعض قريش ما كان في نفسه .

فقال أبو سفيان : لا تنتهي والله هزيمتهم دون البحر .

وقال كلدة بن حنبل : اليوم بطل السحر ، وقال شيبة بن عثمان : اليوم أقتل محمدا ، فأراد رسول الله ليقتله فأخذ النبي الحربة منه فأشعرها فؤداه .

فقال رسول الله للعباس : صح يا للأنصار ، وصح يا أهل بيعة الرضوان ، صح يا أصحاب سورة البقرة ، يا أصحاب السمرة .

ثم انفض الناس وفتح الله على نبيه وأيده بجنود من الملائكة ، ومضى علي بن أبي طالب إلى صاحب راية هوازن فقتله ، وكانت الهزيمة .

وقتل من هوازن خلق عظيم ، وسبي منها سبايا كثيرة ، وبلغت عدتهم ألف فارس وبلغت الغنائم اثني عشر ألف ناقة سوى الأسلاب ، وقتل دريد بن الصمة ، فأعظم الناس ذلك .

فقال رسول الله : إلى النار وبئس المصير ! إمام من أئمة الكفر إن لم يكن يعين بيده فإنه يعين برأيه . قتله رجل من بني سليم ، وقتل ذو الخمار سبيع بن الحارث ، فقال رسول الله : أبعده الله إنه كان يبغض قريشا . وصارت السبايا والأموال في أيدي المسلمين وبلغت هزيمة المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف ، وكان جميع من استشهد أربعة نفر .

وجاءت الشيماء بنت حليمة أخت رسول الله من الرضاعة إلى رسول فحباه وأكرمها وبسط لها رداءه ، وكلمته في السبايا وقالت : إنما هن خالاتك وأخواتك .

فقال : ما كان لي ولبني هاشم فقد وهبته لك ، فوهب المسلمون ما كان في أيديهم من السبايا كما فعل إلا الأقرع ابن حابس وعيينة بن حصن ، فخرج لهما عجوز وكلمته في مالك بن عوف النصري رئيس جيش هوازن ، وآمنه ، فجاء مالك فأسلم .

تأريخ اليعقوبي 58. وانظر: سيرة ابن هشام 4: 70، وتاريخ الطبري 3: 71، ودلائل النبوة للبيهقي 5: 114، والكامل في التاريخ 2: 255، المناقب لابن شهر آشوب 1: 211، والكامل في التاريخ 2: 262، وفيها باختلاف يسير، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21:140 ،امالي الصدوق: 146 | 7، وإرشاد المفيد 1: 139، صحيح البخاري 5: 203 كتاب المغازي،تفسير القمي 1: 285، المناقب لابن شهر آشوب 1: 210 ، وكل من فسر الآيات السابقة .

ثم كانت سريا و غزوات أهمها :

الإشراق الثامن : غزوة مؤتة :

وجه صلى الله عليه وآله وسلم : جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة في جيش إلى الشأم لقتال الروم سنة ثمانية (8) من الهجرة ، وخفض له كل رفع حتى رأى مصارعهم .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت سرير جعفر المقدم ، فقلت : يا جبريل إني كنت قدمت زيدا . فقال : إن الله قدم جعفرا لقرابتك .

ونعاهم رسول الله فقال : أنبت الله لجعفر جناحين من زبرجد يطير بهما من الجنة حيث يشاء ، واشتد جزعه وقال : على جعفر فلتبك البواكي ، وتأمر خالد بن الوليد على الجيش .

قالت : أسماء بنت عميس الخثعمية ، وكانت امرأة جعفر وأم ولده جميع : دخل علي رسول الله ، ويدي في عجين ، فقال : يا أسماء أين ولدك ؟ فأتيته بعبد الله ، ومحمد ، وعون ، فأجلسهم جميعا في حجره وضمهم إليه ومسح على رؤوسهم ودمعت عيناه .

فقلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ! لم تفعل بولدي كما تفعل بالأيتام ؟ لعله بلغك عن جعفر شيء ؟ فغلبته العبرة وقال : رحم الله جعفرا !

فصحت : وا ويلاه وا سيداه ! فقال : لا تدعي بويل ولا حرب ، وكل ما قلت فأنت صادقة . فصحت : وا جعفراه !

وسمعت صوتي فاطمة بنت رسول الله ، فجاءت وهي تصيح : وا عماه ! فخرج رسول الله يجر رداءه ، ما يملك عبرته ، وهو يقول : على جعفر فلتبك البواكي ، ثم قال : يا فاطمة اصنعي لعيال جعفر طعاما فإنهم في شغل ، فصنعت لهم طعام ثلاثة أيام ، فصارت سنة في بني هاشم .

وكانت غزوات فيما بين ذلك لم يكن فيها قتال . كان رسول الله يخرج فلا يلقى كيدا وينصرف .

الإشراق التاسع : غزاة تبوك :

سار رسول الله : في جمع كثير إلى تبوك من أرض الشام يطلب بدم جعفر بن أبي طالب ، ووجه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرهم ويرغبهم في الجهاد ، وحض رسول الله أهل الغنى على النفقة ، فأنفقوا نفقات كثيرة وقووا الضعفاء . وقال رسول الله : أفضل الصدقة جهد المقل .

وخرج رسول الله غرة رجب سنة تسعة (9) .

واستخلف عليا على المدينة : واستعمل الزبير على راية المهاجرين وطلحة على الميمنة و عبد الرحمن بن عوف على الميسرة . وخرج النساء والصبيان يودعونه عند الثنية ، فسماها ثنية الوداع .

وسار رسول الله : فأصاب الناس عطش شديد ، فقالوا : ي رسول الله لو دعوت الله لسقانا ، فدعا الله فسقاهم ، وقدم رسول الله تبوك في شعبان فأتاه يحنة بن رؤبة أسقف أيلة ، فصالحه وأعطاه الجزية ، وكتب له كتابا .

وانصرف رسولا الله : فجلس له أصحاب العقبة لينفروا به ناقته ، فقال لحذيفة : نحهم وقل لهم : لتنحن أو لأدعونكم بأسمائكم وأسماء آبائكم وعشائركم ، فصاح بهم حذيفة .

وكان خروجه في رجب وانصرف في شهر رمضان .

وكان حذيفة يقول : إني لأعرف أسماء هم وأسماء آبائهم وقبائلهم .

وكان رسول الله إذا بعث السرايا والجيوش قال : اغزوا بسم الله ، في سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلو وليدا.

تاريخ اليعقوبي 68 .

هذه كانت بعض الأحداث التي مرت على نبي الرحمة وتبين دوره في تبيلغ رسالة ربه عن تاريخ اليعقوبي ، وأنظر ما مرّ من المصادر أعلاه ، فإنه كلهم ذكروا هذه الأحداث وهذا ملخصها وكل منهم له أسلوبه فراجع ، وهكذا بالنسبة للأحداث الآتية . وعرفت بما مر جهاد النبي الأكرم في المدينة المنورة ، وجده في سبيل نشر دين الله وتبليغ هداه بكل وجوده مع عمره الكبير نسبيا بالنسبة لحمل السلاح والجهاد ، ولكنه كان يتابع الأحداث ويبلغ دينه وينشر تعليمه بكل م يمكنه من قطع دابر الكفر والإلحاد ورفع الشرك والنفاق .

وقد عرفت في هذه الأحداث : إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام والأنصار كانوا ساعده الأيمن ، فعرفت من ثبت معه وكان قائد جيشه والمحامي عنه في كل الموقف ، كما وعرف إنه ظهرت شوكة للمنافقين الذي كان مع رسول الله في غزوة الخندق والحديبية وخيبر وحنين وتبوك وغيرهن ، وكيف وصل الأمر لأن يتجرءو حتى حاولوا قتل رسول الله لولا إخبار جبرائيل عليه السلام له ، وهذا الطابور المنافق قوى مع الأسف وسترى في أخر هذه الصحيفة بعض أحادثه مع الثابتين مع الله وكيف نحوهم عن خلافة رسول الله وسيطروا على الحكم وخلافة المسلمين .

وما ذلك : إلا لأن الله يختبر عباده ويريد أن يعرف المخلص الثابت في كل الظروف في النصر والغلبة أو غيرها ، ويريد من المؤمنين تشخيص أهل الدين الخالص وعباده المؤمنين وأخذ دينه منهم ، ومن خلال معرفة الإسلام وهداه وتأريخه ، ومن كان يتحين الفرص ليضل الناس ويبعدهم عن أئمة الحق . فتابع البحوث يا طيب : وهذا دور آخر ومرحلة أخرى من جهاد النبي الأكرم وصحبه الطيبون معه نتدبر به لتعرف ثباته وعلو همته على تبلغ دين الله وشأنه الكريم في تعريف هدى الله ، حتى لترى إنه كان بحق مبعوث من الله ومرافقة له عناية الله لتعريف دينه ، مع تمكينه من الخلق العظيم والأدب الكريم لنشر دعوته.

الذكر الثالث
أحداث إسلامية تعرفنا ثبات وجهاد نبين لأكرم لتبليغ رسالته

والأحداث في إشراقات نور و هي :

الإشراق الأول : أمراءه على الحاج ونزول سورة براءة :

وأميره على الموسم : والناس بعد على الشرك ، عتاب بن أسيد ، فوقف عتاب بالمسلمين ، ووقف المشركون على حدتهم .

وأبو بكر أميره على الموسم : في سنة تسعة (9) وبعض الناس مشركون ، فوقف أبو بكر بالمسلمين ، ووقف المشركون ناحية على مواقفهم .

وفي تلك السنة وجه على بن أبي طالب : بسورة براءة فأخذها من أبي بكر . فقال أبو بكر : يا رسول الله ! هل نزل في شيء ؟

فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا ، ولكن جبريل قال لي :

لا يبلغ هذا إلا أنت أو رجل من أهلك .

فقرأها على أهل مكة ، ويقال قرأها على سقاية زمزم .

وأمن فنادى علي : أن من كان له عهد من رسول الله في تأجيله أربعة أشهر فهو على عهده ، ومن لم يكن له عنده عهد فقد أجله خمسين ليلة.

اليعقوبي 59 ، راجع بيانها في تفسير سورة براءة وكل الآيات النازلة في الفتح في تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي رحمه الله وغيره من التفاسير فانظر : تفسير العياشي 2 : 73 | 4 ، إرشاد المفيد 1 : 65 ، سيرة ابن هشام 4 : 190 ـ191 ، مسند أحمد 1 : 151 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 76 ، خصائص النسائي : 92 | 76 ،تاريخ الطبري 3 : 123 ، تفسير الطبري 10 : 46 ، مستدرك الحاكم 3 : 52 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 296 ـ 298 ، مناقب الخوارزمي : 100 و 101 ، كفاية الطالب : 254 ، الدر المنثور 4 : 122 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 274 | 9 .

يا طيب : فصلنا البحث شأن نزول سورة براءة في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام في موسوعة صحف الطيبين فراجع .

الإشراق الثاني : كتبه إلى الملوك ورؤساء القبائل :

وجه رسول الله إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام :

فوجه : عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ، وكتب إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله إلى الناس كافة لينذر من كان حي ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم ، فإن أبيت فإن عليك أثام المجوس.

وكتب إليه كسرى كتابا : جعله بين سرقستي حرير وجعل فيهما مسك ، فلما دفعه الرسول إلى النبي فتحه فأخذ قبضة من المسك فشمه وناوله أصحابه.

وقال : لا حاجة لنا في هذا الحرير ، ليس من لباسنا .

وقال : لتدخلن في أمري أو لآتينك بنفسي ومن معي وأمر الله أسرع من ذلك . فأما كتابك فأنا أعلم به منك ، فيه كذا وكذا ، ولم يفتحه ولم يقرأه .

ورجع : الرسول إلى كسرى فأخبره ، وقد قيل : إن كسرى لما وصل إليه كتاب وكان راع أدم قده شتورا .

فقال رسول الله : يمزق الله ملكهم كل ممزق .

ووجه دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر وكتب إليه :

بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى .

أما بعد : فإني أدعوك بداعية الإسلام ، فأسلم تسلم ، ويؤتك الله أجرك مرتين ، قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولو فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ، فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين .

فكتب هرقل : إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى من قيصر ملك الروم : إنه جاءني كتابك مع رسولك ، وإني أشهد أنك رسول الله نجدك عندنا في الإنجيل ، بشرنا بك عيسى بن مريم ، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا ، ولو أطاعوني لكان خيرا لهم ، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك .

فقال رسول الله : يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم .

ووجه : عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ، وشجاع بن وهب إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني ، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية ، وجرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري ، والعلاء بن الحضرمي إلىالمنذر بن ساوى من بني تميم بالبحرين ، وعمار بن ياسر إلى الأيهم بن النعمان الغساني ، وسليط بن عمرو بن عبد شمس العامري إلى ابني هوذة بن علي الحنفي باليمامة ، والمهاجر بن أبي أمية إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ، وخالد بن الوليد إلى الديان وبني قنان ، وعمرو بن العاص إلى جيفر ، وعباد ابني الجلندا إلى عمان ، وسليم بن عمرو الأنصاري إلى حضرموت .

وكتب إليهم جميعا بمثل ما كتب به إلى كسرى وقيصر .

تأريخ اليعقوبي 77. أنظر المصادر في الأمر الآتي .

الإشراق الثالث : وفود العرب الذين قدمو على رسول الله :

وقدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله : وفود العرب ـ ولكل قبيلة رئيس يتقدمهم ، فقدمت :

مزينة : ورئيسهم خزاعي بن عبد نهم ، وأشجع : ورئيسهم عبد الله بن مالك ، وأسلم : ورئيسهم بريدة ، وسليم : ورئيسهم وقاص بن قمامة ، وبنو ليث : ورئيسهم الصعب بن جثامة ، وفزارة : ورئيسهم عيينة بن حصن ، وبنو بكر : ورئيسهم عدي بن شراحيل ، وطي : ورئيسهم عدي بن حاتم ، وبجيلة : ورئيسهم قيس ابن غربة ، والأزد : ورئيسهم صرد بن عبد الله ، وخثعم : ورئيسهم عميس بن عمرو ، ووفد نفر من طي : ورئيسهم زيد بن مهلهل وهو زيد الخيل ، وبنو شيبان : و عبد القيس ورئيسهم الأشج العصري ، ثم وفد الجارود ابن المعلى فولاه رسول الله على قومه .

وأوفدت ملوك حمير بإسلامهم وفوداً ، وهم : الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال ، والنعمان قيل ذي رعين ، وكتبوا إليه بإسلامهم فبعث إليهم معاذ بن جبل ، وعكل : ورئيسها خزيمة بن عاصم ، وجذام : ورئيسها فروة بن عمرو .

وحضرموت : ورئيسها وائل بن حجر الحضرمي ، والضباب : ورئيسها ذو الجوشن ، وبنو أسد : ورئيسها ضرار بن الأزور وقيل نقادة بن العايف ، وعامر بن الطفيل في : بني عامر فرجع ولم يسلم ، وأربد ابن قيس رجع ولم بسلم .

وبنو الحارث بن كعب ورئيسهم : يزيد بن عبد المدان ، وبنو تميم : وعليهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم ومالك ابن نويرة ، وبنو نهد : وعليهم أبو ليلى خالد بن الصقعب ، وكنانة : ورئيسهم قطن وأنس ابنا حارثة من بني عليم ، وهمدان : ورئيسهم ضمام بن مالك ، وثمالة و: الحدان : فخذ من الأزد ورئيسهم مسلمة بن هزان الحداني ، وباهلة : ورئيسهم مطرف بن كاهن الباهلي ، وبنو حنيفة : ومعهم مسيلمة بن حبيب الحنفي ، ومراد : ورئيسهم فروة بن مسيك ، ومهرة : ورئيسهم مهري بن الأبيض .

وكتب إلى رؤساء القبائل يدعوهم إلى الإسلام .

كتاب النبي صلى الله عليه وآله :

وكان كتابه :الذين يكتبون الوحي والكتب والعهود . علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان ، وعمرو بن العاص ابن أمية ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وحنظلة بن الربيع ، وأبني بن كعب ، وجهيم بن الصلت ، والحصين النميري.

اللفظ لتأريخ اليعقوبي 79 وأنظر سيرة ابن هشام ج4 ، تاريخ الطبري 3 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 ، الكامل في التأريخ 2 ، المجلسي في بحار الأنوار ج : 21 ، والبداية والنهاية 5 ، تاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) : 679 ، عيون الأثر 2 : 236 .

الإشراق الرابع : كتاب النبي إلى أهالي نجران وقصة المباهلة :

وكتب صلى الله عليه وآله وسلم إلى نجران : بسم الله ، من محمد رسول الله ، إلى أسقفه نجران : بسم الله .

فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب .

أما بعد : ذلكم فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام .

وقدم عليه أهل نجران : ورئيسهم أبو حارثة الأسقف ، ومعه العاقب والسيد وعبد المسيح وكوز وقيس والايهم ، فوردوا على رسول الله .

فلما دخلوا أظهروا الديباج والصلب ودخلوا بهيئة لم يدخل بها أحد .

فقال رسول الله : دعوهم ، فلقوا رسول الله فدارسوه يومهم وساءلوه ما شاء الله . فقال أبو حارثة : يا محمد ! ما تقول في المسيح ؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم : هو عبد الله ورسوله .

فقال : تعالى الله عما قلت ، يا أبا القاسم هو كذا وكذا .

ونزل فيهم : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (60)

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} آل عمران .

فرضوا بالمباهلة .

فلما أصبحوا قال أبو حارثة : انظروا من جاء معه .

وغدا رسول الله آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وعلي بن أبي طالب بين يديه .

وغدا العاقب والسيد بابنين لهما : عليهما الدر والحلي وقد حفوا بأبي حارثة . فقال أبو حارثة : من هؤلاء معه ؟

قالوا : هذا ابن عمه وهذه ابنته وهذان ابناها . فجثا رسول الله على ركبتيه ثم ركع .

فقال أبو حارثة : جثا والله كما يجثو النبيون للمباهلة .

فقال له السيد : ادن يا أبا حارثة للمباهلة .

فقال : إني أرى رجلا حريا على المباهلة ، وإني أخاف أن يكون صادق ، فإن كان صادقا لم يحل الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الطعام .

قال أبو حارثة : يا أبا القاسم لا نباهلك ولكنا نعطيك الجزية .

فصالحهم رسول الله على ألفي حلة من حلل الأواقي ، قيمة كل حلة أربعون درهما فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك .

تأريخ اليعقوبي 82 ، وأنظر إعلام الورى ج1ص255،إرشاد المفيد 1: 166، مجمع البيان 1: 451، سيرة ابن هشام 2: 222، الطبقات الكبرى 1: 357، دلائل النبوة للبيهقي 5: 382، الكامل في التاريخ 2: 93، البداية والنهاية 5: 54، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 336 | 2 ، وكل من فسر آية المباهلة أو روى شأن نزولها وسيأتي بعض الكلام عنها في الإمامة .

يا طيب : قد فصلنا البحث في قصة المباهلة فراجعها في صحف موسوعة صحف الطيبين .

الإشراق الخامس : تشرف أهل اليمن بإســلام :

وقد كان بعث قبله رسول الله عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه .

قال البراء : فكنت مع عليّ عليه السلام ، فلمّا دنونا من القوم خرجوا إلينا ، فصلى بنا عليّ ثمّ صففنا صفّاً واحداً ، ثمّ تقدّم بين أيدين فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فأسلمت همدان كلّها .

فكتب عليّ عليه السلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فلمّا قرأ الكتاب خرّ ساجداً ثمّ رفع رأسه فقال : السلام على همدان .

أخرجه البخاري في الصحيح.

صحيح البخاري 5: 206 مختصراً من وجه آخر عن إبراهيم بن يوسف، وكذ ذكر البيهقي عند نقله للرواية أعلاه.

وروى الأعمش عن عمرو بن مرّة، عن أبي البختري ، عن عليّ عليه السلام قال : بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى اليمن ، قلت: يا رسول الله، تبعثني وأنا شابٌ اقضي بينهم ولا أدري ما القضاء ؟!

قال : فضرب بيده في صدري وقال : اللّهم اهد قلبه ، وثبّت لسانه ، فو الذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين.

إرشاد المفيد 1: 194، كشف الغمة 1: 114، الطبقات الكبرى 2: 337، سنن ابن ماجه 2: 774|2310، الأنساب للبلاذري 2: 101 | 33، خصائص النسائي 56 | 32 36 ، مستدرك الحاكم 3 | 135 ، سنن البيهقي 10 : 86 ، دلائل النبوة للبيهقي 5: 397، الاستيعاب 3: 36، تاريخ بغداد 12: 444، مناقب ابن المغازلي: 249 | 298، مناقب الخوازمي: 41، كفاية الطالب: 106، فرائد السمطين 1: 167.

الإشراق السادس: حجة الوداع وبيعة الغدير للإمام علي:

وحج رسول الله حجة الوداع : سنة عشرة (10) ، وهي حجة الإسلام . خرج رسول الله من المدينة ، حتى أتى ذا الحليفة وقد لبس ثوبين صحاريين إزار ورداء .

وقيل : خرج من المدينة وقد لبس الثوبين ، ودخل المسجد بذي الحليفة وصلى ركعتين وكان نساؤه جميعا معه ، ثم خرج من المسجد فأشعر بدنه من الجانب الأيمن ثم ركب ناقته القصوى فلما استوت به على البيداء ، أهل بالحج .

وقال الواقدي في إسناده عن سعد بن أبي وقاص قال : أهل رسول الله متمتعا بالعمرة إلى الحج ، وقال بعضهم بالحج مفردا . وقال بعضهم بحجة وعمرة.

ودخل مكة نهارا من كداء ، وهي عقبة المدنيين ، على راحلته حتى انتهى إلى البيت .

فلما رأى البيت رفع يديه فوق زمام ناقته وبدأ بالطواف قبل الصلاة .

وخطب قبل التروية بيوم : بعد الظهر ويوم عرفة ، حين زالت الشمس ، على راحلته قبل الصلاة من غد يوم منى . فقال في خطبته :

نضر الله وجه عبد سمع مقالتي فوعاها وحفظها ثم بلغها من لم يسمعه ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .

ثلاث لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لائمة الحق ، واللزوم لجماعة المؤمنين ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم .

ودعا بالبدن : فصفت بين يديه وكانت مائة بدنة ، فنحر منه بيده ستين بدنة ، وقيل أربعا وستين .

وأعطى عليا سائرها : فنحرها وأخذ من كل ناقة بضعة ، فجمعت في قدر واحدة فطبخت بالماء والملح ، ثم أكل هو وعلي ، وحسا من المرق ، ورمى جمرة العقبة على ناقته…

وخرج ليلا منصرفا إلى المدينة : فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة يقال له :

غدير خم ، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة .

وقام خطيبا وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله !

قال : فمن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .

ثم قال : أيها الناس أني فرطكم وأنتم واردي على الحوض ، وإني سائلكم ، حين تردون علي ، عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما .

وقالوا : وما الثقلان يا رسول الله ؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم : الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به ولا تضلوا ، ولا تبدلوا ، وعترتي أهل بيتي .

تأريخ اليعقوبي 109 ـ 112. انظر: إرشاد المفيد 1: 171، قصص الأنبياء للراوندي: 355 | 431، صحيح مسلم 2: 888، سيرة ابن هشام 4: 249، دلائل النبوة للبيهقي 5: 399، أحكام القرآن للقرطبي 2: 370 ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 383 | ، 10 ، 389 | 12. وسيأتي التفصيل في الإمامة ، وبحوث الغدير من موسوعة صحف الطيبين مع محاضرات للمؤلف تشرحها .

يا طيب : هذه أهم الأحداث والوقائع التي كانت للنبي الكريم في المدينة المنورة ، حتى حجة الوداع وتوفد الوفود عليه ، وبها نعرف جده وجهاده لتبليغ الرسالة الربانية ، وتدبيره بكل ما يمكن من أجل إدخال الناس في عبودية الرب وتعليمهم معارفه ، حتى إنه بأمر الله الذي خصه بكتابه الكريم أمر أن يجعل لتعاليمه من يكون محافظ عليها ولئلا يفسر القرآن بالرأي والقياس ولا بأفكار الناس ، ولذ قرن من كان ملازم لنبي الرحمة من طفولته حتى أخر لحظة من عمره الشريف كما عرفت وسترى ، بل كان من قبل النبي في بيت أبي طالب أبو علي عليهم الصلاة والسلام .

وهذا فضل من الله على أهل البيت وعلينا : إذ عرفنا دينه وهداه الذي جاهد من أجله رسول الله ، ولم يهمل العباد يختلفون بعد ختم النبوة ، ونسأل الله أن يمن علينا بمعرفة هداه من أهل النعيم وأصحاب الصراط المستقيم الذين علمهم الله وجعلهم أهلا لتبليغ رسالته بكل همة وعزم وقوة .

فعرفهم لنا ولكل الناس بكل عمل صالح وشريف وكامل في صفاتهم وسلوكهم .

فنسأله سبحانه أن يجعلنا منهم ومعهم في كل نعيم هدى وملك حلال طيب في الدنيا والآخرة ، إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .


الباب السادس
ذكر أوصاف نبينا الأكرم وسلوكه وخُلقه وآدابه وسننه وخصائصه الشريفة

في هذا الباب : نتعرف على سيرة وسلوك نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته الشخصية وخُلقه الكريم وآدابه في نفسه ومع صحبه ، وفي ملبسه ومأكله ومشربه ومشيه وجلوسه وكل ما تعلق به ، فنعرف به نور الخُلق العظيم الإلهي والرحمة الربانية لتعليم البشر الحياة الطيبة المطمئنة الكريمة حقاً .

تذكرة : بأنوار تجلي الرحمة الربانية لهداية العباد :

قال الله سبحانه وتعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } القلم 4.

قال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).

فلذا يا طيب : من عرّفه الله بالخُلق العظيم وكونه بر رحيم ورحمة للعالمين بكلامه وفي كثير من الآيات المجيدة ، وبحق ظهر بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب والصفات وبكل وجوده علما وعملا وسيرة وسلوكاً ، وكان بحق دليل على نور الله في أرضه ورحمة هدى لعباده ، وبهذه المواصفات الحميدة كان نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قدوة الوجود وأسوة البشر للوصول لرحمة الرب المعبود ، لأنه قد ربي بيد القدرة الإلهية والحكمة الربانية ، ورعاه وأهتم بشأنه الله في عالم الذر والآباء وفي حياته كلها حتى الجنة ، فكان أشرف موجود وغاية الوجود ، وبمعرفته ومعرفة صفاته الكريمة وسيرته وخصائصه يٌعرف التقى والإيمان ، ويُعرف رضى الله الرب الرحمان وصراطه المستقيم وتوحيده واليقين به وإقامة العبودية والإخلاص له ، فهو عين ظهور نور الهدى والإيمان .

فإنه كان صلى اله عليه وآله وسلم خُلقه ونطقه وصفاته القرآن الكريم : فهو رحمة للمؤمنين لمن يقتدي به ، ونقمه على أعداء الله والكافرين ، ولكنه لم يعتدي ولم يخن ولم يغدر ولم يظلم ولم يغل ، فإنه كان يدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل الناس بالتي هي أحسن ، فأسلمت له الجزيرة العربية طوعاً وقريش طوع وكرهاً ، وكلا حسب طلب لله وإخلاصه له ، عصمه الله من الضلال والمعصية وهداه لدينه القيم ومكنه من إقامته وحب ربه وشكره فسعد بنفسه حسب جده.

فإنه صلى الله عليه وآله وسلم : كان المصداق الكامل والحي والنابض بالتطبيق للصفات الإلهية في الرحمة والنعمة والكرم والنور والهدى واللطف والرأفة والعزة والمنعة للمؤمنين بل كان رحمة للعالمين ، وكذا كان تجسيده لنقمة الله وعذابه للكافرين والمنافقين ، وبحبه يُعرف الله ويتم الإيمان ، وبنوره وهداه يُعرف هدى الله ونوره ، فهو صراط الله المستقيم والنعمة الكبرى للبشرية كلها .

فمن حبه حب الله ، ومن أطاعه أطاع الله ، ومن والاه والى الله ، ومن قبل منه قبل من الله2 تعالى ، ومن رضي عنه رضي عن الله ، وكذلك من عصاه عصى الله ، ومن ضل عنه ضل عن الله ، ومن فارقه فارق الله ، فهو دين الله والإسلام كله علما وظهورا وتطبيقا ، وبه يُعرف وبه يُصل لتعاليمه .

وقد عرفت في الأبواب السابقة براهين كريمة وشواهد عزيزة تعرفن بحق ضرورة وجوده العظيم وبعثته الشريفة ، وبعض الأمور الخاصة في سيرته الحسنة وشأنه الكبير وعلو منزلته ومقامه عند الله ، وثباته في نشر رسالته وجهاده في تبليغه دعوته الربانية .

والآن نذكر لك يا طيب : بعض الأمور الخاصة والمتعلقة بشخصه الكريم من صفاته وخُلقه وخصائصه وسُننه لتعرف فضله الكريم ، وخُلقه العظيم حيث ترى حقائق ما يمدحه الله تعالى به ونور ما يفتخر به المؤمنون المنتسبون له.

وبها نعرف : إن خُلق نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو عين العمل الصالح والسباق للخيرات والإيمان الخالص ، تحدث عنه كل صحبه وكان له أكبر الأثر في تربية المسلمين فضلاً عن قبولهم لدينه والدفاع عنه ونشره والجهاد في سبيله ، بل كان يسمى صلاة الله وسلامه قبل البعثة بالصادق الأمين ، وفي حياته معهم كانوا يتسابقون لمعرفة صفاته وخُلقه ومتابعة حركاته وسكناته لكي يتصفوا بها ويأخذوها دستور علما وعملا وحياة يستنون بها ويقتدون به .

فهو صلى الله عليه وآله وسلم : كما قال الله تعالى { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) } الأنبياء .

وسنعرف هنا في هذا الباب : علو منزلته واهتمام رب العالمين به ورعايته وتربيته ، ليربي أهل الوجود من الجن والإنس به معارف دينه القيم عملا، ويسلك بهم بتوسطه لرضاه وعبوديته ولسعادة الدنيا والآخرة الأبدية ، فتدبرها فإنه نور الله وهداه ونذكرها على نحو الإجمال والاختصار في بحوث فيها أمور .

الذكر الأول
تعريف الله وآل نبينا وصحبة لخلُقه العظيم وآدابه الربانية

وفيه إشراقات نور :

الإشراق الأول : تعريف ربنا لخُلق نبين ووجوب التأسي به :

قال الله تعالى :إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم 4 ولا يوجد وصف أحسن منه ، وهذه أوصاف متتالية لنبنا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم عرفنا بها رب العزة فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا }الأحزاب 46 . يُعرف الله ودينه وآدابه وهداه لعباده فينور وجودهم، وبجد وبكل أخلاص حتى قال تعالى :

{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } التوبة 128 . { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّ غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }آل عمران 159. فهو نور رحمة ويُطهر المؤمنين ويزكيهم ويجعلهم ينفقون في سبيل الله فيصل الغني الفقير ويساعد كل من سعته لنشر دين الله كما قال تعالى بمعارفه:

{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً : تُطَهِّرُهُمْ ، وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } التوبة 103 . يهبهم الاطمئنان الذي يسكن قلوبهم ويطيب وجودهم بالطيبات والمعروف ويطهرهم بتحريم المنكر والخبائث ، كما علمه الله وأدبه ليرنا نوره وبره وإحسانه في كل عباده له وتعليما وعملا إذ قال تعالى :{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ : الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157). قُلْ يَاأَيُّهَ النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) }الأعراف . فهذا رسول الله نبينا الأكرم محمد : صلى الله عليه وآله وسلم وخُلقه العظيم الذي يُطهر البشر ، فهو الشاهد والمبشر والنذير والداعي إلى الله والسراج المنير بحق ، يأمرهم بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويرفع الخبائث وكل رجس ، ومع اللين واللطف الرحيم المزكي لمن أتبعه والمطهر لمؤمنين فهو كما قال تعالى :

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } الأنبياء 107 ، فهو صلى الله عليه وآله وسلم من منن الله ونعيمه الأعظم علينا لذا قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } آل عمران 164 . وهو تعالى قال : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } الحديد 9 .

وفي الحقيقة كل ما في القرآن كريم من أوامر ونواهي هي من خلق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو كان أول عامل بها ومصداقها الحقيقي وفرده الذي لا ينازع ، فكان صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بأمر إلا ويكون هو المجري له والعامل به ثم الآمر به ، فهو تطبيق للقرآن المجيد في كل حركاته وسكناته وأقواله حتى قال تعالى في حقه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } النجم5 { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }الحشر7.

ولهذا أو جب الله علينا طاعته والإقتداء به وجعله أسوة لنا فقال سبحانه : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } الأحزاب 21 ، وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } آل عمران 31 . وهكذا كما يجب إتباعه وطاعته بحق لمن يحب الله فيجب أن يتحلى بها ، كذلك يجب معرفته من آله الكرام وطاعتهم وحبهم مثله ، فهم ولاة الأمر بعده كما عرفهم سبحانه فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } النساء 59 .

وهذا الولي بعد الله والنبي : قد عرفته في ملازمته له من صغره وفي نصره له في كل حروب الدين ، ولهذا قال الله تعالى يعرّف شأن نفقة طاهرة له في أعز عبادة وأكرم حالة في التوجه له ، فيعرّف ولايته حيث قال سبحانه :

{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُو الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ(56) } المائدة . فهذا حزب النبي الكريم يغلب كل ما يبعد عن الله ويتطهر لأنه يتبع الطاهرون الذي طهرهم الله حيث قال تعالى { إِنَّمَ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } الأحزاب . ولذا يجب أن نتصل بهم ونُصلي عليهم كما أمرن الله وعلمنا رسوله كيف أن نُصلي عليهم ، فنتصل بهم ونحصل على رحمة الله بمعرفتهم وما عرفوه من خُلق النبي وهداه من سيرته وسلوكه وخُلقه وصفاته الكريمة كما سترى وحيث قال سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) } الأحزاب . ومن كان هذا حاله في معرفة الاتصال بالنبي وآله ووصلهم والصلاة عليهم فله يكون ما قال تعالى :

{ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } الزمر .

فهذه وراثة الجنة لمن تعلم وتوصف بصفات وخُلق النبي وآله بم عرفوه ، فيحسن وجوده فيحف بهم حول عرش الله ، بل له مع وليه وراثة الأرض كما قال تعالى :{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) }الأنبياء .

فإنه دين متكامل قد حفظه الله وحافظ عليه بكل ما يمكن من المعارف والتعاليم ، والتي من ظهر بها كان وارث الجنة والأرض بإيمانه وسكنه في النعيم ، فمن تبع ولي دينه يملك معه في الدنيا وراثة طيبة من الله كما يملك في الآخرة .

وإذا عرفت يا طيب هذه المعارف الخُلقية التي عرفها الله لنبين وآله المطهرون وصراط معرفتها، نذكر وصفهم وتعريفهم له ببعض التفاصيل ، فنبدأ بذكر ما عرفه خليفته بالحق الإمام علي عليه السلام ثم سبطاه ثم صحبه الكرام . ونسأل الله أن يُعرفنا بها بحق المعرفة ويحلينا بها بحق حتى يرضى عنا ويجعلنا معه في الدنيا والآخرة إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الإشراق الثاني : حكيم الإسلام وربيب نبي الرحمة يصفه :

يا طيب : عرفت ملازمة الإمام علي عليه السلام لنبي الرحمة المؤدب بآداب الله ذو الخلق العظيم من طفولته وفي شبابه وفي حله وترحاله وفي حروبه وسكنه ، فهو أعرف الناس به بل النبي عرفت إنه كان يكرمه في كل أمر حتى لم يجعل قائد عليه ولا جعله تحت لواء أحد ، بل هو قائد ومبلغ عنه بأمر الله كما عرفت .

وإذا عرّف نبينا الكريم بعد الله وكلامه المجيد : من يكون هذا حاله وهو من أهل البيت المطهر وولي الدين ، فتعرف بحق إنه يقول صدقا وينطق حقا في تعريف نبيه وأخيه وسيده الكريم ، ولذا يجب أن نؤمن بما يقول ونتخذه حجة علينا في تعريف نبي الله وخُلقه الكريم وآدابه الحسنة ، ويجب أن نتخذه دين ، وبهذ يجب أن يكون معرفته منه بعد تعريف الله لنبي الرحمة ، وهو الحجة علينا فيجب الإقتداء والتأسي بالنبي بما نعرف من هذه الأوصاف والأخلاق الكريمة له وصراطها المستقيم ، وبه واقعا يتبين لنا بعض أوصافه الكريمة صلى الله عليه وآله وسلم بحق وصدق :

ومن خطبة للإمام علي عليه السلام قال :

وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله : كَافٍ لَكَ فِي الأُسْوَةِ وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا ، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا ، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا ، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا(1) وَفُطِمَ مِنْ رَضَاعِهَا ، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا .

………

فَتَأَسَّ(2) بِنَبِيِّكَ الأطْيَبِ الأطْهَرِ صلى الله عليه وآله : فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى ، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى ، وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ ، وَالْمُقْتَصُّ لأثَرِهِ .

قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً(3) : وَلَمْ يُعِرْهَ طَرْفاً ، أَهْضَمُ(4) أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً(5) وَأَخْمَصُهُمْ(6) مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً ، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا ، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ .

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاَّ : حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ ، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ ؛ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً للهِِ ، وَمُحَادَّةً(7) عَنْ أَمْرِ اللهِ .

وَلَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وآله : يَأْكُلُ عَلَى الأرض ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ ، وَيَخْصِفُ بَيَدِهِ نَعْلَهُ(8) ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ (9) وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ(10) وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: يَا فُلاَنَةُ ـ لإحْدَى أَزْوَاجِهِ ـ غَيِّبِيهِ عَنِّي ، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَ .

فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ : وَأَمَاتَ ذِكْرَهَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً(11) وَلاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً ، وَلاَ يَرْجُو فِيهَا مُقَاماً ، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ ، وَأَشْخَصَهَا(12) عَنِ الْقَلْبِ ، وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ . وَكَذلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ .

وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله مَ يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِىءِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا : إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ(13) وَزُوِيَتْ عَنْهُ(14) زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ(15).

فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ : أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ !

فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ ، فَقَدْ كَذَبَ وَاللهِ الْعَظِيمِ .

وَإِنْ قَالَ : أَكْرَمَهُ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ ، حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ .

فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ : وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ ، وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ ، فَإِنَّ اللهَ عزّ وجلّ جَعَلَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله ، عَلَماً لِلسَّاعَةِ(16) ، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ ، وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ .

خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً(17) وَوَرَدَ الآخرة سَلِيماً ، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ ، وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّه ِ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَ بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ ، وَقَائِداً نَطأُ عَقِبَهُ(18) ) .

بيان : (1) الاَكناف: الجوانب. وزَوَى: قبض.(2) تأسّ: أي اقْتَدِ.(3) القَضْم: الآكل بأطراف الأسنان، كأنه لم يتناول إلاّ على أطراف أسنانه، ولم يملاَ منها فمه.(4) أهْضَمُ: من الهضم وهو خمص البطن، أي خلوها وانطباقها من الجوع.

(5)الكَشْح: ما بين الخاصرة إلى الضِّلْع الخلفي.(6)أخْمَصُهم: أخلاهم.(7)المُحَادّة: المخالفة في عناد.(8) خَصَفَ النعلَ: خرزها.(9) الحمار العاري: ما ليس عليه بَرْدَعة ولا إكاف.

(10) أرْدَف خلفه : أركب معه شخصاً آخر على حمار واحد أو جمل أو فرس أو نحوها وجعله خلفه.(11) الرِّياش: اللباس الفاخر.(12) أشخصها: أبعدها.(13) خاصّته: اسم فاعل في معنى المصدر، أي مع خصوصيته وتفضله عند ربه.(14) زُوِيَت عنه ـ بالبناء للمجهول ـ : قُبِضَت واُبْعِدت ، ومثله بعد قليل: زَوَى الدنيا عنه: قبضها.

(15)عظيمَ زُلْفَتِه : منزلته العليا من القرب إلى الله. (16) العَلَم باتحريك: العلامة، أي أن بعثته دليل على قرب القيامة إذ لا نبي بعده. (17) خميصاً: أي خالي البطن، كناية عن عدم التمتع بالدنيا. (18) العقِب ـ بفتح فكسر ـ : مؤخر القدم. ووطوء العقب مبالغة في الاتباع والسلوك على طريقة، نقفوه خطوة خطوة حتى كأننا نطأ مؤخر قدمه.

نهج البلاغة خطبة 160.

وفي خطبة أخرى يصف رسول الله وأهل بيته :

( حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً(1) وَأَعَزِّ الاََْرُومَاتِ(2) مَغْرِساً(3) مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ(4)مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَانْتَجَبَ(5) مِنْهَا أُمَنَاءَهُ .

عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ(6) وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الاَُْسَرِ ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ ؛ نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ، وَبَسَقَتْ (7) فِي كَرَمٍ ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ ، وَثَمَرٌ لاَيُنَالُ .

فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى ، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى ، وسِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ ، وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ .

سِيرَتُهُ الْقَصْدُ(8) ، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ ، وَكَلاَمُهُ الْفَصْلُ ، وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ .

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ(9) مِنَ الرُّسُلِ، وَهَفْوَةٍ(10) عَنِ الْعَمَلِ، وَغَبَاوَةٍ مِنَ الاَُْمَمِ ) .

بيان : (1) مَنْبت ـ كمجلس ـ : موضع النبات ينبت فيه.(2) الاَرُومات ـ جمع أرُومَة ـ : الاَصل. (3) المَغْرِس: موضع الغَرْس. (4) صَدَعَ فلاناً: قصده لكرمه. (5) انتجب: اختار واصطفى. (6) عتْرَته: أهل بيته، وعترة الرجل: نَسْله ورَهْطُهُ الاَدْنَوْنَ. (7) بَسَقَتْ: ارتفعت. (8) القَصْد: الاستقامة. (9) الفَتْرَة: الزمان بين الرّسولَين. (10) هَفْوَة: زَلّة وانحراف من الناس عن العمل بما أمر الله على ألسنة الأنبياء السابقين.

فيا طيب : هذا ولي المؤمنين وأخي سيد المرسلين قد وصفه لن بأطيب الكلام وأحسنه ، وعرّف صفاته الكريمة وخُلقه الحسن بجوامع الكلم وببليغ البيان ، فهذه حكمة الله في تعليم خلقه وتدبير هداه في تعريف الطاهرين وخُلقهم العظيم ، حتى نعرف سيدنا ونبينا وخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وآله فنجعله لنا قدوة وأسوة فنخلص لله بدينه ونتأدب بآداب الله التي ظهر بها نبيه ، فإنها بحق من الله وبتعليمه كما قال أمير المؤمنين في الخطبة القاصعة :

فضل الوحي :

أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ : بكَلَاكِلِ الْعَرَبِ ، وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ ، وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله سولم ، بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ ، وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ ، وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ ، وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ ، وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ ، وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ ، وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ ، وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ، وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ .

وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ صلى الله عليه وآله وسلم : مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ، وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ ، الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ .

وَ لَقَدْ كُنْتُ : أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً ، وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ ،وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي ، وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَ أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ .

نهج ‏البلاغة ص : 301.

وهذا يا طيب : ريح النبوة بحق ونور خُلقها العظيم وآدابه الكريمة كان بمعرفة ولي الله ووصيه رسوله يصفه لنا عليه السلام بحق ، وعن علم وبحق اليقين وعينه فإنه كان في كل أحواله معه ، فما ذكره يا طيب هو خلق من الله يعلمن به وآداب لنبيه الكريم ذكرنا بها لعلنا نقتدي به ، وهذا بيان أخر جامع لأوصاف نبينا الأكرم الشخصية في هيئته وشمائله ، ولبعض سلوكه الحسن وآدابه الكريمة يُعرفه لنا سبطاه وأهل بيته الطيبين الطاهرين ، نتدبره ونسأل الله أن يحققنا به إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الإشراق الثالث: سبطا النبي ينقلا لنا شمائله وأوصافه الحسنة:

وهذه يا طيب : صفات حسنة وشمائل كريمة يصفها سبطا النبي وريحانتيه في الدنيا وخلفائه الكرام بعد أبيهم على دينه وتعليم هداه وتبليغ رسالته ، وهم كانوا معه وعاشوا بكل وجودهم دينه وأدبه وعرفوا مكارم أخلاقه وتحلوا بها وظهرو بنورها علما وعملا ، وهما ينقلنا لنا بعض مكارمه وهيئته الحسنه وشكله الجميل بفضل الله ويريان حقائق وصفاً بهياً له .

فينقل الإمام الحسن عليه السلام : عن خاله وهو قد لازم جده وعرفه لكنه لكي يتقنها الناس عندما يكون من نقل وصافا للنبي بتأييد سبطه ، وبهذ الأسلوب الشيق الذي ستراه في هذه الرواية ، يُعرف بعض تصرفاته وسيرته وسلوكه بم فيه بيان لتمام آداب الله لنبيه وعنايته بأشرف خلقه وتربيته له ، وهكذا سترى أوصف أخرى عن نقل الإمام الحسين عليه السلام لأوصاف جده عن أبيه علي بن أبي طالب .

وهذا حديث كريم : فيه كثير من المواصفات لخَلق وخُلق نبين نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم ولسلوكه ولسيرته ولصفاته ولتصرفه في نفسه ومع صحبه ، وهما يريانا حبهم للنقل بأحسن الأوقات له ليتحف أحدهم الآخر ، وهديه يهديه بعضهم لبعض ولنا ، فينقلها بأفضل حال وأسلوب ليشتاق لمعرفتها والتطيب بها المؤمنون الطيبون ، وهذا رواية سبطا نبي الرحمة وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين لأوصاف جدهم العظيم نبينا الأكرم عن خالهم وأبيهم صلى الله عليهم وسلم صلى الله عليهم وسلم أجمعين :

قال الإمام الحسن بن علي عليه السلام :

سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي(1) ـ وكان وصافاً ـ عن حلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به فقال :

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

فخما مفخما ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع وأقصر من المشذب (2) ، عظيم الهامة .

رجل الشعر(3) ، إذا انفرقت عقيصته قرن(4) وإلا فلا يجاوز شعره شحمه أذنيه إذا هو وفرة .

أزهر اللون ، واسع الجبين .

أزج الحواجب (5) سوابع في غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى العرنين(6) ، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم(7) .

كث اللحية(8) ، سهل الخدين ، أدعج ، ضليع الفم (9) ، أشنب مفلج الأسنان(10) ، دقيق المسربة كأن عنقه جيد دمية (11) في صفاء الفضة .

معتدل الخلق : بادنا متماسكا ، سواء البطن والصدر ، عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس (12) ، أنور المتجرد .

موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط (13) ، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين .

أعلى الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، سبط القصب ، شثن الكفين والقدمين (14) ، سائل الأطراف ، خمصان الأخمصين (15) ، مسيح القدمين (16) ينبو عنهما الماء .

إذا زال زال قلعا ، يخطو تكفئا ، ويمشي هونا ، سريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت إلتفت جميعا .

خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ، ويبدر من لقي بالسلام .

قال الإمام الحسن عليه السلام لخاله : قلت له : صف لي منطقه ؟

قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة .

ولا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه (17) ، ويتكلم بجوامع الكلم ، فصلا لا فضولا ولا قصيرا فيه .

دمثا(18) ليس بالجافي ولا بالمهين ، يعظم النعمة وإن دقت ، ولا يذم منها شيئا ، ولا يذم ذواقا ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا وم كان لها .

إذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها .

إذا أشار أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها ، وإذا تحدث أشار بها ، فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى .

وإذا غضب أعرض وأشاح(19) ، وإذا فرح غض من طرفه .

جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام(20) .

قال الإمام الحسن عليه السلام : فكتمتها الحسين زمانا ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه .

فسألته عمن سألته فوجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه وشكله فلم يدع منها شيئاً .

قال الإمام الحسين بن علي عليهم السلام :

سألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :

كان دخوله : لنفسه مأذونا له في ذلك ، وكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءا لله عز وجل ، وجزءً لأهله ، وجزءا لنفسه ، ثم جزأ جزءوه بينه وبين الناس ، فيرد ذلك على العامة والخاصة ولا يدخر - أو قال لا يدخر - عنهم شيئا .

فكان من سيرته في جزء الأمة : إيثار أهل الفضل بإذنه ، وقسمه على قدر فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم وأصلح الأمة من مسألته عنهم ، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم .

ويقول : ليبلغ الشاهد الغائب ، وأبلغوني في حاجة من لا يستطيع إبلاغ حاجته ، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت الله قدميه يوم القيامة ، لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره ، يدخلون زواراً ، ول يفرقون إلا عن ذواق ، ويخرجون أدلة فقهاء .

قال عليه السلام : فسألته من مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟

قال عليه السلام : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلا فيما يعنيه ، ويؤلفهم ولا يفرقهم – أو قال ولا ينفرهم – ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس الفتن ، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه .

ويتفقد أصحابه : ويسأل الناس عما في الناس ، فيحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأسر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلو أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه .

الذين يلونه من الناس خيارهم : أفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة .

قال عليه السلام : فسألته عن مجلسه ؟

فقال عليه السلام : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله جل اسمه ، ولا يوطن الأماكن ، وينهي عن إيطانها (21) ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ، يعطي كلا من جلسائه نصيبه ، حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه .

من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه .

ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول .

قد وسع الناس منه بسطه وخلقه ، فكان لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء .

مجلسه : مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا يوهن فيه الحرم ، ولا تنثى فلتاته (22) ، متعادلون متفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعون ، يوقرون فيه الكبير ، ويرحمون فيه الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون - أو قال يحوطون الغريب .

قال : قلت : كيف كانت سيرته مع جلسائه ؟

قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب (23) ولا فحاش ، ولا عياب ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي ، فلا يؤيس منه ،ولا يخيب فيه مؤمليه .

قد ترك نفسه من ثلاث : المراء ، والإكثار ، ومما لا يعنيه .

وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ، ولا يعيره ، ول يطلب عورته .

ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه : إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنم على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا .

ولا يتنازعون عنده الحديث : من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أوليهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصير للغريب على الجفوة في منطقة ومسألته ، حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم (24) .

ويقول : إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه (25) ، ولا يقبل الثناء إلا عن مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز ، فيقطعه بانتهاء أو قيام .

قال عليه السلام : قلت : كيف كان سكوته ؟

قال عليه السلام : كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أربعة : على الحلم ، والحذر ، والتقدير ، والتفكر .

فأما تقديره : ففي تسوية النظر ، والاستماع بين الناس .

وأما تفكره : ففيما يبقى ويفنى .

وجمع له الحلم والصبر : فكان لا يغضبه شيء ولا يستنفره .

وجمع له الحذر في أربعة : أخذه بالحسن ليقتدي به ، وتركه القبيح لينتهي عنه ، واجتهاده فيما أصلح أمته ، والقيام فيما جمع لهم خير الدني والآخرة) .

(1) هالة : هو أخو فاطمة عليها السلام من قبل أمها ، وكان رجلا فصيح ، قتل مع علي عليه السلام يوم الجمل . (2) المشذب كمعظم : الطويل . (3) أي ليس كثير الجعودة ولا شديد السبوطة ، بين الجعودة والاسترسال . (4) العقيصة : الفتيلة من الشعر وفي الشعر كثرته . (5) " وفرة " كدفعة . و " أزج الحواجب " أي الدقيق الطويل . السوابع : الاتصال بين الحاجبين . (6) العرنين : الأنف . أقنى العرنين أي محدب الأنف . (7) الشمم : ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء أعلاه .

(8) يعني كثيف الشعر في لحيته . رجل سهل الوجه : قليل لحمه .(9) الدعج : سواد العين . وضليع الفم واسعه وعظيمه .(10) شنب الرجل فهو أشنب : كان أبيض الأسنان ، والمفلجة من الأسنان : المنفرجة . (11) المسربة : الشعر وسط الصدر إلى البطن . والدمية بالضم : الصورة المزينة فيها حمرة كالدم .

(12) الكردس : الوثاق المفصل . (13) اللبة : موضع القلادة من الصدر . (14) " رحب الراحة " : وسيع الكف كناية عن الرجل الكثير العطاء . القصب : كل عظم ذي مخ أي ممتد القصب . وشثن الأصابع غليظها . (15) لم يصب باطن قدمه الأرض . (16) مقدم قدمه ومؤخره مساو .

(17) الأشداق : جوانب الفم ، والمراد أنه لا يفتح فاه كله ، وفي بعض النسخ ( بابتدائه ) . (18) الدماثة : سهولة الخلق .(19) أشاح : أظهر الغيرة ، والشائح : الغيور . (20) الغمام : السحاب ، والمراد أنه تبسم ويكثر حتى تبدو أسنانه من غير قهقهة .

(21) يعني لا يتخذ لنفسه مجلسا يعرف به .(22) نثوته نثوا من باب قتل : أظهرته . والفلتات : الهفوات أو الامر فجأة .(23) الصخاب من الصخب وهو شدة الصوت .

(24) يعني أنهم يستجلبوا الفقير لئلا يؤذي النبي .(25) الرفادة . الضيافة وورود المدعو على الداعي . والرفد بكسر الرا : الهبة والعطية .

مكارم الأخلاق ص11 ، معاني الأخبارج1ص79. بحار الأنوار ج16ص161. عيون‏أخبارالرضا(ع) 1 315 29- ما جاء عن الرضا ع في صفة النبي

الذكر الثاني
آل نبينا وأصحابه يصفون نبينا الأكرم في نفسه ومعهم

يا طيب : هذه بعض الأوصاف العملية الفعلية التي يصفه بها من عاصر نبي الرحمة فأحبه بوجوده كله ، فيذكر لنا نور من أخلاقه الكريمة وآدابه الشريفة ، و بشكل فعلي ظهر بها مع بعض الأفراد أو صفات كليه تختص بموضوع معين ، بعد إن عرفنا جملة من أوصافه بجمعها بجمل جميلة ، وبشكل كلي ببليغ الكلام وقصار الحكم عن آله الكرام صلى الله عليهم وسلم .

فهنا يا طيب : أمور لأحول متعددة تصف نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته وسلوكه مع آله وصحبه وفي أحواله معهم ، فنذكر جمل لأحاديث شريفة تعرفنا بره وجوده وآدابه في تصرفاته لإقامة أحوال نفسه ، ومع صحبه في سلامه عليهم وملاقاته للمسلمين وترحيبه بهم ، وفي حياءه وعفته ومروءته ، وفي شجاعته وثباته في كل أحواله وبالخصوص في حروبه ، وعلامات : رضاه وغضبه ، وحلمه ورفقه ، و مزاحه وضحكه ، و حزنه وبكاءه ، وفي مشيه وإجابته للدعوة ، وجمل أخرى من أوصافه وأحواله وأخلاقه الكريمة من التي يجب على المؤمن التحلي بها ليكون مقتدي برسوله ومتأسي بحبيب رب العالمين ومتأدب بآدابه الشريفة ، رزقنا الله منها برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على بينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ورحم الله من قال آمين .

فيا طيب : هنا إشراقات نور تدبرها وتحلى وتجلى بها وتخلى عما يخالفه :

الإشراق الأول : جملة من أخلاقه مع من صحبه وتواضعه :

عن كتاب مكارم الأخلاق لمحمد بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري : عن كتاب شرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره ، عن أنس بن مالك قال :

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المريض ، ويتبع الجنازة ، ويجيب دعوة المملوك ، ويركب الحمار ، وكان يوم خيبر ويوم قريضة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف تحته إكاف من ليف (1) .

وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض ، ويعتقل الشاة ، ويجيب دعوة المملوك .

وعن أنس بن مالك قال : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراهيته لذلك .

وعن أنس بن مالك قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على صبيان فسلم عليهم وهو مغذ .

وعن أسماء بنت يزيد قالت : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بنسوة فسلم عليهن .

وعن ابن مسعود قال : أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل يكلمه فأرعد . فقال : هون عليك فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد(2) .

وعن أبي ذر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه ، فيجئ الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إلى النبي أن يجعل مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه ، فبنينا له دكانا من طين فكان يجلس عليه ونجلس بجانبيه .

سئلت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصنع إذا خل ؟ قالت : يخيط ثوبه ، ويخصف نعله ، ويصنع ما يصنع الرجل في أهله .

وعنها : أحب العمل إلى رسول الله الخياطة .

من كتاب النبوة عن أبي عبد الله عليه السلام يقول : مرت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة بذية وهو جالس يأكل .

فقالت : يا محمد إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه .

فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ويحك ! وأي عبد أعبد مني . فقالت : أما لي فناولني لقمة من طعامك . فناولها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقمة من طعامه . فقالت : لا والله إلى التي في فيك .

قال : فأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقمة من فيه فناوله فأكلتها . قال أبو عبد الله عليه السلام : فما أصابت بداء حتى فارقت الدني .

وعن أنس بن مالك قال : خدمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسع سنين فما أعلمه قال لي قط : هلا فعلت كذا وكذا ولا عاب علي شيئا قط .

وعن أنس بن مالك قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين وشممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهته .

وكان إذا لقيه أحد من أصحابه قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه ، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول بيده ناوله إياه فلم ينزع عنه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع ، وما أخرج ركبتيه بين يدي جليس له قط ، وما قعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل قط فقام حتى يقوم .

وعن أنس بن مالك قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدركه أعرابي فأخذ بردائه فجبذه (3) جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ، ثم قال له : يا محمد مرّ لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فضحك وأمر له بعطاء .

وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئا ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر .

الإشراق الثاني : جود نبينا وبره وإحسانه وحياءه :

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس كفاً ، وأكرمهم عشرِة ، مَن خالطه فعرفه أحبه .

من كتاب النبوة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أنا أديب الله ، وعلي أديبي ، أمرني ربي بالسخاء والبر ، ونهاني عن البخل والجفاء ، وما شيء أبغض إلى الله عز وجل : من البخل ، وسوء الخلق ، وإنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل .

و برواية أخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه كان إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :

كان أجود الناس كفاً ، وأجرأ الناس صدراً ، وأصدق الناس لهجة ، وأوفاهم ذمة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه ،لم أر قبله ، ولا بعده مثله صلى الله عليه وآله وسلم .

وعن ابن عمر قال : ما رأيت أحدا أجود ولا أنجد ولا أشجع ول أوضأ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وعن جابر بن عبد الله قال : لم يكن يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا قط فيقول : لا .

وعن أبي سعيد الخدري يقول : كان رسول الله حييا ، لا يسأل شيئا إلا أعطاه .

وعنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها ، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه .

وعن عمر قال : إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله فقال : ما عندي شيء ولكن اتبع علي ، فإذا جاءنا شيء قضيناه ، قال عمر : فقلت : يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه .

قال : فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله .

فقال الرجل : أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا .

قال فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعرف السرور في وجهه .

الإشراق الثالث :شجاعته نبينا وثباته في تبليغ رسالته :

عن الإمام علي عليه السلام قال : لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ (4) بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا .

وعنه عليه السلام قال : كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم إتقين برسول الله فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه .

وعن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشجع الناس وأحسن الناس ، وأجود الناس .

قال : لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق الناس قبل الصوت ، قال : فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سبقهم ، وهو يقول : لم تراعو وهو على فرس لأبي طلحة وفي عنقه السيف .

قال : فجعل يقول للناس : لم تراعوا وجدناه بحرا أو إنه لبحر .

الإشراق الرابع : علامات رضا نبينا الأكرم وغضبه :

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى ما يحب قال :

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

وعن عبد الله بن مسعود يقول : شهدت من المقداد مشهدا لان أكون أن صاحبه أحب إلي مما في الأرض من شيء ، قال :

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا غضب احمر وجهه .

وعن كعب بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا سره الأمر استنار وجهه كأنه دارة القمر .

قال أبو البدر : سمعت أبا الحكم الليثي يقول : هي المرآة توضع في الشمس فيرى ضوءها على الجدار . يعني قوله : يلاحك الجدر .

الإشراق الخامس : مزاحه وضحكه :

روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول :

إني لا مزح ولا أقول إلا حقا .

وعن ابن عباس أن رجلا سأله : أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمزح ؟ فقال : كان النبي يمزح .

وعن الحسن بن علي عليه السلام قال : سألت خالي هنداً عن صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : كان إذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، يفتر عن مثل حبة الغمام .

وعن أنس بن مالك قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبسم حتى بدت نواجذه .

وعن أبي الدرداء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حدث بحديث تبسم في حديثه .

وعن يونس الشيباني قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام: كيف مداعبة بعضكم بعضا ، قلت : قليلاً . قال : هلا تفعلوا فإن المداعبة من حسن الخلق ، وإنك لتدخل بها السرور على أخيك . ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يداعب الرجل يريد به أن يسره .

الإشراق السادس : بكائه صلى الله عليه وآله وسلم :

عن أنس بن مالك قال : رأيت إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجود بنفسه ، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون .

وعن خالد بن سلمة المخزومي قال : لما أصيب زيد بن حارثة انطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزله ، فلما رأته ابنته جهشت (8) فانتحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له بعض أصحابه : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : هذا شوق الحبيب إلى الحبيب .

ويا طيب : قد عرفت بكاه على قبر أمه وفي شهادة حمزة وجعفر صلى الله عليهم وسلم .

الإشراق السابع: في الرفق بأمته صلى الله عليه وآله وسلم :

عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه ، فإن كان غائبا دعا له ، وإن شاهدا زاره ، وإن كان مريضا عاده .

وعن جابر بن عبد الله قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرين غزوة بنفسه ، شاهدت منها تسع عشر غزوة وغبت عن إثنتين ، فبين أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي تحت الليل فبرك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخريات الناس يزجي الضعيف ، ويردفه ويدعو لهم ، فانتهى إلي وأنا أقول : يا لهف أماه ما زال لنا ناضح سوء (5) .

فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا جابر بأبي وأمي يا رسول الله .

قال : وما شأنك ؟ قلت : أعيا ناضحي . فقال : أمعك عصا ؟ فقلت : نعم ، فضربه ، ثم بعثه ، ثم أناخه ووطئ على ذراعه وقال : أركب .

فركبت وسايرته فجعل جملي يسبقه فاستغفر لي تلك الليلة خمسة وعشرين مرة ، فقال لي : ما ترك عبد الله من الولد ـ يعني أباه ـ ؟ قلت : سبع نسوة .

قال : أبوك عليه دين ؟ قلت : نعم .

قال : فإذا قدمت المدينة فقاطعهم ، فإن أبوا فإذا حضر جداد نخلكم(6) فآذني . فقال : هل تزوجت ؟ قلت : نعم ، قال : بمن ؟ قلت : بفلانة بنت فلان بأيم(7) كانت بالمدينة .

قال : فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك ؟

قلت : يا رسول الله ، كن عندي نسوة خرق – يعني أخواته – فكرهت أن آتيهن بامرأة خرقاء ، فقلت : هذه أجمع لا مري .

قال : أصبت ورشدت ، فقال : بكم اشتريت جملك ؟ قلت : بخمس أواق من ذهب ، قال : بعنيه ولك ظهره إلى المدينة .

فلما قدم المدينة أتيته بالجمل ، فقال : يا بلال ، أعطه خمس أواق من ذهب يستعين بها في دين عبد الله ، وزده ثلاثا ، ورد عليه جمله .

قال : هل قاطعت غرماء عبد الله ؟ قلت : لا يا رسول الله ، قال : أترك وفاء ؟ قلت : لا ، قال : لا عليك فإذا حضر جداد نخلكم فآذني .

فآذنته ، فجاء فدعا لنا فجددنا واستوفى كل غريم ما كان يطلب تمر وفاء ، وبقي لنا ما كنا نجد وأكثر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ارفعوا ولا تكيلوا ، فرفعناه وأكلنا منه زمانا .

وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ حدث الحديث أو سئل عن الأمر ، كرره ثلاثا ليفهم ويفهم عنه .

وعن ابن عمر قال : قال رجل : يا رسول الله ، فقال لبيك .

روى عن زيد بن ثابت قال : كنا إذا جلسنا إليه صلى الله عليه وآله وسلم إن أخذنا في حديث في ذكر الآخرة أخذ معنا ، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معن ، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا ، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وعن أبي الحميساء قال : تابعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يبعث فواعدته مكانا فنسيته يومي والغد فأتيته اليوم الثالث ، فقال عليه السلام : يا فتى لقد شققت عليَّ ، أنا هاهنا منذ ثلاثة أيام .

وعن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : دخل بعض بيوته فامتلأ البيت ، ودخل جرير فقعد خارج البيت ، فأبصره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذ ثوبه فلفه ورمى به إليه ، وقال : أجلس على هذا ، فأخذه جرير فوضعه على وجهه وقبله .

وعن سلمان الفارسي قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متكئ على وسادة ، فألقاها إلي ، ثم قال : يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقي له الوسادة إكراما له إلا غفر الله له .

الإشراق الثامن : مشي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم :

عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مشى تكفأ تكفئا كأنما يتقلع من صبب ، لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وآله وسلم (9) .

وعن جابر قال : كان رسول الله إذا خرج مشى أصحابه أمامه وتركو ظهره للملائكة .

وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ مشى مشى مشيا يُعرف أنه ليس بمشي عاجز ولا بكسلان .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدع أحدا يمشي معه إذا كان راكبا حتى يحمله معه ، فإن أبي قال : تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد .

ودعاه صلى الله عليه وآله وسلم قوم من أهل المدينة إلى طعام صنعوه له ، ولأصحاب له خمسة فأجاب دعوتهم ، فلما كان في بعض الطريق أدركهم سادس ، فماشاهم ، فلما دنوا من بيت القوم قال صلى الله عليه وآله وسلم للرجل السادس : إن القوم لم يدعوك فأجلس حتى نذكر لهم مكانك ونستأذنهم لك .

الإشراق التاسع : جمل كريمة في أحواله وأخلاقه :

من كتاب النبوة عن علي عليه السلام قال :

ما صافح رسول الله أحدا قط فنزع صلى الله عليه وآله وسلم يده حتى يكون هو الذي ينزع يده .

وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف. وما نازعه أحد الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت.

وما رئي مقدما : رجله بين يدي جليس له قط ، ولا خير بين أمرين إلا أخذ بأشدهما . وما انتصر لنفسه من مظلمة حتى ينتهك محارم الله ، فيكون حينئذ غضبه لله تبارك وتعالى .

وما أكل : متكئا قط حتى فارق الدنيا . وما سئل شيئ قط فقال لا .

وما رد سائل " حاجة قط ، إلا بها أو بميسور من القول .

وكان : أخف الناس صلاة في تمام ، وكان أقصر الناس خطبة ، و أقلهم هذراً(10) . وكان يُعرف بالريح الطيب إذا أقبل ، وكان إذا أكل مع القوم كان أول من يبدأ وآخر من يرفع يده ، وكان إذا أكل أكل مما يليه ، فإذا كان الرطب والتمر جالت يده(11).

وإذا شرب شرب ثلاثة أنفاس ، وكان يمص الماء مصا ولا يعبه عباً (12) .

وكان يمينه : لطعامه وشرابه وأخذه وإعطائه ، فكان لا يأخذ إلا بيمينه ، ولا يعطي إلا بيمينه ، وكان شماله : لما سوى ذلك من بدنه .

وكان يحب التيمن في كل أموره : في لبسه وتنعله وترجله .

وكان إذا دعا دعا ثلاثا ، وإذا تكلم تكلم وترا ، وإذا استأذن استأذن ثلاثا .

وكان كلامه فصلاً يتبينه كل من سمعه ، وإذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه ، وإذا رأيته قلت : أفلج الثنيتين وليس بأفلج (13) .

وكان نظره اللحظ بعينه . وكان لا يكلم أحدا بشيء يكرهه . وكان إذا مشى كأنما ينحط من صبب .

وكان يقول : إن خياركم أحسنكم أخلاقا ، وكان لا يذم ذواق ولا يمدحه ، ولا يتنازع أصحابه الحديث عنده ، وكان المحدث عنه يقول : لم أر بعيني مثله قبله ولا بعده صلى الله عليه وآله وسلم.

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رئي في الليلة الظلماء رئي له نور كأنه شقة قمر .

وعنه عليه السلام قال : نزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن الله جل جلاله يقرئك السلام ويقول لك : هذه بطحاء مكة إن شئت أن تكون لك ذهبا ، قال : فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ثلاثا ، ثم قال : لا يا رب ، ولكن أشبع يوما فأحمدك ، وأجوع يوما فأسألك . وعنه عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحلب عنز أهله .وعنه عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لست أدع : ركوب الحمار مؤكفا (14) ، والآكل على الحصير مع العبيد ، ومناولة السائل بيدي .

وعن جابر بن عبد الله قال : كان في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصال : لم يكن في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه وريح عرقه ، ولم يكن يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له .

وعن ثابت بن أنس بن مالك قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أزهر اللون ، كأن لونه اللؤلؤ ، وإذا مشى تكفأ ، وما شممت رائحة مسك ول عنبر أطيب من رائحته ، ولا مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله ، كان أخف الناس صلاة في تمام .

وعن جرير بن عبد الله قال : لما بعث النبي أتيته لأبايعه ، فقال لي : يا جرير لأي شيء جئت ، قال : قلت لأسلم على يديك يا رسول الله ، فألقى لي كساءه ، ثم أقبل على أصحابه فقال : إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه .

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعد رجلا إلى الصخرة فقال : أنا لك هنا حتى تأتي ، قال : فاشتدت الشمس عليه ، فقال له أصحابه : يا رسول الله لو أنك تحولت إلى الظل ، قال : وعدته ههنا وإن لم يجئ كان منه الجشر (15) .

وعن عائشة قالت : قلت : رسول الله إنك إذا دخلت الخلاء فخرجت دخلت في أثرك فلم أر شيئا خرج منك غير أني أجد رائحة المسك ، قال : يا عائشة إنا معشر الأنبياء بنيت أجسادنا على أرواح أهل الجنة ، فما خرج منا من شيء ابتلعته الأرض .

وعن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبيه ، فقال : يا نبي الله لو اتخذت فراش ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ما لي وللدنيا وما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف(16) فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها .

وعن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفي ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود على ثلاثين صاعا من شعير أخذها رزقا لعياله .

وعن أبي رافع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا سميتم محمدا فلا تقبحوه ، ولا تجبهوه (17) ، ولا تضربوه ، بورك لبيت فيه محمد ، ومجلس فيه محمد ، ورفقة فيها محمد .

أقول : اللهم صل وسلم ، على محمد وآل محمد ، وبارك على محمد وآل محمد ، واجعلنا مع محمد وآل محمد في الدنيا والآخرة ورحم الله من قال آمين.

الإشراق العاشر : رأفته في أمته وجلوسه مع أصحابه :

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة ، أو يسميه ، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمه لأهله ، فربما بال الصبي عليه فيصيح بعض من رآه حين يبول فيقول صلى الله عليه وآله وسلم لا تزرموا بالصبي (18) فيدعه حتى يقضي بوله ، ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته ويبلغ سرور أهله فيه، ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده .

ودخل عليه صلى الله عليه وآله وسلم رجل المسجد وهو جالس وحده فتزحزح له صلى الله عليه وآله وسلم فقال الرجل : في المكان سعة يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إن حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس إليه أن يتزحزح له .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :

من أحب : أن يمثل له الرجال ، فليتبوأ مقعده من النار .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم بعضهم لبعض ، ولا بأس بأن يتخلل عن مكانه .

وروي عن أبي عبد الله من كتاب المحاسن قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس حين .

وروي عنه عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ما يجلس تجاه القبلة .

وعن أنس قال : كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلسن حلقة.

وروي عنه عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :

إذا أتى أحدكم : مجلسا ، فليجلس حيث ما انتهى مجلسه .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :

إذا قام أحدكم من مجلسه منصرفا فليسلم . فليست الأولى بأولى من الأخرى.

وروي عنه عليه السلام إنه قال :

إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع فهو أولى بمكانه .

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أعطوا المجالس حقه .

قيل : وما حقها ؟ قال : غضوا أبصاركم ، وردوا السلام ، وأرشدو الأعمى ، وأمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ؟

وجلس القرفصاء (19) .

من كتاب المحاسن كان النبي صلى الله عليه وآله : يجلس القرفصاء وهو أن يقيم ساقيه ويستقلهما بيديه فيشد يده في ذراعيه ، وكان يجثوا على ركبتيه ، وكان يثني رجلا واحدا ويبسط عليها الأخرى ، ولم ير متربعا قط وكان يجثوا على ركبتيه ولا يتكي(20) ) .

المصدر لهذا الذكر مكارم الأخلاق ص 25 ، وبيان معاني بعض كلمات جاءت في هذا الذكر : (1) المخطوم : من خطم الحمار بحبل أي جعله على أنفه . والاكاف : برذعة الحمار وجله .(2) القد بالكسر : الشيء المقدود ، وبالفتح جلد السخلة ، وبالضم : سمك بحري .(3) جبذه : أي جذبه(4) اللوذ:الاستتار والاحتصان به.ولاذ به:أي استتر والتجأ إليه .

(5) نضح الماء : حمله من البئر أو النهر . هذا أصله ثم استعمل في كل بعير وإن لم يحمل الماء .(6) أجد النخل : حان وقت جداده ، أعني قطعه .(7) أيم وزان كيس : المرأة التي لا زوج لها وهي مع ذلك لا يرغب أحد في تزويجها .(8) جهش إليه : فزع إليه باكيا .(9) تكفأ في مشيته أي مشي الهوينا والصبب ، الأنحدار والمراد نفي التبختر في مشيه .

(10) هذر في منطقة : تكلم بما لا ينبغي .(11) جالت يده : أي أخذت من كل جانب .(12) مص الماء مصا : أي شربه شربا رقيقا مع جذب نفس بخلاف العب فانه شرب الماء بلا تنفس .(13) الفلج : فرجة بين الثنايا والرباعيات .(14) مؤكفا من اكف الحمار : شد عليه الأكف أي البرذعة وهي جلته .

(15) الجشر : الترك . وبالتحريك المال الذي يرعى في مكانه ولا يرجع إلى أهله في الليل (16) الصائف : الحار ، ويقال : " صيف صائف " كم يقال : " ليل لائل " .(17) جبهه الرجل : رده عن حاجته . ضربه على جبهته .(18) زرم البول : انقطع . ولا تزرموا : يعني لا تقطعوا بوله . (19) القرفصاء ممدودا ، ومثلثة القاف والفاء : أن يجلس الرجل على إليته ، ويلصق فخذيه ببطنه ، ويحتبي بيديه ، ويضعهما على ساقيه ، أو يجلس على ركبتيه منكبا ، ويلصق بطنه بفخذيه ، ويتأبط كفيه . (20) جثا فلان كرمي ودعا : جلس على ركبتيه ، أو قام على أطراف الأصابع .

الذكر الثالث
آداب النبي العظيم في مأكله ومشربه

يا طيب : هذه بعض الآداب الكريمة لنبي الرحمة والهدى في آداب المائدة من الأكل والشرب وكيفية الجلوس لتناول الطعام ، وما يحب من الفاكهة والخضار ، والماء والشراب الطيب ، وكيف يتناول ويشرب صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيها أخلاق عالية وآداب سامية تعرفنا كريم وقاره وجميل تهذيبه لنفسه ولمن يراه ، فيحب الإقتداء به والتأسي بمكارم مظاهره التي تجعله نور في كل وجود من تعلم منه وطبق هداه الذي يرضى الله ، وكل ما يناسب شأن المؤمن الكريم ذو المروءة العالية ، والتي تجذب الناس إليه ليهتدوا بسمته وتُحسِن المعاشرة والرأفة والحب بين المؤمنين وكل الطيبين من المسلمين الذين يحبون هدى الله الحسن ودينه القيم بكل تعاليمه ويحبون أن يكونو في كل شيء مع رسول الله حتى في أكله وشربه فضلا عن الكون معه في جنة الخلد في نعيم رب العالمين مع الكرامة والعز والمجد في أعلى عليين . رزقنا الله المربي والمؤدب بأحسن الآداب : آداب نبينا الكريم وتعاليمه في كل شيء ، وعرفنا حقائق هداه وجعله طاعة خالصة لوجه الكريم إنه أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين . وفي البحث إشراقات نور :

الإشراق الأول : صفة أدب النبي على المائدة وأكله وما يحب:

ذكر في كتاب مكارم الأخلاق صفحة 26 الحسن بن الفضل الطبرسي عن كتاب مواليد الصادقين : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل كل الأصناف من الطعام ، وكان يأكل ما أحل الله له مع أهله وخدمه إذا أكلوا ، ومع من يدعوه من المسلمين على الأرض ، وعلى ما أكلوا عليه ومما أكلوا إلا أن ينزل بهم ضيف فيأكل مع ضيفه ، وكان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف(1) .

ولقد قال ذات يوم وعنده أصحابه : اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك اللذين لا يملكهما غيرك ، فبينما هم كذلك إذ أهدي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاة مشوية فقال : خذوا هذا من فضل الله ، ونحن ننتظر رحمته .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا وضعت المائدة بين يديه قال :

بسم الله اللهم اجعلها نعمة مشكورة نصل بها نعمة الجنة .

وكان كثيرا : إذا جلس ليأكل يأكل ما بين يديه ، ويجمع ركبتيه وقدميه ، كما يجلس المصلي في اثنتين إلا أن الركبة فوق الركبة والقدم على القدم ويقول صلى الله عليه وآله وسلم : أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد .

عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما أكل رسول الله متكئا منذ بعثه الله عز وجل نبيا حتى قبضه الله إليه متواضعا لله عز وجل .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا وضع يده في الطعام قال :

بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وعليك خلفه .

وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أفطر قال : اللهم لك صمنا ، وعلى رزقك أفطرنا ، فتقبله منا ، ذهب الظمأ وابتلت العروق وبقي الأجر .

وقال عليه السلام : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أكل عند قوم قال : أفطر عندكم الصائمون ، وأكل طعامكم الأبرار .

وقال : دعوة الصائم تستجاب عند إفطاره .

وقد جاءت الرواية : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

كان يفطر على التمر وكان إذا وجد السكر أفطر عليه .

عن الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفطر على الحلو ، فإذا لم يجده يفطر على الماء الفاتر ، وكان يقول : إنه يبقي الكبد والمعدة ، ويطيب النكهة والفم ، ويقوي الأضراس والحدق ، ويحد الناظر ، ويغسل الذنوب غسلا ، ويسكن العروق الهائجة والمرة الغالبة ، ويقطع البلغم ، ويطفئ الحرارة عن المعدة ، ويذهب بالصداع (2) .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يأكل الحار حتى يبرد ويقول :

إن الله لا يطعمنا نارا ، إن الطعام الحار غير ذي بركة فأبردوه .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا أكل سمى ، ويأكل بثلاث أصابع ومما يليه ، ولا يتناول من بين يدي غيره ، ويؤتى بالطعام فيشرع قبل القوم ثم يشرعون ، وكان يأكل بأصابعه الثلاث الإبهام والتي تليها والوسطى وربما استعان بالرابعة ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل بكفها كلها ولم يأكل بأصبعين ، ويقول : إن الأكل بأصبعين هو أكلة الشيطان .

ولقد جاءه بعض أصحابه يوما بفالوذج فأكل منه وقال : مم هذا ي أبا عبد الله ؟ فقال : بأبي أنت وأمي ، نجعل السمن والعسل في البرمة(3) ونضعها على النار ، ثم نقليه ، ثم نأخذ مخ الحنطة إذا طحنت فنلقيه على السمن والعسل ، ثم نسوطه حتى ينضج(4) فيأتي كما ترى .

فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذا الطعام طيب .

ولقد كان يأكل الشعير غير منخول خبزا أو عصيدة في حالة كل ذلك كان يأكله صلى الله عليه وآله وسلم .

2ومن كتاب روضة الواعظين قال العيص بن القاسم قلت للصادق عليه السلام حديث يروى عن أبيك أنه قال : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز بر قط ، أهو صحيح ؟

فقال : لا ما أكل رسول الله خبز بر قط ولا شبع من خبز شعير قط .

وقالت عائشة : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز الشعير يومين حتى مات .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأكل على خوان قط حتى مات ولا أكل خبزا مرققاً(5) حتى مات .

وقالت عائشة : ما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما قبض صبت الدنيا علينا صبا .

ومن كتاب النبوة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما زال طعام رسول الله الشعير حتى قبضه الله إليه .

عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يجيب دعوة المملوك ويردفه خلفه ، ويضع طعامه على الأرض ، وكان يأكل القثاء بالرطب والقثاء بالملح ، وكان يأكل الفاكهة الرطبة ، وكان أحبها إليه البطيخ والعنب ، وكان يأكل البطيخ بالخبز وربما أكل بالسكر ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم ربما أكل البطيخ بالرطب ، ويستعين باليدين جميعا .

ولقد جلس يوما يأكل رطبا فأكل بيمينه وأمسك النوى بيساره ولم يلقه في الأرض ، فمرت به شاة قريبة منه فأشار إليها بالنوى الذي في كفه فدنت إليه وجعلت تأكل من كفه اليسرى ، ويأكل هو بيمينه ويلقي إليها النوى حتى فرغ وانصرفت الشاة حينئذ .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان صائما يفطر على الرطب في زمانه .

وكان ربما أكل العنب حبة حبة . وكان صلى الله عليه وآله وسلم ربم أكله خرطا حتى يرى رواله على لحيته كتحدر اللؤلؤ (6) .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل الحيس (7) ، وكان يأكل التمر ويشرب عليه الماء ، وكان التمر والماء أكثر طعامه .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتمجع باللبن والتمر(8) ويسميهما الأطيبين ، وكان يأكل العصيدة من الشعير بإهالة الشحم (9) .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يأكل الهريسة أكثر ما يأكل ويتسحر بها ، وكان جبرائيل قد جاءه بها من الجنة فتسحر بها .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يأكل في بيته مما يأكل الناس .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يأكل اللحم طبيخا بالخبز ، ويأكله مشويا بالخبز . وكان يأكل القديد وحده ، وربما أكله بالخبز ، وكان أحب الطعام إليه اللحم ، ويقول : هو يزيد في السمع والبصر .

وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم : اللحم سيد الطعام في الدني والآخرة ولو سألت ربي أن يطعمنيه كل يوم لفعل .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يأكل الثريد باللحم والقرع (10) ويقول : إنها شجرة أخي يونس .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يعجبه الدباء ويلتقطه من الصفحة (11) ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يأكل الدجاج ، ولحم الوحش ، ولحم الطير الذي يصاد ، وكان لا يبتاعه ولا يصيده ويحب أن يصاد له ، ويؤتى به مصنوعا فيأكله أو غير مصنوع فيصنع له فيأكله .

وكان إذا أكل اللحم لم يطأطأ رأسه إليه ويرفعه إلى فيه ثم ينتهشه انتهاشا (12) ، وكان يأكل الخبز والسمن .

وكان يحب : من الشاة الذراع والكتف ، ومن الصباغ الخل(13) ، ومن البقول الهندباء والباذروج (14) وبقلة الأنصار ويقال إنها الكرنب (15) .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : لا يأكل الثوم ولا البصل ول الكراث ولا العسل الذي فيه المغافير ، وهو ما يبقى من الشجر في بطون النحل فيلقيه في العسل فيبقى ريح في الفم .

وما ذم رسول الله طعاما قط ، كان إذا أعجبه أكله وإذا كرهه تركه .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا عاف شيئا فإنه لا يحرمه على غيره ولا يبغضه إليه.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم :

يلحس الصحفة ، ويقول : آخر الصحفة أعظم الطعام بركة .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : إذا فرغ من طعامه لعق أصابعه الثلاث التي أكل بها ، فإن بقي فيها شيء عاوده فلعقها حتى تتنظف ، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه واحدة واحدة ويقول :

إنه لا يدري في أي الأصابع البركة .

وكان صلى الله عليه وآله : يأكل البرد ، ويتفقد ذلك أصحابه فيلتقطونه له فيأكله ، ويقول إنه يذهب بأكلة الأسنان(16) .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم :

يغسل يديه من الطعام حتى ينقيهما فلا يوجد لما أكل ريح .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أكل الخبز واللحم خاصة غسل يديه غسلا جيدا ، ثم مسح بفضل الماء الذي في يده وجهه .

وكان لا يأكل وحده ما يمكنه ، وقال : ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا : بلى . قال : من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده (17) ) .

المصدر : مكارم الأخلاق ص 27 ، معاني ما جاء في هذا الإشراق : (1) الضفف : التناول مع الناس ، أو كثرة الأيدي ، ومعناه : إنه لم يأكل خبزا ولا لحم وحده . (2) فتر الماء : سكن حره . النكهة : ريح الفم . الأضراس جمع ضرس : الأسنان والسن . النقاء : النظافة . وأحداق وحداق جمع حدقة محركة : سواد العين . المرة : خلط من أخلاط البدن غير الدم والجمع مرار . (3) البرمة كغرفة قدر من الحجر .(4) السوط : الخلط . ونضج اللحم : استوى وطاب أكله .

(5) يقال : خبز رقاق بالضم : أي رقيق خلاف الغليظ . (6) خرط العنقود : وضعه في فمه وأخرج عمشوشه عاريا .(7) الحيس : طعام مركب من تمر وسمن وأقط ، وربم جعل معه سويق (8) التمجع : أكل تمر اليابس باللبن معا أو أكل التمر وشرب عليه اللبن .(9) العصيدة : طعام من الشعير باهالة الشحم والإهالة : شحم المذاب أو دهن يؤتدم به .

(10) القرع : نوع من اليقطين ويقال أيضا : الدباء ، والقديد . اللحم المقدد .(11) الصحفة : قصعة كبيرة منبسطة تشبع الخمسة ، أو مناقع صغيرة للماء .(12) " ينتهشه انتهاشا " : الأخذ بمقدم الأسنان للآكل . وقيل : النهس بالمهملة .(13) الصبغ بالكسر : ما يصطبغ به من الادام والزيت لان الخبز يغمس فيه .(14) باذروج : نبات يؤكل ، وهو نوع من الريحان الجبلي .

(15) بنات بستاني أحلى وأغض من القنبيط .(16) أكل وتأكل السن ، صار منخورا وسقط .(17) الرفد : الضيف .

الإشراق الثاني : آداب نبينا في صفة شربه :

قال الطبرسي رحمه الله في كتاب مكارم الأخلاق وكان صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا شرب بدأ فسمى ، وحسا حسوة وحسوتين (1) .

ثم يقطع فيحمد الله ، ثم يعود فيسمي ، ثم يزيد في الثالثة ، ثم يقطع فيحمد الله .

فكان له في شربة ثلاث تسميات وثلاث تحميدات .

ويمص الماء مصا ولا يعبه عبا ، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم :

إن الكباد من العب (2) .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : لا يتنفس في الإناء إذا شرب ، فإن أراد أن يتنفس أبعد الإناء عن فيه حتى يتنفس ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم ربما شرب بنفس واحد حتى يفرغ .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يشرب في أقداح القوارير التي يؤتى بها من الشام ، ويشرب في الأقداح التي يتخذ من الخشب ، وفي الجلود ، ويشرب في الخزف ، ويشرب بكفيه ، يصب فيهما الماء ويشرب .

ويقول : ليس إناء أطيب من الكف ويشرب من أفواه القرب والأداوي (3) ولا يختنثها ختناثا ، ويقول : إن اختناثها ينتنها (4) . وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشرب قائما وربما يشرب راكبا ، وربما قام فشرب من القربة أو الجرة (5) أو الاداوة وفي كل إناء يجده وفي يديه .

وكان يشرب الماء الذي حلب عليه اللبن ويشرب السويق .

وكان أحب الأشربة إليه الحلو . وفي رواية : أحب الشراب إلى رسول

الله صلى الله عليه وآله وسلم الحلو البارد .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يشرب الماء على العسل .

وكان يماث له الخبز فيشربه أيضا . وكان صلى الله عليه وآله وسلم شربة يفطر عليها ، وشربة للسحر ، وربما كانت واحدة ، وربما كانت لبنا .

وربما كانت الشربة خبزا يماث ، فهيأتها له صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فاحتبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فظننت أن بعض أصحابه دعاه ، فشربتها حين احتبس ، فجاء صلى الله عليه وآله وسلم بعد العشاء بساعة فسألت بعض من كان معه : هل كان النبي أفطر في مكان أو دعاه أحد ؟

فقال : لا . فبت بليلة لا يعلمها إلا الله خوف أن يطلبه مني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجدها ، فيبيت جائعا فأصبح صائما وم سألني عنها ولا ذكرها حتى الساعة .

ولقد قرب إليه إناء فيه لبن وابن عباس عن يمينه وخالد بن الوليد عن يساره ، فشرب ثم قال لعبد الله بن عباس : إن الشربة لك أفتأذن أن أعطي خالد بن الوليد ـ يريد الأسن ـ ؟ فقال ابن عباس : لا والله لا أوثر بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدا ، فتناول ابن عباس القدح فشربه .

ولقد جاءه صلى الله عليه وآله وسلم ابن خولي بإناء فيه عسل ولبن فأبى أن يشربه فقال : شربتان في شربة وإناءان في إناء واحد ، فأبى أن يشربه ثم قال : ما احرمه ولكني أكره الفخر ، والحساب بفضول الدنيا غداً ، واحب التواضع ، فإن من تواضع لله رفعه الله.

المصدر مكارم الأخلاق ص 31 ، (1) الحسوة بالضم والفتح : الجرعة ، وحسا حسوا : شرب منه شيئا بعد شيء . (2) الكباد بالضم : وجع الكبد .(3) اداوي : جمع أدواة ، المطهرة " وهي إناء صغير من جلد يتطهر ويشرب " .(4) الاختناث من خنث السقاء : كسر فمه وثناه إلى الخارج . (5) الجرة المرة من الجر : إناء من خزف له بطن كبير ، وعروتان ، وفم واسع .

الذكر الرابع
آداب نبينا الكريم في تزينه وتجمله

يا طيب: بعد إن عرفنا كثير من صفات وآداب النبي وأخلاقه في نفسه وفي معاشرته مع صحبه بصورة مجملة وبجمل نور متواصلة ، أو عبارات مفصلة لمعرفة كثير من صفاته وسلوكه بتصرفه ، وفي آداب مشيه وجلوسه ومحادثته وجوده وكرمه وحلمه وكثير من أحواله في آداب المائدة والأكل والشرب وغيرها .

نذكر يا طيب في هذا البحث : ذكر جميل آخر لآداب نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في تجمله وتزينه وتطهيره لنفسه وظهور بمظهر النبي الكريم الوقور ، والمهذب الذي يُعلم بكل حركة له وسكون آداب رب العالمين التي يرضاها لعباده بكل شيء ، فيهذبهم بمكارم الأخلاق الفاضلة والآداب الحسنة الجميلة الباهرة ، والتي بحق تكون ملائمة للإنسان الشريف والسيد الحليم والوقور الفاضل ، والواجب عليه تطبيقه والظهور بها لينال كماله في سلوكه في حياته العامة كلها ، فضلا عن سيرته الخاصة في نفسه وأحوال نفسه .

فنذكر هنا في هذا البحث : أمورا كريمة : عن نبينا الماجد وسيد الأنبياء والمرسلين ذو الخُلق العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن خلال معرفة تطهير بدنه وغسله وتدهين شعره وتسرحه ، وعطوره وطيبه وتكحله ، ونظره في المرآة وطلائه لإزالة الشعر ، وما يصلح لسفره ، وفي لباسه وعمامته وقلنسوته ، وكيفية لبسه ، وفي خاتمة ونقشه ، وفي نعليه وفراشه ، ونومه ودعائه عند مضجعه وعند قيامه ، وسواكه وغيرها من الأمور الكريمة التي كان يمارسها ليظهر بما يرضى الله بكل أدب ووقار .

وكل مظهر حسن كريم : له صلى الله عليه وآله وسلم يتوق لمعرفته الطيبون ، والمؤمنون الكرام لأن يتعلموه فيتحلوا بأفضل الآداب الإلهية الحسنة لعباده والتي مكن منها نبيه وألهمه وأقدره على أين يواظب عليها ويعلمها للعباد ، فيقتدو به ويتحلوا بها ويطيعوا الله بما يرضيه من شأن المؤمن الكريم المؤدب بطيبات التهذيب والأخلاق الحسنة .

فيا أخي الكريم الطيب : نسأل الله أن يعلمها لنا ويحفظها لن ويقدرنا على ممارستها والمواظبة عليها كلها ، فإنها معارف دين قيمة تهدي لنور الكمال الإنساني فتهبه الوقار والحشمة ، وتزينه بالشمائل الحسنة والآداب الكريمة ، وتعرفن بحق إن نبينا الكريم بما نقل عنه كان أسوة وقدوة في كل شيء من مظهره وأحواله وصفاته ، حتى كان بكل تصرف له دليلا قويا وبرهانا محكما يدلنا على أنه إنسان قد ربي بيد القدرة الإلهية والرحمة الربانية فبعثه الله رحمة للعالمين ، و نال أشرف مقام في الوجود ، وأخلص للرب المعبود بكل وجوده فكان أشرف الأنبياء والمرسلين وسيد الكائنات أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم ، وجعلنا الله معه في محل الكرامة عنده ومعه نحف به ، إنه أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

فهنا مشارق نور :

الإشراق الأول : تسريحه صلى الله عليه وآله وسلم لشعره:

قال في مكارم الأخلاق للطبرسي رحمه الله : وكان صلى الله عليه وآله : يتمشط ويرجل رأسه بالمدرى ، وترجله نساؤه ، وتتفقد نساؤه تسريحه إذ سرح رأسه ولحيته ، فيأخذن المشاطة ، فيقال : إن الشعر الذي في أيدي الناس من تلك المشاطات .

المدرى : نوع من المشط ، يقال درى الرأس : حكه بالمدرى .

فأما ما حلق في عمرته وحجته فإن جبريل عليه السلام كان ينزل فيأخذه فيعرج به إلى السماء . ولربما سرح لحيته في اليوم مرتين .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يضع المشط تحت وسادته إذ تمشط به ويقول : إن المشط يذهب بالوباء .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسرح تحت لحيته أربعين مرة ومن فوقها سبع مرات ويقول : إنه يزيد في الذهن ويقطع البلغم .

وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من أمر المشط على رأسه ولحيته وصدره سبع مرات لم يقاربه داء أبدا .

الإشراق الثاني : دهنه لشعره:

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحب الدهن .

ويكره الشعث ويقول : إن الدهن يذهب بالبؤس .

الشعث : تلبد الشعر ، ومنه رجل أشعث وامرأة شعثاء ، وأصله الانتشار والتفرق .

وكان يدهن بأصناف من الدهن : وكان إذا ادهن بدأ برأسه ولحيته ويقول : إن الرأس قبل اللحية .

وكان يدهن بالبنفسج ويقول : هو أفضل الأدهان .

وكان صلى الله عليه وآله : إذا ادهن بدأ بحاجبيه ، ثم بشاربيه .

ثم يدخله في أنفه ويشمه ، ثم يدهن رأسه .وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يدهن حاجبيه من الصداع ، ويدهن شاربيه بدهن سوى دهن لحيته .

الإشراق الثالث : تطيبه وتعطره :

كان صلى الله عليه وآله وسلم : يتطيب بالمسك حتى يرى وبيصه في مفرقه.

وبيصه : من وبص وبصا : لمع وبرق والمفرق : موضع .

وكان صلى الله عليه وآله: يتطيب بذكور الطيبوهو المسك والعنبر .

وكان صلى الله عليه وآله : يطيب بالغالية تطيبه بها نساؤه بأيديهن .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يستجمر بالعود القماري .

الذكارة والذكورة : ما يصلح للرجل . وهو ما لا لون له كالمسك والعنبر والعود . القمارى بالفتح : نوع من عود منسوب إلى القمار ، وهو موضع

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يُعرف في الليلة المظلمة قبل أن يرى بالطيب ، فيقال : هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

عن الصادق عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق على الطيب أكثر من ينفق على الطعام .

وقال الباقر عليه السلام : كان في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث خصال لم تكن في أحد غيره : لم يكن له فئ . وكان لا يمر في طريق فيمر فيه أحد بعد يومين أو ثلاثة إلا عرف أنه قد مر فيه لطيب عرفه . وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يمر بحجر ولا بشجر إلا سجد له .

وكان لا يعرض عليه طيب إلا تطيب به ويقول : هو طيب ريحه خفيف حمله ، وإن لم يتطيب وضع إصبعه في ذلك الطيب ثم لعق منه .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول : جعل الله لذتي : في النساء والطيب ، وجعل قرة عيني في الصلاة والصوم .

الإشراق الرابع : تكحله:

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكتحل : في عينه اليمنى ثلاث ، وفي اليسرى اثنتين . وقال : من شاء اكتحل ثلاثا وكل حين ، ومن فعل دون ذلك أو فوقه فلا حرج . وربما اكتحل وهو صائم ، وكانت له مكحلة يكتحل بها بالليل ، وكان كحله الأثمد .

الإشراق الخامس : نظره في المرآة :

وكان صلى الله عليه وآله وسلم :

ينظر في المرآة ويرجل جمته ويتمشط .

وربما نظر في الماء وسوى جمته فيه . الجمة بالضم : مجتمع شعر الرأس .

ولقد كان يتجمل لأصحابه فضلا عن تجمله لأهله .

وقال ذلك لعائشة ، حين رأته ينظر في ركوة فيها ماء في حجرتها ويسوي فيها جمته وهو يخرج إلى أصحابه ، فقالت : بأبي أنت وأمي تتمرأ في الركوة وتسوي جمتك وأنت النبي وخير خلقه ؟

فقال : إن الله يحب من عبده

إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمل.

الركوة : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء تتمرأ : من الرؤية والميم زائدة ، أي تنظر في الماء في كأسة كالمرآت .

الإشراق السادس : غسل رأسه وطلائه:

وكان صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا غسل رأسه ولحيته ، غسلهما بالسدر .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم :

يطلى فيطليه من يطليه حتى إذا بلغ ما تحت الأزار تولاه بنفسه .

الإشراق السابع : ما يصحبه في سفره :

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : لا يفارقه في أسفاره :

قارورة الدهن ، والمكحلة ، والمقراض ، والمسواك ، والمشط .

وفي رواية : يكون معه :

الخيوط، والأبرة، والمخصف ، والسيور ، فيخيط ثيابه ، ويخصف نعله.

الإشراق الثامن : لباسه :

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يلبس الشملة ويأتزر بها ، ويلبس النمرة ويأتزر بها أيضا .

فتحسن عليه النمرة لسوادها على بياض ما يبدو من ساقيه وقدميه .

وقيل : لقد قبضه الله جل وعلا وإن له لنمرة تنسج في بني عبد الأشهل ليلبسها صلى الله عليه وآله وسلم .

وربما كان يصلي بالناس وهو لابس الشملة .

وقال أنس : ربما رأيته صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بن الظهر في شملة عاقدا طرفيها بين كتفيه .

الإشراق التاسع : عمامته وقلنسوته:

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يلبس القلانس تحت العمائم ، ويلبس القلانس بغير العمائم ، والعمائم بغير القلانس .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يلبس البرطلة، وكان يلبس من القلانس اليمنية ، ومن البيض المصرية ، ويلبس القلانس ذوات الأذان في الحرب ، ومنه يكون من السيجان الخضر ، وكان ربما نزع قلنسوته فجعلها سترة بين يديه يصلي إليه .

البرطلة : قلنسوة طويلة . البيض : الخوذة وهو من آلات الحرب لوقاية الرأس ، السيجان جمع الساج : الطيلسان الواسع المدور .

وكان صلى الله عليه وآله كثيرا ما يتعمم بعمائم الخز السود في أسفاره وغيرها ، ويعتجر اعتجارا ، وربما لم تكن له العمامة فيشد العصابة على رأسه أو على جبهته ، وكان شد العصابة من فعاله كثيرا ما يرى عليه .

إعتجر : لف عمامته . والاعتجار : لبس العمامة دون التلحي وهو أن يلفيه على رأسه ويرد طرفها على وجهه ، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه .

وكانت له صلى الله عليه وآله وسلم عمامة يعتم بها يقال لها :

السحاب ، فكساها عليا عليه السلام ، وكان ربما طلع علي فيه .

فيقول : أتاكم علي تحت السحاب يعني عمامته التي وهبها له .

وقالت عائشة : ولقد لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبة صوف وعمامة صوف ، ثم خرج فخطب الناس على المنبر ، فما رأيت شيئا مما خلق الله تعالى أحسن منه فيها .

الإشراق العاشر : كيفية لبسه :

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : إذا لبس ثوبا جديدا قال :

الحمد لله الذي كساني ما يواري عورتي وأتجمل به في الناس .

وكان إذا نزعه نزع من مياسره أولاً .

وكان من أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا لبس الثوب الجديد حمد الله ، ثم يدعو مسكينا فيعطيه القديم ، ثم يقول :

ما من مسلم يكسو مسلما من شمل ثيابه ، لا يكسوه إلا لله عز وجل ، إلا كان في ضمان الله عز وجل وحرزه وخيره وأمانه ، حيا وميتا .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا لبس ثيابه واستوى قائما قبل أن يخرج قال :

اللهم بك استترت وإليك توجهت وبك اعتصمت وعليك توكلت .

اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي ، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهمني وما لا أهتم به وما أنت أعلم به مني ، عز جارك وجل ثناءك ولا إله غيرك .

اللهم زودني التقوى واغفر لي ذنبي ووجهني للخير حيثما توجهت " .

ثم يندفع لحاجته .

وكان له صلى الله عليه وآله وسلم :

ثوبان للجمعة خاصة ، سوى ثيابه في غير الجمعة .

وكانت له صلى الله عليه وآله وسلم : خرقة ومنديل يمسح به وجهه من الوضوء ، وربما لم يكن مع المنديل ، فيمسح وجهه بطرف الرداء الذي يكون عليه.

الإشراق الحادي عشر : خاتمه :

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : لبس خاتما من فضة ، وكان فصه حبشيا فجعل الفص مما يلي بطن الكف .

ولبس خاتما من حديد ملويا عليه وفضة أهداها له معاذ بن جبل فيه محمد رسول الله ، ولبس خاتمه في يده اليمنى ثم نقله إلى شماله ، وكان خاتمه الأخر الذي قبض وهو في يده خاتم فضة ، فصة فضة ظاهرا كما يلبس الناس خواتيمهم وفيه محمد رسول الله .

ويروى أنه لم يزل كان في يمينه إلى أن قبض .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : ربما جعل خاتمه في إصبعه الوسطى في المفصل الثاني منها . وربما لبسه كذلك في الإصبع التي تلي الإبهام . وكان ربما خرج على أصحابه وفي خاتمه خيط مربوط ليستذكر به الشيء .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يختم بخواتيمه على الكتب ويقول : الخاتم على الكتاب حرز من التهمة .

الإشراق الثاني عشر : نعله :

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يلبس النعلين بقبالين ، وكانت مخصرة معقبة ، حسنة التخصير مما يلي مقدم العقب، مستوية ليست بملسنة ، وكان منه ما يكون في موضع الشيء الخارج قليلاً .

القبال بالكسر : زمام النعل . مخصرة : أي مستدقة الوسط ، وكانت نعله مخصرة أي لها دقة في الوسط ، وكانت معقبة أي جعل لها العقب ، غير ملسنة : أي م جعلت شبيهة باللسان في دقة مقدمه .

وكان كثيرا ما يلبس السبتية التي ليس لها شعر .

السبت : الجلد المدبوغ .

وكان إذا لبس بدأ باليمنى وإذا خلع بدأ باليسرى .

وكان يأمر بلبس النعلين جميعا وتركها جميعا كراهة أن يلبس واحدة دون أخرى . وكان يلبس من الخفاف من كل ضرب .

الإشراق الثالث عشر : فراشه :

وكان فراشه صلى الله عليه وآله وسلم : الذي قبض وهو عنده من أشمال وادي القرى محشواً وبراً .

وقيل : كان طوله ذراعين أو نحوهما وعرضه ذراع وشبر .

عن علي عليه السلام : كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة . وكانت مرفقته (مخدة) أدم حشوها ليف . فثنيت ذات ليلة ، فلما أصبح قال : لقد منعني الليلة الفراش الصلاة ، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل له بطاق واحد .

وكان له صلى الله عليه وآله وسلم : فراش من أدم حشوه ليف ، وكانت له عباءة تفرش له حيثما انتقل وتثنى ثنتين .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : كثيرا ما يتوسد وسادة له من أدم حشوها ليف ويجلس عليها .

وكانت : له قطيفة فدكية يلبسها يتحنشع بها .

وكانت له قطيفة : مصرية قصيرة الخمل ، وكان له بساط من شعر يجلس عليه وربما صلى عليه .

والخمل بالفتح : ما يكون كالزغب على القطيفة والثوب ونحوهما وهو من أصل النسيج .

الإشراق الرابع عشر : نومه :

كان صلى الله عليه وآله وسلم : ينام على الحصير ليس تحته شيء غيره .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم:يستاك إذا أراد أن ينام ويأخذ مضجعه.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أوى إلى فراشه اضطجع على شقه الأيمن ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ، ثم يقول :

" اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك " .

وتوجد أدعية أخرى مذكورة في كتب الدعاء وهذا قسم آخر في الأمر الأتي .

الإشراق الخامس عشر : دعائه عند مضجعه :

وكان له أصناف من الدعوات يدعو بها إذا أخذ مضجعه ، فمنه أنه كان يقول : " اللهم إني أعوذ بمعافاتك من عقوبتك ؛ وأعوذ برضاك من سخطك ؛ وأعوذ بك منك ، اللهم إني لا أستطيع أن أبلغ في الثناء عليك ولو حرصت ؛ أنت كما أثنيت على نفسك " .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند منامه :

" بسم الله أموت وأحيا وإلى الله المصير ، اللهم آمن روعتي ، واستر عورتي ، وأدعني أمانتي " .

كان يقرأ آية الكرسي عند منامه .

ويقول : أتاني جبرائيل فقال : يا محمد إن عفريتا من الجن يكيدك في منامك فعليك بآية الكرسي .

الإشراق السادس عشر : دعاءه عند استيقاظه:

عن أبي جعفر عليه السلام قال : ما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نوم إلا خر لله ساجدا .

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم : كان لا ينام إلا والسواك عند رأسه فإذا نهض بدأ بالسواك .

وكان مما يقول إذا استيقظ : " الحمد لله الذي أحياني بعد موتي إن ربي لغفور شكور " .

وكان يقول : " اللهم إني أسألك خير هذا اليوم ونوره وهداه وبركته وطهوره ومعافاته ، اللهم إني أسألك خيره وخير ما فيه وأعوذ بك من شره وشر ما بعده " .

الإشراق السابع عشر : سواكه :

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يستاك كل ليلة ثلاث مرات : مرة قبل نومه ، ومرة إذا قام من نومه إلى ورده ، ومرة قبل خروجه إلى صلاة الصبح . وكان يستاك بالأراك ، أمره بذلك جبرائيل عليه السلام .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لقد أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي .

عن الصادق عليه السلام قال : إني لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت عليه خلة من خلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بها ) .

النتيجة النبي بأخلاقه أهلا للنبوة :

يا طيب إن ما ذكرنا : من آداب نبينا الكريم وصفاته الفاضلة في هذا الباب ولم نذكر مصدره ، فهو من كتاب : مكارم الأخلاق الشيخ الجليل رضي الدين أبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري ص1ـ40 ، ومن أراد التوسع في معرفة كل ما نقل عن النبي الكريم في صفاته الحسنة وأخلاقه الفاضلة وآدابه الكريمة فعليه بالكتاب ومراجعة باقي فصوله .

كما إنه هناك : جمع من الكتب نقلت الكثير من أخلاقه وآدابه وسننه صلى الله عليه وآله وسلم ووصفت أحواله ، ومنها ما ذكر في كتاب الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي رحمه الله ، وقد ذكر جملة من أخلاق وآداب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، بل ذكر معنى الآداب وآداب الأنبياء في القرآن وجملة من الأحاديث التي تتجاوز المائة والثمانون ، وهو في الجزء السادس في تفسير الآيات من116ـ120 من سورة المائدة .

وخصص في كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله في أخلاق النبي الجزء السادس عشر من الصفحة مئة وأربعة وأربعون حتى الجزء السابع عشر الصفحة مئة وثمانية وخمسون ، بل القسم الثاني من كتاب بحار الأنوار بعد بيان العقائد وسيرة المعصومين بعد الجزء خمسون ، هو في بيان آداب الدين وسننه و طيباته وحلاله وما يطاع به الله ، وبها من تعاليم الإسلام ما يدل على عظمته وشموله لكل جوانب الحياة التي عرفها لنا نبي الرحمة وسيد الكائنات الهادي لمعارف الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

وفي هذا الباب : كان مختصر من المعرفة لنبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في أغلب أوصافه وخصائصه وأخلاقه الفاضلة ، وآدابه الشريفة . ومكارم سننه العفيفة وحالاته الكريمة : في كل شيء سواء في الملبس والتختم ، أو المأكل والطعام والمشرب ، وفي الحضر والسفر ، وفي المشي والجلوس والقيام ، وصفات نعله وثوبه ومنامه ، وصومه وصلاته ودعاءه وبكاءه ، وكلامه وسلامه ومصافحته ، وكل م يتصل به صلى الله عليه وآله وسلم .

وكلها تبين لك أن كان زاهد عابد : لا يعمل شيء إلا وأن يكون رضا الله فيه ، فهو المتواضع مع ما مكنه الله وأعطاه ، لم تغره الدنيا وزينته ، فتجده هو العفيف الرؤوف الرحيم الشجاع ، يلاطف أصحابه ويتجمل لهم ، ويتطيب ويتطهر ويظهر بأفضل مظهر .

علمهم وعلمنا وعلم كل الدنيا : مكارم الأخلاق وأشرف الآداب ، التي تجعل الإنسان في كل أحواله مع الله ذاكراً له ، سواء في صحبته للإخوان وجلوسه ونومه ويقظته ، أو في لبسه وفي أكله وشربه وفي كل شيء من أحواله ، لا ينسى ول يغفل ولا يسهو عن نعمة الله وذكره ، وإقامة العبودية له وشكره الله سبحانه ، وفي كل حركه من حركات العبد المؤمن و سكناته .

ولو استطاع إنسان : أن يطبق قسم منها ويراعيها لحصل له مقام عالي ورفيع ، ولعرف فضله في عالم الدنيا والآخرة ، وعرف نفسه وعرفه الناس أنه الإنسان الوقور الفاضل العارف المؤمن الموقن ، وذو الشيم العالية والمناقب الفاضلة ، ولكان إنسان متين شريف له حسن المكارم والآداب في منطقه ومشيه وجميع حركاته وسكناته ، ولهابه الناس ونال أعلى الاحترام من قبل كل من جالسه أو ممن يراه ، ولكان في قمة الحسن في الأخلاق والآداب في ذاته وصفاته وأفعاله وأقواله ، ولكان أقرب الناس في طاعته من الله ، ولكان في مقام القرب عند الله ، ومع النبي وآله الطيبين الطاهرين في الدنيا والآخرة يحف بهم ويتنعم بنعمة الله عليهم وعلى كل الصالحين والطيبين من المؤمنين المقتدين بهم ، ولكان في زمرة الشهداء والصديقين وحسن مع أولئك رفيق .

فيا طيب : إن كل ما ذكرنا من الأخلاق الفاضلة والآداب الحسنة والسنن الكريمة عن نبي الرحمة وسيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ترينا بحق كلها ضرورة وجوده ليُعلم العباد ما فيه كمال معاشرتهم فيما بينهم و حسن الخلق بالعشرة الطيبة ، بعد إن كانوا جفاة لا يرجون ولا يرحمون إلاً ولا رحما ول ذمة ولا يفون بعهد ولا وعد ولا قيمة لخُلق كريم عندهم إلا لمن لندر منهم ، وكم عرفت حال الناس قبل البعثة في الباب الثاني : بما وصف لنا حالهم الإمام علي وبنت النبي وجعفر بل الله تعالى في كتابه ذكر حال الناس والأمم والمجتمعات الذين تخلو عن الله وعن مكارم آدابه لعباده فوهبهم به الكتاب والحكمة والآداب الكريمة والأخلاق العظيم وكل حلال وطيب .

فهذا باب كريم يا أخي الطيب : وهو من شواهد الصدق لنبوة نبين الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهداه ونوره ونعيم الله عليه وفضله وكرمه ، بل هي عين آثار النبوة وشؤونها .

ونسأل الله أن يفهمها لنا وأن لا ننساها ونحفظها بوعي ، وأن نتحلى بأخلاقه وصفاته وأحواله صلى لله عليه وآله ، بل يجب علينا أن نجعله قدوة وأسوه لنا في كل شيء ، ونسأل الله أن يمكننا من السير على هداه والأخذ بسنته ويجعلن نعمل بكل ما كتبناه وقرأناه عن مكارمه ، ومراعين لآدابه الكريمة وأخلاقه الفاضلة كلها ويمكنا منها ، إنه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين .

الباب السابع
ذكر أحاديث حكيمة ومواعظ بليغة لنبينا الأكرم في أصول العلم والإيمان وآداب الدين

في هذا الباب : أحاديث شريفة لنبي الرحمة وتعاليم عالية منيفة تعرفنا كثير من حقائق الهدى والإيمان وآدابه ، وما يجب أن يكون عليه المؤمن من الأوصاف الكريمة في حقيقة روحه ، وهي أحاديث يحدثنا بها نبيينا الأكرم بعد إن كان الباب السابقة بتعريف آله الطيبين وصحبه الكرام لخُلقه العظيم وآدابه الحسنة ، وهي شاهد عظيم تعرفنا هداه الكريم في كثير من جوانب الحياة وترينا ضرورة بعثة نبين الأكرم محمد صلى الله عليه وآله ليهدنا الصراط المستقيم لكل نعيم .

ذكر :هدى نبينا الأكرم بجوامع الكلام وقصار الحكم:

في الحقيقة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم : هو الإسلام والإيمان واليقين ونور الهدى والدين القويم كله ، فهو القرآن الناطق وشرحه وبيانه وعلومه علما وعملا ، وقد قال تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَ فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } النجم 9 .

فالله سبحانه وتعالى يبين في كتابه المجيد : أن النبي الأكرم في كل نطقه وكلامه هو من وحيه تعالى ويعرف تعاليمه ، وأن الكتاب المنزل وشرحه وبيانه وتفسيره بيد رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فلذا يكون نطق النبي وحديثه الذي يشمل خطبه والحكم التي يبينها ومواعظه الكريمة هي نور وهدى من وحي الله ورسالته لعباده ، ومأخوذة من تعاليم الله ومعارفه التي عرفها الله له ليهدي الله بها من يؤمن بها لسعادة الدنيا والآخرة .

فهو صلى الله عليه وآله وسلم : معلم الوجود وهاديه ونوره ، وسراج الله وصراطه المستقيم ، أنظر قول الله تعالى حيث يعرف نبيه الكريم : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرً (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا } الأحزاب47.

وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ }آل عمران 164. وقال تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }البقرة 151 .

ومن هذا الباب والباب السابق تعرف يا طيب : إن تعليم نبين الكريم بنطقه وبكلامه وبحديثه الشريف ، وهو عين تطبيقه وظهوره به بأخلاقه عمل وظهورا لعبودية الله تعالى ، فبأي شيء تقتدي به هو ظهور بطاعة الله وإقامة لم يحب ويرضى ، فهو الأسوة بأمر الله في أي حال له سيرة وسلوك وحديث ونطق وكلام وشرح وبيان لمعارف الله تعالى ، فهو بحق نبي الله وأشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم .

ولذا يا طيب : وجب علينا إطاعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كما عرفت في الباب السابق وهنا بكل تعاليمه ، لأنه هو السباق بالخيرات والعامل بالعمل الصالح بسلوكه وسيرته وأقواله وسكوته ، وما عرفت من سيرته وسلوكه وبالخصوص في الباب السابق من آدابه الحسنة وأخلاقه الفاصلة ، وما سنتلو هنا عليك من أقوال نبينا الأكرم وأحاديثه الشريفة هي تبين شمه من تعاليمه الكريمة وموجز من حكمه ومواعظه ، وتفصيل القول فيها يحتاج إلى كتاب له أجزاء ، ولا بُعد أن نقول : أن كل ما كتبه المؤمنون من التعاليم والتفاسير والتي تتجاوزا الملايين من الكتب فضلا عن الآلاف من أول ظهور الإسلام وحتى الآن ، هي أما نصوص كلامه الشريف وأحاديثه أو سيرته وسلوكه وبيان لخلقه أو دينه ، أو ترجع لها بالبيان والتفسير والشرح .

وحتى تعاليم ومعارف وأحاديث وكلام أهل البيت من آله الطيبين الطاهرين ومن يتولاهم فضلا عن غيرهم ، هي عندما تنسب لأئمة الحق المعصومين عليهم السلام فأصلها من معارف النبي ، وهي إما نقل لقوله أو سيرته أو خلقه أو تأريخ النبي الكريم أو حاله من حالات بيان دينه القيم وهداه الحق .

فإنه قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحديث رسول الله قول الله عز وجل .

فنبيا الأكرم علّم الوجود وأهله : الخير والبركة والحكمة والكتاب وما به يكتسب نور الرب المتعال وهداه ، وهو أفضل نعم الله وما يسلك به لرضوانه ومزيد من بره وإحسانه ، فهو صلى الله عليه وآله وسلم المبين لكتاب الله المجيد الذي فيه تبيانا لكل شيء ، فمن هدي لكلام رسول الله من الطريق القويم والصراط المستقيم الذي نصبه الله ؛ فقد هدي لدين الله وحقيقة عبوديته وتوحيده وصراطه المستقيم الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة .

ومَن لم يعمل جهده : للبحث عن تعاليم الله ورسوله والحديث الصحيح عن رسول الله ؛ فقد ضل وعليه يوم تبلى السرائر أن يبين حجته أمام الله ، وهناك القول الفصل وليس بالهزل .

وفي هذا الباب يا أخي : نتعرض لكلام نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يرينا بحق الشاهد الصدق على نبوته الكريمة وضرورة بعثته ليُعلم هدى الله ومعارفه ، فنتيقن واقعا دليل الحق لما نرى من تعاليم نور هدى الله ، فنتعرف على شيء من معارف الأحاديث الشريفة المختصرة الألفاظ الكثيرة المعنى ، والتي ترينا حقائق الحكمة ، وعين البلاغة ، وبقصار الكلم وجوامعه الذي يهب الموعظة الحسنة ونور هدى الدين القويم ، ومن خلال التعرض لجملة من المعارف في والأخلاق الفاضلة ، والتي في معنى بيان حقائق الإيمان وضلال الكفر وما شبهها ، والتي يقر لها الوجدان الطاهر ، ويصدقها الضمير الحي ، وتقبلها النفوس الكريمة فتطلبها ، وتحبها الأرواح العفيفة لتتحقق بها ، وذلك لكونها : بحق دين الله الرب الحي القيوم المدبر لعباده ولهادي لهم لأحسن كمال بما دلنا بها وبما تعرف من برهان الحق على النبوة ، ودليل الصدق على الرسالة ، وهذا كما كان في كل معارف الأبواب السابقة وبما سترى هنا أيضا والأبواب الآتية .

فسترى يا طيب إنها عين الهدى والإيمان ، وأساس العمل الصالح والسباق للخيرات ، بل هي نفس نعيم الله والخير والبركة الربانية ، والتزكية والطيب والتطهير الإلهي الذي علمه الله لنبينا الأكرم ، وذلك لكي يؤدبنا بأحسن الآداب ويعرفنا أحسن الأخلاق ومعارف النور ، فيسموا بعباده في عالم الروح وملكوت المعنى ونور الهدى الإلهي في أعلى مراتبه ،فيثير في الطيبين والعباد الصالحين دفائن عقولهم لكي يتمتعوا في عالم العبودية والطاعة الإلهية وشكر المنعم الحق ، والذي يزيد عباده المؤمنين كل خير وبركة ويضاعف لهم الحسنات ويمن عليهم بالمغفرة ، ويمنحهم الاطمئنان لنفوسهم المؤمنة ، والراحة الدائمة لأرواحهم الموقنة ، وفي جميع الأحوال والظروف والزمان والمكان ، والتي لا تصاب بإنفاق أنفس الأموال ولا بأفكار غيره من النساء والرجال ،فلا هدى ونور حق للأرواح الخيرة بغيرها.

وقبل أن أذكر كلام نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، حببت أن أبين لك هذا الأمر : وهو إن الله لا يرضى حتى من نبيه الأكرم أن يتقول عليه بغير تعاليمه وغير ما أمر الله به فأنظر قوله تعالى :

{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون (38) وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } الحاقة 48 .

فإذا كانت تعاليم الله وحكمة وما يزكي به النفوس ويطهرها ويعلمه ، ويرفع الروح بها في عالم المعرفة ويسمو بها في ملكوت المعنى ونور الله وهداه ، هي إما كلام الله تعالى مباشر من الإلقاء في قلب نبينا أو وحي له منزل في كتاب الله المجيد ، أو حديث وقول وسلوك وتصرف عملي من نبيه الأكرم ، ولا يرضى الله من نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع من عنده ما لم ينزل به من سلطان ، أو أن يتقول على الله شيء ليس له أصل من علم الله ولا بيان من وحيه ، وحاشا النبي الأكرم من هذا وهو المعلَّم بيد القدرة الإلهية والتربية الربانية ، والتي شرفته على جميع الأنبياء والمرسلين فضلاً عن عباده المؤمنين والشهداء والصديقين ، ولكن خطاب القرآن نزل بإياك أعني وسمعي يا جاره ، وهذا فيه تذكرة لنا إن كن من المتقين .

نعم إذا كان هذا اهتمام الله في تعاليمه مع نبيه الأكرم وبيانها ، فكيف بنا في معرفة معالم الله ومعارفه التي بينها النبي الأكرم في أحاديثه وأقواله وسيرته ، والتي هي من الكتب وأفواه الرجال ، فنحن أيضاً يجب علينا أن نتحرى الدقة في المعرفة ، ونطلب الصراط المستقيم الذي يوصلنا للتعاليم الحقيقية الصادقة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

ولذا ما سنذكره هنا : من الأحاديث هي الأحاديث التي يرويه أصحاب أهل البيت عليهم السلام عن أهل البيت عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والمتقدمين من أصحاب أهل البيت عليهم السلام هم المخلصون من أصحاب رسول الله ممن حب أهل البيت عليهم السلام ، ولم يظهر نفاقه بعدائه لهم ، فيكون متهم بمفارقة الله ورسوله ، ويكون متهم في أقواله وبيانه .

فلذا ما نذكره هنا : هو بعض تعاليم النبي الأكرم وبعض ومواعظه وحكمه القصار البليغة ، والتي فيها جوامع الحكم وبليغ الكلام ، وعن ذلك الطريق المقدس الذي أعده الله ونبيه لبيان تعاليمه ، والتي فيها من الدقة والاختيار والعناية والتربية النبوية والإلهية ، والتي هي أقرب الطرق إن لم تكن الطريق الوحيد التي تبين لك فصاحة النبي الأكرم وعلو معارفه وعظيم تعاليمه ، وإن كان على نحو الإجمال والاختصار ، فهي تكفي إن شاء الله لأن تكون كشاهد حق لرسالته وبيان وبرهان قوي لصدق نبوته صلى الله وسلامه عليه وعلى آله ، فتدبرها مشكوراً ، ونسأل الله أن ينفعن بها .

وأما هنا يا طيب في البحث الأول نذكر أمران: فنبدأ أولاً بحديث شريف جامع : وهو كافي لمن يكتفي بجوامع الكلم وفيه خلاصة الحكمة والموعظة الحسنة ، وهو حديث نبوي شريف مما أوصى به نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأقرب الناس إليه وهو أبو سبطيه ووصية وأخيه الإمام علي عليه السلام ، كما توجد أحاديث كثيرة عن النبي في الخطب والوصايا لأبي ذر ولأبن مسعود ولسلمان ولأُبي وغيرهم ، ولا يسع المجال هنا لذكرها ولعله يوفقنا الله لجمعها من بطون الكتب أو يوفق غيرن ويجعلها في كتاب مستقل .

ثم نذكر ثانيا : أربعون حديث في حديث واحد لمن حب أن يحفظه ويصدق عليه أنه فقيه وعالم في دين الله ، وبتطبيقها والتلبس بها نكون من المؤمنين الصادقين في دينهم ، وهي وصية من النبي الأكرم لعلي بن أبي طالب صلاة الله عليهم وعلى آلهم ، وهو حديث من جوامع الكلم كسابقه بين مدينة العلم وبابها ، ونسأل الله أن تكون لنا دستور علم وعمل .

ثم في البحث الثاني : نذكر أحاديث نبوية شريفة كثيرة من كتاب أصول الكافي لمَن يطلب المزيد من العلم والمعرفة الإلهية في الموعظة والحكمة والأخلاق ، لتذوق روحه معارف الله المنورة للوجود بحق ، فيسموا في العلم الإلهي والمعارف الربانية لأعلى حللها وآدابها فيكون مظهرا كاملا لها علما وعملا ، ونسأل الله أن يمكننا من تحملها وأدائها بأحسن صورة يحبها ويرضاها وهو ولي التوفيق ، وهو ارحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين :

الذكر الأول
أحاديث شريف جامعة في الآداب النبوية للوصي ولنا

وفيه مشارق نور :

الإشراق الأول : وصية من نبينا الأكرم لأخيه علي :

وصية النبي الأكرم : مدينة علم الله ونور هداه صلى الله عليه وآله وسلم لبابها الروحي ومظهرها الأولي بعده : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهي بين يديك يا طيب : فأدخل المدينة من بابها وتنعم به ، وأسأل الله التوفيق لحفظها علماً وقولاً وعملاً وسيرة وسلوكاً ، وأن يجعله سبحانه : أساس لملكة أخلاقك الفاضلة ، وطيب لنفسك اللطيفة ، وزكاة لروحك المطمئنة ، وطهارة لتفكيرك السالم ، حتى لتكون مقتدي بهداه ونوره بكل وجودك فتطيب به وتتنعم بكل حال لك ، ونسأل الله أن يجعلنا وإياك معهم في كل نور هدى علموه بحق علما وعملا ، إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

يا علي : إن من اليقين : أن لا ترضي أحداً بسخط الله ، ولا تحمد أحداً بما آتاك الله ، ولا تذم أحدا على ما لم يؤتك الله ، فإن الرزق لا يجره حرص حريص ولا تصرفه كراهة كاره ، إن الله بحكمه وفضله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .

يا علي : إنه لا فقر أشد من الجهل ، ولا مال أعود من العقل(1) ، ولا وحدة أوحش من العجب ، ولا مظاهرة أحسن من المشاورة(2) ، ولا عقل كالتدبير ، ولا حسب كحسن الخلق(3) ، ولا عبادة كالتفكر .

يا علي : آفة الحديث الكذب ، وآفة العلم النسيان ، وآفة العبادة الفترة(4) ، وآفة السماحة المنّ(5) ، وآفة الشجاعة البغي ، وآفة الجمال الخيلاء ، وآفة الحسب الفخر(6) .

يا علي : عليك بالصدق ، ولا تخرج من فيك كذبة أبداً ، ول تجترئن على خيانة أبداً ، والخوف من الله كأنك تراه ، وابذل مالك ونفسك دون دينك ، وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها ، وعليك بمساوي الأخلاق فاجتنبها .

يا علي : أحب العمل إلى الله ثلاث خصال : من أتي الله بم افترض عليه فهو من أعبد الناس ، ومن ورع عن محارم الله فهو من أورع الناس ، ومن قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس .

يا علي : ثلاث من مكارم الأخلاق : تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك .

يا علي ثلاث منجيات : تكف لسانك ، وتبكي على خطيئتك ، ويسعك بيتك .

يا علي سيد الأعمال ثلاث خصال : إنصافك الناس من نفسك ، ومساواة الأخ في الله ، وذكر الله على كل حال .

يا علي : ثلاثة من حلل الله(7) : رجل زار أخاه المؤمن في الله فهو زور الله وحق على الله أن يكرم زوره(8) ويعطيه م سأل ، ورجل صلى ثم عقب إلى الصلاة الأخرى فهو ضيف الله وحق على الله أن يكرم ضيفه ، والحاج والمعتمر فهما وفدا الله وحق على الله أن يكرم وفده .

يا علي : ثلاث ثوابهن في الدنيا والآخرة : الحج ينفي الفقر ، والصدقة تدفع البلية ، وصلة الرحم تزيد في العمر .

يا علي : ثلاث من لم يكن فيه لم يقم له عمل : ورع يحجزه عن معاصي الله عز وجل ، وعلم يرد به جهل السفيه ، وعقل يداري به الناس .

يا علي : ثلاثة تحت ظل العرش يوم القيامة : رجل أحب لأخيه ما أحب لنفسه ، ورجل بلغه أمر فلم يتقدم فيه ولم يتأخر حتى يعلم أن ذلك الأمر لله رضى أو سخط ، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يصلح ذلك العيب من نفسه ، فإنه كلما أصلح من نفسه عيبا بدا له منها آخر ، وكفى بالمرء في نفسه شغلاً .

يا علي : ثلاث من أبواب البر : سخاء النفس ، وطيب الكلام ، والصبر على الأذى .

يا علي : في التوراة أربع إلى جنبهن أربع : من أصبح على الدني حريصا أصبح وهو على الله ساخط ، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يكشو ربه ، ومن أتى غنيا فتضعضع له (9) ذهب ثلثا دينه ، ومن دخل النار من هذه الأمة فهو ممن اتخذ آيات الله هزوا ولعبا .

أربع إلى جنبهن أربع : من ملك استأثر(10) ، ومن لم يستشر يندم ، كما تدين تدان ، والفقر الموت الأكبر .

فقيل له : الفقر من الدينار والدرهم ؟ فقال : الفقر من الدين .

يا علي : كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاث أعين : عين سهرت في سبيل الله(11) ، وعين غضت عن محارم الله ، وعين فاضت من خشية الله(12) .

يا علي : طوبى لصورة نظر الله إليها تبكي على ذنب لم يطلع على ذلك الذنب أحد غير الله .

يا علي : ثلاث موبقات ، وثلاث منجيات . فأما الموبقات : فهوى متبع ، وشح مطاع(13) ، وإعجاب المرء بنفسه . وأما المنجيات : فالعدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وخوف الله في السر والعلانية كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

يا علي ثلاث : يحسن فيهن الكذب(14) : المكيدة في الحرب ، وعدتك زوجتك ، والإصلاح بين الناس .

يا علي : ثلاث يقبح فيهن الصدق : النميمة ، وإخبارك الرجل عن أهله بما يكره ، وتكذيبك الرجل عن الخير .

يا علي أربع يذهبن ضلالاً(15) : الآكل بعد الشبع ، والسراج في القمر ، والزرع في الأرض السبخة(16) ، والصنيعة عند غير أهلها(17) .

يا علي : أربع أسرع شيء عقوبة : رجل أحسنت إليه فكافأك بالإحسان إساءة ، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك ، ورجل عاقدته على أمر فمن أمرك الوفاء له ومن أمره الغدر بك ، ورجل تصله رحمه ويقطعها .

يا علي : أربع من يكن فيه كمل إسلامه : الصدق ، والشكر ، والحياء ، وحسن الخلق .

يا علي : قلة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر ، وكثرة الحوائج إلى الناس مذلة وهو الفقر الحاضر.

المصدر التحف العقول ص 6 ، ورواها البرقي في كتاب الأشكال والقرائن من المحاسن ص 17 مسندا عن أبى عبد الله عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وعليهم أجمعين . بيان : (1) الأعود : الأنفع . (2) المظاهرة : المعاونة وفى المحاسن [ أوثق من المشاورة ]. (3) زاد في المحاسن [ ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق ]. (4) الفترة : الانكسار والضعف وأيضا الهدنة . وزاد في المحاسن [ وآفة الحسب الفخر ].

(5) زاد في المحاسن [ وآفة الظرف الصلف ]. والسماحة: الجود. (6) زاد في المحاسن [ يا علي انك لا تزال بخير ما حفظت وصيتي أنت مع الحق والحق معك ].(7) الحلل جمع الحلة – بالضم كقلل وقلة - وهى الثوب الساتر لجميع البدن . (8) زوره : أي زائره وقاصده . (9) تضعضع له : أي ذل وخضع له ، وإنما ذلك إذا كان خضوعه لغناه . (10) كذا وسقطت لفظة " يا علي " من صدر الكلام. والاستيثار : الاستبداد ، يقال استأثر بالشيء : استبد به وخص به نفسه. (11) سهر : كفرح أي بات ولم ينم ليلا. أي تركت النوم قدرا معتدا به زيادة عن العادة في طاعة الله كالصلاة وتلاوة القرآن والدعاء ومطالعة العلوم الدينية أو في طريق الجهاد والحج والزيارات وكل طاعة لله سبحانه. (12) المحارم جمع محرم على بناء المصدر الميمي أي ما حرم الله النظر إليه. وعين فاضت أي سال دمعها بكثرة. (13) الشح : البخل والحرص .

(14) لا يخفى أن الكذب حرام وارتكابه من المعاصي كسائر المحرمات ول فرق في ذلك بينه وبين سائر المحرمات ولكن إذ دار الأمر بينه وبين الأهم فليقدم الأهم حينئذ لان العقل مستقل بوجوب ارتكاب أقل القبيحين عند التزاحم كما إذا آل الأمر بإنقاذ غريق إلى ارتكاب معصية مثلا بالمرور بأرض مغصوبة أو تزاحم الأمر بينه وبين واجب أخر فليقدم الأهم منهما وقد دلت الأدلة الأربعة - الكتاب والسنة والإجماع والعقل - عليها وهذا الكلام وما بعده من تلك الموارد ، وعدة الزوجة مع العلم بعدم القدرة على الوفاء بعض الأحيان قاطع للفتنه والجاج والعناد ، وقد يكون إلحاح وتصور أمر قد يبين الصلاح في ضده ، والعدة بعض الأحيان جالب للمحبة حتى يمكن توضيح الأمر على عدم المقدرة ، أو سبب الانصراف عن الوعد ، ولكثرة المخالطة قد تكون وعود بين الرجل وزوجته كثيرة قد يصعب تذكرها أو الوفاء بها في كل الأحوال ، فلذا سمح بعض الأحيان بتجاوزها ، وكل هذا على أن لا يكون فيه غصب لحق الزوجة أو منافي للواجبات بينهم ضلاً من أن يكون فيه ظلم وجور . (15) في بعض نسخ الحديث [ ضياعا ] والمراد منهما الإتلاف والإهمال. (16) السبخة : أرض ذات ملح. يعلوها الملوحة ولا يكاد ينبت فيها نبات . (17) الصنيعة : الإحسان .

الإشراق الثاني : أربعون حديث في حديث واحد للحفظ :

وهو وصيه من نبينا الأكرم سيد المرسلين وخاتم النبيين لوصيه وخليفته علي بن أبي طالب صلى الله عليهم وآلهم وسلم ، وقسمناها وفق فقرات ثمانية ، في كل فقرة خمسة أحاديث جامعه ، فيكون المجموع أربعون ليستبين معرفته وليسهل حفظها ، ونسأل الله أن يوفقنا لمعرفة معناها والعمل بها بكل حين حتى ليجعلها ملكة راسخة في نفوسنا ويطيب بحقائقها أرواحنا ، فيجعلنا في نعيم طاعته ورضاه ، إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين :

ذكر الصدوق في الخصال : بالإسناد عن الحسين بن علي عليهم السلام قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وكان فيما أوصى به أن قال له :

يا علي : من حفظ من أمتي أربعين حديثا يطلب بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة ، حشره الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

فقال علي عليه السلام : يا رسول الله أخبرني ما هذه الأحاديث فقال صلى الله عليه وآله وسلم :

أن تؤمن بالله وحده لا شريك له وتعبده ولا تعبد غيره . وتقيم الصلاة بوضوء سابغ في مواقيتها و لا تؤخرها فإن في تأخيرها من غير علة غضب الله عز وجل . وتؤدي الزكاة . وتصوم شهر رمضان . وتحج البيت إذا كان لك مال وكنت مستطيع .

وأن لا تعق والديك . ولا تأكل مال اليتيم ظلما ولا تأكل الرب . ولا تشرب الخمر ولا شيئا من الأشربة المسكرة . ولا تزني ولا تلوط . ولا تمشي بالنميمة .

ولا تحلف بالله كاذبا . ولا تسرق . ولا تشهد شهادة الزور لأحد قريبا كان أو بعيدا . وأن تقبل الحق ممن جاء به صغيرا كان أو كبيرا . وأن لا تركن إلى ظالم وإن كان حميما قريبا .

وأن لا تعمل بالهوى . ولا تقذف المحصنة . ولا ترائي فإن أيسر الرياء شرك بالله عز وجل . وأن لا تقول لقصير : يا قصير ولا لطويل : يا طويل تريد بذلك عيبه وأن لا تسخر من أحد من خلق الله . وأن تصبر على البلاء والمصيبة.

وأن تشكر نعم الله التي أنعم بها عليك . وأن لا تأمن عقاب الله على ذنب تصيبه وأن لا تقنط من رحمة الله . وأن تتوب إلى الله عز وجل من ذنوبك فإن التائب من ذنوبه كمن لا ذنب له ولا تصر على الذنوب مع الاستغفار فتكون كالمستهزئ بالله وآياته ورسله . وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطئك لم يك ليصيبك . وأن لا تطلب سخط الخالق برضى المخلوق .

وأن لا تؤثر الدنيا على الآخرة لان الدنيا فانية والآخرة الباقية . وأن لا تبخل على إخوانك بما تقدر عليه . وأن تكون سريرتك كعلانيتك وأن لا تكون علانيتك حسنة وسريرتك قبيحة فإن فعلت ذلك كنت من المنافقين . وأن لا تكذب وأن لا تخالط الكذابين . وأن لا تغضب إذا سمعت حقا .

وأن تؤدب نفسك وأهلك و ولدك وجيرانك على حسب الطاقة . وأن تعمل بما علمت ولا تعاملن أحدا من خلق الله عز وجل إلا بالحق . وأن تكون سهل للقريب والبعيد وأن لا تكون جبارا عنيدا . وأن تكثر من التسبيح والتهليل والدعاء وذكر الموت وما بعده من القيامة والجنة والنار . وأن تكثر من قراءة القرآن وتعمل بما فيه .

وأن تستغنم البر والكرامة بالمؤمنين والمؤمنات . وأن تنظر إلى كل ما لا ترضى فعله لنفسك فلا تفعله بأحد من المؤمنين ولا تمل من فعل الخير . وأن لا تثقل على أحد . وأن لا تمن على أحد إذا أنعمت عليه . وأن تكون الدني عندك سجنا حتى يجعل الله لك جنة .

فهذه أربعون حديثا : من استقام عليها وحفظها عني من أمتي دخل الجنة برحمة الله ، وكان من أفضل الناس وأحبهم إلى الله عز وجل بعد النبيين والوصيين ، وحشره الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

الخصال ب40ص543ح19.

أللهم أنت الولي والهادي : هذه أحاديث شريف من نبيك الأكرم لوليك ، مكنا من الاستقامة عليها وحفظها حتى نكون بحق من أمة نبينك محمد صلى الله عليه وآله ، فنكون من أفضل الناس عندك وأحبهم إليك ، فتحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، إنك أرحم الراحمين ، وصلى اللهم على نبين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الذكر الثاني
حكم ومواعظ نبينا وإرشاده لتبليغنا رسالة ربنا المكرمة

يا طيب : هذه أحاديث نبوية شريفة في الحكمة البالغة والعلم الحق والموعظة الحسنة والأخلاق الفاضلة ، تعرفنا كثير من حقائق الإيمان الواجب التحلي به ، وترينا أنوار من معارف الهدى الواجب علينا التحقق به ، وتحذرنا الضلال والآثام والكفر ، وتنذرنا الرجس والظلام وكل ما يبعد عن الرب الرحمان ، فمعرفته بحقها للمؤمن والعلم والعمل بها نور يهدي للصواب ويرشد لمعالي الحكمة والموعظة الحسنة ، التي أدب الله بها نبينا وعلمها لنا على لسانه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .

وهي يا طيب : أحاديث شريفة مختارة من كتاب أصول الكافي للكليني رحمه الله ، وهي بحق كافية للمؤمن الشيعي ولكل طيب يجب أن يعرف نور هدى الله لأوليائه الصادقين المصدقين من رب العالمين ، والتي يختارها أفاضل علماء مذهبهم والكرماء ممن تحقق بنعيم هداهم حين عرفهم بالولاية والإمامة بكل وجوده ، فطلب علم الله ورسوله ونورهم ممن كان بحق يتتبع أحاديثهم ويسير بكل وجوده على هداهم ، فعرفها بصراطه المستقيم وسلك لرضوان الله متحققا بها علما وعملا ، ويرجوا بها رضا الله ومخلص بها له الدين .

وجعلنا هنا ثلاثمائة وثلاثة عشر حديثا : كعدد أصحاب نبين الأكرم في يوم بدر ، وهي من أكرم معارك الإسلام لنشر رسالته وتعريف هدى الله ، وبها ذاع صيته ونقلت همة النبي الأكرم لتعريف نور الله لكل العرب بل لكل الدني وعُرف عالمية رسالته ، بعد إن كان مكتوما ودعوة خاصة لأهل مكة والمدينة.

وبهذا العدد المبارك : يتوافق الجهاد ونشر العلم في عدد كريم ، سيكرمنا به الله تعالى إن شاء الله بجعل أنصار إمام الحق وولي عصرنا كذلك عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر قائد ، وهم يكونون أتقى عباد الله تعالى في كل الزمان الدنيوي بعد الأنبياء والمرسلين ، وهم الذي يهدون العباد بإذن الله بنقل تعاليم إمام العصر والزمان الحجة بن الحسين ولي دين الله وهو من ذرية النبي الأكرم وامتداد لوجوده البدني والروحي وفي الدنيا والدين ، وإن أنصاره بهذا العدد الكريم هم الذين ينقلون معارفه وأوامره وما به صلاح المجتمع البشر وإشاعة العدل والإيمان فيه بعدما كان قد استولى عليه الكفر والنفاق والظلم والعدوان .

ونسال الله : أن يكون لنا بهذا العدد المبارك للأحاديث التالية نصيب معهم أو من المتملكين تحت قيادتهم ، وذلك بعد أن نتعلمها ونطبقها فننال رض الله ، ويملكنا في دولته في الدنيا والآخرة ، ونرث الأرض التي فيها نعيم الله وحسن جزاءه لعباده المخلصين الصالحين ، وكما عرفت في الباب السابق آياتها المجيدة ومنه : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} مريم . {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) }الأنبياء ، وراثة في الدارين لنا إن شاء الله مع أولياءه وقادة دينه تحت راية إمام الزمان ومع سرور نبينا بظهور دعوته ونشر دينه حتى يعم كل أهل الأرض ، ومنها تطبيق الأحاديث الآتية.

فإنها أحاديث كريمة يا طيب : أحفظ منها أربعون وأستقم عليه كلها ليصدق عليك حديث من حفظ الذي عرفته في البحث الأول : يا علي من حفظ من أمتي أربعين حديثا يطلب بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة ، حشره الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

وهذه أقسام لأنواع كريمة من معارف الله قسم الله لنا نورها وفيه أمور شريفة جعلنا الله أن نرتقي بها لعالم روح الأمر:

الإشراق الأول : علامات الإيمان والأخلاق الكريمة والآداب الحسنة

وفيه قبسات نور :

القبس الأول : العقل السليم وطلب العلم المنير للروح :

1ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا بلغكم عن رجل حسن حال ، فانظروا في حسن عقله ، فإنما يجازي بعقله .

أصول الكافي ج1ص12ب1ح9 .

2ـ قال رسول الله عليه السلام : طلب العلم فريضة على كل مسلم ، ألا إن الله يحب بغاة العلم.

الكافي ج1ص30ب1ح1.

3ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قالت الحواريون لعيسى : يا روح الله ! من نجالس ؟ قال : من يذكركم الله رؤيته ، ويزيد في علمكم منطقه ، ويرغبكم في الآخرة عمله.

الكافي ج1ص39ب8ح3 .

4ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة.

الكافي ج1ص39ب8ح4 .

5ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تذاكروا وتلاقوا وتحدثو فإن الحديث جلاء للقلوب ، إن القلوب لترين كما يرين السيف جلاؤها الحديث.

الكافي ج1ص41ب9ح8 .

6ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم وزير الإيمان العلم ، ونعم وزير العلم الحلم ، ونعم وزير الحلم الرفق ، ونعم وزير الرفق الصبر.

الكافي ج1ص48ب15ح4 .

7ـ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

فقال : يا رسول الله ما العلم ؟ قال : الإنصات .

قال : ثم مه ؟ قال : الاستماع .

قال : ثم مه ؟ قال : الحفظ .

قال: ثم مه ؟ قال: العمل به .

قال : ثم مه يا رسول الله ؟ قال : نشره.

الكافي ج1ص48ب16ح4 .

ـ جعلنا الله من المنصتين والسامعين والحافظين والعاملين والناشر لهدى الله ـ

8ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله .

الكافي ج1ص69ب19ح2.

9ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه.

الكافي ج1ص65ب22ح1.

10ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لا قول إلا بعمل .

ولا قول ولا عمل إلا بنية .

ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة .

الكافي ج1ص69ب22ح1.

القبس الثاني : وجوب الإيمان والمعرفة للهدى والعمل به :

11ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كل مولود يولد على الفطرة ، يعني المعرفة بأن الله عز وجل خالقه ، كذلك قوله : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (61) } العنكبوت. الكافي ج2ص13ب6ح2.

12ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أيها الناس إنم هو الله والشيطان ، والحق والباطل ، والهدى والضلالة ، والرشد والغي ، والعاجلة والآجلة والعاقبة ، والحسنات والسيئات ، فما كان من حسنات فلله ، وما كان من سيئات فللشيطان لعنه الله.

الكافي ج2ص16ب11ح2.

13ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإسلام عريان : فلباسه : الحياء ، وزينته : الوقار ، ومروءته العمل : الصالح ، وعماده : الورع ، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام : حبنا أهل البيت . الكافي ج2ص46ب22ح2.

14ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث أخافهن على أمتي من بعدي: الضلالة بعد المعرفة ، ومضلات الفتن ، وشهوة البطن والفرج. الكافي ج2ص79ب38ح6.

15ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ترك معصية لله مخافة الله تبارك وتعالى ، أرضاه الله يوم القيامة . الكافي ج2ص79ب39ح6.

16ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعمل بفرائض الله تكن أتقى الناس . الكافي ج2ص82ب40ح4.

17ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفضل الناس من عشق العبادة ، فعانقها ، وأحبها بقلبه ، وباشرها بجسده ، وتفرغ لها ، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا ، على عسر أم على يسر. الكافي ج2ص83ب42ح3.

18ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أقبح الفقر بعد الغنى ، وأقبح الخطيئة بعد المسكنة ، وأقبح من ذلك العابد لله ثم يدع عبادته.

الكافي ج2ص83ب42ح6.

19ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نية المؤمن خير من عمله ، ونية الكافر شر من عمله ; وكل عامل يعمل على نيته .

الكافي ج2ص84ب43ح2.

20ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا إن لكل عبادة الشرة ، ثم تصير إلى فترة ، فمن صارت الشرة عبادته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن خالف سنتي فقد ضل وكان عمله في تباب ، أما إني : اصلي وأنام وأصوم وأفطر وأضحك وأبكي ، فمن رغب عن منهاجي وسنتي فليس مني .

الكافي ج2ص85ب44ح1. بيان : الشرة بالكسر شدة الرغبة والنشاط ، التباب : الخسران والهلاك وفى بعض النسخ [ تبار ] وهو أيضا الهلاك .

21ـ وقال صلى الله عليه وآله وسلم : كفى بالموت موعظة ، وكفى باليقين غنى ، وكفى بالعبادة شغلا.

الكافي ج2ص85ب44ح1.

22ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق .

ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله ، فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى .

الكافي ج2ص86ب45ح1. الإيغال : السير الشديد والإمعان في السير والوغول الدخول في الشيء يعنى سيروا في الدين برفق وابلغوا الغاية القصوى منه بالرفق ل على التهافت والخرق ، ولا تحملوا على أنفسكم ولا تكلفوها ما لا تطيق ، فتعجز وتترك الدين والعمل . المنبت : يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبت راحلته : قد انبت ، من البت بمعنى القطع فهو مطاوع بت . الظهر : المركب : يريد أنه بقى في طريقه عاجزا عن مقصده لم يقض وطره وقد أعطب مركبه .

23ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سيأتي على الناس زمان : لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر ، ولا الغنى إلا بالغصب والبخل ، ولا المحبة إلا باستخراج الدين وإتباع الهوى .

فمن أدرك : ذلك الزمان ، فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى ، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة ، وصبر على الذل وهو يقدر على العز ؛ آتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي .

الكافي ج2ص91ب47ح12. باستخراج الدين : أي طلب خروج الدين من القلب أو بطلب خروجهم من الدين . وصبر على البضة أي بغضة الناس له لعدم اتباعه أهواء هم .

24ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الطاعم الشاكر : له من الأجر كأجر الصائم المحتسب ، والمعافى الشاكر : له من الأجر كأجر المبتلى الصابر ، والمعطى الشاكر : له من الأجر كأجر المحروم القانع .

الكافي ج2ص94ب48ح1.

25ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ما فتح الله على عبد باب شكر فخزن عنه باب الزيادة .

الكافي ج2ص94ب48ح2.

26ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صدق الله نج .

الكافي ج2ص99ب48ح29.

القبس الثالث : ضرورة التحلي بحسن الخُلق والعفو والحلم :

27ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ما يوضع في ميزان أمرؤٍ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق.

الكافي ج2ص99ب49ح2.

28ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم .

الكافي ج2ص100ب49ح5.

29ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق.

الكافي ج2ص100ب49ح6.

30ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر .

الكافي ج2ص103ب50ح1.

31ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

حسن البشر يذهب بالسخيمة.

الكافي ج2ص104ب50ح6.1 ، بيان : السخيمة : الحقد في النفس .

32ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أربع من كن فيه وكان من قرنه إلى قدمه ذنوبا ؛ بدلها الله حسنات :

الصدق ، والحياء ، وحسن الخلق ، والشكر.

الكافي ج2ص107ب52ح7.

33ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته : ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة ؟ :

العفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك .

والإحسان إلى من أساء إليك ، وإعطاء من حرمك .

الكافي ج2ص107ب53ح1. بيان : الخلائق جمع الخليقة وهى الطبيعة والمراد هنا الملكات النفسانية الراسخة

34ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكم بالعفو :

فان العفو لا يزيد العبد إلا عزا ، فتعافوا يعزكم الله .

الكافي ج2ص108ب53ح5.

35ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أحب السبيل إلى الله عز وجل جرعتان : جرعة غيظ تردها بحلم ، وجرعة مصيبة تردها بصبر .

الكافي ج2ص110ب54ح9.

36ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ما أعز الله بجهل قط ، ولا أذل بحلم قط.

الكافي ج2ص112ب55ح5 .

37ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن الله يحب : الحيي الحليم العفيف المتعفف .

الكافي ج2ص112ب55ح8 .

القبس الرابع : حفظ اللسان والورع عن محارم الله :

38ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمسك لسانك :

فإنها صدقة تصدق بها على نفسك : ثم قال :

ولا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه .

الكافي ج2ص114ب56ح7.

39ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

نجاة المؤمن (في) حفظ لسانه .

الكافي ج2ص114ب56ح9.

40ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من لم يحسب كلامه من عمله ، كثرت خطاياه وحضر عذابه .

الكافي ج2ص115ب56ح15.بيان : إنما حضر عذابه لأنه أكثر م يكون يندم على ما قاله ولا ينفعه الندم ولأنه قلما يكون كلام لا يكون موردا للاعتراض ولا سيما إذا كثر . ويمكن أن يكون المراد بحضور عذابه حضور أسبابه .

41ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن كان في شيء شؤم ففي اللسان.

الكافي ج2ص116ب56ح17.

42ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من رأى موضع كلامه من عمله ، قل كلامه إلا فيما يعنيه.

الكافي ج2ص116ب56ح19.

43ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل : ورع يحجزه عن معاصي الله ، وخلق يداري به الناس ، وحلم يرد به جهل الجاهل .

الكافي ج2ص116ب57ح1.

الإشراق الخامس : الرفق والمداراة والحب في الله والبغض من أجله :

44ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أمرني ربي بمداراة الناس ، كما أمرني بأداء الفرائض .

الكافي ج2ص116ب57ح4.

45ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن الرفق:لم يوضع على شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إل شانه .

الكافي ج2ص119ب58ح6.

46ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لو كان الرفق خلقا يرى ، ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه .

الكافي ج2ص120ب58ح13.

47ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما اصطحب اثنان إل كان أعظمهما أجرا وأحبهما إلى الله عز وجل ، أرفقهما بصاحبه .

الكافي ج2ص120ب58ح15.

48ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ود المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان ، ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله ؛ فهو من أصفياء الله.

الكافي ج2ص125ب60ح3.

49ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لأصحابه : أي عرى الإيمان أوثق ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم .

وقال بعضهم : الصلاة وقال بعضهم : الزكاة ، وقال بعضهم : الصيام ، وقال بعضهم : الحج والعمرة ، وقال بعضهم : الجهاد .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لكل ما قلتم فضل وليس به ، ولكن أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله ، وتوالي أولياء الله والتبري من أعداء الله .

الكافي ج2ص125ب60ح6.

50ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المتحابون في الله يوم القيامة على أرض زبرجدة خضراء في ظل عرشه عن يمينه وكلتا يديه يمين ، وجوههم أشد بياضا وأضوء من الشمس الطالعة ، يغبطهم بمنزلتهم كل ملك مقرب وكل نبي مرسل .

يقول الناس : من هؤلاء ؟ فيقال : هؤلاء المتحابون في الله.

الكافي ج2ص126ب60ح7.

القبس السادس : أطلب الرزق الحلال بعفاف وواسي إخوانك :

51ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن في طلب الدنيا إضرارا بالآخرة ، وفي طلب الآخرة إضرارا بالدني ، فأضروا بالدنيا فإنها أولى بالإضرار .

الكافي ج2ص131ب61ح12.

52ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

مالي وللدنيا : إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب ، رفعت له شجرة في يوم صائف ، فقال : تحتها ثم راح وتركها .

الكافي ج2ص134ب61ح19. بيان : مالي وللدنيا في بعض النسخ : ما أن والدنيا . يوم صائف : يوم حار . فقال تحتها : من القيلولة أي الاستراحة .

53ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من سألنا أعطيناه ، ومن استغنى أغناه الله .

الكافي ج2ص138ب63ح2.

54ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أراد أن يكون أغنى الناس ، فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره .

الكافي ج2ص139ب63ح8.

55ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله عز وجل : إن من أغبط أوليائي عندي : رجلا خفيف الحال ، ذا حظ من صلاة ، أحسن عبادة ربه بالغيب ، وكان غامضا في الناس ، جعل رزقه كفاف فصبر عليه ، عجلت منيته : فقل تراثه وقلت بواكيه .

الكافي ج2ص140ب64ح1.

56ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

طوبى لمن أسلم وكان عيشه كفافا .

الكافي ج2ص140ب64ح2.

57ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

اللّهم ارزق محمدا وآل محمد ومن أحب محمدا وآل محمد العفاف والكفاف ، وارزق من أبغض محمدا وآل محمد المال والولد.

لكافي ج2ص140ب64ح3.بيان : ذلك لأن المال والولد فتنة لمن افتتن به وربما يكون الولد عدوا كما قال الله تعالى : وان من أموالكم وأولادكم عدوا لكم .

58 مر رسول الله صلى الله عليه وآله براعي إبل :فبعث يستسقيه ، فقال : أما ما في ضروعها فصبوح الحي ، وأما ما في آنيتنا فغبوقهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم أكثر ماله وولده .

ثم مر براعي غنم فبعص إليه يستسقيه فحلب له ما في ضروعها وأكفأ مافي إنائه في إناء رسول الله صلى الله عليه وآله وبعث إليه بشاة وقال : هذا ماعندن وإن أحببت أن نزيدك زدناك ؟

قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم ارزقه الكفاف .

فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله دعوت للذي ردك بدعاء عامتنا نحبه ، ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكرهه ؟ !

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى : اللهم ارزق محمدا وآل محمد الكفاف .

الكافي ج2ص141ب64ح4. الصبوح : ما يشرب بالغداة والغبوق م يشرب بالعشى . أكفأ : أي قلب وكب . في القاموس كفأه كمنعه : صرفه وكبه وقلبه كاكفاء . أسعفك بحاجتك : أي قضاها لك . ألهى : أي شغل عن الله وعن عبادته .

59ـ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن الله يحب من الخير ما يعجل.

الكافي ج2ص142ب65ح4.

60ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في آخر خطبته :

طوبى : لمن طاب خلقه ، وطهرت سجيته ، وصلحت سريرته ، وحسنت علانيته ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ، وأنصف الناس من نفسه .

الكافي ج2ص144ب66ح1.

61ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

سيد الأعمال : إنصاف الناس من نفسك ، ومؤاساة الأخ في الله ، وذكر الله عز وجل على كل حال .

الكافي ج2ص145ب66ح7.

62ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث خصال من كن فيه أو واحدة منهن ، كان في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله :

رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم ، ورجل لم يقدم رجلا ولم يؤخر رجلا حتى يعلم أن ذلك لله رضى .

ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه .

فإنه لا ينفي منها عيبا إلا بداله عيب .

وكفى بالمرء شغلا بنفسه عن الناس.

الكافي ج2ص147ب66ح16.

63ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من واسى الفقير من ماله ، وأنصف الناس من نفسه ، فذلك المؤمن حقا .

الكافي ج2ص147ب66ح17.

القبس السابع : فضل وثواب صلة الرحم وبر الوالدين :

64ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أوصي : الشاهد من أمتي ، والغائب منهم ، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة : أن يصل الرحم وإن كانت منه على مسيرة سنة ، فإن ذلك من الدين.

الكافي ج2ص151ب68ح5.

65ـ قال أبو ذر رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : حافتا الصراط يوم القيامة الرحم والأمانة ، فإذا مر الوصول للرحم ، المؤدي للأمانة نفذ إلى الجنة ، وإذا مر الخائن للأمانة ، القطوع للرحم لم ينفعه معهما عمل وتكفأ به الصراط في النار.

الكافي ج2ص152ب68ح11.

66ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن أعجل الخير ثوابا صلة الرحم.

الكافي ج2ص152ب68ح15.

67ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة ، فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم وتطول أعمارهم ، فكيف إذ كانوا أبرارا بررة.

الكافي ج2ص155ب68ح21.

68ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من سره أن يمد الله في عمره وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمه ، فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول : يا رب صل من وصلني واقطع من قطعني ، فالرجل ليرى بسبيل خير إذ أتته الرحم التي قطعها فتهوي به إلى أسفل قعر في النار .

الكافي ج2ص156ب68ح29.

69ـ إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :

يا رسول الله أوصني . فقال : لا تشرك بالله شيئا وإن حرقت بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان ، و ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين وإن أمراك أن تخرج من أهلك و مالك فافعل ؛ فإن ذلك من الإيمان.

الكافي ج2ص158ب69ح2.

70ـ سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلم :

ماحق الوالد على ولده ؟ قال : لا يسميه باسمه ، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسب له .

الكافي ج2ص158ب69ح5. يستسب له : أي لا يفعل ما يصير سببا لسب الناس له كأن يسبهم أو آباءهم وقد يسب الناس والد من يفعل فعلا شنيعا قبيحا .

71ـ أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني راغب في الجهاد نشيط ، قال : فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل تكن حيا عند الله ترزق ، وإن تمت فقد وقع أجرك على الله ، وإن رجعت رجعت من الذنوب كما ولدت .

قال : يا رسول الله إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فقر مع والديك فو الذي نفسي بيده لأنسهما بك يوما وليلة خير من جهاد سنة .

الكافي ج2ص160ب69ح10.

72ـ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتته أخت له من الرضاعة ، فلما نظر إليها سر بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليه ثم أقبل يحدثه ويضحك في وجهها ، ثم قامت وذهبت وجاء أخوها ، فلم يصنع به ما صنع بها ، فقيل له : يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل ؟ !

فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لأنها كانت أبر بوالديها منه .

الكافي ج2ص161ب69ح12.

الإشراق الثامن : اهتم بالمسلم وزر الإخوان ولاقيهم :

73ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم .

الكافي ج2ص163ب70ح1.

74 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أنسك الناس نسكا أنصحهم حبيبا .

الكافي ج2ص163ب70ح2.بيان : يعنى أشدهم عبادة أكثرهم أمانة . يقال : رجل ناصح الجيب أي أمين لا غش فيه ، والجيب الصدر والقلب . ورجل ناصح الجيب أي نقى القلب وأسلمهم قلبا لجميع المسلمين .

75ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الخلق عيال الله ، فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله ، وأدخل على أهل بيت سرورا .

الكافي ج2ص164ب70ح6.

76ـ سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أحب الناس إلى الله ؟ قال : أنفع الناس للناس .

الكافي ج2ص164ب70ح7.

77ـ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من رد عن قوم من المسلمين عادية [ ماء ] أو نارا وجبت له الجنة .

الكافي ج2ص164ب70ح8.

78ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حق على المسلم إذ أراد سفرا أن يُعلم إخوانه ، وحق على إخوانه إذا قدم أن يأتوه .

الكافي ج2ص174ب75ح16.

79ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حدثني جبرائيل عليه السلام أن الله عز وجل أهبط إلى الأرض ملكا ، فأقبل ذلك الملك يمشي حتى وقع إلى باب عليه رجل يستأذن على رب الدار ، فقال له الملك : ما حاجتك إلى رب هذه الدار ؟ قال : أخ لي مسلم زرته في الله تبارك وتعالى .

قال له الملك ، ما جاء بك إلا ذاك ؟ فقال : ما جاء بي إلا ذاك .

فقال : إني رسول الله إليك وهو يقرئك السلام ويقول :

وجبت لك الجنة ، وقال الملك : إن الله عز وجل يقول :

أيما مسلم زار مسلما فليس إياه زار ، إياي زار وثوابه عليَّ الجنة .

الكافي ج2ص176ب77ح2.

80ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من زار أخاه في بيته قال الله عز وجل له : أنت ضيفي و زائري ، علي قراك ، وقد أوجبت لك الجنة بحبك إياه .

الكافي ج2ص176ب77ح6.

81ـ قال رسول الله صلى الله عليه آله :

إذا لقي أحد كم أخاه فليسلم عليه وليصافحه .

فإن الله عز وجل أكرم بذلك الملائكة فاصنعوا صنع الملائكة .

الكافي ج2ص181ب78ح10.

82ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا التقيتم فتلاقو بالتسليم والتصافح ، وإذا تفرقتم فتفرقوا بالاستغفار .

الكافي ج2ص181ب78ح11.

83ـ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن المسلمين إذا التقي فتصافحا تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر .

الكافي ج2ص183ب78ح19.

القبس التاسع : أدخل السرور على المؤمن وأطعمه وأخدمه :

84ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من سر مؤمنا فقد سرني ومن سرني فقد سر الله .

الكافي ج2ص188ب81ح1.

85ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل إدخال السرور على المؤمنين .

الكافي ج2ص188ب81ح4.

86ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أعان مؤمنا : نفس الله عز وجل عنه ثلاثا وسبعين كربة ، واحدة في الدنيا ، وثنتين وسبعين كربة عند كربه العظمى .

قال : حيث يتشاغل الناس بأنفسهم .

الكافي ج2ص199ب85ح2.

87ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أطعم ثلاثة نفر من المسلمين : أطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات : الفردوس : وجنة عدن ، وطوبى : (و) شجرة تخرج من جنة عدن غرسها ربن بيده .

الكافي ج2ص200ب86ح3.

88ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من سقى مؤمنا شربة من ماء : من حيث يقدر على الماء .

أعطاه الله بكل شربة سبعين ألف حسنة .

وإن سقاه من حيث لا يقدر على الماء .

فكأنما أعتق عشر رقاب من ولد إسماعيل.

الكافي ج2ص201ب86ح7.

89ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من كسا أحدا من فقراء المسلمين ثوبا من عري ، أو أعانه بشيء مما يقوته من معيشته : وكل الله عز وجل به سبعين ألف ملك من الملائكة تستغفرون لكل ذنب عمله إلى أن ينفخ في الصور.

الكافي ج2ص204ب87ح3.

90ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما في أمتي عبد ألطف أخاه في الله بشيء من لطف ، إلا أخدمه الله من خدم الجنة.

الكافي ج2ص206ب88ح4 .

91ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أكرم أخاه المسلم بكلمة : يلطفه بها وفرج عنه كربته ، لم يزل في ظل الله الممدود عليه الرحمة ما كان في ذلك.

الكافي ج2ص206ب88ح5.

92ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيما مسلم خدم قوم من المسلمين ، إلا أعطاه الله مثل عددهم خداما في الجنة .

الكافي ج2ص207ب89ح1.

93ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه .

الكافي ج2ص208ب90ح4.

94ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه .

الكافي ج2ص208ب90ح5.

القبس العاشر: صفات المؤمنين والمسلمين حقا وابتلائهم :

95ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : طوبى لعبد نومة ، عرفه الله ولم يعرفه الناس ، أولئك : مصابيح الهدى ، وينابيع العلم ، ينجلي عنهم كل فتنة مظلمة ، ليسوا : بالمذاييع البذر ، ولا بالجفاة المرائين.

الكافي ج2ص255ب98ح11.

96ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ألا أنبئكم بالمؤمن ؟ من ائتمنه المؤمنون على أنفهسم وأموالهم .

ألا أنبئكم بالمسلم ؟ من سلم المسلمون من لسانه ويده .

والمهاجر : من هجر السيئات وترك ما حرم الله .

والمؤمن حرام على المؤمن: أن يظلمه، أو يخذ له، أو يغتابه، أو يدفعه دفعة.

الكافي ج2ص235ب99ح19.

97ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من عرف الله وعظمه : منع فاه من الكلام ، وبطنه من الطعام ، وعفا نفسه بالصيام والقيام . قالوا : بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله هؤلاء أولياء الله ؟

قال : إن أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم : ذكرا ، ونظروا فكان نظرهم : عبرة ، ونطقوا فكان نطقهم : حكمة ، ومشوا فكان مشيهم بين الناس : بركة ، لولا الآجال التي قد كتبت عليهم : لم تقر أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب وشوقا إلى الثواب .

الكافي ج2ص237ب99ح25.

98ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا المدينة وعلي الباب ، وكذب من زعم أنه يدخل المدينة لا من قبل الباب ، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض عليا صلوات الله عليه .

الكافي ج2ص238ب99ح27.

99ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث خصال من كن فيه استكمل خصال الإيمان : إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له .

الكافي ج2ص239ب99ح29.

100ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله تبارك وتعالى : لو لم يكن في الأرض إلا مؤمن واحد : لاستغنيت به عن جميع خلقي ولجعلت له من إيمانه أنسا لا يحتاج إلى أحد .

الكافي ج2ص245ب101ح2.

101ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله عز وجل : ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في موت عبدي المؤمن ، إنني لأحب لقاءه ويكره الموت فأصرفه عنه ، وإنه ليدعوني فأجيبه وإنه ليسألني فأعطيه ، ولو لم يكن في الدنيا إلا واحد من عبيدي مؤمن لا ستغنيت به عن جميع خلقي ، ولجعلت له من إيمانه أنسا لا يستوحش إلى أحد .

الكافي ج2ص246ب101ح6. بيان : الله تعالى لا يتردد في شيء من فعله فإن قدره محكم وقضاءه ماضي ، وهذا كناية عن حبه تعالى للمؤمن ورحمته له ولطفه ورأفته به وهو بيان لعلو شأن المؤمن وكرامته عنده وعظيم منزلته لديه واحترامه له ، وهذ للمؤمن من قبيل لسوف يعطيه ربه حتى يرضى ولدينا مزيد ، كما أن مقابله للكافر أدخلته ناري ولا أبالي ، لا أن تردده سبحانه من باب الجهل بالعواقب أو في معرفة المصلحة وعدمها تعالى عن ذلك علواً كبيرا وهو الذي يعلم السر وما يخفى .

102ـ سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أشد الناس بلاء في الدنيا فقال : النبيون ثم الأمثل فالأمثل ، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله ، فمن صح إيمانه ، وحسن عمله : اشتد بلاؤه ، ومن سخف إيمانه وضعف عمله : قل بلاؤه .

الكافي ج2ص252ب106ح2.

103 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء ، فإذا أحب الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء ، فمن رضي فله عند الله الرضا ، ومن سخط البلاء فله عند الله السخط.

الكافي ج2ص253ب106ح8.

104ـ دعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعام : فلما دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت فتقع البيضة على وتد في حائط فثبتت عليه ولم تسقط ولم تنكسر ، فتعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها . فقال له الرجل : أعجبت من هذه البيضة فو الذي بعثك بالحق ما رزئت شيئا قط . ( قال : ) فنهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأكل من طعامه شيئا ، وقال : من لم يرزأ فما لله فيه من حاجة .

الكافي ج2ص256ب106ح20. ما رزئت : ما نقصت ولا أصبت بمصيبة .

الكافي ج2ص256ب106ح21. وقال الفيض ( ره ) في الوافي : نصيب الله سبحانه في مال عبده وبدنه ما يأخذه منهما ليبلوه فيهما وهو زكاتهما ، قال الله تعالى : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركو أذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور .

105ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب.

الكافي ج2ص256ب106ح21. وقال الفيض ( ره ) في الوافي : نصيب الله سبحانه في مال عبده وبدنه ما يأخذه منهما ليبلوه فيهما وهو زكاتهما ، قال الله تعالى : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور .

106ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثل المؤمن كمثل خامة الزرع تكفئها الرياح كذا وكذا ، وكذلك المؤمن تكفئه الأوجاع والأمراض ، ومثل المنافق كمثل الأرزبة المستقيمة التي لا يصيبها شيء حتى يأتيه الموت فيقصفه قصفا .

الكافي ج2ص257ب106ح23.1 بيان : خامة الزرع : أول ما تنبت على ساق ، تكفئها الرياح : بالهمزة أي تقلبه ، الأرزبة بتقديم المهملة وتشديد الباء الموحدة : عصية من حديد . القصف : الكسر . قصف الشيء كسره الشيء انكسر .

الإشراق الثاني : ما يبعد عن الإيمان وعلامات الشرك الكفر والنفاق

وفيه قبسات نور :

القبس الأول : ما يبعد عن الله و الإيمان ويوجب اللعنة :

107ـ جاء رجل موسر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نقي الثوب ، فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر ، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه .

فقال له رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم : أخفت أن يمسك من فقره شيء ؟ قال : لا . قال : فخفت أن يصيبه من غناك شيء ؟ قال : لا . قال : فخفت أن يوسخ ثيابك ؟ قال : لا . قال : فما حملك على ما صنعت ؟

فقال : يا رسول الله إن لي قرينا يزين لي كل قبيح ، ويقبح لي كل حسن ، وقد جعلت له نصف مالي .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : للمعسر أتقبل ؟ قال : ل .

فقال له الرجل : ولم ؟ قال : أخاف أن يدخلني ما دخلك .

الكافي ج2ص263ب107ح11.

108ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ملعون ملعون من عبد الدينار والدرهم ، ملعون ملعون من كمه أعمى ، ملعون ملعون من نكح بهيمة .

الكافي ج2ص270ب111ح9. هذا الكلام يحتمل وجوها : أحده : أن يكون بالتشديد بمعنى : من قال له يا أعمى ويا أكمه ونحو ذلك . والكمه : العمى . الثاني أن يكون المراد من أضله عن الطريق ولم يهده إليه أو من أعماه عن الحق أو من زاده عمى عن الحق إذا كان جاهلا أو ضالا ، ففي القاموس الكامه من يركب رأسه لا يدرى أين يتوجه كالمتكمه . الثالث أن يكون مخففا والمعنى من ركب عمى ، كناية عمن لم يسلك الطريق الواضح والله أعلم . وقال الصدوق في كتاب معاني الأخبار بعد نقل الحديث : قال مصنف هذا الكتاب : معنى قوله : من كمه أعمى يعنى من ارشد متحير في دينه إلى الكفر وقرره في نفسه حتى اعتقده وقوله : " ملعون ملعون من عبد الدينار والدرهم " يعنى به من يمنع زكاة ماله ويبخل بمساواة إخوانه ، فيكون قد آثر عبادة الدينار والدرهم على عبادة الله وأما نكاح البهيمة فمعلوم .

109ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام ، وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن .

الكافي ج2ص272ب111ح19. فيه دلالة على أن الذنب يمنع دخول الجنة في تلك المدة ولا دلالة على انه في تلك المدة في النار، ولعله لتأخره في الحساب ومواقف القيامة .

110ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن .

الكافي ج2ص285ب112ح21.

111ـ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نزل بأرض قرعاء ،

فقال لأصحابه : ائتوا بحطب .

فقالوا : يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب . قال : فليأت كل إنسان بما قدر عليه ، فجاءوا به حتى رموا بين يديه ، بعضه على بعض .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هكذا تجتمع الذنوب .

ثم قال : إياكم والمحقرات من الذنوب ، فإن لكل شيء طالب ، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين .

الكافي ج2ص288ب113ح3.

112ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن أول ما عصي الله عز وجل به ست : حب الدنيا ، وحب الرئاسة ، وحب الطعام ، وحب النوم ، وحب الراحة ، وحب النساء .

الكافي ج2ص289ب115ح3. أي الإفراط في تكلم الصفات بحيث ينتهي إلى ارتكاب الحرام أو ترك السنن والاشتغال عن ذكر الله ، أو حب الحياة الدنيا المذمومة وحب الرئاسة بالجور والظلم وحب الطعام بحيث لا يبالي حصل من حلال أو حصل من حرام وحب النوم حيث يصير مانعا عن الطاعات الواجبة والمندوبة وكذا حب الراحة وحب النساء .

113ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من علامات الشقاء : جمود العين ، وقسوة القلب ، وشدة الحرص في طلب الدنيا .

والإصرار على الذنب.

الكافي ج2ص289ب115ح3.

114ـ خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس فقال :

ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله .

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الذي يمنع رفده ، ويضرب عبده ، ويتزود وحده ، فظنوا أن الله لم يخلق خلقا هو شر من هذا .

ثم قال : ألا أخبركم بمن هو شر من ذلك ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الذي لا يرجى خيره ، ولا يؤمن شره ، فظنوا أن الله لم يخلق خلق هو شر من هذا .

ثم قال : ألا أخبركم بمن هو شر من ذلك ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : المتفحش اللعان الذي إذا ذكر عنده المؤمنون ، لعنهم وإذا ذكروه لعنوه.

الكافي ج2ص290ب115ح7.

115ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث من كن فيه كان منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، إن الله عز وجل قال : في كتابه : إن الله لا يحب الخائنين ، وقال : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، وفي قوله عز وجل : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسول نبيا } .

الكافي ج2ص291ب115ح8. الانفال58.النور7. مريم54.

116ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ألا أخبركم بأبعدكم مني شبها ؟ قالوا : بلى يا رسول الله .

قال : الفاحش المتفحش البذيء . البخيل المختال الحقود الحسود القاسي القلب . البعيد من كل خير يرجى ، غير المأمون من كل شر يتقى.

الكافي ج2ص291ب115ح9.

117ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ثلاث ملعونات ملعون من فعلهن : المتغوط في ظل النزال ، والمانع الماء المنتاب ، والساد الطريق المعربة.

الكافي ج2ص291ب115ح11.

118ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ألا أخبركم بشرار رجالكم ؟ قلنا : بلى يا رسول الله .

فقال : إن من شرار رجالكم : البهات ، الجريء ، الفحاش ، الآكل وحده ، والمانع رفده ، والضارب عبده ، والملجئ عياله إلى غيره .

الكافي ج2ص292ب115ح13.

119ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خمسة لعنتهم وكل نبي مجاب : الزائد في كتاب الله ، والتارك لسنتي ، والمكذب بقدر الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله ، والمستأثر بالفيء (و) المستحل له.

لكافي ج2ص292ب115ح13.

120ـ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول :

من أسر سريرة رداه الله رداءها : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

الكافي ج2ص294ب116ح6. وفي حديث آخر : من أسر سريرة ألبسه الله رداءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر . ح15

121ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم ، طمعا في الدنيا ، لا يريدون به ما عند ربهم ، يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف ، يعمهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم.

الكافي ج2ص296ب116ح14.

122ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله عز وجل يقول : ويل للذين يختلون الدنيا بالدين ، وويل للذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية ، أبي يغترون أم عليَّ يجترئون ، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تترك الحليم منهم حيران .

الكافي ج2ص299ب118ح11.

القبس الثاني : لا تعادي ولا تغضب ولا تحسد :

123ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما كاد جبرائيل عليه السلام يأتيني إلا قال : يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم .

الكافي ج2ص300ب120ح5.

124ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أتاني جبرائيل عليه السلام قط إلا وعظني فآخر قوله لي : إياك ومشارة الناس فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز.

الكافي ج2ص302ب120ح10.

125ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ما عهد إلي جبرائيل عليه السلام في شيء

ما عهد إلي في معاداة الرجال.

الكافي ج2ص302ب120ح11.

126ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل .

الكافي ج2ص302ب121ح1.

127ـ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاه رجل فقال له : ي رسول الله علمني عظة أتعظ بها ، فقال له : انطلق ولا تغضب ، ثم أعاد إليه فقال له : انطلق ولا تغضب ثلاث مرات .

الكافي ج2ص303ب120ح4.

128ـ قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا رسول الله علمني قال : اذهب ولا تغضب ، فقال الرجل : قد اكتفيت بذاك . فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفا ولبسوا السلاح ، فلما رأى ذلك لبس سلاحه ، ثم قام معهم ثم ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لا تغضب " فرمى السلاح ، ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدو قومه ، فقال : يا هؤلاء ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أوفيكموه .

فقال القوم : فما كان فهو لكم ، نحن أولى بذلك منكم ، قال : فاصطلح القوم وذهب الغضب.

الكافي ج2ص304ب120ح11.

129ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كف نفسه عن أعراض الناس أقال الله نفسه يوم القيامة .

ومن كف غضبه عن الناس كف الله تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة.

الكافي ج2ص305ب120ح14.

130ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

كاد الفقر أن يكون كفرا ، وكاد الحسد أن يغلب القدر.

الكافي ج2ص307ب122ح4.

131 قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قال الله عز وجل لموسى بن عمران عليه السلام : يا ابن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدن عينيك إلي ذلك ولا تتبعه نفسك ، فان الحاسد ساخط لنعمي ، صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي ، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني. الكافي ج2ص307ب122ح6.

القبس الثالث : لا تتجبر لا تتكبر ل تختال لا تعجب لا تطمع:

132ـ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مر في بعض طرق المدينة وسوداء تلقط السرقين ، فقيل لها : تنحي عن طريق رسول الله فقالت : إن الطريق لمعرض ، فهم بها بعض القوم أن يتناولها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دعوها فإنها جبارة .

الكافي ج2ص309ب124ح2.

133ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق ،قال : قلت : وما غمص الخلق وسفه الحق ؟

قال : يجهل الحق ويطعن على أهله .

فمن فعل ذلك فقد نازع الله عز وجل رداءه .

الكافي ج2ص310ب124ح9.

134ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاثة : لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم :

شيخ زان ، وملك جبار ، ومقل مختال .

الكافي ج2ص311ب124ح14.أي فقير متكبر .

135ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بينما موسى عليه السلام جالسا إذا أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان ، فلما دنى من موسى عليه السلام خلع البرنس وقام إلى موسى فسلم عليه فقال له موسى : من أنت ؟

فقال : أنا إبليس ، قال : أنت فلا قرب الله دارك .

قال : إني إنما جئت لأسلم عليك لمكانك من الله ، قال : فقال له موسى عليه السلام : فما هذا البرنس ؟ قال : به أختطف قلوب بني آدم .

فقال موسى : فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ؟

قال : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله ، وصغر في عينه ذنبه.

وقال : قال الله عز وجل لداود عليه السلام يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين . قال : كيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين ؟

قال : يا داود بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب ، وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك.

الكافي ج2ص314ب125ح8.

136ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من لم يتعز بعزاء الله ، تقطعت نفسه حسرات على الدنيا.

ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس ، كثر همه ولم يشف .

الكافي ج2ص315ب126ح5.

137ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الدينار والدرهم : أهلكا من كان قبلكم ، وهما مهلكاكم .

الكافي ج2ص315ب126ح6.

الرابع : إياك وسوء الخلق والخرق والفحش والشر والبغي والظلم :

138ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لو كان الخرق خلقا يرى ما كان شيء مما خلق الله أقبح منه .

الكافي ج2ص321ب128ح1. الخرق بالضم والتحريك: عدم الرفق في القول والفعل.

139ـ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أبى الله عز وجل لصاحب الخلق السيئ بالتوبة . قيل : وكيف ذاك يا رسول الله ؟

قال : لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه .

الكافي ج2ص321ب128ح2.

140ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا رأيتم الرجل لا يبالي ما قال ولا ما قيل له ، فإنه لغية أو شرك شيطان.

الكافي ج2ص323ب131ح1.

141ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذئ ، قليل الحياء ، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له ، فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان ، فقيل : يا رسول الله وفي الناس شرك شيطان ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما تقر أقول الله عز وجل : وشاركهم في الأموال والأولاد .

الكافي ج2ص323ب131ح3. قال : وسأل رجل فقيها هل في الناس من لا يبالي ما قيل له ؟ قال: من تعرض للناس يشتمهم وهو يعلم أنهم لا يتركونه، فذلك الذي ل يبالي ما قال ولا ما قيل فيه .

142 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن الفحش لو كان مثالا لكان مثال سوء.

الكافي ج2ص324ب131ح6.

143ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن من شر عباد الله ، من تكره مجالسته لفحشه .

الكافي ج2ص324ب131ح8.

144ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن الله يبغض الفاحش البذيء والسائل الملحف .

الكافي ج2ص325ب131ح11.

145ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

شر الناس عند الله يوم القيامة الذين يكرمون اتقاء شرهم .

الكافي ج2ص326ب132ح2.

146ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن أعجل الشر عقوبة البغي .

الكافي ج2ص327ب133ح1.

147ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

آفة الحسب الافتخار والعجب .

الكافي ج2ص328ب134ح2.

148ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أصبح لا يهم بظلم أحد ، غفر الله ما أجترم .

الكافي ج2ص332ب136ح8 ،21.

149ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة.

الكافي ج2ص332ب136ح10.

150ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من ظلم أحدا ففاته ، فليستغفر الله له ، فإنه كفارة له .

الكافي ج2ص334ب136ح20.

151ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من خاف القصاص كف عن ظلم الناس.

الكافي ج2ص334ب136ح21.

القبس الخامس : إياك وأتباع الهوى والمكر والغدر :

152ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول الله عز وجل :

وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني ل يؤثر عبد هواه على هواي إلا : شتت عليه أمره ، ولبست عليه دنياه ، وشغلت قلبه بها ، ولم أؤته منها إلا ما قدرت له .

وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه ، إلا استحفظته ملائكتي وكفلت السماوات والأرضي رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة .

الكافي ج2ص335ب137ح2.

153ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائل شدقه حتى يدخل النار .

ويجيء كل ناكث بيعة إمام أجذم حتى يدخل النار .

الكافي ج2ص337ب138ح2.

154ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ليس منا من ماكر مسلما.

الكافي ج2ص337ب138ح3.

155ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يجيء كل غادر :

بإمام يوم القيامة مائلا شدقه حتى يدخل النار.

الكافي ج2ص338ب138ح5.

القبس السادس: أصلح ولا تهجر أخاك ول رحمك فتكن عاقا :

156ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :لا كذب على مصلح.

ثم تلا : أيتها العير إنكم لسارقون ،ثم قال : والله ما سرقو وما كذب .

ثم تلا : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، ثم قال والله ما فعلوه وما كذب.

الكافي ج2ص343ب138ح22.

157ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لا هجرة فوق ثلاث.

الكافي ج2ص344ب141ح2.

158ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثا لا يصطلحان إلا كانا خارجين من الإسلام ، ولم يكن بينهما ولاية ، فأيهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنة يوم الحساب.

الكافي ج2ص345ب141ح5.

159ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : في حديث :

ألا إن في التباغض الحالقة ، لا أعني حالقة الشعر ولكن حالقة الدين.

الكافي ج2ص346ب142ح1.

160ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لا تقطع رحمك وإن قطعتك.

الكافي ج2ص347ب142ح6.

161ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

كن بارا واقتصر على الجنة . وإن كنت عاقا [ فظا ] فاقتصر على النار .

الكافي ج2ص348ب143ح2. في المصباح قال اصل العق الشق يقال عق ثوبه كما يقال شقه ، ومنه يقال : عق الولد أباه عقوقا من باب قعد إذا عصاه وترك الإنسان إليه فهو عاق . فاقتصر : أي اكتف بها .

162ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فوق كل ذي بربر ، حتى يقتل الرجل في سبيل الله ، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر .

وإن فوق كل عقوق عقوقا حتى يقتل الرجل أحد والديه ، فإذا فعل ذلك فليس فوقه عقوق.

الكافي ج2ص348ب143ح4.

163ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : في كلام له : إياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام ، ولا يجده عاق ولا قاطع رحم ، ولا شيخ زان ، ولا جار إزاره خيلاء ، إنما الكبرياء لله رب العالمين.

الكافي ج2ص349ب143ح6.

القبس السابع : إياك وإن تهن مؤمن أو تذله أو تحاربه :

164ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

قال الله تبارك وتعالى : من أهان لي وليا ؛ فقد أرصد لمحاربتي .

الكافي ج2ص351ب145ح3.

165ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

قال الله عز وجل : قد نابذني من أذل عبدي المؤمن .

الكافي ج2ص351ب145ح6.

166ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

قال الله عز وجل : من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي .

وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى احبه ، فإذا أحببته كنت : سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها .

إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته .

وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موت المؤمن ، يكره الموت وأكره مساء ته .

الكافي ج2ص352ب145ح7.

167ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد أسرى ربي بي فأوحى إلي من وراء الحجاب ما أوحى وشافهني [ إلى ] أن قال لي : يا محمد :

من أذل لي وليا فقد أرصدني بالمحاربة ، ومن حاربني حاربته .

قلت : يا رب ومن وليك هذا ؟ فقد علمت أن من حاربك حاربته ، قال لي : ذاك من أخذت ميثاقه لك ولوصيك ولذريتكما بالولاية .

الكافي ج2ص353ب145ح10.

168 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله عز وجل :

من استذل عبدي المؤمن فقد بارزني بالمحاربة .

وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في عبدي المؤمن ، إني احب لقاءه فيكره الموت فأصرفه عند ، وإنه ليدعوني في الأمر فأستجيب له بما هو خير له.

الكافي ج2ص354ب145ح11.

القبس الثامن: إياك وتتبع عورة المؤمن وعثرته وغيبته:

169ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تذمو المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عوراتهم ، تتبع الله عورته .

ومن تتبع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته .

الكافي ج2ص354ب146ح2.

170ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

يا معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه لا تتبعوا عثرات المسلمين ، فإنه من تتبع عثرات المسلمين تتبع الله عثرته ، ومن تتبع الله عثرته يفضحه .

الكافي ج2ص355ب146ح4.

171ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لا تطلبوا عثرات المؤمنين فإن من تتبع عثرات أخيه تتبع الله عثراته ،

ومن تتبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته.

الكافي ج2ص355ب146ح6.

172ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أذاع فاحشة كان كمبتدئها . ومن عير مؤمنا بشيء لم يمت حتى يركبه .

الكافي ج2ص356ب147ح2.

173ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

الـغـيـبـة: أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه .

الكافي ج2ص356ب148ح1.
174 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

الجلوس في المسجد انتظار الصلاة عبادة ما لم يحدث .

قيل : يا رسول الله وما يحدث ؟ قال : الاغتياب .

الكافي ج2ص356ب148ح1.قال محقق الكافي : اغتاب فلان فلانا إذا ذكره بما يسوئه ويكرهه من العيوب وكان فيه ، وان لم يكن فيه فهو بهت وتهمة ، وفى العرف ذكر الإنسان المعين أو من بحكمه في غيبته بما يكره نسبته إليه مما هو حاصل فيه ، ويعد نقصا في العرف بقصد الانتقاص والذم قولا أو إشارة أو كناية ، تعريض أو تصريحا ، فلا غيبة في غير معين كواحد مبهم من غير محصور كأحد أهل البلد بخلاف مبهم من محصور كواحد من المعينين كأحد قاضى البلد فاسق مثلا فانه في حكم المعين كما صرح به شيخنا البهائي قدس سره في شرح الأربعين .

التاسع : إياك وسباب المؤمن وخيانته وإخافته ونميمته :

175ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة.

الكافي ج2ص359ب151ح1.

176ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر .

وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه.

الكافي ج2ص359ب151ح2.

177ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من سعى في حاجة لأخيه فلم ينصحه ، فقد خان الله ورسوله .

الكافي ج2ص362ب153ح1.

178ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد.

الكافي ج2ص364ب154ح2.

179ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها ، أخافه الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله .

الكافي ج2ص368ب155ح1.

180ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالو بلى يا رسول الله . قال : المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبراء المعايب.

الكافي ج2ص369ب159ح1.

181ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من طلب رضا الناس بسخط الله ، جعل الله حامده من الناس ذاما.

الكافي ج2ص372ب161ح1.

182ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله كان حامده من الناس ذاما !

ومن آثر طاعة الله بغضب الناس كفاه الله : عداوة كل عدو ، وحسد كل حاسد ، وبغي كل باغ ، وكان الله عز وجل له ناصرا وظهيرا.

الكافي ج2ص372ب161ح2.

183ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أرضى سلطانا بسخط الله خرج من دين الله.

الكافي ج2ص372ب161ح2.

القبس العاشر : علامات النفاق وعقاب بعض الأعمال :

184ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

خمس إن أدركتموهن فتعوذوا بالله منهن :

لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها : إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا .
ولم ينقصوا المكيال والميزان : إلا اخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السطان .
ولم يمنعوا الزكاة : إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا .
ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسول : إلا سـلط الله علـيهم عـدوهم وأخذوا بعض ما في أيديهم . ولم يحكموا بغير ما أنزل الله ( عز وجل ) : إلا جعل الله عز وجل بأسهم بينهم. الكافي ج2ص373ب162ح1.

185ـ في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا ظهر الزنا من بعدي ؛ كثر موت الفجأة .
وإذا طففت المكيال والميزان ؛ أخذهم الله بالسنين والنقص .
وإذا منعوا الزكاة ؛ منعت الأرض بركته من الزرع والثمار والمعادن كلها.
وإذا جاروا في الأحكام ؛ تعاونوا على الظلم والعدوان .
وإذا نقضوا العهد ؛ سلط الله عليهم عدوهم .
وإذا قطعوا الأرحام ؛ جعلت الأموال في أيدي الأشرار .
وإذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي ؛ سلط الله عليهم شرارهم فيدعوا خيارهم فلا يستجاب لهم.

الكافي ج2ص374ب162ح2.

186ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

المرء على دين خليله وقرينه .

الكافي ج2ص375ب163ح3.

187ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي ؛ فأظهر والبراءة منهم .

وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم .

كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ، ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم ، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة.

الكافي ج2ص375ب163ح4.

188ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : طاعة علي عليه السلام ذل ومعصيته كفر بالله . قيل : يا رسول الله وكيف يكون طاعة علي عليه السلام ذلا ومعصيته كفرا بالله ؟

قال : إن عليا عليه السلام يحملكم على الحق .

فإن أطعتموه ذللتم ، وإن عصيتموه كفرتم بالله عز وجل.

الكافي ج2ص388ب165ح17.أي ذل في الدنيا وعند الناس لان طاعته توجب ترك الدنيا وزينتها والحكم للضعفاء على الأقوياء ، والرضا بتسوية القسمة بين الشريف والوضيع ، والقناعة بالقليل من الحلال ، والتواضع وترك التكبر والترفع ، وكل ذلك مما يوجب الذل عند الناس ، كما روي أنه لما قسم بيت المال بين أكابر الصحابة والضعفاء بالسوية غضب لذلك طلحة والزبير وأسسا الفتنة والبغي والجور .

189ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

مثل المنافق مثل جذع النخل أراد صاحبه أن ينتفع به في بعض بنائه فلم يستقم له في الموضع الذي أراد ، فحوله في موضع آخر فلم يستقم له ، فكان آخر ذلك أن أحرقه بالنار .

الكافي ج2ص396ب168ح5.

190 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق .

الكافي ج2ص396ب168ح6. في قوله : عندنا ، إيماء إلى أنه ليس بنفاق حقيقي بل هو خصلة مذمومة شبيهة بالنفاق .

الإشراق الثالث : مالا يؤاخذ الله عليه والتوبة والإنابة لله وفضلها :

وفيه قبسات نور :

القبس الأول : أتقي وساوس الشيطان وتعوذ منه بذكر الله :

191ـ إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : يا رسول الله نخاف علينا النفاق . قال : فقال : ولم تخافون ذلك ؟

قالوا : إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدن حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك ودخلن هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل ، يكاد أن نحول عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنا لم نكن على شيء ؟

أ فتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا ؟

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا ، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء .

ولو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله ، لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ، ثم يستغفروا الله فيغفر (الله) لهم ، إن المؤمن مفتن تواب ، أما سمعت قول الله عز وجل : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وقال : استغفروا ربكم .

الكافي ج2ص424ب186ح1.

192ـ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله هلكت ، فقال له عليه السلام : أتاك الخبيث فقال لك : من خلقك ؟ فقلت : الله ، فقال لك : الله من خلقه ؟

فقال : إي والذي بعثك بالحق لكان كذا .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك والله محض الإيمان.

الكافي ج2ص425ب187ح3.

193ـ قد شكا قوم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لمماً يعرض لهم ، لأن تهوي بهم الريح أو يقطعوا أحب إليهم ، من أن يتكلموا به .

فقال : أتجدون ذلك ؟ قالوا : قطعوا أحب إليهم من أن يتكلمو به ، فقال : أتجدون ذلك ؟ قالوا : نعم . فقال : والذي نفسي بيده إن ذلك لصريح الإيمان .فإذا وجدتموه فقولوا:

آمنا بالله ورسوله ولا حول ولا قوة إلا بالله .

الكافي ج2ص425ب187ح4.

194 إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إنني نافقت ، فقال : والله ما نافقت ولو نافقت ما أتيتني ، تعلمني ما الذي رابك ؟ أظن العدو الحاضر أتاك فقال لك : من خلقك ؟ فقلت : الله خلقني ، فقال لك : من خلق الله ؟ قال : إي والذي بعثك بالحق لكان كذا .

فقال : إن الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم ، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم ، فإذا كان كذلك :فليذكر أحدكم الله وحده .

الكافي ج2ص425ب187ح5.

الثاني : أعمل صالحا وتب إلى الله وأستغفره من ذنبك :

195 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة ، والمذيع بالسيئة مخذول ، والمستتر بها مغفور له.

الكافي ج2ص428ب189ح2.

196ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن :

إلا هالك يهم العبد بالحسنة فيعملها ، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته ، وإن هو عملها كتب الله له عشرا . ويهم بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء ، وإن هو عملها اجل سبع ساعات وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال : لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوه ، فإن الله عز وجل يقول : إن الحسنات يذهبن السيئات .

أو الاستغفار فإن هو قال : أستغفر الله الذي لا إله إل هو ، عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ، الغفور الرحيم ، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه ، لم يكتب عليه شيء . وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات : اكتب على الشقي المحروم .

الكافي ج2ص429ب190ح4.

197ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يتوب إلى الله عز وجل في كل يوم سبعين مرة ، فقلت : أكان يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ؟ قال : لا ولكن كان يقول : أتوب إلى الله ، قلت : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوب ولا يعود ونحن نتوب ونعود ، فقال : الله المستعان.

الكافي ج2ص438ب191ح4. أي كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول : استغفر الله وأتوب إلى الله ، كما في كتاب الدعاء في باب الاستغفار ، واستغفاره صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام لم يكن عن ذنب لاتفاق الإمامة على عصمتهم ، بل هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين . أو لكون الاستغفار والتوبة عبادة في نفسهما .

198ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته ، ثم قال : إن السنة لكثيرة .

من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته ، ثم قال إن الشهر لكثير .

من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته ، ثم قال : إن الجمعة لكثير .

من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته ، ثم قال : إن يوما لكثير .

من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته.

الكافي ج2ص440ب193ح2.

199ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله عز وجل : وعزتي وجلالي لا اخرج عبدا من الدنيا وأنا أريد أن ارحمه حتى أستوفي منه كل خطيئة عملها : إما بسقم في جسده ، وإما بضيق في رزقه ، وإما بخوف في دنياه ، فإن بقيت عليه بقية شددت عليه عند الموت .

وعزتي وجلالي لا اخرج عبدا من الدنيا وأنا أريد أن أعذبه حتى أوفيه كل حسنة عملها : إما بسعة في رزقه وإما بصحة في جسمه ، وإما بأمن في دنياه ، فإن بقيت عليه بقية هونت عليه بها الموت .

الكافي ج2ص444ب196ح3.

200ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ما يزال الهم والغم بالمؤمن حتى ما يدع له ذنبا .

الكافي ج2ص445ب196ح7.

201ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله عز وجل : ما من عبد أريد أن ادخله الجنة إلا ابتليته في جسده ، فإن كان ذلك كفارة لذنوبه ، وإلا شددت عليه عند موته حتى يأتيني ولا ذنب له ، ثم ادخله الجنة .

وما من عبد أريد أن ادخله النار إلا صححت له جسمه فإن كان ذلك تماما لطلبته عندي وإلا آمنت خوفه من سلطانه ، فان كان ذلك تماما لطلبته عندي وإلا وسعت عليه في رزقه ، فإن كان ذلك تماما لطلبته عندي وإلا هونت عليه موته حتى يأتيني ولا حسنة له عندي ثم ادخله النار .

الكافي ج2ص446ب196ح10.

202ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

كفى بالمرء عيبا : أن يـبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه.

وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه.

الكافي ج2ص460ب204ح2.

203ـ إن ناسا أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بعد ما أسلموا فقالوا : يا رسول الله أيؤخذ الرجل منا بما كان عمل في الجاهلية بعد إسلامه ؟

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من حسن إسلامه وصح يقين إيمانه لم يأخذه الله تبارك وتعالى بما عمل في الجاهلية .

ومن سخف إسلامه ولم يصح يقين إيمانه أخذه الله تبارك وتعالى بالأول والآخر .

الكافي ج2ص461ب205ح1.

204ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية ؟ قال : نعم ، قلت : جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه ؟ قال : جاهلية كفر ونفاق وضلال .

أصول الكافي ج1ص377ح3 . باب من مات وليس له امام من أئمة الهدى وهو من الباب الاول

القبس الثالث : لا يؤاخذ الله بتسعة أمور :

205ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رفع عن أمتي أربع خصال : خطاؤها ، ونسيانها ، وما اكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وذلك قول الله عز وجل : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .

وقوله : إلا من اكره و قلبه مطمئن بالإيمان.

الكافي ج2ص462ب208ح1.

206ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

وضع عن أمتي تسع خصال :

الخطاء ، والنسيان . وما لا يعلمون .

وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه .

والطيرة ، والوسوسة في التفكر في الخلق ، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد.

الكافي ج2ص463ب208ح2.

الذكر الثالث
فضل التوجه لله بالدعاء وتلاوة القرآن المجيد

وفيه إشراقان :

الإشراق الأول : في آداب الدعاء وفضله وآثاره

وفيه قبسات نور :

القبس الأول : فضل الدعاء وآدابه :

207ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الدعاء :

سلاح المؤمن ، وعمود الدين ، ونور السماوات والأرض.

الكافي ج2ص468ب2ح1.

208ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

رحم الله عبدا طلب من الله عز وجل حاجة .

فألح في الدعاء استجيب له أولم يستجب (له) وتلا هذه الآية :

وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا .

الكافي ج2ص475ب10ح6.

209ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خير وقت دعوتم الله عز وجل فيه الأسحار ; وتلا هذه الآية في قول يعقوب عليه السلام :

سوف أستغفر لكم ربي .(و) قال : أخرهم إلى السحر .

الكافي ج2ص477ب13ح6.

210ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا دعا أحدكم فليعم ، فإنه أوجب للدعاء.

الكافي ج2ص487ب18ح1.

القبس الثاني : فضل الصلاة على النبي وآثاره :

211ـ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني أجعل لك ثلث صلواتي ، لا ، بل أجعل لك نصف صلواتي ، لا ، بل أجعلها كله لك . فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا تكفى مؤونة الدنيا والآخرة.

الكافي ج2ص491ب20ح3.بيان : أي جعل ثلث دعوتي لك يا رسول الله لان المقصود بالذات فيه الدعاء لك وجعلت الدعاء لك مقدما ثم اتبعه بالدعاء لنفسي أو أجعل ثلث دعواتي الصلاة عليك أو نصفها أو كلها ، بمعنى أنه لا يدعو لنفسه وكلم أراد أن يدعو لحاجة يترك ذلك ويصلى بدله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والمؤونة ما يحتاج إليه وفيه صعوبة أي إذا كان الأمر كما ذكرته يكفيك الله مئونتك في الدني والآخرة فحذف الفاعل وأقيم المفعول الأول مقامه .

212ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لا تجعلوني كقدح الراكب ، فإن الراكب يملا قدحه فيشر به إذا شاء ، اجعلوني في أول الدعاء وفي آخره وفي وسطه.

الكافي ج2ص492ب20ح5.

213ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى علي صلى الله عليه وملائكته ، ومن شاء فليقل ومن شاء فليكثر.

الكافي ج2ص492ب20ح7.

214ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

الصلاة علي وعلى أهل بيتي تذهب بالنفاق .

الكافي ج2ص492ب20ح8.

215 جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أجعل نصف صلواتي لك ؟ قال : نعم ، ثم قال : أجعل صلواتي كلها لك ، قال : نعم ، فلم مضى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

كفي هم الدنيا والآخرة.

الكافي ج2ص493ب20ح11.

216 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أرفعوا أصواتكم بالصلاة علي فإنها تذهب بالنفاق.

الكافي ج2ص493ب20ح13.

217ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من ذكرت عنده فلم يصل علي دخل النار فأبعده الله.

الكافي ج2ص495ب20ح19.

218ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من ذكرت عنده فنسي أن يصلي علي خطأ الله به طريق الجنة.

الكافي ج2ص495ب20ح20. يدل على أن النسيان من الله عقوبة له على بعض أعماله الرذيلة فحرم بذلك تلك الفضيلة كمن يحرم صلاة الليل إذا أذنب في النهار ، وان لم يكن معاقبا بذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : رفع عن أمتي الخطاء والنسيان الخ . ويمكن أن يكون هذا القول لبيان لزوم الاهتمام بهذا الأمر وبيان لفضله وكونه سبب لتوفيق الله لعمل الصالحات والمسابقة للخيرات وشكر المنعم ودليل لله للصراط المستقيم .

219ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من قوم اجتمعو في مجلس فلم يذكروا اسم الله عز وجل ولم يصلوا على نبيهم .

إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالا عليهم .

الكافي ج2ص497ب21ح5.

القبس الثالث: فضل ذكر الله الإكثار منه وبعض الأذكار:

220ـ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم أرفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من الدينار والدرهم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلوهم ويقتلوكم ؟ فقالوا : بلى .

فقال : ذكر الله عز وجل كثيرا ، ثم قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : من خير أهل المسجد ؟ فقال : أكثر هم لله ذكر .

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أعطي لسانا ذاكرا فقد أعطي خير الدنيا والآخرة .

وقال : في قوله تعالى : ولا تمنن تستكثر ، قال :

لا تستكثر ما عملت من خير لله .

الكافي ج2ص499ب22ح1.

221ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أكثر ذكر الله عز وجل أحبه الله ، ومن ذكر الله كثيرا كتبت له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق .

الكافي ج2ص500ب22ح3.

222ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذاكر الله عز وجل في الغافلين كالمقاتل عن الفارين ، والمقاتل عن الفارين له الجنة.

الكافي ج2ص502ب26ح2.

223ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

يحمد الله في كل يوم ثلاثمائة مرة وستين مرة ، عدد عروق الجسد ، يقول : الحمد لله رب العالمين كثيرا على كل حال .

الكافي ج2ص503ب27ح3.

224ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن في ابن آدم ثلاثمائة وستين عرقا ، منها مائة وثمانون متحركة ومنها مائة وثمانون ساكنة ، فلو سكن المتحرك لم ينم ولو تحرك الساكن لم ينم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصبح قال : الحمد لله رب العالمين كثيرا على كل حال ثلاثمائة وستين مرة ، وإذا أمسى قال مثل ذلك.

الكافي ج2ص503ب27ح3.

225ـ قال : قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم :

خير الدعاء الاستغفار .

الكافي ج2ص504ب28ح1.

226ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كان لا يقوم من مجلس وإن خف حتى يستغفر الله عز وجل خمسا وعشرين مرة .كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر الله عز وجل في كل يوم سبعين مرة ويتوب إلى الله عز وجل سبعين مرة .

قال الراوي للإمام : قلت : كان يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ؟

قال : كان يقول : أستغفر الله ، أستغفر الله سبعين مرة ,

ويقول : وأتوب إلى الله ، وأتوب إلى الله سبعين مرة.

الكافي ج2ص504ب28ح4.

227 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

الاستغفار ، وقول : لا إله إلا الله ؛ خير العبادة .

قال الله العزيز الجبار : فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك .

الكافي ج2ص504ب28ح6. محمد 22 والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد جميع الأمة وإنما خوطب بذلك لتستن أمته بسنته .

228ـ جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالو :

يا رسول الله إن الأغنياء : لهم ما يعتقون وليس لنا ، ولهم ما يحجون وليس لنا . ولهم ما يتصدقون وليس لنا ، ولهم ما يجاهدون وليس لنا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كبر الله عز وجل مائة مرة كان أفضل من عتق مائة رقبة ، ومن سبح الله مائة مرة كان أفضل من سياق مائة بدنة ، ومن حمد الله مائة مرة كان أفضل من حملان مائة فرس في سبيل الله بسرجها ولجمها وركبها ، ومن قال : لا إله إلا الله ، مائة مرة كان أفضل الناس عملا ذلك اليوم ، إلا من زاد .

قال : فبلغ ذلك الأغنياء فصنعوه ، قال : فعاد الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا رسول الله قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

الكافي ج2ص505ب29ح1.ويجمعها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إل الله والله وأكبر .

229 مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجل يغرس غرسا في حائط له ، فوقف له وقال : ألا أدلك على غرس أثبت أصلا وأسرع إيناع وأطيب ثمرا وأبقى ؟ قال : بلى فدلني يا رسول الله ، فقال : إذا أصبحت و أمسيت فقل : سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر .فإن لك إن قلته بكل تسبيحة عشر شجرات في الجنة من أنواع الفاكهة وهن من الباقيات الصالحات ، فقال الرجل : فإني أشهدك يا رسول الله أن حائطي هذا صدقة مقبوضة على فقراء المسلمين أهل الصدقة ، فأنزل الله عز وجل آيات من القرآن : فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى.

الكافي ج2ص505ب29ح4.

230ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خير العبادة قول : لا إله إلا الله .

الكافي ج2ص506ب29ح5.

القبس الرابع : فضل الدعاء للمؤمن وتجنب دعوة مظلوم والأب :

231ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمؤمنات إلا رد الله عز وجل عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة، مضى من أول الدهر أو هو آت إلى يوم القيامة.

إن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب فيقول المؤمنون والمؤمنات : يا رب هذا الذي كان يدعو لنا فشفعنا فيه ، فيشفعهم الله عز وجل فيه فينجو.

الكافي ج2ص508ب30ح5.

232ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إياكم ودعوة المظلوم : فإنها ترفع فوق السحاب حتى ينظر الله عز وجل إليها فيقول : ارفعوها حتى أستجيب له .

وإياكم ودعوة الوالد ، فإنها أحد من السيف .

الكافي ج2ص509ب31ح3.

233ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أربعة لا ترد لهم دعوة حتى تفتح لهم أبواب السماء وتصير إلى العرش : الوالد لولده ، والمظلوم على من ظلمه ، والمعتمر حتى يرجع ، والصائم حتى يفطر.

الكافي ج2ص510ب31ح6.

234ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دعا موسى عليه السلام وأمن هارون عليه السلام وأمنت الملائكة عليهم السلام فقال الله تبارك وتعالى : قد أجيبت دعوتكما فاستقيما .

ومن غزا : في سبيل الله ، استجيب له كما استجيب لكما يوم القيامة.

الكافي ج2ص510ب31ح8.

القبس الخامس : آثار بعض الأذكار وفضلها ووقتها :

235ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من قال : لا إله إلا الله . غرست له شجرة في الجنة من ياقوتة حمراء ، منبتها في مسك أبيض ، أحلى من العسل وأشد بياضا من الثلج وأطيب ريحا من المسك ، فيها أمثال ثدي الأبكار ، تعلو عن سبعين حلة .

الكافي ج2ص517ب36ح2.

236 قال جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : طوبى لمن قال من أمتك : لا إله إلا الله وحده وحده وحده .

الكافي ج2ص517ب38ح1.

237ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى الغداة فقال قبل أن ينفض ركبتيه عشر مرات : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، ويميت ويحيي [ وهو حي لا يموت ] بيده الخير وهو على كل شئ قدير ، وفي المغرب مثلها . لم يلق الله عز وجل عبد بعمل أفضل من عمله إل من جاء بمثل عمله .

الكافي ج2ص517ب39ح2.

238ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا أوى إلى فراشه ؟ قلت : بلى ، قال : كان يقرأ آية الكرسي ويقول : بسم الله آمنت بالله وكفرت بالطاغوت ، اللهم احفظني في منامي وفي يقظتي.

الكافي ج2ص536ب49ح4.

239ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا أوى إلى فراشه قال : اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت ، فإذا قام من نومه قال : الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور .

الكافي ج2ص539ب49ح16.

240ـ أبطأ رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه ثم أتاه .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أبطأ بك عنا ؟

فقال : السقم والفقر ، فقال له : أفلا أعلمك دعاء يذهب الله عنك بالسقم والفقر ؟ قال : بلى يا رسول الله ، فقال : قل :

لا حول ولا قوة إلا بالله [ العلي العظيم ] توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ [ صاحبة ولا ] ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .

قال : فما لبث أن عاد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله قد أذهب الله عني السقم والفقر .

الكافي ج2ص551ب53ح3.

241ـ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إني ذو عيال وعلي دين وقد اشتدت حالي فعلمني دعاء أدعو الله عز وجل به ليرزقني ما أقضي به ديني وأستعين به على عيالي .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عبد الله توض وأسبغ وضوءك ثم صل ركعتين تتم الركوع والسجود ثم قل : " يا ماجد يا واحد ي كريم [ يا دائم ] أتوجه إليك بمحمد نبيك نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم ، يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى الله ربك وربي ورب كل شيء أن تصلي على محمد وأهل بيته وأسألك نفحة كريمة من نفحاتك وفتحا يسيرا ورزقا واسعا ألم به شعثي وأقضي به ديني وأستعين به على عيالي.

الكافي ج2ص552ب53ح6.

242ـ أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال : يا نبي الله الغالب علي الدين ووسوسة الصدر ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قل : توكلت على الحي الذي لا يموت .

الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .

قال : فصبر الرجل ما شاء الله ، ثم مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهتف به فقال : ما صنعت ؟ فقال : أدمنت ما قلت لي يا رسول الله ، فقضى الله ديني وأذهب وسوسة صدري.

الكافي ج2ص554ب54ح2.

243ـ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ي رسول الله قد لقيت شدة من وسوسة الصدر وأنا رجل مدين معيل محوج . فقال له : كرر هذه الكلمات : توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .

فلم يلبث أن جاء ه فقال : أذهب الله عني : وسوسة صدري ، وقضى عني ديني ، ووسع علي رزقي.

الكافي ج2ص555ب54ح3.

244ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أصابه هم أو غم أو كرب أو بلاء أو لاواء فليقل :

الله ربي ولا أشرك به شيئا ، توكلت على الحي الذي لا يموت.

الكافي ج2ص556ب55ح2. اللاواء : الشدة في المعيشة .

245ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض مغازيه إذا شكو إليه البراغيث أنها تؤذيهم فقال : إذا أخذ أحدكم مضجعه فليقل :

أيها الأسود الوثاب الذي لا يبالي غلقا ولا بابا عزمت عليك بأم الكتاب ألا تؤذيني وأصحابي إلى أن يذهب الليل ويجئ الصبح بما جاء .

ـ قال الراوي والذي نعرفه : ـ إلى أن يؤوب الصبح متى ما آب .

الكافي ج2ص571ب57ح8.

الإشراق الثاني : في فضل القرآن المجيد وثواب حفظه وتلاوته وعظمته

وفيه قبسات نور :

القبس الأول : دعاء لحفظ القرآن المجيد ولعدم نسيانه :

246ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أعلمك دعاء لا تنسى القرآن : اللهم :

ارحمني : بترك معاصيك أبدا ما أبقيتني ، وارحمني: من تكلف مالا يعنيني .

وارزقني : حسن المنظر فيما يرضيك عني ، وألزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني ، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني .

اللهم نور بكتابك بصري ، واشرح به صدري ، وفرح به قلبي ، وأطلق به لساني ، واستعمل به بدني ، وقوني على ذلك وأعني عليه ، إنه لا معين عليه إلا أنت ، لا إله إلا أنت.

الكافي ج2ص577ب59ح2.

القبس الثاني : تمسك بالقرآن ومعارفه وأحفظ أهله وكن منهم:

247ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أيها الناس : إنكم في دار هدنة ، وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع .وقد رأيتم الليل والنهار ، والشمس والقمر ، يبليان كل جديد ، ويقربان كل

بعيد ، ويأتيان بكل موعود ، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز .

قال : فقام المقداد بن الأسود فقال : يا رسول الله وما دار الهدنة ؟

قال : دار بلاغ وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنه شافع مشفع ، وما حل مصدق .

ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار .

وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل .

وهو الفصل ليس بالهزل . وله ظهر وبطن : فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلص من نشب . فإن التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص .

الكافي ج2ص598ب0ح2.

248ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة ، وكتابه ، وأهل بيتي ، ثم أمتي . ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي.

الكافي ج2ص600ب0ح4.

249ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم ، فإن لهم من الله العزيز الجبار لمكاناً علياً .

الكافي ج2ص603ب2ح1.

250ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعلموا القرآن : فإنه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميل شاحب اللون فيقول له القرآن : أنا الذي كنت : أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك وأجففت ريقك وأسلت دمعتك ، أؤول معك حيثما ألت . وكل تاجر من وراء تجارته وأنا اليوم لك من وراء تجارة كل تاجر ، وسيأتيك كرامة (من) الله عز وجل فأبشر ، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه ، ويعطى الأمان بيمينه ، والخلد في الجنان بيساره ، ويكسى حلتين ثم يقال له :

أقرء وارقه فكلما قرء آية صعد درجة ، ويكسى أبواه حلتين إن كان مؤمنين ثم يقال لهما : هذا لما علمتماه القرآن .

الكافي ج2ص603ب2ح4.

القبس الثالث: فضل حمل القرآن بالقلب والعمل به وتلاوته:

251ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن أحق الناس : بالتخشع في السر والعلانية لحامل القرآن ، وإن أحق الناس في السر والعلانية بالصلاة والصوم لحامل القرآن .

ثم نادى بأعلى صوته :

يا حامل القرآن : تواضع به يرفعك الله ولا تعزز به فيذلك الله . يا حامل القرآن : تزين به لله يزينك الله (به) ولا تزيّن به للناس فيشينك الله به .

من ختم القرآن : فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه ولكنه لا يوحي إليه .

ومن جمع القرآن : فنوله لا يجهل مع من يجهل عليه ، ولا يغضب فيمن يغضب عليه ، ولا يحد فيمن يحد ، ولكنه يعفو ويصفح ويغفر ويحلم لتعظيم القرآن ، ومن أوتي القرآن فظن أن أحدا من الناس أوتي أفضل مما أوتي فقد عظم ما حقر الله وحقر ما عظم الله.

الكافي ج2ص604ب2ح5. نوله : يحق وينبغي له أن يفعل له ، أي ينال خصال وخصائص منها ما ذكر ، وأصله من التناول .

252ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من أعطاه الله القرآن :

فرأى أن رجلا أعطي أفضل مما أعطي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا.

الكافي ج2ص604ب2ح7.

253ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

يا معاشر : قراء القرآن ، أتقوا الله عز وجل فيما حملكم من كتابه ، فإني مسؤول وإنكم مسؤولون ، إني مسؤول عن تبليغ الرسالة ، وأما أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب الله وسنتي .

الكافي ج2ص605ب2ح9.

254ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حملة القرآن عرفاء أهل الجنة ، والمجتهدون قواد أهل الجنة ، والرسل سادة أهل الجنة .

الكافي ج2ص605ب2ح11.

255ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين .
ومن قر خمسين آية كتب من الذاكرين .
ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين .
ومن قر مائتي آية كتب من الخاشعين .
ومن قرأ ثلاث مائة آية كتب من الفائزين .
ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين .
ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر .
القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب ، والمثقال أربعة وعشرون قيراطا .

أصغرها مثل جبل أحد ، وأكبرها ما بين السماء إلى الأرض.

الكافي ج2ص612ب7ح5. هذا الوزن في الجنة وهو حسب الإخلاص والتدبر والتفكر .

256ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ختم القرآن إلى حيث تعلم .

الكافي ج2ص612ب7ح7. يعنى ختمه في حقك أن تقرأ كل ما تعلم منه .

257ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر ، فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية ، لا يجوز تراقيهم .

الكافي ج2ص614ب9ح3.

258ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لم يعط أمتي أقل من ثلاث : الجمال ، والصوت الحسن ، والحفظ .

الكافي ج2ص615ب9ح7.

259ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ قل هو الله أحد مائة مرة حين يأخذ مضجعه غفر الله له ذنوب خمسين سنة .

الكافي ج2ص620ب13ح4.

260ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها ، لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ، ولا يقربه شيطان ولا ينسي القرآن.

الكافي ج2ص621ب13ح5.

261ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من قرأ ألهيكم التكاثر عند النوم وقي فتنة القبر.

الكافي ج2ص623ب13ح14.

262ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إني لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن.

الكافي ج2ص632ب14ح19. دليل اهتمامه بتعاليم القرآن وحب تطبيق معارفه وتبليغها وحب رؤية أصحابه وتابعيه ملتزمين بها وحب غيرهم أن يلتحق بها .

الذكر الرابع
آداب المعاشرة مع الطيبين
وإظهار مكارم الأخلاق للمؤمنين

وفيه إشراقات نور :

الإشراق الأول : آداب المعاشرة :

القبس الأول : تحدث مع الطيبين وجالسهم دون غيرهم :

263ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

انظروا من تحادثون : فإنه ليس من أحد ينزل به الموت إلا مثل له أصحابه إلى الله ؛ إن كانوا خيارا فخيارا ، وإن كانوا شرارا فشرارا ، وليس أحد يموت إلا تمثلت له عند موته .

الكافي ج2ص638ب3ح3. ويدل عليه أن الإنسان يحشر مع من أحب وحضور أئمته عند موته ، ويحضر أن النبي وآله فإن كانوا أئمته يفرح وإن لم يكن يتبعهم يحزن غصص عند الموت .

264ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ثلاثة مجالستهم تميت القلب : الجلوس مع الأنذال ، والحديث مع النساء ، والجلوس مع الأغنياء .

الكافي ج2ص641ب3ح8.

265ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

المرء على دين خليله و قرينه.

الكافي ج2ص641ب3ح10.

القبس الثاني: ود للطيبين وسلام عليهم وألطف بهم وسمتهم :

266ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ثلاث يصفين ود المرء لأخيه المسلم : يلقاه بالبشر إذا لقيه ، ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه ، ويدعوه بأحب الأسماء إليه .

الكافي ج2ص642ب5ح3.

267ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

التودد إلى الناس نصف العقل .

الكافي ج2ص642ب5ح4.

268ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

السلام تطوع ، والرد فريضة.

الكافي ج2ص644ب7ح1.

269ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أولى الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام

الكافي ج2ص644ب7ح2.

270ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يسلم على النساء ويرددن عليه السلام ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يسلم على النساء وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن ، و يقول : أتخوف أن تعجبني صوتها فيدخل علي أكثر مما أطلب من الأجر.

الكافي ج2ص648ب10ح1.

271ـ دخل يهودي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة عنده فقال : السام عليكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكم.
، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد عليه كمارد على صاحبه ، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كمارد على صاحبيه ، فغضبت عائشة فقالت : عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود يا أخوة القردة والخنازير .

فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء ، إن الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه ولم يرفع عنه قط إلا شانه ، قالت : يا رسول الله أما سمعت إلى قولهم : السام عليكم ؟ فقال : بلى أما سمعت ما رددت عليهم ؟ قلت : عليكم . فإذا سلم عليكم مسلم فقولوا : سلام عليكم ، وإذا سلم عليكم كافر فقولوا : عليك.

الكافي ج2ص648ب11ح1.

272ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا عطس الرجل فسمتوه ولو كان من وراء جزيرة ، وفي رواية أخرى ولو من وراء البحر .

الكافي ج2ص653ب15ح1.

273ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا عطس المرء المسلم ثم سكت لعلة تكون به ، قالت الملائكة عنه : الحمد لله رب العالمين .

فإن قال : الحمد لله رب العالمين ، قالت الملائكة : يغفر الله لك.

قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : العطاس للمريض دليل العافية وراحة للبدن.

الكافي ج2ص656ب15ح19.

274ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

تصديق الحديث عند العطاس .

الكافي ج2ص657ب15ح24.

275ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان الرجل يتحدث بحديث فعطس عاطس فهو شاهد حق.

الكافي ج2ص657ب15ح24.

القبس الثالث : وقر الكبير وأكرم الكريم والضيف :

276ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من عرف فضل كبير لسنه فوقره ، آمنه الله من فزع يوم القيامة.

الكافي ج2ص658ب16ح2.

277ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم.

الكافي ج2ص165ب71ح1.

278ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من وقر ذا شيبة في الإسلام ، آمنه الله عز وجل من فزع يوم القيامة.

الكافي ج2ص658ب16ح3.

279ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.

الكافي ج2ص659ب17ح2.

280ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن من حق الداخل على أهل البيت أن يمشوا معه هنيئة إذا دخل وإذ خرج ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل أحد كم على أخيه المسلم في بيته فهو أمير عليه حتى يخرج.

الكافي ج2ص659ب18ح1

281ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المجالس بالأمانة .

الكافي ج2ص660ب19ح2.

282ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من عرض لأخيه المسلم (المتكلم) في حديثه فكأنما خدش وجهه.

الكافي ج2ص660ب19ح3.

القبس الرابع : آداب الجلوس مع الطيبين وفي المسجد :

283ـ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يجلس ثلاثا : القرفص : وهو أن يقيم ساقيه ويستقبلهما بيديه ، ويشد يده في ذراعه ; وكان يجثو على ركبتيه .

الكافي ج2ص661ب21ح1.

284ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أكثر ما يجلس تجاه القبلة.

الكافي ج2ص661ب21ح4.

285ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا دخل منزل قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل.

الكافي ج2ص661ب21ح6.

286ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ينبغي للجلساء في الصيف : أن يكون بين كل اثنين مقدار عظم الذراع ، لئلا يشق بعضهم على بعض في الحر .

الكافي ج2ص662ب21ح8.

287ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

الاتكاء في المسجد رهبانية العرب .

إن المؤمن : مجلسه مسجده ، وصومعته بيته.

الكافي ج2ص662ب22ح1.

288ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

الأحتباء في المسجد حيطان العرب.

الكافي ج2ص662ب22ح1.بيان : الاحتباء هو أن يضم الإنسان ساقيه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليهما ، يعنى إن العرب تتوسل في الاتكاء بالاحتباء كما يتوسل أصحاب البيوت المبنية بالجدران .

الخامس : آداب حسن الجوار واللطف بالرفيق والصاحب :

289ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

حسن الجوار : يعمر الديار ، وينسي في الأعمار .

الكافي ج2ص667ب24ح10.

290ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

ما آمن بي : من بات شبعان ، وجاره جائع .

قال : وما من أهل قرية يبيت (و) فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة.

الكافي ج2ص668ب24ح14.

291ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

أعوذ بالله : من جار السوء في دار إقامة ، تراك عيناه ويرعاك قلبه ، إن رآك بخير ساءه وإن رآك بشر سره.

الكافي ج2ص669ب24ح16.

292ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

كل أربعين دارا: جيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله.

الكافي ج2ص669ب25ح1.

293ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما اصطحب اثنان : إلا كان أعظمهما أجرا وأحبهما إلى الله عز وجل ، أرفقهما بصاحبه.

الكافي ج2ص669ب26ح3.

294ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

حق المسافر أن يقيم عليه أصحابه إذا مرض ثلاثا .

الكافي ج2ص670ب26ح4.

295ـ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية .
ولم يبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجليه بين أصحابه قط .

وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده من يده حتى يكون هو التارك ، فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه قال بيده فنزعها من يده .

الكافي ج2ص671ب28ح1.

296ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أحب أحد كم أخاه المسلم فليسأله ، عن اسمه واسم أبيه واسم قبيلته وعشيرته ، فإن من حقه الواجب وصدق الإخاء أن يسأله عن ذلك وإلا فإنها معرفة حمق .

الكافي ج2ص671ب28ح3.

297ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما لجلسائه :

تدرون ما العجز ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .

فقال العجر ثلاثة : أن يبدر أحدكم بطعام يصنعه لصاحبه فيخلفه ولا يأتيه.

والثانية : أن يصحب الرجل منكم الرجل أو يجالسه يحب أن يعلم من هو ومن أين هو فيفارقه قبل أن يعلم ذلك .

والثالثة : أمر النساء يدنو أحدكم من أهله فيقضي حاجته وهي لم تقض حاجتها .

الكافي ج2ص671ب28ح4.

الإشراق الثاني : الأنس بآداب تعلم العلم من أهله والعمل به :

وفيه قبسات نور :

القبس الأول : أنس العلماء وطلبة العلم به وفضلهم وواجبهم :

298ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

إنا معاشر الأنبياء : امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم .

أصول الكافي ج1ص25ب1ح15 .

299ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

لا خير في العيش إلا لرجلين :

عالم مطاع ، أو مستمع واع.

أصول الكافي ج1ص33ب2ح7 .

300 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : اف لرجل :

لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ، ويسأل عن دينه .

أصول الكافي ج1ص40ب9ح5 . وفي رواية أخرى لكل مسلم .

301ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

إن الله عز وجل يقول : تذاكر العلم بين عبادي .

مما تحيى عليه القلوب الميتة ، إذا هم انتهوا فيه إلى أمري .

أصول الكافي ج1ص41ب9ح6 .

302ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح .

أصول الكافي ج1ص45ب12ح3 .

303ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

منهومان لا يشبعان :طالب دنيا وطالب علم .

فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له : سلم .

ومن تناولها من غير حلها هلك ، إلا أن يتوب أو يراجع .

ومن أخذ العلم من اهله وعمل بعلمه نجا .

ومن أراد به الدنيا فهي حظه .

أصول الكافي ج1ص45ب14ح1 .

القبس الثاني : تعلم العلم من أهله الكرام الأبرار المطهرون :

304ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا .

قيل يا رسول الله : وما دخولهم في الدنيا ؟

قال : اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم .

أصول الكافي ج1ص47ب14ح5 .

305ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال :

ورع يحجزه عن معاصي الله ، وحلم يملك به غضبه .

وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم.

أصول الكافي ج1ص407ب105ح8 .

306ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن عند كل بدعة تكون من بعدي يُكاد بها الإيمان ، وليا من أهل بيتي موكلا به يذب عنه :

ينطق بإلهام من الله ، ويعلن الحق وينوره ، ويرد كيد الكائدين ، يعبر عن الضعفاء ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وتوكلوا على الله .

أصول الكافي ج1ص54ب19ح5 .

307ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

من أراد أن يحيى حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل جنة عدن التي غرسه الله ربي بيده : فليتول علي بن أبي طالب ، وليتول وليه ، وليعاد عدوه ، وليسلم للأوصياء من بعده ، فإنهم عترتي من لحمي ودمي ، أعطاهم الله فهمي وعلمي ، إلى الله أشكو [ أمر ] أمتي ، المنكرين لفضلهم ، القاطعين فيهم صلتي ، وأيم الله ليقتلن ابني لا أنالهم الله شفاعتي.

أصول الكافي ج1ص209ب19ح5 . وأيم الله ليقتلن ابني : يعنى الحسين عليه السلام ويقره بصيغة التثنية اشارة إلى الحسن والحسين عليهما السلام

308ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن الله تبارك وتعالى يقول : استكمال حجتي على الأشقياء من أمتك : من ترك ولاية علي ووالى أعداءه ، وأنكر فضله وفضل الأوصياء من بعده .

فإن : فضلك فضلهم ، وطاعتك طاعتهم ، وحقك حقهم ، ومعصيتك معصيتهم ، وهم الأئمة الهداة من بعدك ، جرى فيهم روحك وروحك ما جرى فيك من ربك ، وهم عترتك من طينتك ولحمك ودمك ، وقد أجرى الله عز وجل فيهم سنتك وسنة الأنبياء قبلك .

وهم خزاني على علمي من بعدك ، حق علي لقد اصطفيتم وأنجبتهم وأخلصتهم وارتضيتهم ، ونجى من أحبهم ووالاهم وسلم لفضلهم .

ولقد آتاني جبرائيل عليه السلام :

بأسمائهم وأسماء آبائهم وأحبائهم والمسلمين لفضلهم .

الكافي ج1ص208ب19ح4.

309ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من سره أن يحيى حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل الجنة التي وعدنيه ربي ويتمسك بقضيب غرسه ربي بيده : فليتول علي بن أبي طالب عليه السلام وأوصياء ه من بعده ، فإنهم لا يدخلونكم في باب ضلال ، ولا يخرجونكم من باب هدى ، فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .

وإني سألت ربي : ألا يفرق بينهم وبين الكتاب حتى يردا علي الحوض هكذا - وضم بين أصبعيه - وعرضه ما بين صنعاء إلى أيلة ، فيه قد حان فضة وذهب عدد النجوم.

الكافي ج1ص209ب19ح6.

310ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن الله خلق الإسلام : فجعل له عرصة ، وجعل له نورا ، وجعل له حصنا ، وجعل له ناصرا . فأما عرصته فالقرآن ، وأما نوره فالحكمة ، وأما حصنه فالمعروف ، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا . فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم : فإنه لما اسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرائيل عليه السلام لأهل السماء ، فاستودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة ، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة .

ثم هبط بي إلى أهل الأرض فنسبني إلى أهل الأرض ، فاستودع الله عز وجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي .

فمؤمنون أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة .

ألا فلو أن الرجل من أمتي : عبد الله عز وجل عمره أيام الدني ، ثم لقي الله عز وجل مبغضا لأهل بيتي وشيعتي ما فرج الله صدره إلا عن النفاق .

الكافي ج2ص46ب22ح3.

القبس الثالث : من عرف العلم من أهله فعليه العمل ولا يتكل :

311 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء ؛ فقد كذب على الله .

ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله؛ فقد أخرج الله من سلطانه .

ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله , فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله الله النار .

الكافي ج1ص158ب30ح6.

312ـ قال : استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟

فقال : يا رسول الله مؤمن حقا .

فقال له : لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك ؟

فقال : يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا : فأسهرت ليلي ، وأظمأت هواجري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي (و) قد وضع للحساب ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة ، وكأني أسمع عواء أهل النار في النار .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

عبد نور الله قلبه ، أبصرت فاثبت .

فقال : يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك .

فقال : اللهم ارزق حارثة الشهادة .

فلم يلبث إلا أياما حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فبعثه فيها . فقاتل فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل.

وفي رواية القاسم بن بريد ، عن أبي بصير قال : استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر وكان هو العاشر .

الكافي ج2ص54ب27ح3.

313ـ رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

قوم في بعض غزواته فقال : من القوم ؟ فقالوا : مؤمنون يا رسول الله .

قال : وما بلغ من إيمانكم ؟

قالوا : الصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بالقضاء .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

حلماء علماء كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء

إن كنتم كما تصفون : فلا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تجمعوا م لا تأكلون ، واتقوا الله الذي إليه ترجعون.

الكافي ج2ص48ب23ح4.

خاتمة : جوامع الكلم برهان الصديقين للنبوة :

نور الله عقولنا : بعلوم دينه الحق كله ، وبما يحب ويرضى من هداه الصادق الذي يعلمه أئمة الحق والهدى ، ثم يقوينا على تطبيقه والظهور به عبودية خالصة لوجهه الكريم ، فيهبنا الصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بالقضاء ، فنكون مؤمنين حقا ، بل مع النبي وآله مخلصين لله الدين بما عرفونا من كل هداه ومعارف دين نبيه الكريم الذي بعثه الله رحمة للعالمين ونور للمؤمنين ، ويجعلن معهم الآن ويوم الدين ، إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

يا طيب : هذه الأحاديث كلها كانت من كتاب أصول الكافي ولم نخرج كل ما فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وجعلناها ثلاثمائة وثلاثة عشر :

بعدد أصحاب بدر المقاتلون مع النبي الأكرم : ليتحد الجهاد والعلم .

وبعدد أصحاب القائم إمام العصر والزمان عند ظهوره : لنتعلمها ولنعمل بها فنكون معهم بإذن الله .

ونتبارك بهذا الرقم ونكتفي به : لنعرف إنه دين الله متكامل شامل لكل جوانب الحياة ، وهذا فقط في جانب المعارف العامة للعلم والإيمان وأهله ونقيضه الكفر وما يوجبه وأهله ، بذكر بعض المهم منه من كتاب واحد ، وإل تعاليمها متسعة في كل قسم من البحث بل في كل أمر منه يمكن أن يكتب كتاب .

ولكن هذا يكفي للطيبين المنصفين : لكي يعرفوا بحق البرهان لذي يذعن له العقل ، وواقع الدليل الصادق بالوجدان : بأن هدى نبينا حق ونور يهدي للرشد ، ويدل على الصواب ، وفيه : مكارم الأخلاق الفاضلة ، والآداب الحسنة ، والمعارف الربانية التي يتوق لها المؤمن ، ويطلبها المنصف ومن يكون له فطرة طيبة ، ووجود نبيل لكي يتحلى بها ويواظب عليها بكل حاله ، حتى يتصف بمكارم الأخلاق والفضائل الحسنة والآداب الكريمة ، فيكون ذو شيم عالية تدل على شجاعته وعفته حكمته في تصرفه وسيرته وسلوكه ، وأنه إنسان يستحق الكرامة والفضل بل هو فاضل كريما وموجود شريفا ماجدا .

فيا طيب : فهذه الأحاديث كانت في السنن المستحبة الداعية للكمال والموصلة لرضا الله تعالى ولسعادة الدنيا والآخرة ، كما أن بعضها من الواجبات التي قد يكون بتركها ترك الواجب أو الدخول في المحرم ، وهذه الأمور يعرفها المؤمنون والمسلمون ، وإنها موجبه للتوجه لفرائض الإسلام وسننه في الكتب الفقهية والعقائدية وتحث على تعلمها والعمل بها بجد وإخلاص ، وأفضل معرفة هي بالرجوع للرسائل العملية للمجتهدين الأعلام لمعرفة ما هو مفترض علينا من الواجبات والسنن .

وفي حديث عن داود بن كثير الرقي قال : قلت : لأبي عبد الله عليه السلام : سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفرائض الله عز وجل ؟

فقال : إن الله عز وجل فرض فرائض موجبات على العباد ، فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافرا .

وأمر (رسول) الله بأمور كلها حسنة ، فليس من ترك بعض ما أمر الله عز وجل به عباده من الطاعة بكافر ، ولكنه تارك : للفضل ، منقوص من الخير . الكافي ج2ص383ب165ح1.

كما إذا كنت يا طيب : ترغب بالمزيد من أقول وأحاديث نبين الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فعليك بالكتب الموسعة : كوسائل الشيعة ، أو بحار الأنوار ، أو المختصرة : كتاب تحف العقول ، أو الخصال ، أو ثواب الأعمال ، أو الأمالي : للصدوق ، والطوسي ، والمفيد ، أو وغيرها .

ويا أخي الكريم ويا رفيقي في الإيمان : والله إن لهذه التعاليم وحدها ولو لم نكن نعرف الشواهد السابقة والبراهين التي في الأبواب قبلها ، لتكون كافية كدليل قوي وبرهان محكم على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي وحدها كافية لتثبت نبوة جميع الأنبياء قبله وإمامة آله بعده ، والإيمان بأن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، وقد جاء بالحق والصدق من عند الله تعالى ، وأن يد العناية الربانية والقدرة الإلهية قد ربته ليهدي الناس للصراط المستقيم ، وللهدى والنور الإلهي وحقيقة العبودية لله والقيم العالية التي فيها سعادة البشرية ، وتقودها لشاطئ السلامة في الدنيا والآخرة .

وهذا المقدار من أقوال عن نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : كافية لمن يرغب أن يعرف شيء من تعاليم نبينا المصطفى وهداه الذي يرتفع بالمؤمنين في سماء المعرفة والعلم الإلهي ، ويسموا بأرواحهم في وجود الاطمئنان والرض والمحبة والأخلاق الفاضلة والحكمة العالية والموعظة الحسنة ، فإنها بحق تزكي الأنفس وتجعلها من أهل عالم الملكوت والمعرفة ، وتوفقها للكل معروف وتجعلها من السباقة بالخيرات ، وما هي إلا حقيقة الإيمان في أعلا مراتبه والعمل الصالح بأحسن أحواله ، والتخلق بها يكون المؤمنون أقرب الناس بالنبي وآله الأطهار . ونسأل الله : أن يحشرنا معهم بكل اطمئنان لخيرهم وبركتهم ونعيمهم الذي خصهم به سبحانه ، فيجعلنا وهو القادر الرحمان : عبادا له مخلصين بحق وبكل هداه الحق المبين ، والذي علمه نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ويجعلنا معهم في أعلى عليين ، فرحين برضاه مسرورين بطاعته ، ويبارك علينا بنور ملكوته ونعيمه الخالد فيجعلن نحف بالنبي وآله الكرام : على الحوض فنروى ، وتحت لواء الحمد فنسر ونفرح ونسمى ، و تحت عرش الرحمان في المقام المحمود فنقر عينا ونرضى ، ونقول في آخر دعوان أن الحمد لله رب العالمين . وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين .


الباب الثامن
القرآن المجيد هدى رب العالمين ومعجزة خالدة لسيد المرسلين وللناس أجمعين

في هذا الباب: بيان يرينا عظمة كلام ربنا الرحمان الذي علم القرآن ، وخلق بني الإنسان فعلمهم معنى البيان العظيم البليغ الخالد المعجز الذي لا يمكنهم أن يأتوا بمثله ، فيؤمنوا بالمرسل والرسول والرسالة في كل زمان ومكان كانوا فيه وبه .

تذكرة : أيد الله نبيه بالمعجزات وأهمه القرآن المجيد:

إن معجزات نبينا الأكرم : التي أيده الله بها ، فعرّف العباد أحقية نبوة خاتم الأنبياء وصدق سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكثيرة ، وقد سبقت وجوده في هذا الكون ، فهو أول من أجاب دعوة الله في عالم الذر وقد عرفت هذا في كلامنا عن نوره الأكرم في باب مولده وعند الكلام عن نوره في صلب أجداده وفي ولادته وبعثته المباركة ، وباقي أدوار حياته الكريمة في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، ويكفيك أن تتصفح تأريخ حياته الشريفة لترى تأييد الله وتسديده له في كل خطوات وجوده الكريم الشريفة المبارك وإلى يوم الدين .

فكل ما ذكرنا : عن نبينا الأكرم من أحاديثه الشريفة ومعارفه العلمية وآدابه الخلقية الحسنة وسيرته العملية في كل تصرف له بالخصوص في ثباته وجهاده وإصراره من أجل تبليغ رسالة ربه ، كلها تدل على أن تعاليمه وسيرته وخلقه الكريم لم يكن من إنسان عادي ، بل لابد أن يكون له تأييد من الله تعالى وقد رباه وعنى به وعلمه فبعثه رحمة للعالمين ، حتى أشرق نور هدى الله لعباده من وجوده وبأحاديثه الشريف معارف قيمة ، وبفصيح البيان وببليغ الكلام الذي لم يكن يُعرف مثله في الهدى والنور الذي بحق يُصلح العباد ويُسعد البشر ، لا في البيان والحكمة البليغة ول في المنطق والموعظة الحسنة ، ولا في تعاليمه العالية ولا في هداه الواقعي الصادق ، وقد عرفت حقائق عما ذكرنا في الأبواب السابقة .

فيا طيب : إن ما ذكرنا يدلنا بأن كل حياة نبينا الأكرم كانت معجزة إلهية لهداية البشر وللسلوك بهم للصراط المستقيم ولنور المعرفة واليقين ليقيمو عبودية رب العالمين ، فيصلوا للحياة السعيدة الكريمة والأخلاق الفاضلة الشريفة ، ومن خلال كل تعليم عرفه لنا وسيرة وسلوكا ظهر به صلى الله عليه وآله .

ويا أخي : تدبر أي فترة من سيرة ووجود وأحاديث نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، سوءا في أخلاقه الكريمة وسلوكه أو أقوله وأحاديثه الشريفة وتعاليمه كلها ، فإنك ستراه في كل الأحوال في السر والعلن والحل والترحال والسرور والغضب لم يخرج من الحق ولم يؤثر عليه شيء فيقول باطل ، وتقلب الأحوال لم يحرفه لحظة عن العدل والإنصاف في سيرته ولا في كل أموره ، فهو بكل شيء ظهر به معجزة لرب العالمين ليعلمنا ضرورة بعثته وشاهد حق على نبوته ، وإن الله كان اصطفاءه لأشرف الأنبياء والمرسلين بحق لعلمه بصبره في سبيل نشر دعوة الله وتبليغ رسالته وإقامة عبوديته بكل وجوده .

ولنبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزات : كثيرة فضلاً عما ذكرنا ، وهي من الإسراء والمعراج وما أخبر عما رأى في طريقه لبيت المقدس إلى شق القمر وتكلم الحصاة بين يديه إلى إخبار الله له في كلامه بانتصار الروم بعد أن غلبوا ، إلى إخباره عن انتشار دينه وسيأتيك بيان بعضها ، وأهم معجزاته بعد وجوده الكريم هو كتاب الله المنزل عليه القرآن الكريم .

وقد كتب المسلمون في الإعجاز القرآني : كتب كثيرة وتعرض لبيان الإعجاز القرآني كل من كتب في علوم القرآن أو في تفسيره ، راجع الجزء الأول لتفسير الميزان للعلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الآية 23 من سورة البقرة ، أو تفسير البيان للسيد الخوئي ، وإن أستاذنا آية الله الشيخ محمد هادي معرفت حفظه الله خصص عدة أجزاء من كتابه الموسوم بالتمهيد في بيان الإعجاز القرآني ومصاديقه ، حتى أران بحق إنه بحر عميق لا تفنى عجاب معارفه ولا قوة بيانه .

ويا طيب : إن البحث في معجزات نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتقسيمنا في بابين ، الباب الأول : في القرآن الكريم وهو المعجزة الخالدة والمثبتة لكل أصول الدين وفروعه ولكل تعاليم الله الدائمة ، والباب الثاني الآتي: في معجزات نبينا الأكرم الكونية والعملية بل والعلمية ، والتي نقلها المسلمون الذين عاش وقائعها في زمانه بل حكاها التأريخ بعده وعرفن صدقها ، ونحاول أن نجعل البحث على نحو الاختصار في البابين والله ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين.

الذكر الأول
معارف عامة لبيان عظمة معجزة الله الخالدة القرآن المجيد

وفيه إشراقات نور :

الإشراق الأول : التدبر في القرآن يعرفن إنه كلام الله:

البحث في إعجاز القرآن المجيد : وكل ما قيل فيه يحتاج لكتاب قد تتعدد أجزاءه ، ولكن يكفي الإنسان الحر من العناد للحق ، والمنصف في وجدانه : أن يتدبر القرآن المجيد ويتعرف على تعاليمه ، لكي يعرف أنه كتاب الله الذي فيه كل حق وهدى ، وهو كلامه الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبه قد تم ختم النبوة والرسالة ، وفيه كل تعاليم الله رب العالمين و التي يهدي به عباده لكل خير وفضيلة وكمال وسعادة ، وهو المعجزة الإلهية الدائمة لجميع عباده إلى يوم القيامة وأين ما حلوا وفي أي زمان كانوا .

فمن تدبر في القرآن المجيد : وتعرف على تعاليمه ومعارفه بعين الإنصاف وطلب الحق من غير عناد ، فإنه يرى نفس روحه لا فقط تذوب في تعاليمه ومعارفه إن كان صادق ومجد في بحثه ، بل يعشقه ويعيش تعاليمه في كل وجوده ، وتكون معارفه صفة لقوله ولعمله ولأخلاقه ، ويوقن أن كلام الله في القرآن المجيد هو المعجزة الشاملة لجميع تعاليمه ولجميع البشر على طول التأريخ وعلى طول الزمان وفي جميع بقاع الأرض ، وهذه الخصوصية غير موجودة في كتب الأديان السابقة ولا في معجزات الأنبياء السابقين ، ولذا إن الله لا يقبل غير الإسلام ديناً لمعرفة تعاليمه ، وأن نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين لأن تعاليمه خالدة وصالحة ومصلحة لكل العباد في كل زمان وبلاد .

تدبر في القرآن الكريم : سترى نفسك مذعن وموقن بأن هذا كلام خالق الكون وهاديه وإن تعاليمه لعباده فيه ، وإن المنزل عليه هو خير البشر وسيدهم ، وأشرف الناس وأنبلهم ، وسيد المرسلين وخاتمهم ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس علماً وعملاً ومنطقاً وأخلاقاً وذاتاً وصفاتاً ، ومرّ عليك شيء من سيرته وأقواله وجهاده صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن يُفتخر به وبسيرته وسلوكه ومنطقه فيقال إن خُلقه القرآن وتعاليمه وأقواله نابعة منه ، أو هو عين القرآن وهو القرآن الناطق ، وهكذا يوصف آهل بيته الكرام ، وهذا فخر كل مسلم وإنسان أن ينتسب في قوله وخلقه وصفاته للقرآن ولتعاليمه وانه ملتزم بمعارفه وخاضع له ، كما وإذا أردت أن تعرف حديثه وأنه منقول عنه فأعرضه على القرآن الكريم تعرف صدقه وخلوصه من الغش والخداع والريبة والشك ، وأنه حاوي لتعاليم الله بحق وينطق عن الله تعالى بصدق أم لا .

فهذا القرآن المجيد : يهدي للتي هي أقوم ، وهو منبع كل فضيلة وخير وبركه ، وفيه تعاليم الله الموصلة لحقيقة العبودية ، وببركته كان النبي وآله وصحبه الكرام سباقون بالخيرات والعمل الصالح ورسخ فيهم الإيمان ، وكان منهم اختيار الله لأئمة الهدى والخلفاء للرسول الأكرم ، وهذا القرآن المجيد كلام الله تعالى وهو عن الحكيم الخبير بما يصلح البشر ويدلهم على كل ما يحتاجه الإنسان من تعاليمه ومعارفه ، وأنزله الله على خاتم رسله وكرم الإنسان به ليقوده لسعادته وهداه ولكل فضل وكرامة في الدارين .

وبهذا يا طيب نعرف إن القرآن المجيد : لكل إنسان يدله على الإيمان ومعارف الرب الرحمان ، ويهديه للتي هي أقوم ولكل خير وصلاح ، فيجعله مؤمن موقن بتعاليمه ويعتقد إعتقاد جازم بوجود المرسل والرسول والرسالة ، والباعث والمبعوث والبعثة لتعاليم الله الهادية للعباد إلى يوم الدين ، ولكن بشرط أن يراعي المتدبر الإنصاف وحقائق المعرفة وأصول الاستنباط ، وبشرط أن لا يحمل عليه ما لم يبينه الراسخون بالعلم المختارون من الله تعالى للصراط المستقيم ، فيلف ويدور ويبتغي التأويل أو الفتنه والعياذ بالله تعالى .

وبتلاوة القرآن المجيد : يجد المؤمن لطف وطراوة كتاب الله في لفظه ومعناه ، فتطيب النفس عند تلاوته ، وتتعطر الروح بتنسم معانيه ، ومع تكرار التلاوة تزداد المعرفة بعلومه واطمئنان النفس بتعاليمه ، ويرى من صفت روحه وحسنت نيته عند تلاوته إنه يتذوقه بعقله قبل لسانه ، وتسري النعمة الإلهية لهداية البشر في روحه فتخشع ويتأثر بدنه تبعا لروحه ويخضع للرب الرحمان المنان ، ويشعر بكل وجوده بأعجازه القرآن المجيد الخالد ، وإنه لكل البشر ويكفي إن يكون خاتم لتعاليم الله لأنه لا يمكن أن يتصور للإنسان أحسن منها ولا أفضل .

كما أن مَن عرف حكمة الوجود : أيقن بأنه لابد لأن يكون لله تعالى كتاب هدى فيه كل ما يحتاجه البشر من التعاليم ، ولا يوجد قوم يدعون أن لهم كتاب مثله وبمنزلته ويصدقهم ما فيه من التعاليم ، وتدبر آيات القرآن الكريم تجده أكبر شاهد لنبوة ولرسالة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل لكل أصول الدين وفرعه ، ولمعرفة التفصيل في الإعجاز القرآني راجع الكتب المختصة في هذا الشأن وسيأتيك بيان .

الإشراق الثاني : الكلام في إعجاز القرآن المجيد وسببه :

الاستشهاد على إعجاز القرآن : وأنه أحد الشواهد المثبتة لنبوة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنه لابد من بعثته وتأييده بالمعجزة ، أو إنه كشاهد حق لجميع أصول الدين وفروعه ولمعرفة أحكام رب العالمين الشاملة لجميع أحوال الحياة الإنسانية بكل أبعادها ، يكون بعدة طرق وأساليب كلها تبين عظمته وشموخ القرآن المجيد في العلم والبيان والفصاحة ، ولكل من العلماء حسب تخصصه يرى سبيل لبيان الإعجاز في كتاب الله ، وحسب خبرته وما يستقيه من علومه ومعارفه ، وقد قال القدماء إن سبب إعجاز القرآن المجيد أمور منها :

الأول : القرآن المجيد معجز : من ناحية البلاغة والبيان .

الثاني : القرآن المجيد معجز : من ناحية إخباره بالمغيبات .

الثالث : القرآن المجيد معجز : لكثرة ما يتعرض له من العلوم في الأخلاق والمعارف الإلهية والإرشاد وفنون الحكمة والموعظة الحسنة ، ولكل م يصلح البشرية من القوانين والأحكام ، فهو السبب الواقعي لسعادتهم في الدنيا والآخرة.

الرابع : القرآن المجيد معجز : لكون الله تعالى صرف الناس عن معارضته : إما بسلب القدرة والبيان عن الإتيان بمثله ، أو لصرف هممهم ، أو لسلب علومهم ، فشغلهم عن المعارضة .

وعلى كل الأحوال : إن الله سبحانه وتعالى يتحدى في كتابه المجيد بأن يأتي بسورة من مثله وقد قال الله تعالى : { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّ نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} البقرة23.

وكانت وما زالت : أسباب المعارضة أو الإتيان بمثل القرآن المجيد كثيرة ، وهي إما لاختبار النفس في القدرة على المعارضة والفخر بالمجيء بما يشابه كلام الله المجيد ، أو للعناد ولإبطال التحدي وهدم القواعد التي يبتني عليها الدين ، وهذا بالخصوص بالنسبة للمنافقين والكفار والمشركين ، حيث مصارعة القلم والبيان أهون من مقارعة السيف والسنان ، ومصارعة الكلام وألفاظه أسهل من التعرض لحد النبال والرماح ، فإن العرب في صدر الإسلام وما زالوا فيهم البلغاء وأهل الكلام والخطباء ، وهم الفصحاء ، وفي مكة كانت تعقد مجالس الشعر والمفاخرة في سوقها عكاظ ، وهكذ كان مربد البصرة ، ولم يذكر لهم معارضة لها شأن تجاري القرآن ، وهذا تحدي الفرقان جاري لحد الآن .

ولو جاءت معارضة بحُسنه ومثله : لاشتهرت وعرفناها ، لأنه مهمة وفيها قيام دين كبير وله أنصار في مشارق الأرض ومغاربه ، أو عدمه وبطلانه إن تمت المعارضة والإتيان بمثل قرآنه وكتابه الذي يعتبره لا يعارض ولا تفند معارفه ، ولم يوجد إنسان استطاع بحق في كل زمان الدنيا بأن يأتي بمثل ما جاء به القرآن المجيد لا في معارفه ولا في قوة بيانه ، وقد كانت محاولات فاشلة لم تجاري القرآن في شيء بل كانت تُذكر ليسخر بمن أتى بها ، ويُعرف ضعف بصيرته ومعرفته ، وسنشير لها في آخر البحث ، ثم قد عرفت أنه لكل إنسان بيان في سبب إعجاز القرآن بما وفقه الله تعالى لطور بحثه ، وهذا بيان فتدبره يا طيب .

وفيما وفقنا الله له هو أن نذكر سبب إعجاز القرآن وكونه لأمرين :

الأمر الأول : إن القرآن تعاليمه حق وهو يهدي للتي هي أقوم :

الأمر الثاني : إن القرآن كلام فصيح موزون محكم البيان :

ويا طيب : لما كان لا يوجد كلام مثل القرآن محكم البيان فيه تعاليم حقة لا من قبله ولا من بعده حتى في الكتب السابقة التي يدعي أصحابها إنه نفسها الكتب التي جاءت من عند الله وتعاليمه على الأنبياء السابقين ، وإن كان الحق هي غير متوفرة بشكلها الأول في الكتب السماوية السابقة لأنها إما محرفة أو دونت ولم يراعى فيها الإحكام وحق المعارف الإلهية ، ولم يبقى إلا القرآن المجيد ، وإم ما في كلام نبينا الأكرم وآله الأطهار وصحبه النجباء وباقي المسلمين فهو كلام حق ومأخوذة تعاليمه من القرآن المجيد ، وحتى لو كان بليغ وحسن البيان وفيه معارف قيمه ، فهو لم يدعى فيه إنه غير مستقى من القرآن ولا إنه يجاريه في البيان ، فأنه حتى ما جمع في نهج البلاغة وفصاحته ، فإنه يُعرف إنه من القرآن ولبيان هداه وفصيح لرسوخ أمير المؤمنين بمعارفه ، وهذا أقوى كلام جُمع فيه كلام العرب في المعرفة والفصاحة والبيان ، وهو لا يعارضه ولم يدعي أحد ذلك ، ولا يوجد لهم أحسن منه .

والكلام المعارض : للقرآن المجيد بحُسن حديثه ، لابد أن يكون يعارضه في التعاليم وإحكام البيان ، وكل من عارض في التعاليم فتعاليمه باطلة ولا يفيده إحكام البيان ، بل لا يكون فيه بيان ؛ لأن الباطل غير فصيح وما صيغ بأسلوب الفصيح هو على نحو الوهم والتخيل ، ولم يكن كلام بليغ وفصيح على الحقيقة ، وهو بعيد عن الذوق الرفيع والعقل السليم الباحث عن الحقيقة والواقع فيكون ساقط عن المعارضة ، فلذا كلام الله لم يشبه بالشعر والخطب والنثر ، بل وصفوه بالسحر لأنه عذب يجذب القلوب والعقول لما فيه من الفصاحة والبيان والمعنى الحق والهدى الواقعي لرب الكون والمصلح للعباد بخير وفضيلة.

ولهذا قلنا : إن ما كان مستقى من تعاليم القرآن وكونه كلام حق ككلام النبي الأكرم فهو غير معارض للقرآن من هذه الناحية ، وإن كان كلام بليغ وفصيح ، ولكنه لم يصل لمستوى علوم القرآن ، وهو متأخر عنه في المعرفة والتأثير ، وبعده يأتي في الفصاحة والبيان ، ولم يقصد به المعارضة ، وإن أفضل كلام في الدني وأحسنه وأتقنه هو كلام الله المجيد ، ويأتي بعده كلام نبينا الأكرم ثم بعده وصي النبي الإمام علي وآلهما الأطهار عليهم الصلاة السلام ، وما جمع في كتاب نهج البلاغة من كلام الإمام علي عليه السلام وهو أفصح كلام العرب بعد كلام الله ورسوله ، ولكنه دون كلامهما ولا يقاس بهما مع أنه كلام أهل بيت النبي الأكرم عليهم السلام لا يمكن معارضته لحسن بيانه ومعارفه ، تصفحه وتدبر معناه تعرف ذلك ، فإنهم شارحي القرآن ومطهرون مثله يعرفونا معارفه وهداه لا أكثر .

وعلى كل الأحوال : إي كلام تتدبره والمقصود به المعرضة لكلام الله فهو باطل وغير محكم ، والغير مقصود به المعرضة مع فصاحته وإحكامه غير معارض للقرآن ، وإن كان حق فهو لا يقارنه في المعارف والبيان والتأثير مهما كان ، وهو تابع لتعاليم القرآن المجيد ونابع من هدى الله في كلامه ، وكلام الله أصل له وهو فرع له ، فيكون مؤيد لا معارض ، وشارح لا معاند ، ومنه مستقى لا مثله بحيث يمنع من تحديه في إنه خالد بأحسن المعارف والبيان لها .

فلذا لم يوجد لحد الآن ، بل لا يمكن معارضة القرآن على طول الزمان ، وهو يتحد كل إنسان من يوم نزوله إلى الآن .

وبعد الذي عرفت نذكر نماذج من البيانات القرآنية الكريمة ، والتي تبين فصاحة القرآن وعلو معارفه الهادية للتي هي أقوم وبأحسن بيان وأفصح كلام وأبلغ موعظة وهدى ، فتعرفنا عظمة تعاليمه التي هي أساس الحق ، ونور الهدى الذي يرشد لسعادة الواقعية لبني الإنسان بصدق .

فلذا يكون كل بيان يأتي يعرفنا أمران كريمان في القرآن المجيد :

الأول : تعاليمه الكريمة الهادية للبشر بحق .

والثاني : حسنه وإتقانه وإحكام بيانه .

وعلى هذا يكون البحث الثاني الآتي : بعد هذه المعرفة العامة ، ويكون مما نستشهد به لإعجاز القرآن : هو نفس كلامه الله المجيد فيه ، فيكون بحثا خاصة يعرفنا إعجاز القرآن وهو بيان القرآن للقرآن ، فهو الشاهد الصدق على نفسه والمبين لعلو قدره وعظيم شأنه ، وهذا يكون بعد ما عرفت من المعرفة العامة في هذا البحث الأول .

ثم نثلث بالبحث الثالث : لمعرفة إعجاز القرآن المجيد ، بم ذكر من فضله وعلو شأنه بتوسط خاتم الأنبياء وآله الكرام وصحبه النجباء .

ثم نذكر بحثا رابعا : الأحاديث وأقوال العلماء أو أهل المعارضة لمعرفة كيفية دلالته على المعجزة ، ومتوخين في ذلك كل ما نذكره الاختصار والإجمال ، وهي بيانات وشواهد تكمل بعضها البعض ، وتصب في معنى وحد لبيان إعجاز القرآن المجيد ، وقدمنا هذا البحث لكي لنعرف ما نقرأ ، و لكي نسلسل البحث في شرحه وبيانه لإعجاز القرآن وبيان لعظمته ، وليرسخ المعنى في النفس الطيبة ، ونسأل الله التوفيق ، ويهبن معارفه ودينه علما وتطبيقا لكل هداه ، إنه أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وآهل الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال أمين يا رب العالمين .

الذكر الثاني
القرآن معجزة خالدة يعرفنا نفسه ببيانه لتعاليمه وإحكامها

وفي إشراقات نور :

الإشراق الأول : القرآن معجزة لبيانه الموزون لتعاليم الله :

القرآن الكريم : يشهد لنفسه بأنه كلام الله أُنزل بالوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويُعرّف نفسه بما فيه من الكلام المحكم الحسن ، والفصيح المتقن ، والذي ينطق بالحق والصدق ، والعدل والإحسان ، والعلم والبيان . ولكي لا أطيل عليك بذكر مقدمات البرهان : نذكر شواهد من آي القرآن المجيد وهي الحاكم ليقين وجدانك على عظيم فصاحته وعلو معارفه ، وهي الفاصل الحق للضمير المنصف والحاكم بالعدل لمعرفة أنه معجز وأنه لا يمكن أن يأتي أحد بمثل تعاليمه أو فصاحته وبلاغته ، ولهذا البيان قال الله تعالى :

{بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمَانُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَان (4)

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْ فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } الرحمن 9.

وقال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } الشورى 17 .

فهذه آيات كريمة : تبين إن الله الرحمان علمنا القرآن قبل إن يبين أنه خلق الإنسان لكي يلفت نظرنا لأهمية العلم والبيان ، وكان بهذا تعالى قد بين إن الإنسان كان إنسان لأنه فُضل على المخلوقات بالبيان ، والبيان حقيقة به يعلم مكنون الإنسان وأهميته وشأنه ، طبعاً البيان للحقائق ، ووفق العدل والحق الذي يقود الإنسان لكل خير وفضيلة ، فهذا تعليم الله البيان للإنسان في أول وجوده ، ولم توجد مثل تعاليم القرآن تعاليم في كتاب تعرف هذه المعرفة لأهمية البيان في حقيقة الإنسان وبهذه الفصاحة والبلاغة والعلم الكوني والهدى فيه لكل شيء.

وأقرأ يا طيب : تعاليم الله لنبيه الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أول بعثته ، واهتمامه تعالى بالعلم وتعليمه تدبر قول الله تعالى :

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)

عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }العلق 5.

فأفضل شيء في الإنسان هو البيان : وهو أهم من خلقه وأحسن شيء في وجوده ، وهذا البيان ينبع من العلم والمعرفة التي مكن الله بها عباده من التعبير عنها بالبيان الذي أودع قدرته فيهم ، وما أحلاه أن يكون وفق التعاليم الإلهية التي تعلمه العدل والإنصاف والآداب الحسنة والخلق الكريم ، وهذا هو الذي يجعل لوجود الإنسان قيمة وقدر يرتفع به عن الحيوان ، لعالم الفضيلة والكرامة والروح المنعمة السعيد المطمئنة بما عليها وما لها وبكل أمر يوصلها لخيرها ولسعادتها وفي كل جوانب الحياة لها ، وفي الحقيقة هذا هو معنى وجود الإنسان.

فيا طيب : إن المعارف الإلهية هي التي تقود الإنسان الحي الصاحي وفق المنطق الحق والكلام الموزون المحسوب الذي به يعرف الحديث الحسن وصدقه وحقه ، وأنه سبيل للهدى والطريق للصراط المستقيم ، كما أن العدل في الوزن وكون الشيء حُسب له كل ما يديم وجوده ويهديه لصراطه المستقيم في كل شيء في الكون ، وهو لدليل على دقة المعاملة وحسن النظم وقوة المجري للقانون الكوني وخالقه في وجوده وفي هداه التكويني والتشريعي ، سواء في الكون والوجود أو في العلم والكلام والمعاملة في نفس الإنسان وأحواله ومع غيره .

وما ذكرنا هو ما أشارت له الآيات القرآنية الكريمة السابقة : وبها يبرهن الله تعالى أنه فعل وأوجد كل شيء موزون وبحسبان سواء في الخلق أو في كلامه ، وبكلام الله بان ووضح مكنون عمله وطريقة فعله تعالى في الخلق وغرض والوجود وكيفية بقاءه وهداه، وأوضح آثاره في تعليم عباده وسلوكه في المعاملة معهم وكيفيتهم ، ولا يوجد بيان لأحد له هذه القوة ويدعي قدرته على صدقه بهذه الفصاحة في المعرفة الكونية والهدى وحقيقة العدل فيه والإحسان .

وتلونا آياته عليك : وتدبر كتاب الله المجيد تعرف كثير من حقائقه ، كما تدبر الكون ترى دقة النظم في كل شيء مخلوق ، ولم يدعي غير الله في كتابه حُسن الخلق ودقته وأنه كل شيء موزون فيه وهو خالقه وهاديه بأحسن دقة وحساب لكل شيء من وجوده وما يوصله لأحسن غاية له بأحسن هدى ، وهذا البيان من الرب الرحمان كان قبل اكتشاف الإنسان لكثير من دقائق الصنع وقبل تطور العلم في المعرفة الكونية التي يحكمها القانون الإلهي الذي يتجلى فيه النظم والدقة والإتقان والحُسن من الذرة للمجرة .

وهكذا تدبر كلام خالق الكون وهاديه الموزون الذي يهدي البشر في كتابه المجيد وإحكامه مع علو تعاليمه وشموخ معارفه ترى الحق في أنه كلام الله الخالد والمعجز الدائم لهداية البشر ، وعلى طول التأريخ مع كونه على الفصاحة والبلاغة ، فتوقن إنه كلام العليم الحكيم المنزل على نبينا الكريم لكي يهدينا للصراط المستقيم وبدين قويم وهدى عظيم موزون محسوب في علمه وبيانه وفي حقيقته وبرهانه .

الإشراق الثاني : حُسن بيان القرآن ليحسن العباد يدل على أعجازه:

ولمعرفة البيان الإلهي : ودقته وإحكامه وحسنه وإتقانه سواء للكون أو لكلامه وتعاليمه تعالى ؛ تدبر خلق الله في الكون وما فيه وكتابه المجيد وتعاليمه فيه ، وهذا الكلام جاء من الله ليهدي الإنسان للصراط المستقيم وليشهد أن الله نزل كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليعلمهم كل ما يحتاجون إليه لنظم حياتهم وإقامة العدل والإحسان بينهم ، ولكي تستقيم أمورهم وتعرف إنسانيتهم وليكون الإنسان إنسان ، أنظر قوله تعالى :

{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ

وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ

وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ : بِالْعَدْلِ ، وَالإِحْسَانِ ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى

وَيَنْهَى : عَنِ الْفَحْشَاءِ ، وَالْمُنكَرِ ، وَالْبَغْيِ

يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } النحل 91 ، هذه المعاني الكريمة يبينها الله لعباده ليدلهم على صلاحهم ، وصدق نبيه في هداه وتعاليمه المنزلة عليه التي توافق فطرة الإنسان الطالبة للكمال والخير والفضيلة بحق ، وهي وحدها تكفي لمن يعمل بها أن يعيش إنسان كريم ، وتكفي لكل البشر كقانون كلي يعملون به ليصلوا لسعادتهم وليعيشوا بينهم بأمن وآمان ، وبأحسن هدى وبر وعدل وإحسان ، تدبرها يا أخي ما أحلاها من تعاليم.

ويا طيب : إن تعاليم الله تعالى في القرآن المجيد ، كله تصب في معرفة توحيد الله وضرورة قبول حاكميته في القانون والتشريع ، وهي نافعة وسهلة الوصول لمن يتدبر تعاليمه ومعارفه ، ولذا كان لابد من نبي مرسل يبلغ تعاليمه للإنسان ويوصل هداه الحق بأحسن بيان وحديث ومعارف ، وهذا يا أخي تدبر في كتاب الله لنعرف حسن بيانه ، ويجب أن يكون تدبر حق لا كما قال تعالى للذين لا يؤمنون ول يرضون بالبيان الحسن حيث قال تعالى :

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ } محمد 24 .

بل القرآن المجيد سهل للمتدبر المنصف وذكرى تنفع الطيبين ، ولذ قال سبحانه : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }القمر 17.

فنتدبر يا طيب بحق في القرآن المجيد ، ولك الحكم والإنصاف لمعرفة حُسن فصاحته ، حيث يهدي العباد ببليغ الكلام وبيانه الحسن .

والله تعالى : هو الذي تفضل على الإنسان وكرمه وسخر له كل شيء من نعمه التي لا تحصى ليسعد في وجوده ويرتاح بحسن مكانه وغايته التي يسير إليه حتما ، وعليه أن يطلب ما ينفعه ويقيم وجوده في الخير والبركة ، وبطيب المكسب وبالعبودية لرب كريم حقيقي يكون بيده صلاحه وخالق للكون ، وبهذا قال تعالى :

{ قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا:

يُقِيمُوا الصَّلاَةَ ، وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّ وَعَلاَنِيَةً

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } إبراهيم 31 وقال تعالى :

{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ

وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ (32)

وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَار (33)

وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } إبراهيم 34 .

ظلوم كفور لنعم الله حيث يعصي ربه بنعمه وبما سخر له ، وإن إن طاب وجوده بإقامة معارفه وشكره فهو إنسان كريم وفاضل نبيل ، وقال تعالى :

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ

وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء 70 .

فهذا كان لبيان عظمة القرآن المجيد في العلم وبيان نعم الله على الإنسان المفضل المسخر له كل شيء في هذا الكون الواسع ليشكر ربه ويقيم العدل بل والإنفاق لمن يكون سميه في الخِلقة وعجز عن العيش الكريم ، وأن يطلب الطيب من الرزق والحلال لا بالظلم والعدوان ، وبحق بهذه التعاليم يكون الإنسان إنسان ويقيم وجوده بالعدل والإحسان ويطلب المزيد من الرب الرحمان .

وهذا بيان كافي لعظمة تعاليم القرآن المجيد التي تهدي للتي هي أقوم .

ونتمم البحث ونؤكده لنتيقن إن كلام الله في كتاب المجيد : كلام معجز نازل من خالق الإنسان ويهديه بدين قويم لأحسن دين ، و يكون للإنسان بتطبيقه حقيقة سعادته وفرحه وسروره في الدارين ، ثم تدبر بنفسك في إحكام الآيات وحسن نظمها وترتيب بيانها وفصاحتها .

وهو من خلال : التدبر بالأسماء الحسنى للرب الكريم الخلق الوجود الحسن ، وبأحسن تكوين وأحسن هدى ، ليحسن الإنسان بكل علمه وعمله ووجوده فيصلح ويتنعم بكل خير وعدل وإحسان:

يا طيب : إنه لا يوجد كلام حسن بحق و فيه من المعارف الإلهية في التوحيد في آيات مشيرة للأسماء الحسنى الشريفة للرب الخالق الهادي للعباد بعد أن يؤمن به العقل المتنور بطلب فطرته للكمال الحق والهدى الواقعي ، وهي فيها من المعرفة الإلهية في بيان عظمة الرب وبيان لعظيم قدرته وعلمه وحكمته وكل أسماء الحسنى مثل الدين الإسلامي ، وبالخصوص بيان الله لتعريف نفسه وهداه الحق في كتابه المجيد الخالد ، والتي تفقدها كل الشرائع ولا توجد إلا في دين نبينا محمد صلى اله عليه وآله وسلم الدال على بعثته وصدقه وحقيقة نبوته ورسالته الإلهية التامة بكل معرفة ، وبالخصوص بتعريف الرب بعد إن عرفنا عظيم نعمه وغاية خلق الإنسان ليشكر ربه ول يظلم نفسه بكفران هداه ومعارفه .

وهذا ما قال تعالى لتعريف نفسه :

{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ

الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ

سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ

اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى

يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }الحشر24.

نعم لله الأسماء الحسنى : وكل شيء خلقه حسن وليوصله لسعادة حسنه ، وكان وما يزال الوجود خلقه بأحسن صورة ممكنة ودقة متقنه فيهبه الرحمة وبسلام وأمن ، وهو الملك العزيز الجبار المتكبر على من يتعصى ولم يطعه ، ويهب هداه بحكمة لأنه بارئ وخالق بأسماء حسنى كريمة لأحسن خلقه ، فيعلم عباده بكتاب مجيد منزل منه لأحسن هدى إن سبحوه وحمدوه وشكروا ربهم .

فإنه كما ذكر عز وجل : إن كل شيء يسبحه ويحمد ربه بما يرين من حسن خلقه وإتقانه ومسيره لغاية حسنة في الآيات نفسها ، وكما عرفت تسخير الوجود كله بنعمه التي لا تحصى للإنسان ليشكر ربه بالإضافة لحسن خلقه ـ وقد كتبنا صحيفة لشرح تجلي الأسماء الحسنى الإلهية من صحيفة التوحيد من موسوعة صحف الطيبين إن أحببت المزيد فراجعها ـ .

فكذلك يا طيب : إن الله كان هو المسخر لكل حسن في الوجود وطيب للإنسان لكي يتنعم بها ويفرح ويسعد ويحسن وجوده ، ولكن بشرط أن يقيم تعاليم ربه العالم به وبحقيقته وبهداه وبما يصلحه ، وبكل شيء من وجوده وبجميع مجالات الحياة ، ولذا كان عليه أن يشكره .

فبمعرفة الله وهداه : من كتابه القرآن المجيد وبشرح ولي دينه ونبيه ، يكون بحق إن العباد قد حسنت علومهم وذواتهم وصفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم ، وذلك لأن الله قد أنزل تعاليمه على نبيه في كتابه ، وعليهم إن طلبوا شكر ربهم وعبوديته أن يقيموا دينه ، وأن يتبعوا تعاليم ربهم الذي له الأسماء الحسنى التي نزلها في كتابه المجيد بأفضل بيان وأكمل تعاليم ليهداهم بدين قيم ، وهي مقترنة بالإيمان بمعارفه التي أنزلها على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، و بهذ الصراط المستقيم وهداه يكون البشر أحسن خلق الله وفعلا متحققين بنعم الله ، لا أن تكون نعم الله وبال عليهم ويستخدموها في ما ينقض سعادتهم من الغصب والظلم والعدوان والحرام وما يخالف شأن الإنسان الكريم المفضل على الحيوان ، حيث قال الله سبحانه :

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} السجدة 7 وقال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً

وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ

وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)

هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } غافر 65.

وهذا بيان قيم لكتاب كريم يدل على عظمته ويرينا غرض الوجود كله بأحسن تعاليم وأعظم بيان فصيح بليغ للهدى الإلهي ومحله ، فيعرفنا بحق غرض خَلقه سبحانه لهذا الوجود الحسن الطيب ، فهو لكي نعمل حسن ويطيب وجودنا ويحسن كل حالن في كل الأحوال بحياة طيبة كريمة .

ولذا كان يجب أن نخلص لله الدين وندعوه بكل وجودنا لأن يحققن بالنعم الحسنة ، وهو حين نقيم هداه الحسن فيكون لنا عمل صالح لنا وحسن يحسن به وجودنا دنيا وآخرة ، وهذا ما عرفت ، و قال تعالى :

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} الملك 2 .

العمل الحسن يجب أن يصدر منا لأنه غرض وجود حسن ونعم حسنه ومعارف ربانية حسنه ودين حسن كما عرفت ، وهذا كتاب الله وكلامه الحسن يعرفنا بفصيح البيان : إن من له فطرة حسنه ونعم حسنة وتعاليم حسنه وهدى حسن يحسن وجوده وغايته في الكون والهدى ويصلح علمه وعمله ويحسن وجوده كله ، فتدبر قوله تعالى :

{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}البقرة 138.

ويحصل الإنسان بالعبودية وإقامة حكومة الله بتطبيق تعاليمه : على الأمن والاطمئنان والجزاء الحسن الآن وفي كل حين وبحياة طيبة ، لأنه له دين حق يعرفه كل ما يسعده ، فإنه دين من العالم بحقيقة الإنسان وتكوينه وهداه بحق ، وهذه غاية الإنسان وما يطلبه على الحقيقة بكل وجوده ، وهو أصل الكمال ومنتهى النعمة ، وهذا لا يحصل إلا بالإقرار لهدى الله وقبول تعاليمه كلها وبتطبيقها بكل زمان فيكون ممن يذكر الله في كل أحواله ، وله قال تعالى :

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد 28 .

وقال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} الرعد 29.

وبعد هذه الباقة العطرة من تعاليم الله لآيات في كتابه المجيد : لحق عليك أن تكون من المؤمنين ، حيث رأيت ما فيها من الحُسن في البيان الفصيح والمعنى البليغ والهدى للحق ، ومن إله عالم بحقيقة الإنسان وبكتاب يعرف وجود الكون كله وهداه فضلا عن وجود الإنسان ، فيدل على معارفه الراقية وتعاليم الهدى الواقعية للإنسان فتهديه لسعادة حقيقية بها كمال وطيب حياته ويحسن وجوده ، ومنها تعلم وتعرف أن القرآن معجز خالدة وفيه كل خير لكل البشر في كل زمان ومكان وبأحسن بيان وأفصح كلام لأحسن وجود حين يؤمن بالله وتعاليمه الحسنة الراقية التي تجلى بها سبحانه وبأسمائه الحسنى التي هي مظهر لكل خير وبركة ونور ورحمة .

وحقا ترى في القرآن المجيد ومنه : أصل كل فضيلة ، وبه تصل لكل أمر حسن ووفق أحسن حديث ، ومنه يتوجه الإنسان لسعادته ولكل كرامة في الدني والآخرة ، ولا تكون من أصحاب الطرف الآخر المتعصي على هداه وما فيه صلاحه بعد م عرفت من البرهان الذي يذعن له المنصف من بني الإنسان ، بل كن ممن يتبع أحسن الحديث ومن العلماء الذين يتأثرون بالبيان الحق وبالهدى الواقعي الحسن ، أنظر قوله تعالى :

{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ : يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ

وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)

وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} الإسراء10.

وقال تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ

قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ

كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَ لَهُ مِنْ هَادٍ } الزمر 23 .

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ

وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} النحل125.

وهذا للعلماء إذ قال تعالى : { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُو مِنْكُمْ

وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } المجادلة 11 .

فيا طيب: أسأل الله التوفيق والهداية لي ولك وكن : ممن يتأثر بالموعظة الحسنة ، ولا تكن من الطرف الآخر المتعصي على حُسنه وطيب نفسه فلا يرضى بهدى الله ، فإنهم أضل من الحيوان إذ قال تعالى :

{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي

وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (178)

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَ وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا

أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)

وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا

وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

الأعراف 180 .

فهذا يا أخي الكريم : أحسن البيان لتعاليم معجزة تدل على كل خير وكمال وفضيلة حسنة ووفق أحسن الحديث ، وهي ترينا واقع العلم والمعرفة لحقائق التعاليم الإلهية لهدى عباده بأحسن الحديث وأبلغ البيان ، ولا يمكن لأحد أن يفكر بأن يأتي بأحسن منها ، وكل ما جاء في تعاليم الناس والقوانين فهي مأخوذة منها وإن لم يعملوا بها وهي حبر على ورق ، وهي يدعيها كثير من المسلمين فضلاً عن غيرهم وقد عرفت حالهم عند الله ، كما عرفت أهل الله ومعرفتهم به ومقامهم عنده .

وهذا جانب واحد يا أخي : من تعاليم الله وفق دقة تعاليم الله سبحانه ، وحسنها المحسوب لكل شيء في الوجود ، وللعباد فيه المسخر لهم كل شيء من نعم الله ، وكلاً حسب استحقاقه ينال فضل الله وكرامته الأبدية ، وإنه كلام خالد لا يمكن أن يجارى ، وحسن لا يؤتى مثل بيانه .

وهذا هو كتاب الله القرآن المجيد في بيانه : لأحكامه وخلق الله للكون الحسن والنظم والوزن لكل شيء فيه ، وبأحسن صورة ممكنة في التكوين والهدى ، ولكي يصل الإنسان لسعادة الدنيا والآخرة لأحسن هدى ونعيم ، فإنه بحق لبيان عظيم وتعليم خالد معجز بحق لا يوجد مثله في حسن بيانه ، ولا هدى ولا تعليم في دين ول في بيان خلق الله للكون وحسنه مثل بيانه وفصاحته ، ومع حقيقة هداه الذي يذعن له الوجدان والكون وتعاليم الدين وفطرة الإنسان ، الدالة على أن هدى الله وتعاليمه موافقة لفطرة الإنسان وما يطلبه من الكمال الحسن في كل شيء من وجوده ونعيمه وهداه وعلمه وعمله .

فيا أخي بحق إن كتاب الله القرآن المجيد : كتاب فيه معارف قيمه : سواء في بيانه للخلق وللوجود ، أو في حسن بيانه لما يصلح الإنسان وغايته وهداه بالذات ، فإن كل شيء ذكره الله في كتابه المجيد حسن كريم وهو دليل على إعجازه وبرهان يؤيد نبوة المبعوث به والمبلغ لرسالته ، وكل أمر يعارض الحسن قبيح ، واللفظ إن قبح معناه قبح نظمه وسرى لأسلوبه فيكون مضحك يمجه العقل والنفس الطيبة اللطيفة ، وأن خدع النفس في أول وهله وحسبته حسن فصيح ، ولكن يرفضه العقل ثم تذعن النفس بقبحه كله وتسخر منه .

وعلى هذا النمط : من البيان للمعارف ونظمها الدقيق في التعليم والبلاغة والحسن في الأسلوب والنظم المتقن الدقيق ، يمكن التدبر في القرآن لمعرفة أحكام الله وتعاليمه ، وسيأتي تدبر آخر في آي القرآن في صحيفة الإمامة فأنتظر لمعرفة جدية اهتمام الله بالإنسان وحبه تعالى لإيصال تعاليمه لعباده بأحسن صورة ممكنة ، وطاهرة من كل قبيح يمجه العقل السليم وترفضه الفطرة الطيبة .

ويا أخي هذا البحث وسابقه : كان بيان للإعجاز في القرآن المجيد من ناحية ما فيه من المعرفة والتعاليم الرفيعة مع حُسن نظمها ودقة ترتيبها ، وكونه موزونة في اللفظ والمعنى والأسلوب مع حقائق كونية وهداية ربانية لعبادة بأحسن صورة ممكنة ، تؤيد حُسنه وفصاحته وكماله ودقته ، ولا يعارضه كلام فيه خلاف معارفه مهم كان في لفظه فصيح وتحسنه النفس في أول وهلة لعدم نظرها لحقائقه المبنية على الوهم والخيال ، ولكن بالدقة ثم للإيمان به وقبوله في حقيقة الوجود وإطاعته فهي لا ترضى به وترفضه ، فإن شرط الكلام الحسن أن يكون معناه حسن كلفظه ومبني على واقع حسن وموصل لغاية حسنه ، واللفظ من غير معنى حقيقي يهدي للحق فهو باطل وضلال ، ولا قيمة له ولا وزن في سوق الفصاحة والبلاغة والحُسن ، ولا فيما يطلبه العقل السليم والفطرة الطيبة .

الذكر الثالث
القرآن يتحدى أن يؤتى بسورة مثله تحمل دقة إحكامه

وفيه إشراقان ولهما نتيجة :

الإشراق الأول :
هدى الله في كتابه لا اختلاف فيه فيتحدى أن يؤتى بمثله :

يا أخي إن القرآن المجيد معجزة خالدة : لا اختلاف في هدى الله في كتابه ولذا تحداهم ، فإن تعليم دينه القيم وهداه الحسن باق ما بقي الدهر لا يتخلف عن حُسن فصاحته وهداه ، وهو دليل لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبرهان لختم الرسالة والوحي والتنزيل ، ودليل لكل تعاليم الله ومعارفه وشاملة لكل جوانب الحياة على طول التأريخ ولكل البشر ، فهو الصراط المستقيم الذي ينصحهم ويدعوهم ويعظهم ويعلمهم بكل أسلوب ممكن ، فهو بحق الكتاب المعرف للحكمة لكي يعرفوا الحق والهدى وليصلوا للعز والكرامة والخير والفضيلة والتزكية والتطهير والطيب في كل مجالات الحياة ، وقد عرفت إنه كلام حسن موزون للإنسان الذي هو مسخر له كل شيء في الوجود ، ومن العالم بأحواله وصلاح حاله وما فيه سعادته وهداه بحق وحُسن وجوده.

ولكن للأسف : بعض الناس إن لم نقل أغلبهم يعمى عن الحق ول يقبل أن يتحمل مسئوليته ، ويطلب الراحة بالفرار من عذاب الوجدان فيكفر بالقيم الإنسانية ، ويفر من الفطرة وصبغة الله التي صبغ بها روحه ووجدانه لطب الخير والفضيلة والكمال الحق والعدل والإنصاف وشكر المنعم وعبوديته وطاعته ، فيراوغ في طلب المعرفة ويهرب من التعاليم التي توصله لسعادته مع البشرية ، ويطلب الدنيا بكل وسيلة فيعتدي على غيره وينفي كل دين وشريعة إلهية علماً وعملاً وخلقاً وصفاتاً ، أو عملاً وخلقاً ويدعي الإيمان زوراً وبهتاناً ونفاقاً .

ولمثل هؤلاء : جاءت كثير من آيات كتاب الله المجيد وحكت أحوالهم وصفاتهم وأسلوبهم ومراوغتهم ، وأقامت عليهم حجج الله وتدعوهم بكل أسلوب لتوصلهم لسعادتهم رحمة من الله تعالى ولطف بهم ورأفة وهو التواب الغفور ، فيقيم لهم الأدلة والبراهين ويجادلهم بالتي أحسن ليعرفوا الحق وليسلكوا الصراط المستقيم وهداه فيصلو لكل نعيم، فلذا قال سبحانه وتعالى لنبيه الكريم :

{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}النحل.

ولكن عرفت هناك من الإنسان : من هو أضل من الأنعام ويتعامى عن الحق والعمل به ، ويحاول أن يتهرب من الانصياع لتعاليم الله ، والله يجادلهم بالتي هي أحسن ويبين لهم إن القرآن هو كلامه وجاءهم من خالق الكون وفيه تعاليمه الحقة الصادقة وهداه الذي يوصلهم لسعادتهم ، ويحتج عليهم بكل أسلوب ليبين لهم هداه الذي لا اختلاف فيه ولا يتخلف عن الحق أنظر قوله تعالى :

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ

وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفً كَثِيرًا } النساء 82 .

وقال تعالى : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ }يونس37 .

ولما كان عرب الجاهلية أهل فصاحة وبلاغة : وإن من يطلب العلم ويتوجه للمعرفة فهو يطلبها بأحسن بيان ممكن ، وقد عرفت بيان الله تعالى لتعاليمه ، فالله تعالى بعد أن طلب التدبر في كتابه ليعرفوا أنه الحق منه تعالى وأنه ليس فيه اختلاف وليس مفترى من دونه ، ولو كان من غير علام الغيوب والعليم الحكيم المدبر للكون ولكل شيء فيه وبالخصوص هدى الإنسان المنزل بكتاب مجيد على نبي كريم ، لكان فيه اختلاف كثير و لوجدوا فيه ما يخالف الهدى .

ولكن لما عرف سبحانه عنادهم وإصرارهم على الضلال ، تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن المجيد، تنبض بالعلم الحق مع الفصاحة والبلاغة ، وبكتاب كامل شامل لجميع جوانب الحياة ولا اختلاف فيه .

وهذا التحدي شامل لجميع سورة القرآن المجيد حتى لمثل أقلها كلمات كسورة الكوثر والتوحيد ، ويعز على الإنسان أن يأتي بجمل بليغة تعارض القرآن في تعاليمه وهداه الحق الحاكي لنور المعارف التي تحكي سعادة الإنسان وتأريخ دينه ووجوده وتكوينه ، ومع ما فيه من الفصاحة والبلاغة والبيان المحكم ، فلذا قال تعالى متحدي لجميع البشر المعاندين لتعاليمه على طول التأريخ ، والذين يقولون القرآن كلام من كلام البشر أن يأتوا بسورة من مثله تعارضه بالحكمة والموعظة الحسنة مع كونها شاملة للبلاغة والفصاحة وهدى تشريعي وتكويني حق يؤيد2ه البرهان والدين والتأريخ وواقع الوجود والتكوين .

فقال الله تعالى لهم :

{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ

قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ

وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}يونس38.

وذلك بعد أن قال سبحانه :

{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُو بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ

لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرً } الإسراء 88.

وتحدي القرآن المجيد وكلام الله الحسن : شامل لجميع البشر وعلى طول التأريخ وفي أي زمان كانوا ، سواء من كان معاصر لعصر الرسالة أو كان في زماننا هذا وفي أي مكان من المعمورة سكنوا ، لا يختص بزمان دون زمان ، ولا مكان دون مكان ، ولا بناس دون ناس .

وقد حكى الله في كلامه المجيد : عن المعاندين والجاحدين والكفار والمنافقين في كثير من الآيات الكريمة ، وذكر حججهم في زمانهم ، وأبطل كل دعاواهم ، وأمر رسوله أن يحاجهم بالتي هي أحسن ، وهكذا تعلموا المؤمنون منه في نشر معارف الله وبيانها للناس .

والتحدي الإلهي : قائم إلى الآن ولا يوجد كلام ذو بال يعده الناس معارض له ، لما عرفت أن كل معارض للعلم الحق الموزون المحسوب فهو معارض للحديث الحسن ، فيكون قبيح غير معارض للقرآن ، بل هو بيان للوهم والخيال لا هدى فيه ول حق ، وهو كلام غير فصيح على الحقيقة لأنه حاكي للباطل والضلال أو ما لا وقع له وهو خيال .

وعلى من يقدر أن يعارضه أن يأتي بمثله أو يجد فيه خلاف الحق ، ولأنه لا يمكن أن يجدوا فيه اختلاف وخلاف الهدى والعدل والإحسان وما يوجب الإيمان بالله وبرسالته ودينه القيم ، ولعدم المعارضة للآن ، فهو معجزة ، وواجب الإيمان به لأحقيته في كل ما علم وهدى له ، وهو أيضا يدل بحق على نبوة نبينا وبعثته بالحق لهدى الناس أجمعين من الرب الرحمان الرحيم .

الإشراق الثاني :
علوم القرآن تهدي بحق ومتقنة فصيحة لا تعارض :

عرفت يا طيب : في البحوث السابقة إن هدى الله العالم ببني الإنسان والخبير الحكيم نور يهدي للتي هي أقوم ، وبالبرهان الواقعي الحي وبالجدال الحسن ليهدي العباد بالدليل المحكم لأحقية معارفه وإنه بها كمال الإنسان وشرفه وسعادته ، وفيه معارف حقه من العليم الخبير لعبده المخلوق ليكون في أحسن الظروف والأحوال في كل مجالات حياته ، وعرفنا إنه لا اختلاف فيها .

وبهذا يعرفنا الله إنه كلام مجيد ذو شرف ومتانة أصيلة من رب عزيز حكيم لا اختلاف في معارف دينه ، ولا في بيان هداه ، ولا إنه مخالف للفطرة وما يطلبه الإنسان من الكمال ، ولا إنه يدعوا لخلاف عظمة الله وحكمته ، ولا اختلاف في حُسن بيانه وبلاغته ، لأنه موزون محسوب في تأثيره في العباد المنصفين ، ولمن له ضمير حي يطلب الهدى الحق ، فلذا من كان له هذه الموصفات لا يمكن أن يؤتى بمثله ، ولا يحق لمنصف أن يعارضه ويقول خلاف هداه وتعاليمه ، فيضل الإنسان ويحرفه عن جادة الصواب .

وبهذا يا طيب نعرف : إن علوم ومعارف القرآن المجيد وحلاوته وطراوته وفصاحته وحسن بيانه ومعانيه ، كان مانع من التمكن من المعارضة له ، أو الآتيان بسورة من مثل سوره أو آية من مثل بعض آياته بحيث تكون في الكلام كله فصيحة وبليغة الانسجام ثم فيها كلام حق يعارضه ، وذكرت قصص كثير في عدم تمكن المعارضة من قبل المشركين والكفار والمنافقين والزنادقة وكل من عاند القرآن المجيد وستأتي الإشارة لبعض محاولاتهم ، وهذا بيان ثاني لمعرفة نور القرآن وعدم تمكن الناس بالإتيان بمثله ومن خلال بيان أمران ونتيجة :

القبس الأول : القرآن هدى ورحمة ونور وحق :

ذكرنا شيء من تعاليم القرآن المرشد للفطرة الإنسانية والمحافظ عليها من الانحراف في مهاوي الظلم والضلال والعدوان لأنه يدعوا لدين قيم وبكل بر وعدل وإحسان ، وإن العلماء لهم الجانب العالي منه وكذا كل الناس المنصفين الطالبين لهداه والمتحققين به كلا حسب حاله .

وبهدى كلام الله في كتابه المجيد : تأنس النفس الطيبة لأنه موافق لما تطلبه من الكمال وتفرح الروح لأنها ترتاح لدينه القيم الذي يشمل جميع جوانب حياتها فتسعدها في كل أمر تطبقه منه ، فهي بحق تعاليم كتاب مجيد يقره العقل ويؤيده البرهان ، وبما يغذي الروح من معانيه تسعد وتصل لغايتها في السمو .

وهنا نذكر مواصفات لنفس القرآن وفق آياته الكريمة تبين إنه رحمة للعالمين ونور وهدى ، وفيه كل خير وفضيلة وبركه لأتباعه ، ومنه ينبع الحق والعدل والإحسان والكرامة، فنتوسع في البيان لنرى حقه وصدقه فأنظر يا طيب ما قال الله تعالى :

{ إ ِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ :

يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)…. وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ

مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا } الإسراء 82 فهذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وشفاء ورحمة وبشرى لمن يؤمن به لأنه هداه حق ، ومن يعارضه ويضل عنه يخسر ويزيد بعناده ومحاربته في الضلال والظلام لروحه لأنه يخالف الهدى الحق والدين القيم .

وأنظر وقال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ

قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } يونس 2 .

وقال تعالى : { الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } إبراهيم 1.

فإن القرآن المجيد :هو نور الهدى الصادق وصراطه عزيز على الطيبين حميد عند الله العزيز الحميد ، وهذه مواصفات أخرى لكتاب الله تبين إنه يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويبين للناس الحق فيما يختلفون فيه أنظر قوله تعالى :

{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } النحل 64 .

وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } النساء 105 وهذا كلام الله حق ليحكم وفق تعاليمه بين الناس ول اختلاف فيه ولا تبعيض ولا ضلال ، ويمنع من إعانة البغي والعدوان ، وهو مبارك ومصدق لنبوة الأنبياء ولجدية الله في بيان دينه ودعوته لتعاليمه انظر ما قال الله تعالى :

{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا }الأنعام 92 .

وهذا كتاب الله تعالى كتاب حق وصدق وهدى ورحمة ونور ومبارك لمن يطبقه ، ثم فصل بعلم لما يحتاج إليه البشر من الهدى في جميع جوانب حياتهم ، حتى قال تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }الأعراف52 .

فحق لمثل هذا الكتاب الماجد المنير : أن يكون مبارك لأنه فيه الهدى والرحمة ويرفع الاختلاف كما عرفنا في الآيات السابقة ، وإنه من العليم الخبير الحكيم كما عرفت ، فهو هدى ورحمة للمؤمنين ، ويجب علينا أن نتدبر آياته : لننهل من علومه ، ونرتوي من معارفه ، وننال من بركاته ، لنصل لكل خير وفضيلة .

فأنظر قوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ص 29 .

وعلى هذا إذا عرفنا إن كتاب الله حق وهدى ورحمة ، فلابد أن نقيم العبودية لله مخلصين له الدين ، ونشكره لما هدانا لتعاليمه وأنعم علينا من نعم معارفه وتسخيره الكون لنا ، ولهذا قال تعالى :

{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ }الزمر2.

وهذا بيان الله لكتابه وهو بيان حق وصدق وفيه أحسن الحديث ، ومن يتدبره بحق يشعر بنوره يسري في وجوده ، وينتفع بمواعظه إن كان طالب حق ، ويخشع في عبوديته لله تعالى بصدق وحق أنظر قوله تعالى :

{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } الزمر 23 .

وهذا كتاب الله حين يعرف نفسه يعرف تعاليمه وهداه بحق ، وقد مر عليك شيء وقبس من نورها فيما ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تطبيق معارفه وفي أحاديثه في الأبواب السابقة ، سواء في سيرته الكريمة وآدابه الحسنة أو في أحاديثه الشريف ومعارفه العظيمة التي تهدي للرشد ، وهي شرح لكتاب الله وبيان له ونابعة منه وتُظهر معارفه .

وما عرفت في الأبواب السابقة : هي معارف الله في كتابه ولكن بحديث رسوله الأكرم المبعوث بكتابه المنير ، وظهور لنوره علما وعملا ، وبها نكتفي لبيان معارف القرآن المجيد وهداه ، وإن أحببت فراجعه وأنظر في معارف الدين الإسلامي وكرامتها في هدى الناس كلها فلا ترى فيها اختلاف ولا ضلال عن الحق ، بل نور يهدي للحق من سعادة البشر وكمالهم ، وهذا ذكر لبعض معارف هداه ، فنذكر بعض الآيات وإل كله معجز في بيان هداه الحق ونور دينه القيم ، وبه سعادة البشر وخيرهم والرحمة الإلهية الموصلة لسعادتهم بكل تمام وكمال وحسن وجمال في نعيم مقيم في الدارين ، وهذه بعض معارفه فتدبرها :

وبعد الذي عرفت : فأنظر بعض ما قال الله تعالى لبيان المعارف القيمة للهدى الإلهي الحق الذي يصلح الإنسان ويدله على كل خير وفضيلة لتتحقق بحُسن معارف الكتاب المجيد ودينه القيم وهداه الذي به حقيقة النعيم :

{ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقّ

فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ

وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} الزمر41.

{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ :

وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}آل عمران164 .

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ

وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُو اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُو الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (5)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدً طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ

وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُو اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} المائدة 10 .

وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُو الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (269)

وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270)

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَ وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) }البقرة .

وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُو طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)

وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُو اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الإِيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91)} المائدة .

وقال الله تعالى : { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)

هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) } غافر .

فهذه يا طيب : بعض مواصفات كتاب الله القرآن المجيد ، وهداه الحق ونور دينه القيم الذي يدعوا له وبعض معارفه ، وإنه غيره باطل لا يعارضه مهم كان ، وقد عرفت قسم من نور هداه في الأبواب السابقة عملا وعلما من تطبيق رسول الله وتعلميه ، وراجع هداه في كل أنواع الحياة ترى إنه لم يهمل شيء ، وشامل جامع لكل شيء من حياة الإنسان الخاصة والعامة ، وببيان نوري يهدى لما يحتاجه الناس بأحسن كلام وأفصحه لا لف فيه ولا دوران ولا خلاف ما تطلبه فطرة الإنسان الطيبة والعقل الكريم السليم ، ولا يوجد كتاب فيه معارف بسعته ، ومحكم كبيانه وبليغ بفصاحته .

فإنه في القرآن المجيد : تزكية النفس وتنوير الروح ، وفيه تنظيم الأسرة والمجتمع في جميع مجلات الحياة ، حتى البدن وحقه وكل شيء يعطيه نصيبه بالعدل والإحسان ، والنفقة والبر وبالمواساة للإخوان وتوقيرهم وبرهم ، وهذا كله مع إتقان لما يهدي للصواب ويرشد لسعادة البشرية بأجمل وأكمل دين ، ومعارف هدى به حتى اليقين للمنصفين المؤمنين .

وبهذا يا طيب نعرف إن كتاب الله فيه هدى واقعي : وهو قول حق وصدق وإنه نور ورحمه ، وفيه كل خير وفضيلة وكرامة توصل الإنسان لسعادة الدنيا والآخرة ، وتجعله في طاعة الله وعبوديته عن حب ورغبه ، ويحس بالأمن والاطمئنان مع القرآن ومعارفه وعلومه ، كما أنه أسلوبه أفصح أسلوب ، وبيانه أعلى بيان يأخذ بالقلوب قبل الأسماع ، ويدخل في قرار العقل من قبل أن تتوانى في تأمله الروح ، فغيره لا يعارضه لأن غير كلام الله ولا هداه فيه ، أو كونه تابع له ومؤيد له لا يعارضه ، وإلا فهو يكون باطل كاذب ضلال ظلام عمى فكيف تتم معارضته ، فإذا عرفت أنه حق وصدق ونور ورحمه وشفاء وهدى من ناحية علومه ومعارفه الآن نذكر إحكامه وإتقانه وحسن بنيانه نورن الله به ، وبنفس بيان القرآن المجيد .

القبس الثاني : إحكام القرآن وبيانه حسن فصيح بلغة العرب:

عرفنا جوانب ومن أوصاف القرآن المجيد من ناحية المحتوى والمضمون وخلاصة ما تدعوا إليه تعاليمه ومعارفه الحقة الصادقة ، ولآن نتدبر في جانب آخر وهو كون كلام الله المجيد محكم وبيّن ، وموزون ومتقن في نظمه وترتيبه وحسن في أسلوبه الذي يجذب النفوس إليه بكل وجودها ، وترتاح له الأرواح بكل ارتياح ، وتأنس به العقول وتتنور به عن يقين وإيمان ، وكل هذه المواصفات نزلت وبينت باللغة العربية ، والتي هي أوسع وأكمل لغة بالفصاحة والبيان والبلاغة وحسن الترتيب والأسلوب .

فهنا يا طيب أمران : من مواصفات القرآن المجيد يصف بها الله كلماته ومعناه وتعاليمه وبيانه ، الأول : الإحكام والإتقان بعد أن عرفت أنه موزون حسن ، والثاني : بين باللغة العربية الفصيحة ، وبعد إن عرفت بيانات في عظيم لتعاليمه الهادية لجميع البشر .

أولا : القرآن المجيد نزله الحكيم ومحكم مفصل للحق :

قال الله تعالى : {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}الزمر1 .

وقال تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ }الحجر1 .

قال الله تعالى : { وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ }الدخان2.

وقال تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } يونس1 .

وقال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} الشورى 17 .

وقال تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود1.

فهنا عرفت كما عرفت سابقاً إن القرآن المجيد نزل من الله العزيز الحكيم وهو كتاب محكم في البيان والمعنى فهو أفصح كلام ، فإنك أين ما تتدبر في القرآن ترى إن القرآن المجيد كتاب حق في هداه وهو محكم في معناه موزون في أسلوبه وبيانه ، ويشهد له كل من تلاه وسمعه وهو عارف بلغة العرب ، أو تدبر معانية وله حس مرهف في قبول الهدى ونور المعارف الحقة التي تهدي للصواب وتهب الإنسان الكمال والسعادة في جميع جوانب الحياة .

ثانيا : القرآن المجيد فصيح وفق اللغة العربية :

قال الله تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } النحل 103 .

وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَ إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } يوسف 3 .

وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا } طه 113 .

نعم القرآن المجيد : هو كلام رب العالمين لهداية عباده ، وهو محكم فصيح وفق قواعد اللغة العربية وقوانينها من البلاغة والفصاحة والنحو والصرف وكل قواعده البيان والمعاني ، وفيه أعلى تعاليم الله لهداية البشر ، تدبر نواحيه في اللفظ والمعنى تعرف ذلك .

والقرآن المجيد : مؤثر طبعاً في الأنفس الطيبة التي تحب الخير وتسعى له ، لا للمعاندين الذين يشرون لهو الحديث أنظر قول الله تعالى :

{ الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (5)

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } لقمان 7 .

وكل كلام يخالف القرآن المجيد ويعارضه ليس فيه هدى ولا محكم ولا يبشر بخير ولا إحسان فيه ، فهو غير محكم البيان ولا موزون على الحقيقة ، فهو معدوم الفصاحة العربية ، وبيان هذا بالإضافة لما عرفت في النتيجة التالية .

النتيجة: القرآن حق في تعاليمه وأفصح كلام فلم يعارض:

عرفت في الأمر الأول : إن كلام الله حق ونور وهدى .

وعرفت في الثاني : إن كلام الله فصيح محكم وفق اللغة العربية .

هذا وقد رعته العناية الإلهية فحافظة عليه من التحريف .

فنقول في هذا البيان : لإعجاز القرآن المجيد كما قلنا البيانات السابقة :

إن كلام الله : لا يستطيع أن يعارضه أحد من البشر ولو اجتمع الأنس والجن وكان بعضهم لبعض ظهيرا ، لأن الكلام المعارض للقرآن المجيد يكون كلام باطل وفيه ضلال وظلام فلا تنفعه الفصاحة مهما كانت ، لأن الكلام الفصيح البليغ لابد أن يكون كلام حق ، ولذا ترى أن الخطب الرنانة والبليغة إذا لم تكن تحكي عن الحق والهدى وتدعيه لا تكون مؤثرة .

وإن كانت مؤثرة : وتهفوا لها العقول المنصفة التي تطلب نور الرشد والهدى ، فلابد أن تكون تابعة للقرآن المجيد ونابعة من تعاليمه ، ولكنه لا توازيه ولا تُقارن به سواء في المعنى أو الفصاحة ، أقرأ القرآن المجيد وتتبع خطب العرب تحس الفرق في الهدى والمعنى والفصاحة .

وهكذا خص الله نبينا الأكرم وآله الأطهار صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين في البيان والكلام الحق ، ولذا يقال لهم أمراء البيان ، وحكماء العرب ، ومر عليك شيء من كلام النبي الأكرم وابنته ووصيه في ضرورة النبوة وشواهده ، وتتبع خطبه وخطب آله الأطهار حتى قال حفيد نبينا الأكرم الإمام جعفر الصادق عليه السلام :

( أعربوا حديثنا فانا قوم فصحاء ) .
أصول الكافي ج1ص52ح13.

وانظر في نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام أو كلمات آله الكرام ، فتراها أفصح كلام ، ولكن لا توزن بالقرآن المجيد ، فضلاً عن كلام عامة العرب مهما نودي له بالفصاحة فإنه لا يوزن بالقرآن لا في المعنى ولا في الفصاحة والبيان .

وأما الكلام الباطل أو الكاذب : أو الذي يكون فيه الوهم الخيال ، إن كان فصيح فهو يمجه العقل وإن استأنست به الروح لشهوة ما وهوى باطل ، لكن العقل لا يؤمن به ولا يأخذه عقيدة ومبدأ ودين ، ولذا قيل أحسن الشعر أكذبه ، ويقصدون به أن يكون فيه خيال واسع يحسن القبيح أو يقبح الحسن .

وهذا أين من الكلام الحق حتى يعارضه ، ولذا الكلام الباطل غير مقبول ولا يؤمن به حتى قائله ، وإن قيل فيه فصاحة وبيان ، ولكنه مرفوض من ناحية العقل والواقع والجدان .

وفي الحقيقة عرفت : إن الله تعالى خلق كل شيء في هذا الكون الواسع متقن ومحكم وحسن سواء في الوجود المادي أو في عالم الكلام والمعنى ، وبالخصوص القرآن المجيد الذي أنزله على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزيدك فأنظر قوله تعالى :

{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ

صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } النمل 88 .

فهنا يبين سبحانه إن كل شيء متقن الصنع ، وإن مسير الجبال يدل على حركة الأرض وميدانها لتكون الليل والنهار والفصول ، ويعني أن الأرض تسير كلها مع الجبل لأنه خلق الله متقن ، وبحركة لطيفة كالسحاب لا تدمر شيء من التكوين بل يشعر لينعم بنعمها الإنسان ، ولذا قال تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيء ، لأنه خبير بكل ما يفعل الإنسان فضلا عن فعله ، وقد كتبنا مقال في هذا المعنى فراجعه في موسوعة صحف الطيبين.

وقال تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ } السجدة 7 ، فهذا يبين أن خُلق الوجود حسن وجميل سواء السماوات والأرض وما بينهما أو في عالم الكلام والمعنى كما عرفت ، وهدي الوجود وبالخصوص الإنسان الذي فضل على كثير من المخلوقات .

وهذا بيان يطلعك : على أن كل شيء خلقه الله تعالى هداه لغايته ولما يوصله لسعادته ولخيره المتوقع منه قال تعالى : { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } الأعلى 3 .

وقال تعالى : { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }طه50.

فإذا عرفت إن كل شيء خلقه الله سبحانه حسن متقن موزون محسوب ، فهو سبحانه كذلك هداه لما يوصله لخيره وغرض خلقته وأعطاه ما يديم به وجوده ، ولما كان الإنسان الذي خلقه الله وعلمه البيان والقلم وعلمه ما لم يعلم ، فالله تعالى جعل هداه التشريعي في كتابه المجيد الخالد الشامل لجميع البشر فيه ، ولذ قال تعالى :

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} يونس 57 .

وقال تعالى : {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يوسف 111 .

وقال تعالى : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} البقرة 2 .

وقال تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الأعراف 52 .

وقال سبحانه : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَ قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } الأعراف 204 .

وخلاصة الكلام : قال الله تعالى في بيان إن كلامه المجيد في القرآن الكريم هو رافع للاختلاف بين الناس وهو هدى ورحمة ، فأنظر قوله تعالى :

{ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } النحل 64 .

إلى هنا عرفت يا طيب : إن هدى الله في الكون والسماوات والأرض ، وإن هداه التشريعي في كتابه المجيد ، فلا يوجد غير كلام الله فيه هدى ، وعلى وزن المعارضة قال الله تعالى أتوا بكتاب أهدى من كلام الله نتبعه ، ولما لا كتاب أهدى منه فيجب أتباعه ، فيكون غيره من الكلام باطل وضلال إن كان معارض ونافي لتعاليمه ، وإن كان كلام مستقى من تعاليمه فهو تابع له وراجع إليه ولا يوزن به ولا يقاس ولا يكون معارض له ، فلذا قال تعالى :

{ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (49)

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ

فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ

إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} القصص 50 .

وقال الله تعالى : {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ

بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ } الحج 8 .

وعليه كل كلام غير كلام الله ولا تابع له في هداه ، وهو يريد أن يعارض القرآن المجيد فهو أعوج غير فصيح ولا فيه هدى ، والهدى لله ولرسوله ولمن أمن واتقى ، والقرآن المجيد لا يعارض : لا في تعاليمه ولا في هداه ولا في فصاحته وبلاغته ، أنظر قوله تعالى :

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَّهُ عِوَجَا (1)

قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} الكهف 2 .

وحقاً لو تتدبر أي كلام معارضة تعاليمه للقرآن لرأيته أعوج منحرف عن الصواب ، بعيد عن الواقع وإن زخرف لفظه ، ولو دعي لتحسينه بكل وسيله .

وخلاصة الفصاحة والبلاغة والهدى هو قول الله تعالى :

{ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } الزخرف 4 ، فكلام العلي الحكيم كلامه عالي حكيم بأي لغة نزل ، وإن خصت اللغة العربية به فهو أفصحها ولا يقاس كلام البشر به .

وقال تعالى :{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)

لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } الواقعة 80 ، نعم القرآن المجيد مكنون مصون عن الضلال وكله هدى وهو كتاب كريم ، لا يمسه إلا المطهرون بالبدن لمس اللفظ أو المطهرة أرواحهم في تفسيره وبيانه ، ولكل من يقتدي بهم وله نصيب من طهارة الروح وحب الكرامة والخير والفضيلة يرى فيه نصيب ، وبيان وشرح وعلم حسن لعمل حق ، وأولى به من طهرهم الله وشهد لهم وهم نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين كما قال تعالى :

{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} الأحزاب 33 ، وكل من يقتدي بهم يكون له نصيب من القرآن وتعاليمه بقدر قربه منهم ، أو من لفظه بقدر تلاوته له .

ومع هذا التحدي وعجز الناس عن الإتيان بسورة من مثله ، المفروض أن يؤمن الإنسان بالله تعالى لما يرى الآية الباهرة المعجزة الدائمة والهادية لكل خير وفضيلة وكرامة ورحمة ونور ، مع حُسن الكلام وفصاحته وبلاغته .

ولكن الإنسان : مع عجزه يتبع زخرف القول ولو كان بعيد عن الحق والهدى وبعيد عن الفصاحة والبلاغة ، وذلك لأنه فيه هوى نفسه والمنفعة العاجلة والفرار من المسؤولية كما قال تعالى :

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ

يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ

وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ..

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ

فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114)

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }الأنعام116 .

ويا أخي : إن فيما تلونا عليك من آي القرآن المجيد كان أكبر شاهد على نبوة نبينا الأكرم ، وإعجاز القرآن الخالد الدائم المصلح لجميع الناس ، والذي فيه بيان الله وهداه وفق أفصح بنيان وأبلغ كلام وأحسن حديث ، وعلينا أن نؤمن به وبتعاليمه وكل ما يهدي إليه ، ولا نرتاب ولا نتبع الظن الذي يكون في خلاف تعاليم الله ، ولا نكون ممن لم ينتفع بموعظة الله وهداه ومعارفه التي أنزلها على خاتم رسله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال سبحانه في لمعاندين : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ

فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا } الإسراء 89 ، وقال تعالى :

{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ

وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } الكهف 54 .

وقال عز وجل : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ :

جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا

وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } الإسراء 46 . تدبر بيان القرآن وجديته لبينا هداه وحقه ، وظلم من لم يؤمن به لهوى وضلال ولجدال باطل ، ومن غير علم ولا هدى ، وهو بأفصح بيان نزل على خاتم المرسلين نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ، والواجب الإيمان به لصدقه في هداه وعدم تمكن أحد غير خالق العباد أن يأتي بأحسن منه مهما كان .

ونسأل الله أن نكون : من أحسن مصداق لهذه الآية الكريم الآتية من بعد ما تبين لنا هدى الله تعالى ، ووفق كلامه الذي عجز البشر عن الإتيان بمثله في الهدى البليغ والفصيح الحسن حيث قال تعالى :

{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } الزمر 23 .

يا طيب : هذه كانت بيانات تبين سبب وسبيل إعجاز القرآن ، ووفق شواهد من آياته الكريمة ، وخلاصتها : إنه هدى بيّن ، وما يعارض الهدى البين يكون ضلال أظلم ، ولا يعد فصيح ولا بليغ ولا بيّن ولا حسن .

ثم هذه بيانات متممه لبيان إعجاز القرآن بعضها وفق آي القرآن المجيد وبعضها حاكية عنه وعن تعاليمه وإعجازه ، نذكرها لتتم الفائدة ويعم النفع في بيان بعض المصاديق المبينة لعظمة تعاليمه وخلودها وإعجازه ، فتعرفنا بحق إن نبينا الكريم ذو كتاب كريم وقرآن حكيم وهدى مستقيم قد خصه به الله الرب الرحمن الرحيم ، وليبقى خالدا يعم نفعه لكل البشر في كل زمان ومكان ، لا يخف تأثر المؤمنين به واعتمادهم عليه ، أو لا يجارى في البيان وعدم استطاعة المعارضين له ولا يأتو بمثله أبدا وهم محقين في دعواهم لو كان بعضهم لبعضا ظهيرا .

ونسأل الله التوفيق في بيان ما يأتي من الأمور ، ويرزقنا نور هداه كله حتى نكون خاشعين له وخاشين ، وخاضعين لنوره متواضعين ، فيحل كل وجودن نور ويجعلنا مع المرسل به وآله الطيبين الطاهرين وصلى الله عليهم أجمعين إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الذكر الرابع
خص الله كتاب نبينا بالمحافظين على تعاليمه مع شمولها
المؤثر والمعجز لأبد الدهر

وفيه إشراقات نور :

الإشراق الأول : ختم الله هداه بكتاب معجز محافظ عليه :

عرفت يا طيب : في الباب الأول ختم النبوة وعرفنا إنه إذا أستكمل الإنسان أخر استكمال له لتلقي معارف الله ، أنزل عليه قمة تعليمه ونور هداه وختم النبوة ، ولكن بشرط وجود المحافظ عليه من الاختلاف والتحريف ، وعرفنا هناك أدلة كريمة في بيان ختم النبوة والتعاليم الإلهية ولمحافظة عليها بأئمة حق طاهرين ، ومر بيان وعرفت بعض أدلته هنا بأن أهل البيت النبوي الطاهر هم أئمة الحق والراسخون بعلم الكتاب ووجودهم مستمر ليوم القيامة ، إليهم يرجع المسلمون لمعرفة تعاليمه ابتداء وحين الاختلاف ، وهناك بيانات أخرى لمعرفة ضرورة وجودهم ومحافظتهم على كتاب الله في صحيفة الإمامة وفي صحيفة الثقلين من موسوعة صحف الطيبين ، وكذا راجع صحيفة ذكر علي عبادة وصحيفة الإمام الحسين لتعرف كثير من البراهين على أنهم ولادة دين الله بعد رسوله .

وعرفنا يا طيب : إن رسالة الإسلام عالمية وشاملة جامعة فيه كل هدى الله وبيان لكل شيء في الباب الأول والثاني ، حين البيان لختم الرسالة وضرورة بعثة نبينا الأكرم لما كان عليه من الانحراف عن تعاليم الله تعالى .

وبهذا كانت لله أدل معجزة : تعرفنا بحق إنه تعالى له عناية بخلقه مع ختمه لتعاليمه ، وإنه تعالى أنزل أكمل هداه ودينه القيم ذو التعاليم الخالدة ، على اشرف أنبياء ورسله وحافظ عليه بآله الكرام ، وبتمام الهدى الشامل الكامل الذي به صلاح البشر إلى يوم القيامة ، وهذا بنفسه يدلنا على أنه كتاب عظيم لم يحرف ولن يحرف لا في معناه ولا في لفظه بشكل يحرف الناس عن حقائق هدى الله ، مادام البشر يسلكون الصراط المستقيم لمعرفة هدى الله من أهل الهدى وأهل الذكر المطهرون مثل كتابه المجيد .

وإلا إن الله بعد أن بين وعرف الرشد من الغي لم يجبر عباده على معرفة تعاليمه وتطبيقها بالإجبار ، بل عرف دينه والهداة له وطلب من العباد أن يقيموا هداه ويطبقوا كل معارفه ، ولهذا قال تعالى :{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) } البقرة .

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149) } الأنعام .

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُو الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ (56)} المائدة.

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (28) } سبأ . {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7) } الرعد .

وإذا عرفنا : إنه لن يحصل للبشر استعداد أكبر لتقلي معارف أعلى ، وإنه دين شامل ومحافظ على كتابه بولي دين هادي لكل البشر ، ويعصمهم من الاختلاف لكل قوم في أي زمان كانوا فيه ، وعرفنا إن ولي الله المحافظ على كتابه مطهر بآيات التطيير مثل القرآن الطاهر وهو من أهل البيت .

فبهذا نعرف بحق أدلة متصلة تبرهن بعضها على بعض ، وتحكم بنيانها حتى اليقين لكل منصف يتدبر الكلام فيتبع أحسنه وصدق بالدليل الحق .

وبهذا يا طيب : نعرف إن كتاب الله القرآن المجيد معجزة الدهر بحق ، وهو يهدي لدين خالد معجز به كل صلاح العباد إلى يوم القيامة ، وهذه حجة الله البالغة المعجزة الخالدة والواجب علينا تعلم هدى الكتاب وتطبقه رزقنا الله نوره ، وإذا عرفنا هذا نتدبر البيان الآتي .

الإشراق الثاني : الله خص القرآن بالشمول والخلود دون غيره :

يا طيب : إن كلام الله في إي زمان وعلى أي نبي نزل فهو محكم ، ويهدي الناس بالقسط وللعدل ، ولكن لما كان كل شريعة من الله تنسخ الشريعة السابقة وتأتيهم بتعاليم تناسب زمانهم حتى التشريع التالي لها ، وكان آخر تشريع نزل من الله تعالى هو الإسلام وبه ختم التشريع والنبوة كان الله لا يقبل غير الإسلام ديناً.

وذلك لأن الإسلام : فيه أخر التعاليم الإلهية والتي تكفي لإصلاح البشر إلى يوم القيامة ، وهي كلها مجموعة في القرآن المجيد وما بينه وشرحه نبين الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وجعل عليها الله محافظين إلى يوم القيامة وهم الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيأتي البيان في الأصل الرابع للدين في بحث الإمامة إن شاء الله ومر بعضه في بحث ختم النبوة عند الكلام عن النبوة العامة كما عرفت ، فلذا كان وما زال الإنسان لا يحتاج بعد تعاليم الله في الإسلام لتعاليم تصلحه وتوصله لعبودية الله ولإقامة العدل في مجتمعه وأسرته وما يصلح خُلقه وسيرته من تعاليم غيرها .

ولم يأتي بعد نبينا نبي آخر من الله تعالى : لأنه قد ختم النبوة والتشريع بما أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودينه خاتم الأديان ، فضلاً من يأتي نبي يدعي عنده كتاب من الله تعالى منزل عليه فيه تعاليم الله ، وكل من أدعى ذلك غيره بان زيفه وباطله ، وبدل أن يؤيده كلامه كان سبب للسخرية منه وبيان لكذبه ، فضلاً كون كلامه ـ كما عرفت معارض ـ للهدى والحق وخالي من الفصاحة .

فلذا كان : ادعاء القرآن المجيد ونبينا ختم النبوة وعدم قبول الله غير الإسلام ديناً من المعجزات الخالدة التي تبين دوام تعاليم الله ، وإعجاز القرآن المجيد في كل ما ذكر من الأمور الغيبية والتعاليم الإلهية ، وهذه الخصوصية تفقدها كل تعاليم الله السابقة ، فضلاً من أن توجد في التعاليم الوضعية ، حيث ل يوجد دين غير الإسلام يدعي إنه خاتم الأديان ويصدقه التأريخ وأهله إلى يومنا هذ .

ولبيان خلود تعاليم الإسلام : ودوامها مع وجوب الاعتراف بالأديان قبل الإسلام النازلة على الأنبياء السابقين قبل تحريفها أنظر قول الله تعالى :

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحديد 25 .

{ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } آل عمران 85 .

فتحصل لنا : إنه لما كان الله تعالى لا يقبل غير الإسلام ديناً مع أمره وبيانه بأن الأديان السابقة حق ، وبهذا كان كلام الله العزيز في القرآن المجيد خالد لأن الله تعالى هو الحافظ لتعاليمه ووضع المحافظين عليه ، كما إن الآن كل المسلمون لهم قرآن واحد ولم يأتي بعده تعليم من الله يدعيه صادق على طول التأريخ ، وهذا دليل لإعجاز القرآن المجيد وخلوده ، بل هو إعجاز مضاعف مضاف لما ذكرنا في البيانات السابقة .

وإما حفظ وصيانة القرآن المجيد من التحريف فيشهد له قوله تعالى :

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } الحجر 9 .

فإذا عرفت : إن الله قد حفظ كتابه ، فإنه تعالى قد بين في آيات إن أهل الكتاب اختلفوا في كتبهم من بعد ما جاءهم العلم ، وأخذوا يكتبون الكتاب بأيدهم ويضعون ما لم ينزله الله ، والقرآن لا يأتيه الباطل ، وهذا يشهد لبطلان تعاليم الأديان السابقة ونسخها ، وذلك لأنه حرف أتباعها كتابهم المنزل على نبيهم بعده بمرور الزمان ، وخُلط بالباطل ولم يراعى في تدوينهم لكتبهم كلام الله لا في نظمه ولا في تعاليمه وهداه ، فضلاً عن تجديد الله لدينه بما يراه مناسب لتطور البشر وحاجتهم في كل زمان ، وقد بان لك هذا في بحث النبوة العامة ، وانظر قول الله تعالى :

{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ

وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَ جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ

فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } البقرة 213.

وقال الله تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) ... فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}البقرة 79 .

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ….. وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } فصلت 45 . { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} المائدة 47.

يا طيب : إن فيما ذكرنا من الآيات أعلاه كان وصف الله تعالى للقرآن المجيد ، ووصف اليهود والنصارى وحالهم مع وبعد نبيه موسى والمسيح عليهم السلام وكتبهم ، وإنها حرفت لأنهم كانوا يكتبونها بأيدهم حسب رغباتهم وشهواتهم ولم يُحكموا تعاليمه وبيانها وفق ما أنزلها الله .

فلم تكن كتب اليهود والنصارى : كالتوراة والإنجيل فضلاً عن غيرها خالدة مع ما كان فيها من الحق والهدى والصدق لكونهم خلطوها بالباطل ، ولم يراعوا حق نظمها فضلاً عن تعاليمها وهداها كما نزلها الله تعالى على أنبياءه ، وأنزل الله كتاب خالد مهيمن على الكتب السماوية كلها ومصدق لما كان فيها من الحقائق والتعاليم الإلهية الغير المحرفة .

ثم إنه يا طيب ويا أخي الكريم : لم يدعي أحد حتى في التحريف الكتب السابقة وأهلها ولم يخطر في بالهم إن كتبهم خالدة ، فلم يكتبوا حتى في تحريفه إنها خالدة وشاملة لجميع البشر ، ولا إنها مستمرة إلى يوم القيامة ولن يقبل الله بعدها دين أبدا ولا ينزل غيرها ، ولا الله أنزل فيها ما يذكرهم بخلودها وإنه ل دين بعدها ، بل ذكر في كتبهم التبشير بدين جديد ونبي جديد وإن نبينا الأكرم هو خاتم الأديان .

وإن الله في كتابه المجيد القرآن الكريم : حكى إنه خالد وهو لن يحرف وفيه كل تعاليم البشر وإلى يوم القيامة ، وهذا هو الإعجاز في هداه وبيانه وفي بقاءه وحكايته عنه ، وعدم معارضة ولا نزول غيره من الله لا بدين وضعي ولا سماوي صادق يدعي فيه أحد منزل من الله ، ومع إعجاز في البيان والهدى أو شيء آخر يؤيده .

وبهذا تعرف يا طيب : ما كان من أمر الكتب السابقة وعدم خلوده ولا إعجازها في بيانها ولا في بلاغتها ومع اختلاف هداها وتخليطه ، وعرفت هدى دينن القويم في القرآن المجيد ودوامه وشموله ، فأنظر ما قال الله تعالى :

{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُو الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} المائدة 48 .

ولا خير إلا في تعاليم الله التي يصدقها القرآن المجيد ويشهد لها ، وما صدقها في الحقيقة تكون من تعاليمه ، وقد حرفت في الكتب السابقة ، ولم يبقى كتاب خالد فيه تعاليم الله الحقيقية إلا القرآن المجيد ، وهو لجميع البشر في جميع بقاع الأرض وعلى طول الزمان ، وبتعاليمه يستبق الخيرات والعمل الصالح ويؤمن بالله ويوحد التوحيد الخالص ويسعد الإنسان في الدارين .

وقد قال الله تعالى :

{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَ كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81)

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)} آل عمران .

تدبر يا طيب : الآيات أعلاه تعرف حقيقة هدى القرآن المجيد الدائم لكل البشر مع هدى تام لكل جوانب حياتهم وشمول لكل أحوالهم ، ثم محافظ عليه .

وقد قارن السيد الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن : بين تعاليم الفاتحة وتعاليم الصلاة عند النصارى عند شرح سورة الحمد ، فعرف بحق الفضل في تعاليم القرآن وإحكامها وشمولها ، وبها بحق تقام العبودية مع معنى راقي غير مادي ، وكذا السيد الخوئي في تفسير البيان بيّن بعض تعاليم النصارى في الوحدانية وقارن بينها ، فإن أحببت لتعرف مدى الإخلاص والوحدانية عند الطرفين فراجع الكتابين ، أو غيرها من الكتب المختصة في المقارنة بين الأديان وتعاليمها.

فلن تجد قيمة المعارف الكريمة في معرفة الله ولا في إقامة عبوديته مثل القرآن المجيد ، ولا في هدى البشر وتعليمهم مثله ، ولا في شموله ، وبهذ نعرف إن دين الله في كتابه حاكم على كل دين وشامل لا يوجد دين له خواصه وخلوده ودوامه ، وهذا يدل على إعجازه وبقائه خالدا يهدي للتي هي أقوم لكل البشر في كل أمورهم ، ونسأل الله أن يهدينا لمعارفه كلها ويعلمنا بها ويقوينا على تطبيقها ونشره حتى يرضى علنا بكل تصرف لنا وكلام ، إنه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الإشراق الثالث :
نبي أمي يهدي للتي هي أقوم بكتاب الله :

بعد الذي عرفت : لا يشك أحد بأن القرآن المجيد هو كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن هنا توجد خصوصية وهي إن الله تحدى من لم يؤمن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، تحداهم وبجوده الكريم حيث عاش أربعين سنة أمي بينهم لا يقرأ ولا يكتب ولم يعرف عنه شيء يدل على ذلك ، ثم أتاهم بالقرآن المجيد الذي هو أفصح كلام وكله هدى وحق ويدعوهم لأشرف التعاليم ويخبرهم بالمغيبات .

حيث كان نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعيش مع الناس وهو وسط العرب وأفضلهم قريش ، وكان منهم ويعيش بينهم أربعين سنة لم يقل خطبه أو كلام ينقل له فيه ما يدل على أنه سيكون له كتاب كالقرآن المجيد ، ثم بدأ بعد الأربعين يحدثهم به ويتحداهم بأن يأتوا بمثله أو بمثل سورة منه ، حيث يكون فيه مثل هذه التعاليم الخالدة التي فيها كل هدى يعجز عن الإتيان بمثلها على طول الزمان من جميع البشر ، وبالخصوص في أول البعثة من مثل معاصريه ، أنظر أقول الله تعالى :

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ

قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ

قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي

إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ

إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ ف

َقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } يونس 16.

وقال تعالى : {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ

إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} العنكبوت 48 .

وأكد سبحانه هذه الحقيقة في قوله : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ

يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف 158.

وبهذا نعرف بحق إنه كانت العناية الإلهية : حافة بالقرآن المجيد من جميع الجوانب ، فهو فيه تعاليم الله الخالصة والمصححة لما حرف في الكتب الإلهية السابقة ، وأنزلها على نبي أمي لم يقرأ كتاب ولم يكتب بيده لكي لا يشك طرفة عين أنه من تأليفه وترتيبه ، وهو قد نزل في مدة ثلاثة وعشرون سنة من بعثته المباركة حتى أواخر أيام حياته الشريفة ، التي كانت تنزل عليه آياته الكريمة في كل أحواله في صحته ومرضه وسفره وحضره وحله وترحاله وفي حال الحرب والسلم ، ولم يوجد فيه كلمة تخرج عن الحق ولا خلاف الهدى والصواب ، ولا خلاف العدل والإحسان .

فلو كان من فكر نبينا و من غير تأييد الله ووحيه لوجدوا في اختلاف كثير كما عرفت ، ولكنك لو تدبرته من أوله إلى آخره لرأيته بعضه يؤيد بعض وآياته تشهد لنفسها إنها هدى وحق وصدق ، وأمره العدل والإحسان والتقوى وكل ما يسعد الإنسان ، ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي وما يشقي الإنسان على طول الزمان ، كما لم يؤثر عليه غضبه ولا فرحه ولا همه ولا حزنه مع طول المدة ، فلم يوجد فيه اختلاف ولا خلاف الهدى والحق والصدق أو الفصاحة .

وهذا شاهد لأنه كتاب معجز لا باطل فيه ، وخالد ينفع جميع البشرية على طول الزمان ، وفيه كل هدى الله تعالى ، ويتحدى جميع البشر أن يأتوا بسورة من مثله .

ولمراجعة كيفية جمع القرآن وكتابة الوحي راجع كتاب التمهيد لآية الله محمد هادي معرفة تجد كل ما تحتاجه ، وأبين معنى لجمعه هو ما ذكرنا من كون الله حافظ له في لفظه ومعناه ، فإما حفظ لفظه فإنه كان عند نبينا الأكرم من يكتب الوحي تحت إشرافه وتوصيته وهو المملي لهم ، وكان سيدهم وأميرهم وصيه علي بن أبي طالب عليه السلام كما كان هو وآله حفظة للفظه ولمعناه إلى يوم القيامة وسيأتي تتمة البحث في كتاب الإمامة فأنتظر .

وأن ما بين الدفتين والقرآن المتداول بين المسلمين ولفظه الموحد فهو كتاب الله المنزل وهو المصان من التلاعب بألفاظه ، ولكن الكتب الدينية الأخرى لا يعرف كيف جمعت إلا ما حكاه القرآن المجيد ، وقد ذكر حرف نظمها وهداه فلم يكن ما في الكتب السابقة محكم ، بل فيها تعاليم يخلط فيها الحق بالباطل وكانو يكتبون الكتاب ويحرفوه حسب شهواتهم ، ولمعرفة المزيد راجع الكتب المقارنة بين الأديان والتي منها الرحلة المدرسية للعلامة المرحوم محمد جواد البلاغي.

والحق لكي يؤمن بالقرآن المجيد : خص الله نبيه الأكرم بهذه الخصوصية الإضافية إنه أنزل عليه أهدى كتاب فيه أفصح كلام على نبي أمي لا يقر ولا يكتب ، وهي لحق إعجاز في إعجاز ، ثم مع الحفاظ عليه وصيانته من التحريف لآخر الدهر وهذا إعجاز آخر ، وهو إعجاز في أعجاز وكله معجز يؤيد نبوة نبينا الأكرم وكل تعاليمه وهداه أحدهما يشده للأخر ، ليعرف أنه من عند الله تعالى على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

وهذا كلام للإمام الرضا من آل محمد عليهم الصلاة والسلام ، عن أبيه عليهما السلام قال : إن رجلا سأل أبا عبد الله عليه السلام : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلا غضاضة ؟

فقال عليه السلام : لان الله تبارك وتعالى لم ينزله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة. عيون أخبار الرضا : 239 ، بحار الأنوار ج17ص213ح18. الغضاضة : النضارة والطراوة.

وهذا يشهد له كل من يتلو القرآن المجيد ، وتدبر البيان الآتي تعرف المزيد حتى يحصل لك اليقين ، أنه طري مؤثر خالد فيه هدى الله الذي يدخل القلوب الطيبة والنفوس الصالحة والأرواح المتطهرة المحبة للخير والفضيلة والكرامة .

الإشراق الرابع : تأثير القرآن المجيد في أتباعه /

إن تأثير القرآن المجيد في أتباعه وتطبيقهم لمعارفه كبير جد ، مع ما يحملهم من مسئولية العلم والصلاة والزكاة والحج وآلاف التعاليم التي تصلحهم ، كما ويطالبهم وبالإخلاص فيه والتوجه بكل وجودهم لله تعالى ، وهم يمتثلون كل معارفه بكل وجوهم بأنه دستور حياة ويرونه واجب الإيمان به والعمل بكل ما فيه ، والمسلمون الآن نصف مليار مسلم ، فضلا عن المسلمين الأوائل وبالخصوص تأثر نبينا الأكرم وآله الطيبين الطاهرين وتعريفهم لفضله وكرامة هداه وعلو معارفه .

هذا وإن كثير من الناس يأتون بتعاليم لا يؤمنون بها ولا يعملون بها ولا يلتزمون بما فيها من المسؤولية ، وهي غير مؤثرة فيهم فضلاً عن غيرهم ، وهي إما خلطت بين الحق والباطل أو باطل صيغ بأسلوب جميل ؛ فلم تؤثر فيهم فضلاً عن غيرهم .

لأنك عرفت إن الكلام الجميل : إن كان محسن القبيح أو مقبح الحسن ، أو كونه خيال لا واقع له ولا يمكن تطبيقه على الواقع لأنه مخالف لطبيعة الناس أو منفر لعقولهم من قبوله ، أو كونه لا يضمن السعادة التي تنفع المجتمع والبشرية والفرد بالعدل والإحسان . فهو وأن كان جميل مزخرف في لفظه وقبلته النفس في أول وهلة لكنه يرفضه العقل ويتنبه لخلطه وضلاله ، وأن يخدع بعض الناس فترة من الزمان لما يحفه من التهويل والدعاية والترهيب والترغيب لقبوله ، لكنه لما كان كلام جميل وكانت تعاليم باطلة لم تدم ويبقى حبر على ورق .

فالكلام المزخرف : الذي يدعوا للباطل والضلال وإن فرض فهو قانون قد يطبق بالقوة ، لكنه من غير أيمان به ، لا يقبله الوجدان وإن فرضه الأقوياء من بني الإنسان على من تحكموا عليهم من بين جنسهم ، ويتبرأ منه أصحابه وأتباعهم وتتبدل تعاليمه بمرور الزمان فلم يدم ، وبقاءه فقط مادام الحكام والمنتفعون به قائمون على تطبيقه بالترهيب والترغيب .

وقد يشيع بعض الكلام : لما فيه من هوى النفس وشهوات الدني العاجلة ، وهذا ليس لما في الكلام من الحق ، بل لأن حب الفسق والفجور موافق للشهوات النفسانية السهلة الحصول والعاجلة ، وإن كانت بمرور الزمان مضرة حيث لا يلتفت لضرره الإنسان ، وهذا ليس من باب التعاليم بل شهوة تحب أن تحسن عملها صاغت لها عبارات منمقة ، وباطل فيه نفع عاجل فيعمل به الناس ولدفع اللوم وتأنيب الضمير وضعوا له كلمات جميلة مزخرفة .

ولما كانت تعاليم القرآن المجيد : حق وهدى وتدعوا لكل خير وفضيلة كانت خالدة ولم تتغير على طول الزمان ، وكانت مؤثرة في المؤمنين أشد التأثير ومعلمه لهم حقيقة العبودية والطاعة والخشوع والخضوع لها ولله تعالى المنزل له ، فتراهم مخلصين لها ويرغبون بالعمل بها بأنفسهم قبل نشرها وتعليمها ، وأول من طبقها على نفسه النبي الأكرم وهو أول عامل بها ثم آله وصحبه الكرام ، وهذا فرق مهم بين التعاليم الإلهية في القرآن المجيد والتعاليم الأخرى التي يكون أول من يتنكر لها أتباعها .

ولو تدبرت حال التعاليم في جميع بقاع الأرض للأديان الوضعية أو السماوية المحرفة لأهل الكتاب وغيرهم ، ترى إن أتباعها لا يؤمنون بها على الحقيقة والواقع وفق دليل محكم وبرهان قاطع ، إنما إيمانهم بها على سبيل التقليد للأباء والأجداد والمجتمع والعادة ، ولذا ترى أن تأثيرها في النفوس غير شديد وإيمان الروح فيها غير قوي حتى من أكثر المواظبين على العمل بها ، وهذا خلاف المسلمين عندم يلتزمون بالعمل بتعاليم دينهم فإنك ترى حججهم قوية لها ، وعقائدهم بدينهم عن دليل قاطع وبرهان محكم ، ودعاواهم بينه للتمسك بالعمل وفقها ، وعن إيمانهم راسخ به ، وما تجده من الإيمان عند أضعف المسلمين لا تجده عند أقوى المتدينين من غيرهم .

وقد حكى الله تعالى : عن عظمة تعاليمه وأنها موجبة للإيمان والعمل بها في قوله : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } الحشر 21.

فإذا كان الجبل يتأثر بها : فالإنسان أولى بالتأثر والعمل بها ، وهي تعاليم إلهية للإنسان الذي يحب الخير والفضيلة ، وللعبد الطيب النفس والطاهر الروح والمحب للعلم الحق ، فلذا حكى الله تعالى إن أول متأثر بتعاليمه وعامل بها هم العلماء ، والذي يسمعون القول فيتبعون أحسنه فقال الله تعالى :

{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }الزمر18 .

وقال تعالى :{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } فاطر 31 .

فهذا القرآن المجيد : بكل ما فيه من الهدى و مواعظه وحكمه تؤثر بمن يطلب الحق والهدى ويذعن للحكمة والموعظة الحسنه ، وبتعاليمه تزكى الروح وتطهر ، وأول من خشي الله من المسلمين وأخذ بعبوديته تعالى هو سيد العلماء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه مع ما قال الله تعالى له :

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ

وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمً (2)

وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} الفتح 3 ،.

فإن نبينا الكريم مغفور لها حتى سنح الفكر من غير معصية ، ولو لا يتصور بحقه لأنه يذكر الله بكل وجوده وفكره ، وهذا ما عرفه سبحانه في كثير من الآيات الكريمة ، وإنه لا يؤاخذ بذنب كما هنا ، ولكنه لكي يعبد الله ويطيعه ويؤدي شكره لما له من النعم التي لا تحصى عز قدره ، بل لأنه تعالى أهل لأن يعبد بكل ما أوتي الإنسان من طاقة ، أخذته الخشية حتى كان يقوم الليل كله أو جله بالعبودية حتى قال له الله تعالى :

{ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلاَ} طه 4 .

فهذا نبينا الأكرم : أغرق في العبودية حتى رخص الله له لم عرف أن الله هو منبع الخير والبركة والفضيلة وبتطبيق تعاليمه طاعته ورضاه تعالى ، وقد مر عليك شيء من معرفة نبينا الأكرم الذي هو خُلقه القرآن المجيد وعلمه بالقرآن ، وتأثره بكتاب الله المجيد المنزل عليه واعتقاده بوجوب تطبيق تعاليمه في كل أقواله وسيرته ، وقد عرفت في الأبواب السابقة سيرته وخلقه وبعض مواعظه القصيرة النابعة من القرآن وما فيها من تعاليم الله ، حتى كان هو القرآن الناطق والمفسر له في سيرته وسلوكه وقوله ومنطقه وصفاته وفي كل أحواله ، فهذا حال من صدع بالقرآن المجيد ، فإنه بالمعرفة والطاعة وهبه الله تعالى لقب حبيب رب العالمين وأنزل عليه تعاليمه الخالدة ليوم الدين ، ونال لقب أشرف الأنبياء وسيد المرسلين صلاة الله عليه وعلى آله أجمعين .

وبعد الذي عرفت من حال نبينا الأكرم ، ننقل الكلام في تأثير القرآن المجيد في الناس حتى أمنوا وأخلصوا له ، وفي هذا المضمار ننقل كلام للسيد الخوئي رحمه الله في كتابه تفسير البيان ، في مجال تأثير القرآن في المعاصرين للنبي الأكرم وصحبه النجباء إذ قال :

ثم إن القرآن يختص بخاصة أخرى ، وبها يتفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون ، وهذه الخاصة هي تكفله بهداية البشر ، وسوقهم إلى غاية كمالهم ، فإن القرآن : هو المرشد الذي أرشد العرب الجفاة الطغاة ، المعتنقين أقبح العادات والعاكفين على الأصنام ، والمشتغلين - عن تحصيل المعارف وتهذيب النفوس - بالحروب الداخلية ، والمفاخرات الجاهلية فتكونت منهم - في مدة يسيرة - أمة ذات خطر في معارفها ، وذات عظمة في تاريخها ، وذات سمو في عاداته .

ومن نظر في تاريخ الإسلام : وسبر تراجم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المستشهدين بين يديه ، ظهرت له عظمة القرآن في بليغ هدايته ، وكبير أثره .

فإنه هو الذي : أخرجهم من حضيض الجاهلية إلى أعلى مراتب العلم والكمال ، وجعلهم يتفانون في سبيل الدين وإحياء الشريعة ، ولا يعبئون بما تركو من مال وولد وأزواج .

وإن كلمة المقداد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شاور المسلمين في الخروج إلى بدر شاهد عدل على ما قلنا ـ إذ قال رحمه الله ـ :

" يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك ، والله ل نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : أذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون .

ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد – يعني مدينة الحبشة – لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا ، ودعا له بخير " انتهى .

أقول : ومثل هذا الكلام الدال على قوة الإيمان توجد كلمات منيفة نابعة من التعاليم الإلهية التي علمهم الله بها في القرآن وبسنة نبيه لكثير من الصحابة وبالخصوص عند البيعة والجهاد والدعوة للقتال ، ولولا التطويل لذكرناه ، وقد ذكرنا تأثيره في الأنصار وإيمانهم به حتى كثروا في أيام قليلة وهاجر إليهم النبي الأكرم راجع بعض قصصهم في موضوع هجرة النبي الأكرم في لقاءه معهم في مكة المكرمة وكيف استقبلوه في المدينة المنورة ، وعرفت كيف قدم له الوفود .

وسيأتي شيء من بيان شأن القرآن عند أهل البيت وبالخصوص الإمام علي عليه السلام فأنتظر ، كما وعرفت حال الأمة والمجتمع المحتاج لهدى الله ، وكونه أحد الأسباب لضرورة بعثة نبينا الأكرم في كلام الإمام علي وفي كلام فاطمة الزهراء عليهم السلام في الباب الثاني ، وكيف هدى به العرب وقبله المخلصون للدين حتى عانقو دينه الطيبين منهم عن إيمان ويقين ، ولم يصرفهم عنه أي عذاب للكفار ، بل تحملو المشقة وهاجروا وحاربوا في سبيله فضلا عن الإخلاص في تطبيق تعاليهم كلها .

ويكفيك إن كل المؤمنون على طول التأريخ يفتخرون بحفظ آي القرآن وسوره ، وكثيرين من حفظوه كله .

وترى آياته الكريمة شاهدهم لمعارفهم في كثير من مقالتهم وخطبهم ، بل قد يدخل شعرهم فضلاً عن نثرهم ، وبتعليمه يحتجون ، وبهداه يستنون ، وبالانتساب له يفتخرون ، وبه يطلبون كل خير وفضيلة ومعرفة ، ولا يوجد كتاب محفوظ ومتلو ومشروح ومفسر من قِبل البشر مثله ، ولا يوجد بيت من بيوت المسلمين إلا وتوجد نسخة منه في اطهر مكان منه ، ويحترم ويقدس ويقبل من قبل الكبير والصغير قبل الفتح وبمجرد المس .

وينظر فيه بإعجاب وإجلال ، وبالطهور والنظافة تلمس كلماته ، وتقرأ ألفاظه بالنية الصادقة والمحبة للخير والبركة ، مع الإيمان به والاعتقاد بتعاليمه ومعانيه ، وعلى الأمل بالعمل بها مهما أمكن وبما يمن به الله من التوفيق للطاعة ولطلب الأجر والثواب ، بل لطلب العلم والتعلم أو الفهم والتدبر ، لكونهم يعتقدون به اعتقاد جازم بأنه لهم هدى ونور يوصلهم للكل كرامة وخير حين يعملون به .

وهذا دليل أخر على حقانية القرآن المجيد وإعجازه وشهادة لتعاليمه الخالدة التي تجاوزت الألف والأربعمائة سنة ، وهي باقية لآخر الدهر ينبع منها كل خير وفضيلة ، ويتعلم منها كل ما يوصل للعدل والحق والإنصاف ، وهي الموصلة للبشر لسعادتهم في الدنيا والآخرة كدستور علم وعمل فيه هداهم ونجاتهم ، رزقنا الله نور والظهور به بكل وجودنا ورحم الله من قال آمين .

الإشراق الخامس :
كلام أل نبينا في القرآن وعظمته :

يا أخي الطيب : قد عرفت تأثير القرآن المجيد في أتباعه على طول التأريخ ، وبالخصوص نبينا الأكرم وهو سيد العلماء والمرسلين به ، ونشير لشأن القرآن المجيد عند أهل البيت آل نبينا الأكرم عليهم السلام ، ونخص بالذكر كلام أمير المؤمنين أخو سيد المرسلين ووصيه علي بن أبي طالب عليه السلام في بيان شأن القرآن وفضله ، ونذكر قسم من كلامه ، وإذا أحببت الإطلاع على شأن القرآن عند أهل البيت فعليك بأواخر كتاب الكافي الجزء الأول وقد ذكرنا منه طرف مما عرفت في الباب السابق ، وكتاب الأستاذ جعفر الهادي في فضل القرآن عند آهل البيت ، أو مقدمة تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني رحمه الله ، أو عليك بكتاب بحار الأنوار الجزء 92 والجزء 93 .

ولكي لا يطول الكلام : نقتصر على كلام مولى الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وإن أحببت المزيد من كلامه وكلام آهل بيته الكرام الناقلين لكلام سيدهم وأبيهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فعليك بما ذكرنا من الكتب ، وأما كلام مولانا علي بن أبي طالب فأخذنها من نهج البلاغة فقط ، فتدبره تعرف عظمة القرآن المجيد واهتمام أصحابه به وجليل منزلته عندهم ، ودعوتهم لتعاليمه وتفانيهم في تطبيقها .

وهذا يدل على علو منزلته وشأنه الكبير وإنه عندهم الدستور للدين والقانون للعمل والأصل للعلم ، وعليه يستند المؤمنون في كل أمورهم ومعرفة صلاحها من باطلها ، وهذا يدل على أنه معجزة خالدة وتعاليمه أساس كل علم عند المؤمنين ، وأئمتهم به يحتجون عليهم وبه يعلمونهم معالم دينهم ، ويهدوهم لصراط الله المستقيم ، وأما أقواله عليه السلام فهي :

ومن خطبة له عليه السلام قال :

انْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللهِ ، وَاتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللهِ ، وَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللهِ ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْذَرَ إلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ ، وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمْ الْحُجَّةَ ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الاََْعْمَالِ ، وَمَكَارِهَهُ مِنْهَا ، لِتَتَّبِعُوا هذِهِ ، وَتَجْتَنِبُو هذِهِ ، …….

وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ ، وَالُمحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ .

وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ ، زِيَادَةٍ فِي هُدىً ، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمىً .

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة ٍ(1) وَلاَ لاَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً ؛ فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لاََْوَائِكُمْ(2) فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ .

فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ ، إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلَى اللهِ بِمِثْلِهِ .

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ : شَافِعٌ مُشَفَّعٌ ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ(3)فِيهِ ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ(4) الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْه .

فَإنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامةِ : أَلاَ إنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرآنِ ؛ فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ .

وَاسْتَدِلُّوهُ عَلى رِّبِّكُمْ ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُمْ ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ(5).

(1) فَاقَة: أي فقر وحاجة إلى هاد سواه. (2) اللاَواء: الشدة. (3) شفاعة القرآن: نطق آياته بانطباقها على عمل العامل. (4) مَحَل بهِ ـ مثلث الحاء ـ : كاده بتبيين سيئاته عند السلطان، كناية عن مباينة أحكامه لما أباه العبد من أعماله. (5) إذا خالفت القرآن آرائكم فأعلموا إنها تدعو للباطل .

نهج البلاغة : ص309 خ176.

ومن خطبة له عليه السلام :

وَتَعَلَّمُوا الْقرْآن فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ ، وَتَفَقَّهُو فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ .

وَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ ، بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ ، وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ ، وَهُوَ عَنْدَ اللهِ أَلْوَمُ .

نهج البلاغة الخطبة 109.

ومن خطبة له عليه السلام :

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الاَُْمَمِ وَانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ ، فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَالنُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ .

ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ : أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي ، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي ، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ.

نهج البلاغة الخطبة 158.

وقال في خطبة له عليه السلام :

وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هذَ الْقُرْآنِ .

فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ ، وَسَبَبُهُ الأمِينُ .

وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ ، وَمَ لِلْقَلْبِ جَلاَءٌ غَيْرُهُ .

مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ ، وَبَقِيَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ.

نهج البلاغة الخطبة 176.

ومن خطبة له عليه السلام منها : في ذكر القرآن :

فَالْقُرآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ .

حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ ، أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِيثاقَهُ ، وَارْتَهَنَ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ .

أَتَمَّ نُورَهُ ، وَأكْرَمَ بِهِ دِينَهُ ، وَقَبَضَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحكَامِ الْهُدَى بِهِ .

فَعَظِّمُوا مِنهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ .

فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ دِينِهِ ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً ، وَآيَةً مُحْكَمَةً ، تَزْجُرُ عَنْهُ ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ.

نهج البلاغة الخطبة 183.

ومن كلام له عليه السلام :

وَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ ، فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ .

وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ ، وَالرِّيُّ النَّاقِعُ(1) وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ ، وَالنَّجَاةُ لَلْمُتَعَلِّقِ .

لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَامَ ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ(2) .

وَلاَ تُخْلِقُهُ : كَثْرَةُ الرَّدِّ(3) ، وَوُلُوجُ السَّمْعِ(4) .

مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ .

1 نَقَعَ العطش: أزاله. 2 يُسْتَعْتَبُ: يُطْلَبُ منه العُتْبى حتى يرضى. 3 أخْلَقَهُ: ألبسه ثوباً خَلَقاً أي بالياً. وكثرة الرد: كثرة ترديده على الاَلسنة بالقراءة. 4 وُلُوج السمع: دخول الآذان والمسامع . نهج البلاغة خطبة 156 .

وراجع صحيفة الثقلين من موسوعة صحف الطيبين لتعرف أهمية القرآن المجيد عند أهل البيت عليهم السلام ، فقد ذكرنا أبواب فيها تعرف شأنه الكبير عندهم ، واعتمادهم عليه ، بل يعرض كل أمر من تعاليمهم على القرآن المجيد ، فما وافقه هو الدين والهدى ، وإلا يرمى به ولا يؤخذ به ، وهذا أثره في أهله وإيمانهم وعملهم به بكل أخلاص ، دليلا متقناً على أحقيته ودينه القويم وإنه من رب العالمين هدى دائم للبشر ، منزل على سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ، رزقنا الله نوره ، وهو ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الإشراق السادس :
حكايات فشل الناس في معارضة القرآن :

يا طيب : ذكرنا في ما مر إن عظمة القرآن في هداه وتعاليمه وإحكام بيانه وحسن أسلوبه مجتمعة ، منعت من معارضته ، وأين يكون كلام المربوب من كلام الرب الحكيم الخبير الذي علمه البيان ومكنه من العلم والتعلم ، وهو العالم بخفي أنفس الناس وكل ما يصلحهم في كل أمور حياتهم ، وكلامه تعالى حق وهدى .

وكل كلام يعارض كلام الله فهو باطل وضلال ، ومهما كان الكلام المعارض للقرآن المجيد فإنك ترى منه الباطل يفيض ، والضلال عنده متمكن ، والغش والخداع سجيته ، ويبين لك هذا بأول ما تلتف له من قبل سبر وتفحص أعماقه ، ومهم زخرف في القول والفصاحة والبيان ، فهو غير مقبول للنفوس الطاهرة والأرواح الطيبة ، وتمجه وترفضه النفوس قبل العقول ، وتعتقد به إنه خيال لا واقع له ونما لطيف لتصور المحال أو تعظيم الصغير بحُسن مقال .

والقرآن المجيد : هو كلام الله العزيز الحكيم العالم القدير ، والخبير بكل ما يصلح البشر ويهديهم للنعيم ، والذي جعل في دينه في كتابه كل تعاليمه التي تصلح البشر وتوصلهم لصراطه المستقيم ، وهو هدى لكل الأجيال والعصور ، وفيه كل الحق ومنه ينبع ، ويفض فيُتعلم منه الصدق والخير والفضيلة ، وهو الذي يدعو للعدل والإنصاف والإحسان ، فلا تعليم يعارضه ، ولا كلام حسن غيره فضلاً أن يكون محكم ومتقن ودقيق في معارفه مثله ، فغيره ضلال وظلام وكفر ونفاق إذا لم يكن مستقى معارفه منه ، تدبره وتدبر لكل تعاليم تعارضه وتخالفه يدعى تصلح البشر وكدستور حياة لهم ترى ليس فيها نور كتاب الله.

وفوق كل هذا أراد الله بكتابه أن يكون معجزة خالدة تبين للبشر على طول الزمان هدهم ، ودين واجب عليهم إطاعته وعن علم ، وإيمان به عن اعتقاد بكل هده لهم الموافق لذوق وجدانهم وفطرتهم وما يطلبوه من الكمال والصلاح ، وبه يعرف سنة رسوله الأكرم وأقواله وتعاليمه بعد عرضها عليه ، وبموافقة الكلام للقرآن المجيد يعرف صدقه وحقه من كذبه وضلاله .

ولذا يا أخي : خص الله كلامه في القرآن المجيد بعناية الفصاحة والإحكام ، وكل ما ينفع الناس ويهديهم لمعرفة حقائق دينهم ويجعلهم يوقنون أنه منزل من رب العالمين على خاتم الأنبياء والمرسلين ، فلذا جعله لا يعارض ولا يمكن أن يؤتى بسورة من مثله ، ولكن بعض الناس كما ذكرنا لاختبار النفس أو للعناد ولشقاق كانت لهم محاولات في معارضته ، ولكنها كانت فاشلة باعترافهم ، وهنا نذكر الطريف منها ومن أراد المزيد عليه الرجوع للكتب المطولة المختصة في إعجاز القرآن ، ونكتفي بذكر قسم يسير منها للموعظة والاعتبار .

وبها يكون بيان وشاهد لمعرفة أن كلام الله المجيد هو المعجزة التي تتحدى جميع البشر على طول الزمان بأن يأتوا بسورة من مثله ، وإليك بعض القصص الذاكرة عن عدم تمكن الناس من الإتيان بآية من مثله ، ومعترفة بأنه فوق كلام البشر وإنه من كلام خالق الكون .

فهنا حكايات في قبسات نور :

القبس الأول: قصة المستشرق الذي لم يستطيع معارضة القرآن :

ومن اللطائف التي ينقلها أحد أساتذتنا : إن أحد العلماء المستشرقين وكان أديب بارع في فنه ، وكان جالس مع أحد الأدباء العرب لما رآه يسمع القرآن ، فقال له : هل حقاً تؤمن بالقرآن ؟ فقال له : نعم .

فقال : لماذا ؟ قال : لأنه يتحدانا وفيه تعاليم وبلاغة ل يمكن لأحد أن يعارضها ويأتي بمثلها ومن عجز عليه أن يؤمن ، وأنا عاجز عن الإتيان بمثله فخضعت له وآمنت به .

قال المستشرق : كيف ؟

فقال الأديب العربي : إنك أديب وأنا معك فتعال معي لآن نأتي بآية توصف نار الآخرة التي تأخذ المعاندين وتستوعب كل من لم يؤمن بالآخرة ، قال : فقبل مني هذا الاقتراح .

فيقول : بعد هذا جلسنا زمان طويل ووضعنا ثلاثون جملة توصف النار الكبيرة التي تستوعب كل الدنيا وكل المعاندين بأجمل بيان ، وبعد أن قنع إن هذه الجمل أعظم جمل يقدرون عليها لوصف النار ، يقول عرضت عليه قوله تعالى :

{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ }ق30 .

يقول : بعد أن تلوتها عليه خر متعجب ومبهوت لا ينطق وبعد زمان سألته ما أسكتك هذه الفترة الطويلة ؟

قال : هذا كلام عجيب يعطي حياة للنار ويجعلها تتكلم بما ل يوصف من الكلام الذي يبتلع كل وصف يوصف سعت النار بما لا مزيد عليه وجعل كلامن خائر أمامه .

وأقول : إن تحب المعارضة فأتي بآية بغير بيان القرآن المجيد تصف مثل هذه النار لها هدى وبيان فصيح تقع في الكلام مثله ، وهذه حجة عليّ وعليك وعلى كل من يسمعها ، فعليه إما أن يأتي بمثلها أو يؤمن ، وإلا فهو في ضلال مبين ، لا أن يحور الكلام بل كلام حق فيه فصاحة وعلم حق .

وقبل هذا ذكر الله قصة الوليد في زمن الدعوة عندما عرض عليه القرآن المجيد وكانت قصته :

القبس الثاني : عدم تمكن قريش لمعارضة القرآن :

ذكر في إعلام الورى : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكف عن عيب آلهة المشركين ، ويقرأ عليهم القرآن فيقولون : هذا شعر محمد ، ويقول بعضهم : بل هو كهانة ، ويقول بعضهم : بل هو خطب .

وكان الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا ، وكان من حكام العرب يتحاكمون إليه في الأمور وينشدونه الأشعار فما اختاره من الشعر كان مختارا ، وكان له بنون لا يبرحون من مكة ، وكان له عبيد عشرة عند كل عبد ألف دينار يتجر بها ، وملك القنطار في ذلك الزمان ، والقنطار : جلد ثور مملو ذهبا ، وكان من المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وكان عم أبي جهل بن هشام ، فقال له : يا با عبد شمس ما هذ الذي يقول محمد أسحر أم كهانة أم خطب ؟

فقال : دعوني أسمع كلامه ، فدنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في الحجر ، فقال : يا محمد أنشدني من شعرك .

قال صلى الله عليه وآله وسلم : ما هو بشعر ، ولكنه كلام الله الذي به بعث أنبيائه ورسله . فقال : اتل علي منه .

فقرأ عليه رسول الله :

" بسم الله الرحمن الرحيم " فلما سمع الرحمن استهز فقال : تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمن ، قال : لا ، ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم ، ثم افتتح سورة حم السجدة ، فلما بلغ إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُو فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ }(1) .

فلما سمعه اقشعر جلده ، وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته ، ثم قام و مضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش .

فقالت قريش : يا با الحكم صبا(2) أبو عبد شمس إلى دين محمد ، أما تراه لم يرجع إلينا وقد قبل قوله ومضى إلى منزله .

فاغتمت قريش من ذلك غما شديدا ، وغدا عليه أبو جهل فقال : يا عم نكست برؤوسنا وفضحتنا .

قال : وما ذاك يا ابن أخ ؟ قال : صبوت إلى دين محمد . قال : ما صبوت وإني على دين قومي وآبائي ، ولكني سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود .

قال أبو جهل : أ شعر هو ؟ قال : ما هو بشعر .

قال : فخطب هي ؟ قال : لا ، إن الخطب كلام متصل ، وهذا كلام منثور ، ولا يشبه بعضه بعضا ، له طلاوة .

قال : فكهانة ، هي ؟ قال : لا . قال : فما هو ؟ قال : دعني أفكر فيه ، فلما كان من الغد ، قالوا : يا أبا عبد شمس ما تقول ؟

قال : قولوا هو سحر ، فإنه آخذ بقلوب الناس ، فأنزل الله تعالى فيه : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودً (12) وَبَنِينَ شُهُودًا } المدثر 13 إلى قوله : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} المدثر30 (4).( 1 )

نذكر الآيات الكريمة التي تلاها النبي الأكرم : {حم (1) تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَ عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَ أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فصلت 13 .

يا طيب : إن قصة الوليد هي قصة قريش بل قصة العرب كلهم ، مع القرآن وعدم معارضتهم له ، فإنه كان عند قريش سوق عكاظ الذي تجتمع فيه كل العرب ويقال فيه الشعر وما صاغوه منه في سنتهم ، فيقعد فيه مثل الوليد ويسمع شعرهم ويختار الشعر الجيد ويعلق على الكعبة وتسمى قصيدته المعلقة ، وهم الحكام على ما يختارون من الشعر والنبي الأكرم عاش معهم وكلامه عربي مثلهم ، ولكنهم لم يستطيعوا معارضة كلام القرآن حتى نسبوه لما نسبوه .

القبس الثالث : قصة الزنادقة لمعارضة القرآن المجيد :

ذكر الطبرسي في الاحتجاج : عن هشام بن الحكم قال :

اجتمع : ابن أبى العوجاء ، وأبو شاكر الديصاني الزنديق ، وعبد الملك البصري وابن المقفع عند بيت الله الحرام يستهزئون بالحاج ، ويطعنون بالقرآن .

فقال ابن أبى العوجاء : تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن ، و ميعادنا من قابل في هذا الموضع نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله ، فإن في نقض القرآن إبطال نبوة محمد ، وفى إبطال نبوته إبطال الإسلام ، وإثبات ما نحن فيه ، فاتفقوا على ذلك وافترقوا .

فلما كان من قابل : اجتمعوا عند بيت الله الحرام .

فقال ابن أبى العوجاء : أما أنا فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية : {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّا } يوسف 80 فم أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئا ، فشغلتني هذه الآية عن التفكر فيما سواها .

فقال عبد الملك : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } الحج 73 . ولم أقدر على الإتيان بمثلها .

فقال أبو شاكر : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } الأنبياء 22لم أقدر على الإتيان بمثلها .

فقال ابن المقفع : يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر ، وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } هود 44 لم ابلغ غاية المعرفة بها ، ولم أقدر على الإتيان بمثلها .

قال هشام بن الحكم : فبينما هم في ذلك إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فقال : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }الإسراء 88 .

فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا : لئن كان للإسلام حقيقة لم انتهت أمر وصية محمد إلا إلى جعفر بن محمد ، والله ما رأيناه قط إلا هبناه ، واقشعرت جلودنا لهيبته ، ثم تفرقوا مقرين بالعجز.

الاحتجاج : 205.

يا طيب : وكانوا ولا يزال اليهود والكفار والمنافقين أشد الناس عداوة للذين آمنوا ،ويسعون بكل جهدهم لأن يطفئوا نور الله وهداه بكل صورة ممكنة ، والتحدي الإلهي مستمر والدواعي للمعارضة قائمة بشدة لأن ينقضوا القرآن ، والحجة على من لم يؤمن قائمة تصرخ به بأن يأتي بسورة مشابهة له أو يؤمن .

وحاول كثير من المنافقين والكفار بكل جهدهم لمعارضته ولكنهم فشلوا لم ينقل لهم معارضة أو آية فيها حكمة وبلاغة أو تعليم حق مثل سور القرآن وفصاحته وبلاغته مع طول المدة وتعاور الدهر والزمان حتى يومنا هذا ، وما ذكرن لك قصص المعارضة الفاشلة كانت من آخر الزمان وأوله ووسطه ، ونسأل الله أن تزيد إيماننا وتجعلنا من الموقنين بأن القرآن المجيد هو كلام الله الهادي لجميع البشر الذي لا كلام غيره فيه الهدى والحق والصدق والخير والفضيلة مثله ، رزقنا الله نوره وهداه بكل وجودنا علما وعملا ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين.

خاتمة : إعجاز القرآن المجيد والأقوال فيه :

عرفت يا طيب : شيء من أعجاز القرآن المجيد حيث كان أساس بحثن فيه هو : أنه كلام متقن محكم وحسن ، وهو كلام حق وهدى ونور ، وهذا المعنى تلمسه في جميع الآيات التي ذكرناها بل في كل القرآن المجيد ، وقد اخترنا لبحثنا الآيات القرآنية التي تشهد لبيانه وتعاليمه ، وهي تبين فصاحته وبلاغته والعلوم والمعارف التي يدعوا لها ، فجعلنا القرآن الكريم شاهد حق لنفسه ، وهذا ما لا يوجد في كلام من كلام الإنس بحيث أن يكون هو الشاهد على حقائقه وهداه وفصاحته وبلاغته وحسنه .

وهذا بيان لعناية الله في توجيه الناس لصدق القرآن الكريم وخلوده ، وهو للفت نظرهم لما فيه من تعاليم تهدي الناس على طول الزمان إلى الصراط المستقيم الذي يسعدهم في الدنيا والآخرة ، وبنفس الوقت تثبت كل تعاليم الله الخالدة ، ونبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين ، وتبين لك سبب خلود دينه الذي هو أخر الأديان وضرورة وجوده .

وهذا المختصر في الكلام عن الإعجاز القرآني كافي لما رمن من إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل وإثبات لنبوة جميع الأنبياء والمرسلين وكل أصول الدين وفروعه وما جاء من الله تعالى من التعاليم لهداية البشر ، وهذا الشاهد لنبوة نبينا ، هو المعجزة الخالدة المبينة لضرورة بعثت نبينا الأكرم على طول الزمان إلى يوم الدين ولكل البشر أين ما وجدوا ، وبيان لعناية الله بدينه وجدية للدعوة إليه ، وهو بيان لاهتمامه بالمحافظة عليه في كل ما يخطر على قلب بشر من المحافظة ، وسيأتي الكلام عن هذا في بيان المحافظة على القرآن المجيد في المعنى بنصب أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليهم وسلم في موضوع الأصل الرابع للدين الإمامة .

ثم كل من بيّن إعجاز القرآن : تعرض لهذا الجانب من البيان الذي ذكرناه في كون إن الأساس لأعجاز القرآن هداه المبين ، أو وأراد بيان هذا المعنى وإن اختلف أسلوبه وبيانه وفصل البحث فيه ، وقد فصلناه كما عرفت في عدة بيانات ، أو أضاف ما لم نذكره كإخبار القرآن بالمغيبات ، مثل الماضية لقصص الأنبياء وعظمة الله في عنايته بقصة الفيل ووقوعها أو نصر نبيه وفتح مكة وقصة الروم مع فارس وغلبهم من بعدما غلبوا وغيرها ، أو الكوثر والذرية الطيبة للنبي الأكرم من آله ونشر دينه وشموله وعدم تحريف كتابه والعناية بجمعه ، أو قام ببيان الإعجاز القرآني في اللفظ والمعنى والأسلوب والعلوم وحقيقة الإعجاز ومعناه وغيرها من أبواب الإعجاز القرآني التي لا يسعها هذا المختصر .

وخير من أبان معنى الأعجاز للقرآن المجيد وحقيقته هو السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله في كتابه الموسوم الميزان في تفسير القرآن ، وكذا المرحوم السيد الخوئي في تفسير البيان ، وأستاذنا الشيخ محمد هادي معرفت حفظه الله الذي خصص لأعجاز القرآن عدة أجزاء من كتابه الموسوم بالتمهيد ، وبيّن بما لا مزيد عليه كل شاهد صدق يدلك على مفردات ومصاديق تشهد لإعجاز القرآن المجيد ، سواء في بيان معنى الإعجاز ومن كتب فيه من الأوائل أو من حاول المعارضة وبيان فشله ، أو بيانه لمحكم القرآن المجيد في لفظه ومعانيه ، أو لبيانات عليمة وفنية في مجالات الحياة والثقافة والاجتماع وغيرها ، ولولا التطويل لنقلت شواهد من هذه الكتب الشريفة وهي الآن في متناول الجميع حيث إن أغلبها منشورة على الانترنيت .

كما يمكنك مراجعة التفاسير لمعرفة بيان الآيات القرآنية وقد أهتم في تفسير التبيان للشيخ الطوسي رحمه الله لبيان الإعراب والقراءات والمعنى بالإضافة للتفسير ، وهكذا فعل الطبرسي في مجمع البيان ، وكذا كتب سليمان السبتي رسالة في أعجاز القرآن وهي أول رسالة في هذا المعنى ، وكذا عبد القادر الجرجاني وضع كتاب تبينان علم المعاني والبيان والإعجاز كتاب أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز والشافية لمعرفة المعاني والبيان ولمعرفة حقيقة الفصاحة في لغة العرب ولمعرفة أصول وقواعد البلاغة فيها ، وكذا كتب السكاكي في الإعجاز في كتابه مفتاح العلوم ، والراغب الأصفهاني في كتابه مفردات القرآن ، وهكذا كتب الزجاج والفراء في معاني القرآن ، وراجع كتب قواعد لغة العرب لتعرف فصاحة القرآن المتقنة وبلاغته الحسنه وعلو معارفه الشريفة .

ولو عددت الكتب الموضوعة في تفسير القرآن المجيد ومعارفه وعلومه وكل ما يرتبط ببلاغته وفصاحته لكونت كتاب ذو أجزاء كثيرة ، وقد ألف فعلاً كتاب كبير الحجم في من ألف في القرآن وتفسيره ، وذكر فيه أسماء الكتب المؤلفة وأصحابه ومحل طبعها وتواجدها وقد نشر في قم بتوسط وزارة الإرشاد الإيرانية ، فراجعه لمعرفة عظمة القرآن المجيد واهتمام المؤمنين به .

ويكفيك متابعة راديو القرآن : والإذاعات التي تبث آياته والمخصصة في تلاوته وبيان علومه والمحاضرات الملقاة في شأنه وبيانها لمعارفه وهي تبث من أغلب الجمهوريات الإسلامية ، أو أحضر الاحتفالات الموسمية التي تعقد في جميع بقاع المعمورة ويحضرها من كل البلاد الإسلامية للمشاركة في تلاوته وحفظه وتفسيره ولبيان اهتمام المؤمنين به بكل صورة ممكنة ، وهذا دليل لإعجاز القرآن المجيد وخلوده وبيان لعظمته وفضله .

وتكفيك تلاوة القرآن المجيد نفسه من غير مراجعة لشيء إن كنت من أهل اللغة لمعرفة فصاحته وبلاغته ، وراجع كل كلام فصيح غيره ، ترى بأم عينك وصحيح وجدانك وصافي ضميرك علوا القرآن عليه ، وأنه لا يقاس بالقرآن المجيد ، وتذعن بعقلك وتشعر بنفسك إن القرآن المجيد كلام رب الأرباب والخالق للكون وفيه كل هدى للإنسان يوصله لسعادته ، ولا ترى كلام بعده يعد يعارضه أو يقاس به مهما كان خطر ومقام قائله .

هذا ونسأل الله أن يجعلنا من المتمسكين بالقرآن المجيد والعالمين العاملين بتعاليمه ويحشرنا مع من حافظ على معناه وتعاليمه وبينها نبينا محمد وآله وصحبهم النجباء صلاة الله وسلامه عليهم ، ورحم الله من قال آمين .


الباب التاسع
المعجزات الكونية الإلهية
للأنبياء ولنبينا وإخباره بالمغيبات

في هذا الباب : نذكر بعض معجزات الأنبياء ونخص بالذكر معجزات نبينا الأكرم محمد صلى الله عليهم وآلهم ، والتي مكنه الله من إتيانها والقدرة عليها بما لم يستطع أحد من مجاراته ولا الإتيان بمثلها ، ومع التحدي لهم ، وفيه بيان لكرامته عند الله حتى يصدقه الناس ويطمئن بهداه المؤمنون ، فكانت حجة عليهم وعلى من سمعها بعدهم ليؤمنوا به.

الذكر الأول
معنى المعجزة وسببها وتحقق وقوعها

وفيه إشراقات نور :

الإشراق الأول : معنى المعجزة وسببها :

عرفت يا طيب : إن أهم معجزة للنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وجوده الكريم هو القرآن المجيد ، وقد مرت عليك بعض المعجزات عند الكلام عن نوره في الخلق الأول وولادته ، وفي هجرته المباركة ، وفي سيرته وخلقه الكريم ، وفي أقواله الشريفة وتعاليمه ، وفي كل صفاته وأحواله .

ومر الكلام : في معنى الإعجاز وسببه في النبوة العامة ، وعرفت تعريفه وشروطه من حيث إن المعجزة : هي الإتيان بأمر خارق للعادة مع التحدي ، وإلا إذا كان خارق للعادة وليس فيه تحدي يسمى كرامة ، وكون المعجزة موافقة للأمر المتحدى ، وغير مقدور للبشر ، ولا يكون عن رياضه .

والمعجزة : هي الإتيان بالأمر الخارق للمعتاد من الأسباب الغير معروفة ، و تكون المعجزة بعلل وأسباب يعلمها الله ويُعلمها الله لنبيه أو يقيمها له ملائكة موكلون بها ، وإن خفيت علينا عللها وأسبابها وحسبناها خارقة للعادة ، ولكن الله خالق الكون والعالم بالخفيات والقادر على كل شيء ، هو القادر على أن يقيم لكل أمرا أسبابا ويجعل له وسائلا توجده مما لم يعلم به أحد من البشر .

هذا وإن البشر : ما يجهل من أسباب الكون وأسرار الخِلقة أكثر مما يعلم وقر لهذا كل الناس ، ولهذا يقيمون التجارب لحد الآن ، ويحاولون أن يكتشفو كثيرا من أسباب العلل والأمراض والحوادث والأمور الكونية ، ويتطور العلم ويتطور الاكتشاف وتنفتح آفاق كثيرة ، حتى ليعجز الإنسان عن التخصص بعلم معين من كثرة العلوم فيحيط به ، وكثرة ما بقي مجهولا لم يعرفوا أسبابه أكثر مما هو مكتشف ، بل هناك أمورا لم يكن الإنسان ليعلم بعلمها ثم جعل لها علما وما بقي من أسرار الكون وكائناته وخفايا العلم أكثر مما هو مكتشف آلاف المرات ، بل هناك في الكون وعلومه ملايين الأسباب والحالات التي لم تخطر على قلب الإنسان إلى الآن ولم تأتي بعد في خياله ، فما أعجز الإنسان أمام الكون الواسع وخفايا تكوينه سبحان الخالق عز وجل.

فمثلاً كما تكون الحرارة بأسباب كالاحتكاك والنار والأشعة والتحليل والتركيب بين المواد ولها أسباب أخر غيرها قد نجهلها ، كذا لجعلها برد وسلاما على نبيه إبراهيم عليه السلام لها أسباب لا نعرفها ، وأما تحول الإشارات الضوئية والمغناطيسية والحرارية والأفلام وأمور الحاسب وغيرها مما تم من غير تحدي وبالاحتمال وكثرة التجربة ويتمكن إتيانها من غير مكتشفها ، فهي تفقد شروط المعجزة وفيها شمة من الكرامة ولكن مع التعب والتجربة وهو توفيق المجد العامل بعلمه ، وهذ كله الله خالقه والله العالم بأسبابه بكل صوره وبما نعلمه وما لم نعلمه ، وهو الذي يمكن نبيه ووليه منه ويعلمه ما لم نعلم ، ويجعله يقدر على ما لم نقدر ، ولذا مكن وليه الإمام علي قلع باب خيبر أو رمي أكبر أصنام الكعبة وهو مسمر للأرض بحديد وهو وصي نبين ولم يستطع هذا غيره ، ومعجزات النبي أكبر ، وذلك ليكون مؤيد لدعوة نبيه الأكرم وليكون سببا لنشر دينه .

وقد عرفت إن سبب المعجزة : وإتيان نبينا الأكرم بل كل الأنبياء بالأمر الخارق للعادة ، والذي يعجز عن إتيانه مثله من قبل غيرهم من معاصريهم هو : إما لإثبات نبوتهم وليكون شاهد على رسالتهم لكي يؤمن الناس بهم ويصدقون دعوتهم ويتم دين الله ، أو لكي يطمئن المؤمنون بإيمانهم ويثبتون على الدين ويصرون على نشره والدعوة إليه والعمل به .

ولما كان دين نبينا آخر الأديان : والله يريد أن يتم نوره وينشره ويعلم الناس صدق نبيه وأنه مرسل منه أيده وخصه بمعجزة خالدة وهو القرآن الكريم ، كما وخص نبينا الأكرم بمعجزات وكرامات كثيرة جداً تفوق جميع معجزات الأنبياء السابقين ، وذلك لكي لا يبقى عذراً لأحد على عدم الإيمان به وتصديقه.

وعلى كل الأحوال : لضرورة تأييد الله تعالى لدينة وبيانه لنبوة نبيه الكريم بكل صورة ممكنة ، أيد سيد المرسلين وخاتم النبيين الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات الكونية التي تخص معاصريه ، وكل من يصدق بها فيم بعد ممن تنقل له ، وسيأتيك ذكرها في هذا الموضوع ، والمعجزة الكلامية القرآن الكريم الذي فيه كل هدى الله وهو كلامه تعالى الذي فيه تعاليمه ، فهو خالد لكل البشر ولكل عصر ، وهو من خصوصيات ديننا الإسلامي ولم يوجد كمعجزته في الأديان السابقة ، وقد مر عليك البيان .

وما ذلك من تأييد نبينا الكريم بالمعجزات : إلا لكي يؤمن به الناس من معاصريه وينتشر دينه بعده ، وقد تعرفت على المعجزة الخالدة القرآن المجيد ، وهنا نتعرض لمجمل من المعجزات في أحاديث جامعة حاوية لأغلب معجزات نبينا الأكرم ، وإذا أردت التفصيل فعليك بكتاب بحار الأنوار الجزء السابع عشر والجزء الثامن عشر ، وغيره من الكتب المختصة بكتابة سيرة النبي الأكرم و معجزاته ، وقد ألف كتاب في معجزة واحدة وتفصيلها كمعجزة الإسراء والمعراج ، وما عاينه النبي الأكرم وم حكاه ، وكون اسراءه كان ببدنه وروحه صلى الله عليه وآله وسلم .

الإشراق الثاني :
حقق معجزات الأنبياء والأئمة لوجود الدواعي :

إن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أشرف وخاتم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ، فإذا سمعنا بآية أو رواية تذكر معجزة من معجزاته أو معجزات الأنبياء عليهم السلام ، لا يمكن استبعادها أو إنكارها لأنها مهما كانت لا تساوي إحياء الموتى والله تعالى حكاها في القرآن المجيد عن النبي عيسى والنبي موسى وعزير وأهل الكهف وغيرهم عليهم السلام ، والله قادر على كل شيء .

ودواعي : وقوع المعجزة موجودة كما عرفت ، وهي : أما لتثبيت المؤمنين ، أو لإقامة الحجة على المعاندين ودعوتهم للدين .

فوقوع : مثل معجزة المعراج إلى السماء محققة ، وقد فعله الله لعيسى وغيره من الأنبياء ، وكذا لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهكذ مثل رفع الجبل أو تكلم الجبال أو حيوان أو حصاة أو غيرها مع النبي الأكرم ، أو تسخير الرياح والأمطار له فإنها وقعت للنبي موسى ولغيره من الأنبياء عليهم السلام.

بل تسخير : الأرض والسماء للإنسان لمجرد تمكينه لكي يقيم العبودية لله ، وأنعم عليه من نعمها التي لا تحصى كما عرفت ، فكيف بتأييد دين الله وهداه الشامل لجميع البشر إلى يوم القيامة وإقامة الحجة على العباد في كل زمان بعد نشره ، وبالهدى يكون الإنسان إنسانا ويصل لغاية خلقته وللغرض من وجوده ويعد إنسانا كامل وفاضلا وكريما ، وبدون هدى الله فهو أضل من الحيوان ، فكيف لتنبيه الإنسان لصحة دعوة نبيه الأكرم لا يلفت نظره بالمعجزات ؟!

فظهور المعجزات من النبي الأكرم بل وآله الأطهار الحفظة لدينه ضرورية الوجود ، وقد وقعت فعلاً لكلاً منهم في زمانه كما وقعت وحكاها الله عن الأنبياء ، وذلك لأن الله يريد بتمكينه لنبيه الأكرم ولآله الأطهار من المعجزة هو البرهنة على أحقية نبي الرحمة في دعواه للرسالة الإلهية وتبليغها ، ولكي يهدي العباد لدينه ولكل خير وفضيلة وكرامة توصل الإنسان لسعادته في الدنيا والآخرة ،ومع الاطمئنان بالهدى الحق وبكل ما يوصله لليقين ليخلص في عبودية لله وبهدى قويم ودين ذو صراط مستقيم يوصل لكل نعيم .

بل كثرة المعجزات : ما هو إلا دليل وبرهان حق لدعم الله لدينه وبيانه لأحقية أولياءه وأئمة المسلمين في دعواهم ، وهذا واقع مع آله الكرام الحفظة لدينه والأئمة على المسلمين بعده ، فإن منزلتهم بعده لحفظ دينه لا تقل أهميته عن بدأ الدعوة للدين ، وراجع الباب الثالث والرابع والخامس والسادس من صحيفة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الإمام الثامن المحافظ على دين جده رسول الله من موسوعة صحف الطيبين ، ترى معارف عزيزة في كراماته ومعجزاته عليه السلام .

وفي الحقيقة : بعد الإيمان بالله تعالى وتصديق كتابه والإيمان بقدرته وجديته لدعوته لدينه ، وحبه لعباده وإقامة الحجة البالغة عليهم بكل صورة ممكنة ، وحكاية الله تعالى في القرآن المجيد في كتابه العزيز لكثير من معجزات الأنبياء أو لمعجزات نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، لا يمكن إنكار ما يحكى من معجزات النبي الأكرم بل وآله الكرام فيما يذكر من المعجزات ، فإن الله قادر على كل شيء وهو المحيي والمميت وحكى لنا تأيد رسله بالمعجزة ، وهم لم يكونوا بمنزلة خاتم المرسلين ولا دينهم خاتم الأديان كدين نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأيدهم بالمعجزات لإثبات كرامتهم عليه ولبيان صدقهم ولإقامة الحجة على الموافق والمخالف، فكيف لا يؤيد بالمعجزات بنبينا وآله بعده صلى الله عليهم وسلم وهو أشرف الأنبياء والمرسلين وهم بعده حفظة لدينه .

يا طيب فهذه الروايات الآتية : بما تحكي من المعجزات مضمونه ومحتواها إما أنه قد تضافرت الروايات وذكرها جمع من المسلمين ، أو حكى الله عن مثلها ووقوعها للأنبياء في القرآن المجيد ، فلا بعد ولا يمكن إنكار وقوعها للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد سماع كثير منها له وللأنبياء في القرآن المجيد ، كما لا شك في قدرة الله تعالى ولا تواني في دعوته لدينه ، فكل كرامة يكرم الله بها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من الأمور الخارقة للعادة ككرامة له ، أو المعجزة مع التحدي ، فهي ممكنة أو واقعة ولا إشكال فيها ولا شك ولا شبه ، فإن قدرة الله واسعة والدواعي لوقوعها مهيأة ، وهي أما لتثبيت إيمان المؤمنين ، أو لإقامة الحجة على غيرهم .

ونكتفي في بيان أهم معجزات نبينا الأكرم بحديثين شريفين جامعان للمعجزات سواء له أو لباقي الأنبياء الكرام ، فنعرف تأييد الله لهداه وللأنبياء ويقيم الحجة التامة على عباده على طول التأريخ ، فضلا عن زمان نبينا الأكرم محمد أو مع آله صلى الله عليهم وسلم أجمعين ، وسوف نذكر معجزاته كاملة عند الكتابة عن سيرته المباركة بإذن الله تعالى ، وهذان الحديثان جامعان لأغلب المعجزات :

ويكون الأول : في بيان فضله على جميع الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم وعلى آلهم أجمعين .

والحديث الثاني : جامع لبيان بعض معجزاته الكريمة مع أهل زمانه .

ونسأل الله : الإيمان بها ويرزقنا الاطمئنان بهداه ودينه وتطبيقه حتى ليجعلنا علماء حلماء صلحاء ، مع النبي وآله والأنبياء والصديقين والشهداء في محل الكرامة والمجد في عبوديته وجنته ، إنه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الذكر الثاني
معجزات نبينا الأكرم تفوق معجزات جميع الأنبياء

يا طيب : في هذا الحديث الشريف يعرفنا الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إنه ما أعطى الله عزّ وجلّ نبيا درجة ولا مرسلا فضيلة ، إلا وقد جمعها لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وزاد نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء أضعافا مضاعفة من المعجزات والمكارم والتفضيل .

فذكر عليه السلام : في جواب اليهودي الذي كان يسأله عن فضائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أقر الله به أعين المؤمنين ، وكان ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله ، فذكر فخره وشرف الفضائل والمكارم التي خص به الله القادر المتعال والرب القيوم سيد الأنبياء والمرسلين والتي تفوق كل ما أعطي الأنبياء : أدم ، وإدريس ، ونوح ،وهود ،و صالح ، وإبراهيم ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، ويحيى ، وعيسى : عليهم السلام .

فتدبر يا طيب الحديث : فإنه كنز في بيان المعجزات وشرح لم موجود منها في القرآن المجيد ، ويعرفنا كثير من فضائل نبينا ويعرفنا ما خصه الله وكرمه به من المعجزات ، والتي تفوق كل معجزات الأنبياء والمرسلين ، حتى لتتيقن بأن دينه أكمل دين وإنه أشرف الأنبياء والمرسلين وهو خاتم النبيين صلى الله عليهم وآله وسلم أجمعين ، ورزقنا لله نوره وهداه الحق حتى ليجعنا معهم ، إنه أرحم الراحمين ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

ـــ ( قصة الحديث اليهود يسألون أمير المؤمنين ) ـ :

في كتاب الاحتجاج : روي عن موسى بن جعفر عليهما السلام عن أبيه ، عن آبائه ، عن الحسين بن علي عليهم السلام :

أن يهوديا من يهود الشام وأحبارهم : كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء عليهم السلام ، وعرف دلائلهم جاء إلى مجلس فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيهم علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وأبو معبد الجهني.

فقال : يا أمة محمد ما تركتم لنبي درجة ولا لمرسل فضيلة إل نحلتموها نبيكم ، فهل تجيبوني عما أسألكم عنه ؟ فكاع(1) القوم عنه .

فقال علي بن أبي طالب عليه السلام : نعم ما أعطى الله عزّ وجلّ نبيا درجة ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وزاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء أضعافا مضاعفة .

فقال له اليهودي : فهل أنت مجيبني ؟

قال له : نعم ، سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يقر الله به أعين المؤمنين ، ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله.

إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا ذكر لنفسه فضيلة قال : ولا فخر .

وأنا أذكر لك فضائله غير مزر(2) بالأنبياء ولا منتقص لهم ، ولكن شكر الله عزّ وجلّ على ما أعطى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مثل م أعطاهم ، وما زاده الله وما فضله عليهم .

فقال له اليهودي : إني أسألك فأعد له جوابا ؟

فقال له علي عليه السلام : هات .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة آدم ) ـ :

قال له اليهودي : هذا آدم عليه السلام

أسجد الله له ملائكته ، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا ؟

فقال له علي عليه السلام : لقد كان ذلك ، ولئن أسجد الله لآدم ملائكته فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة وإنهم عبدوا آدم من دون الله عزّ وجلّ ، ولكن اعترفوا(3) لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له .

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن الله تعالى صلى عليه في جبروته ، والملائكة بأجمعها ، وتعبد المؤمنين بالصلاة عليه ، فهذه زيادة له يا يهودي .

قال له اليهودي : فإن آدم تاب الله عليه من بعد خطيئته .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك .

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نزل فيه ما هو اكبر من هذا من غير ذنب أتى .

قال الله عز وجل : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }الفتح2 إن محمدا غير مواف القيامة بوزر ول مطلوب فيها بذنب .

ـــ ( معجزة نبينا معجزة وإدريس ) ـ :

قال له اليهودي : فإن هذا إدريس عليه السلام

رفعه الله عزّ وجلّ مكانا عليا ، وأطعمه من تحف الجنة بعد وفاته .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن الله جل ثناؤه قال فيه :

{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } الشرح4 ، فكفى بهذا من الله رفعة ، ولئن أطعم إدريس من تحف الجنة بعد وفاته .

فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أطعم في الدنيا في حياته .

بينما يتضور جوعا(4) فأتاه جبرائيل : بجام من الجنة فيه تحفة ، فهلل الجام وهللت التحفة في يده وسبحا وكبرا وحمدا ، فناوله أهل بيته ففعل الجام مثل ذلك .

فهم أن يناولها بعض أصحابه فتناولها جبرائيل عليه السلام فقال له : كلها فإنها تحفة من الجنة أتحفك الله بها ، وإنها لا تصلح إلا لنبي أو وصي نبي ، فأكل صلى الله عليه وآله وسلم وأكلنا معه (منه) وإني لأجد حلاوته ساعتي هذه.

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة نوح ) ـ :

فقال له اليهودي : فهذا نوح عليه السلام

صبر في ذات الله عزّ وجلّ وأعذار قومه إذ كذب .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم صبر في ذات الله ، وأعذر قومه إذ كذب وشرد وحصب بالحصى وعلاه أبو لهب بسلا شاة (5) فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جابيل(6) ملك الجبال : أن شق الجبال ، وانته إلى أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فاتاه فقال له : إني قد أمرت لك بالطاعة ، فإن أمرت أن أطبق عليهم الجبال(7) فأهلكتهم بها .

قال عليه الصلاة والسلام : إنما بعثت رحمة ، ربِ اهد أمتي فإنهم لا يعلمون ، ويحك يا يهودي : إن نوحا لما شاهد غرق قومه رق عليهم رقة القرابة وأظهر عليهم شفقة ، فقال : {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي }هود45 فقال الله تبارك وتعالى اسمه : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } هود46 أراد جل ذكره إن يسليه بذلك .

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لما غلبت عليه من قومه المعاندة شهر عليهم سيف النقمة ولم تدركه فيهم رقة القرابة ، ولم ينظر إليهم بعين مقة(8) .

قال له اليهودي : فإن نوحا دعا ربه فهطلت له السماء بماء منهمر(9) .

قال له عليه السلام : لقد كان كذلك ، وكانت دعوته دعوة غضب .

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم هطلت له السماء بماء منهمر رحمة ، وذلك انه عليه السلام لما هاجر إلى المدينة أتاه أهلها في يوم جمعة ، فقالو له : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتبس القطر ، واصفر العود ، وتهافت الورق(10) .

فرفع يده المباركة حتى رئي بياض إبطيه ، وما ترى في السماء سحابة ، فما برح حتى سقاهم الله ، حتى أن الشاب المعجب بشبابه لتهمه نفسه في الرجوع إلى منزله فما يقدر من شدة السيل ، فدام أسبوعا .

فأتوه في الجمعة الثانية فقالوا : يا رسول الله لقد تهدمت الجدر ، واحتبس الركب والسفر .

فضحك عليه الصلاة والسلام وقال : هذه سرعة ملالة ابن آدم ، ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم في أصول الشيح ومراتع البقع(11) .

فرئي حوالي المدينة المطر يقطر قطرا ، وما يقع في المدينة قطرة لكرامته على الله عزّ وجلّ .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة هود ) ـ :

قال له اليهودي : فإن هذا هود عليه السلام

قد انتصر الله له من أعدائه بالريح ، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا ؟

قال عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا .

إن الله عزّ وجلّ ذكره : قد انتصر له من أعدائه بالريح يوم الخندق إذ أرسل عليهم ريحا تذرو الحصى ، وجنودا لم يروها ، فزاد الله تبارك وتعالى محمد صلى الله عليه وآله وسلم على هود بثمانية آلاف ملك ، وفضله على هود بأن ريح عاد ريح سخط .

وريح محمد صلى الله عليه وآله وسلم ريح رحمة ، قال الله تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَ }الأحزاب9 .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة وصالح ) ـ :

قال له اليهودي : فإن هذا صالح عليه السلام

أخرج الله له ناقة جعلها لقومه عبرة .

قال علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد عليه وآله السلام أعطي ما هو أفضل من ذلك ، إن ناقة صالح لم تكلم صالحا ولم تناطقه ولم تشهد له بالنبوة .

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم : بينما نحن معه في بعض غزواته إذا هو ببعير قد دنا ثم رغا(12) فأنطقه الله عزّ وجلّ فقال : يا رسول الله إن فلانا استعملني حتى كبرت ويريد نحري ، فأنا أستعيذ بك منه .

فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إلى صاحبه فأستوهبه منه فوهبه له وخلاه .

ولقد كنا معه فإذا نحن بأعرابي معه ناقة له يسوقها وقد استسلم للقطع لما زور عليه من الشهود .

فنطقت له الناقة ، فقالت : يا رسول الله إن فلانا مني برئ ، وإن الشهود يشهدون عليه بالزور ، وإن سارقي فلان اليهودي .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة وإبراهيم ) :

قال له اليهودي : فإن هذا إبراهيم عليه السلام

قد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى ، وأحاطت دلالته بعلم الإيمان به .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، وأعطي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من ذلك قد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى وأحاطت دلالته ( دلائله ) بعلم الإيمان به ، وتيقظ إبراهيم وهو ابن خمسة عشرة سنة ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم كان ابن سبع سنين قدم تجار من النصارى فنزلو بتجرتهم بين الصفا والمروة ، فنظر إليه بعضهم فعرفه بصفته ونعته وخبر مبعثه وآياته صلى الله عليه وآله وسلم .

فقالوا له : يا غلام ما اسمك ؟ قال : محمد .

قالوا : ما اسم أبيك ؟ قال : عبد الله .

قالوا ما اسم هذه ؟ - وأشاروا بأيديهم إلى الأرض – . قال : الأرض .

قالوا : فما اسم هذه ؟ - وأشاروا بأيديهم إلى السماء - قال : السماء .

قالوا : فمن ربهما ؟ قال : الله ، ثم انتهرهم وقال : أتشككونني في الله عزّ وجلّ ؟

ويحك يا يهودي لقد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله عزّ وجلّ مع كفر قومه ، إذ هو بينهم يستقسمون بالأزلام ويعبدون الأوثان ، وهو يقول : لا إله إلا الله .

قال اليهودي: فإن إبراهيم عليه السلام حجب عن نمرود بحجب ثلاثة(13).

فقال علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حجب عمن أراد قتله بحجب خمس : فثلاثة بثلاثة ، واثنان فضل .

قال الله عزّ وجلّ : وهو يصف أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم :

فقال : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا } فهذ الحجاب الأول .

{ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } فهذا الحجاب الثاني .

{ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }يس9 فهذا الحجاب الثالث .

ثم قال :

{ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا }الإسراء45 فهذا الحجاب الرابع .

ثم قال : { فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ }يس8 فهذه حجب خمسة .

قال له اليهودي : فإن إبراهيم عليه السلام قد بهت الذي كفر ببرهان نبوته .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أتاه مكذب بالبعث بعد الموت ، وهو أبي بن خلف الجمحي معه عظم نخر ففركه(14) ثم قال : يا محمد ( من يحيي العظام وهى رميم ) ؟

فأنطق الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بمحكم آياته وبهته ببرهان نبوته ، فقال : ( يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) يس 79 ، فانصرف مبهوتا .

قال له اليهودي: فان هذا إبراهيم جذ(15) أصنام قومه غضبا لله عزّ وجلّ.

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم قد نكس عن الكعبة ثلاث مائة و ستين صنما ، ونفاها من جزيرة العرب ، وإذلال من عبدها بالسيف .

قال له اليهودي : فان هذا إبراهيم عليه السلام قد أضجع ولده وتله(16) للجبين .

فقال له على عليهم السلام : لقد كان كذلك ، ولقد أعطي إبراهيم عليه السلام بعد الإضجاع (الاضطجاع) الفداء .

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم : أصيب بأفجع منه فجيعة ، إنه وقف عليه وآله الصلاة والسلام على عمه حمزة أسد الله ، وأسد رسوله ، وناصر دينه ، وقد فرق بين روحه وجسده ، فلم يبين عليه حرقة ، ولم يفض عليه عبرة ، ولم ينظر إلى موضعه من قلبه وقلوب أهل بيته ليرضي الله عزّ وجلّ بصبره ويستسلم لأمره في جميع الفعال .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لولا أن تحزن صفية لتركته حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير .

ولولا أن يكون سنة بعدي لفعلت ذلك .

قال له اليهودي : فإن إبراهيم عليه السلام قد أسلمه قومه إلى الحريق ، فصبر فجعل الله عزّ وجلّ النار عليه بردا وسلاما ، فهل فعل بمحمد شيئاً من ذلك ؟

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك .

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصير الله السم في جوفه بردا وسلاماً إلى منتهى أجله ، فالسم يحرق إذا استقر في الجوف ، كما أن النار تحرق ، فهذا من قدرته لا تنكره .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة ويعقوب ) ـ :

قال له اليهودي : فإن هذا يعقوب عليه السلام

أعظم في الخير نصيبه ، إذ جعل الأسباط من سلالة صلبه ، ومريم ابنة عمران من بناته .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم في الخير نصيبا منه إذ جعل فاطمة عليها السلام سيدة نساء العالمين من بناته والحسن والحسين من حفدته .

قال له اليهودي : فإن يعقوب عليه السلام قد صبر على فراق ولده حتى كاد يحرض(17) من الحزن .

قال علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، وكان حزن يعقوب حزن بعده تلاق ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم قبض ولده إبراهيم قرة عينه في حياة منه ، وخصه بالاختبار ليعظم له الادخار ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : تحزن النفس ، ويجزع القلب ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول ما يسخط الرب ، في كل ذلك يؤثر الرضا عن الله عز ذكره والاستسلام له في جميع الفعال .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة يوسف ) ـ :

فقال اليهودي : فإن هذا يوسف عليه السلام

قاسى مرارة الفرقة ، وحبس في السجن توقيا للمعصية ، فالقي في الجب وحيدا .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاسى مرارة الغربة وفارق الأهل والأولاد والمال مهاجرا من حرم الله تعالى وأمنه ، فلما رأى الله عزّ وجلّ كآبته واستشعاره الحزن (18) أراه تبارك وتعالى اسمه رؤيا توازي رؤيا يوسف عليه السلام في تأويلها ، وأبان للعالمين صدق تحقيقها ، فقال :

{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ }الفتح27.

ولئن كان يوسف عليه السلام حبس في السجن ، فلقد حبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه في الشعب ثلاثة سنين ، وقطع منه أقاربه وذووا الرحم ، وألجئوه إلى أضيق المضيق ، فلقد كادهم الله عز ذكره له كيدا مستبين ، إذ بعث أضعف خلقه فأكل عهدهم الذي كتبوه بينهم في قطيعة رحمه .

ولئن كان يوسف عليه السلام القي في الجب ، فلقد حبس محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه مخافة عدوه في الغار حتى قال لصاحبه : {ِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }التوبة40 ومدحه الله بذلك في كتابه .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة موسى ) ـ :

فقال له اليهودي : فهذا موسى بن عمران عليه السلام

آتاه الله التوراة التي فيها حكمه .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل منه ، أعطى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم سورة البقرة والمائدة بالإنجيل ، وطواسين وطه ونصف المفصل والحواميم بالتوراة ، وأعطى نصف المفصل والتسابيح بالزبور ، وأعطى سورة بني إسرائيل وبراءة بصحف إبراهيم عليه السلام وصحف موسى عليه السلام ، وزاد الله عز ذكره محمد صلى الله عليه وآله وسلم السبع الطوال(19) ، وفاتحة الكتاب وهي السبع المثاني والقرآن العظيم ، وأعطى الكتاب والحكمة .

قال له اليهودي : فإن موسى عليه السلام ناجاه الله عزّ وجلّ على طور سيناء .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ولقد أوحى الله عزّ وجلّ إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند سدرة المنتهى ، فمقامه في السماء محمود ، وعند منتهى العرش مذكور .

قال له اليهودي : فلقد ألقى الله على موسى عليه السلام محبة منه .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ولقد أعطى الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما هو أفضل منه ، لقد ألقى الله عزّ وجلّ عليه محبة منه ، فمن هذا الذي يشركه في هذا الاسم إذ تم من الله عزّ وجلّ به الشهادة فلا تتم الشهادة إلا أن يقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، ينادى به على المنابر ، فلا يرفع صوت بذكر الله عزّ وجلّ إلا رفع بذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم معه .

قال له اليهودي : لقد أوحى الله إلى أم موسى لفضل منزلة موسى عليه السلام عند الله عزّ وجلّ .

قال علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ولقد لطف الله جل ثناؤه لأم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أوصل إليها اسمه حتى قالت : أشهد والعالمون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منتظر ، وشهد الملائكة على الأنبياء أنهم أثبتوه في الأسفار(20) ، وبلطف من الله عزّ وجلّ ساقه إليها ووصل إليها اسمه لفضل منزلته عنده حتى رأت في المنام أنه قيل لها : إنما في بطنك سيد ، فإذ ولدته فسميه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ، فاشتق الله له اسما من أسمائه ، فالله محمود وهذا محمد(21) صلى الله عليه وآله وسلم .

قال له اليهودي : فإن هذا موسى بن عمران قد أرسله إلى فرعون وأراه الآية الكبرى .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أرسله إلى فراعنة شتى : مثل أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة ، وأبي البختري ، والنضر بن الحارث ، وأبي بن خلف ، ومنبه وبنيه ابني الحجاج ، وإلى الخمسة المستهزئين : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن أبى الطلالة، فأراهم الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى تبين لهم أنه الحق.

قال له اليهودي : لقد انتقم الله لموسى عليه السلام من فرعون .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ولقد أنتقم الله جل اسمه لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفراعنة ، فأما المستهزئون فقد قال الله تعالى : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ }الحجر95 فقتل الله كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد :

فإما الوليد المغيرة : فمر بنبل لرجل من خزاعة قد راشه ووضعه في الطريق فأصابه شظية منه فانقطع أكحله (22) حتى أدماه ، فمات وهو يقول : قتلني رب محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

وأما العاص بن وائل : فإنه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده(23) تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة ، فمات وهو يقول : قتلني رب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - .

وأما الأسود بن عبد يغوث : فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظل بشجرة فأتاه جبرائيل عليه السلام فأخذ رأسه فنطح به الشجرة ، فقال لغلامه : امنع عني هذا ، فقال : ما أرى أحدا يصنع بك شيئا إلا نفسك ، فقتله وهو يقول : قتلني رب محمد .

وأما الأسود بن المطلب : فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليه أن يعمي الله بصره وأن يثكله ولده ، فلما كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع فأتاه جبرائيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي ، وبقى حتى أثكله الله عزّ وجلّ ولده .

وأما الحارث بن أبى الطلالة : فإنه خرج من بينه في السموم(24) فتحول حبشيا فرجع إلى أهله ، فقال : أنا الحارث فغضبوا عليه فقتلوه ، وهو يقول : قتلني رب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - .

وروي(25) أن الأسود بن الحارث : أكل حوتا مالح فأصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه ، فمات وهو يقول : قتلني رب محمد كل ذلك في ساعة واحدة .

وذلك أنهم : كانوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا له : يا محمد ننتظر بك إلى الظهر ، فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك .

فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : في منزله فأغلق عليه بابه مغتما لقولهم ، فأتاه جبرائيل عليه السلام عن الله ساعته ، فقال له : يا محمد السلام يقرأ عليك السلام وهو يقول : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } الحجر94 يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادعهم إلى الإيمان .

قال : يا جبرائيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أو عدوني ؟

قال له : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ }الحجر95 .

قال : يا جبرائيل كانوا الساعة بين يدي .

قال : قد كفيتهم ، فأظهر أمره عند ذلك .

وأما بقية الفراعنة فقتلوا يوم بدر بالسيف ، وهزم الله الجمع وولوا الدبر.

قال له اليهودي : فإن هذا موسى بن عمران قد أعطي العصا فكانت تتحول ثعبانا.

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن رجلا كان يطالب أبا جهل بن هشام بدين ثمن جزور قد اشتراه ، فاشتغل عنه وجلس يشرب ، فطلبه الرجل فلم يقدر عليه ، فقال له بعض المستهزئين : من تطلب ؟ قال : عمرو بن هشام – يعني أبا جهل – لي عليه دين ، قال : فأدلك على من يستخرج الحقوق ؟ قال : نعم .

فدله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أبو جهل يقول : ليت لمحمد إلي حاجة فأسخر به وأرده .

فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : يا محمد بلغني أن بينك و بين عمر وبن هشام حسِن ، وأنا أستشفع بك إليه .

فقام معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى بابه ، فقال له : قم يا أبا جهل فأد إلى الرجل حقه ، وإنما كناه أبا جهل ذلك اليوم .

فقام مسرعا حتى أدى إليه حقه ، فلما رجع إلى مجلسه قال له بعض أصحابه : فعلت ذلك فرقا من محمد .

قال : ويحكم أعذروني ، إنه لما أقبل رأيت عن يمينه رجال بأيديهم حراب تتلألأ ، وعن يساره ثعبانان تصطك أسنانهما وتلمع النيران من أبصارهم ، لو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب بطني ويقضمني الثعبانان .

هذا أكبر مما أعطي ، ثعبان بثعبان موسى عليه السلام ، وزاد الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ثعبانا وثمانية أملاك معهم الحراب .

ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤذي قريشا بالدعاء ، فقام يوما : فسفه أحلامهم ، وعاب دينهم ، وشتم أصنامهم ، وضلل آباءهم .

فاغتموا من ذلك غما شديدا ، فقال أبو جهل : والله للموت خير لنا من الحياة ، فليس فيكم معاشر قريش أحد يقتل محمدا فيُقتل به ؟ فقالوا له : لا ، قال : فأنا أقتله ، فإن شاءت بنو عبد المطلب قتلوني به ، وإلا تركوني . قالوا : إنك إن فعلت ذلك اصطنعت إلى أهل الوادي معروفا لا تزال تذكر به .

قال : إنه كثير السجود حول الكعبة ، فإذا جاء وسجد أخذت حجر فشدخته(26) به . فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فطاف بالبيت أسبوعا ، ثم صلى وأطال السجود .

فأخذ أبو جهل حجرا فأتاه من قبل رأسه ، فلما أن قرب أقبل فحل من قبل رسول الله فاغرا(27) فاه نحوه ، فلما أن رآه أبو جهل فزع منه وارتعدت يده ، وطرح الحجر فشدخ رجله ، فرجع مدمى متغير اللون يفيض عرقا.

فقال له أصحابه : ما رأيناك كاليوم ؟

قال : ويحكم أعذروني فإنه من عنده فحل فاغرا فاه ، فكاد يبتلعني فرميت بالحجر فشدخت رجلي .

قال له اليهودي : فإن موسى عليه السلام قد أعطي اليد البيضاء ، فهل فعل بمحمد شيء من هذا ؟

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن نورا كان يضئ عن يمينه حيثما جلس ، وعن يساره أينما جلس ، وكان يراه الناس كلهم .

قال له اليهودي : فإن موسى عليه السلام قد ضرب له في البحر طريق ، فهل فعل بمحمد شيء من هذا ؟

فقال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا خرجنا معه إلى حنين فإذا نحن بواد يشخب (28) فقدرناه فإذا هو أربع عشرة قامة .

فقالوا : يا رسول الله العدو من ورائنا والوادي أمامنا ، كما قال أصحاب موسى : إنا لمدركون .

فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال : ( اللهم إنك جعلت لكل مرسل دلالة فأرني قدرتك ) وركب صلى الله عليه وآله وسلم فعبرت الخيل لا تندى(29) حوافرها ، والإبل لا تندى أخفافها ، فرجعنا فكان فتحنا فتحا.

قال له اليهودي : فإن موسى عليه السلام قد أعطي الحجر فأنبجست منه اثنتا عشرة عينا.

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل الحديبية وحاصره أهل مكة قد أعطي ما هو أفضل من ذلك ، وذلك أن أصحابه شكوا إليه الظمأ وأصابهم ذلك حتى التفت خواصر الخيل(30) ، فذكروا له صلى الله عليه وآله وسلم ذلك فدعا بركوة يمانية ثم نصب يده المباركة فيها فتفجرت من بين أصابعه عيون الماء ، فصدرنا وصدرت الخيل(31) رواء ، وملأنا كل مزادة(32) وسقاء .

ولقد كنا معه بالحديبية : وإذا ثم قليب (33) جافة ، فأخرج صلى الله عليه وآله وسلم سهما من كنانته فناوله البراء بن عازب فقال له : اذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافة فأغرسه فيها ، ففعل ذلك فتفجرت منه اثنتا عشرة عينا من تحت السهم .

ولقد كان يوم الميضأة(34) عبرة وعلامة للمنكرين لنبوته كحجر موسى حيث دعا بالميضأة فنصب يده فيها ، ففاضت بالماء وارتفع حتى توضأ منه ثمانية آلاف رجل ، وشربوا حاجتهم ، وسقوا دوابهم وحملوا ما أرادو .

قال له اليهودي : فإن موسى عليه السلام قد أعطي المن والسلوى ، فهل أعطي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نظير هذا ؟(35)

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن الله عزّ وجلّ أحل له الغنائم ولامته ولم تحل لا حد قبله ، فهذا أفضل من المن والسلوى ، ثم زاده أن جعل النية له ولأمته بلا عمل عملا صالحا ولم يجعل لا حد من الأمم ذلك قبله ، فإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له عشرة .

قال له اليهودي : فإن موسى عليه السلام قد ظلل عليه الغمام .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، و قد فعل ذلك لموسى عليه السلام في التيه ، و أعطي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أفضل من هذ : إن الغمامة كانت تظلله من يوم ولد إلى يوم قبض في حضره و أسفاره ، فهذا أفضل مما أعطي موسى عليه السلام .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة داود ) ـ :

قال له اليهودي : فهذا داود عليه السلام

قد لين الله له الحديد فعمل منه الدروع .

قال له عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل منه : إنه لين الله عزّ وجلّ له الصم الصخور الصلاب وجعلها غارا(36) ، ولقد غارت الصخرة تحت يده ببيت المقدس لينة حتى صارت كهيئة العجين ، قد رأينا ذلك والتمسناه تحت رايته(37) .

قال له اليهودي : فإن هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبال معه لخوفه .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا ، إنه كان إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي(38) من شدة البكاء ، وقد أمنه الله عزّ وجلّ من عقابه ، فأراد أن يتخشع لربه ببكائه ، ويكون إماما لمن اقتدى به .

ولقد قام عليه وآله السلام عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه ، يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال الله عزّ وجلّ : {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } طه2 بل لتسعد به .

ولقد كان يبكي حتى يغشى عليه ، فقيل له : يا رسول الله أليس الله عزّ وجلّ قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟

قال : بلى أفلا أكون عبداً شكورا ؟

ولئن سارت الجبال وسبحت معه ، لقد عمل محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ما هو أفضل من هذا ، إذ كنا معه على جبل حراء إذ تحرك الجبل فقال له : قر فليس عليك إلا نبي وصديق شهيد ، فقر الجبل مجيبا لأمره ومنتهيا إلى طاعته .

ولقد مررنا معه بجبل : وإذا الدموع تخرج من بعضه ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما يبكيك يا جبل . فقال : يا رسول الله كان المسيح مر بي وهو يخوف الناس من نار وقودها الناس والحجارة ، فأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة .

قال له : لا تخف تلك حجارة الكبريت ، فقر الجبل وسكن وهدأ ، وأجاب لقوله صلى الله عليه وآله وسلم .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة سليمان ) ـ :

قال له اليهودي: فإن هذا سليمان

أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.

فقال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا ، إنه هبط إليه ملك لم يهبط إلى الأرض قبله وهو ميكائيل ؟ فقال له : يا محمد عش ملكا منعما ، وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك ، وتسير معك جبالها ذهبا وفضة ، لا ينقص لك فيما أدخر لكفي الآخرة شيء ، فأوم إلى جبرائيل عليه السلام وكان خليله من الملائكة – فأشار إليه : أن تواضع .

فقال : بل أعيش نبيا عبدا ، آكل يوما ولا آكل يومين ، وألحق بإخواني من الأنبياء من قبلي ، فراده الله تعالى :

الكوثر ، وأعطاه الشفاعة ، وذلك أعظم من ملك الدنيا من أوله إلى آخرها سبعين مرة ، ووعده المقام المحمود ، فإذا كان يوم القيامة أقعده الله تعالى على العرش ، فهذا أفضل مما أعطي سليمان ابن داود عليه السلام .

قال له اليهودي : فإن هذا سليمان قد سخرت له الرياح فسارت به في بلاده غدوها شهر ورواحها شهر .

فقال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا : إنه اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقل من ثلث ليلة حتى انتهى إلى ساق العرش فدنا بالعلم فتدلى ، فدلي له من الجنة رفرف(39) أخضر و غشى النور بصره فرأى عظمة ربه عزّ وجلّ بفؤاده ولم يرها بعينه ، فكان كقاب قوسين بينها وبينه أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، فكان فيما أوحى إليه(40) الآية التي في سورة البقرة قوله تعالى : { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَ فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}البقرة284 وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى أن بعث الله تبارك اسمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعرضت على الأمم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها ، وقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرضه على أمته فقبلوها .

فلما رأى الله تبارك وتعالى منهم القبول علم أنهم لا يطيقونه ، فلما أن صار إلى ساق العرش كرر عليه الكلام ليفهمه فقال : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ } فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم مجيب عنه وعن أمته ، فقال جل ذكره : لهم الجنة والمغفرة علي إن فعلوا ذلك .

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أمال إذا فعلت بنا ذلك { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }البقرة285 يعني المرجع في الآخرة ، قال : فأجابه الله جل ثناؤه : وقد فعلت ذلك بك وبأمتك ، ثم قال عزّ وجلّ : أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الأمم فأبوا أن يقبلوه وقبلتها أمتك ، فحق عليَّ أن أرفعها عن أمتك . فقال { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ لَهَا مَا كَسَبَتْ } من خير { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } من شر .

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع ذلك : أما إذ فعلت ذلك بي وبأمتي فزدني . قال : سل .

قال : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَ } .

قال الله عزّ وجلّ : لست أو اخذ أمتك بالنسيان والخطأ لكرامتك عليَّ ، وكانت الأمم السالفة إذا نسوا ما ذكروا به فتحت عليهم أبواب العذاب ، وقد رفعت ذلك عن أمتك ، وكانت الأمم السالفة إذا أخطئوا اخذوا بالخطأ وعوقبو عليه وقد رفعت ذلك عن أمتك لكرامتك عليَّ .

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إذ أعطيتني ذلك فزدني .

فقال الله تعالى له : سل . قال : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } يعني بالأصر الشدائد التي كانت على من كان قبلنا فأجابه الله إلى ذلك .

فقال تبارك اسمه : قد رفعت عن أمتك الآصار التي كانت على الأمم السالفة . كنت : لا أقبل صلاتهم إلا في بقاع من الأرض معلومة اخترتها لهم وإن بعدت ، وقد جعلت الأرض كلها لأمتك مسجدا وطهورا ، فهذه من الآصار التي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمتك .

وكانت الأمم السالفة : إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم ، وقد جعلت الماء لامتك طهورا ، فهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك.

وكانت الأمم السالفة : تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيت المقدس فمن قبلت ذلك منه أرسلت عليه نارا فأكلته فرجع مسرورا ، ومن لم أقبل ذلك منه رجع مثبورا(41) ، وقد جعلت قربان أمتك في بطون فقرائها ومساكينها فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة ، ومن لم أقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدنيا ، وقد رفعت ذلك عن أمتك وهي من الآصار التي كانت على من كان قبلك .

وكانت الأمم السالفة : صلاتها مفروضة عليها في ظلم الليل وأنصاف النهار ، وهي من الشدائد التي كانت عليهم ، فرفعتها عن أمتك و فرضت عليهم صلواتهم في أطراف الليل والنهار وفي أوقات نشاطهم .

وكانت الأمم السالفة : قد فرضت عليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا وهي من الآصار التي كانت عليهم ، فرفعتها عن أمتك وجعلتها خمسا في خمسة أوقات وهي إحدى وخمسون ركعة ، و جعلت لهم أجر خمسين صلاة .

وكانت الأمم السالفة : حسنتهم بحسنة وسيئتهم بسيئة و هي من الآصار التي كانت عليهم ،فرفعتها عن أمتك وجعلت الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة .

وكانت الأمم السالفة : إذا نوى أحدهم حسنة ثم لم يعملها لم تكتب له وإن عملها كتبت له حسنة ، وإن أمتك إذا هم أحدهم بحسنة ولم يعمله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشرا وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك .

وكانت أمم السالفة : إذا هم أحدهم بسيئة ثم لم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت عليه سيئة ، وإن أمتك إذا هم أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة ، وهذه من الآصار التي كانت عليهم فرفعت ذلك عن أمتك .

وكانت الأمم السالفة : إذا أذنبوا كتبت ذنوبهم على أبوابهم وجعلت توبتهم من الذنوب أن حرمت عليهم بعد التوبة أحب الطعام إليهم ، وقد رفعت ذلك عن أمتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم ، وجعلت عليهم ستورا كثيفة ، وقبلت توبتهم بلا عقوبة ، ولا أعاقبهم بأن احرم عليهم أحب الطعام إليهم .

وكانت الأمم السالفة يتوب أحدهم إلى الله من الذنب الواحد مائة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة ثم لا أقبل توبته دون أن أعاقبه في الدني بعقوبة وهي من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن أمتك ، وإن الرجل من أمتك ليذنب عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو مائة سنة ثم يتوب ويندم طرفة العين فأغفر له ذلك كله .

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إذ أعطيتني ذلك كله فزدني . قال : سل . قال : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } .

فقال تبارك اسمه : قد فعلت ذلك بأمتك ، وقد رفعت عنهم أعظم بلايا الأمم ، وذلك حكمي في جميع الأمم أن لا أكلف خلقا فوق طاقتهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَ أَنْتَ مَوْلاَنَا } قال الله عزّ وجلّ : قد فعلت ذلك بتائبي أمتك .

ثم قال : { فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }البقرة286 قال الله عز اسمه : إن أمتك في الأرض كالشامة البيضاء في الثور الأسود ، هم القادرون وهم القاهرون ، يستخدمون ولا يستخدمون لكرامتك عليَّ ، وحق عليَّ أن اظهر دينك على الأديان حتى لا يبقي في شرق الأرض وغربها دين إلا دينك ، أو يؤدون إلى أهل دينك الجزية .

قال له اليهودي : فإن هذا سليمان عليه السلام سخرت له الشياطين ، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ولقد أعطي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من هذا ، أن الشياطين سخرت لسليمان وهي مقيمة على كفره . وقد سخرت لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشياطين بالإيمان فأقبل إليه الجن التسعة من أشرافهم من جن نصيبين واليمن من بني عمرو بن عامر (42) من الأحجة(43) منهم : شضاة ، ومضاة (44) والهملكان ، والمرزبان ، والمازمان ، ونضاة ، وهصب ، وهاضب(45)وعمرو ، وهم الذين يقول الله تبارك اسمه فيهم : {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ}وهم { يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ }الأحقاف29 .

فأقبل إليه الجن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ، ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفا منهم فبايعوه على الصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد ونصح المسلمين ، فاعتذرو بأنهم قالوا على الله شططا ، وهذا أفضل مما أعطي سليمان ،

سبحان من سخرها لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن كانت تتمرد وتزعم أن لله ولدا ، فلقد شمل مبعثه من الجن والإنس مالا يحصى .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة يحيى ) ـ :

قال له اليهودي : فهذا يحيى بن زكريا .

يقال : إنه أوتي الحكم صبيا والحلم والفهم ، وإنه كان يبكي من غير ذنب ، وكان يواصل الصوم .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن يجيى بن زكريا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهلية .

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أوتي الحكم والفهم صبيا بين عبدة الأوثان وحزب الشيطان ولم يرغب لهم في صنم قط ، ولم ينشط لأعيادهم ، ولم ير منه كذب قط صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أمينا صدوقا حليما ، وكان يواصل صوم الأسبوع والأقل وأكثر ، فيقال في ذلك ، فيقول : إني لست كأحدكم ، إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني ، وكان يبكي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يبتل مصلاه خشية من الله عز وجل من غير جرم .

ـــ ( معجزة نبينا ومعجزة عيسى ) ـ :

قال له اليهودي : فإن هذا عيسى بن مريم

يزعمون أنه تكلم في المهد صبيا .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سقط من بطن أمه واضعا يده اليسرى على الأرض ، ورافعا يده اليمنى إلى السماء يحرك شفتيه بالتوحيد ، وبدا من فيه نور رأى أهل مكة منه قصور بصرى من الشام وما يليها ، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها ، والقصور البيض من إصطخر وما يليها ، ولقد أضاءت الدنيا ليلة ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى فزعت الجن والأنس والشياطين ، وقالوا : حدث في الأرض حدث .

ولقد رئُيت الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل وتسبح وتقدس ، وتضطرب النجوم وتتساقط علامة لميلاده ، ولقد هم إبليس بالظعن في السماء لما رأى من الأعاجيب في تلك الليلة ، وكان له مقعد في السماء الثالثة ، والشياطين يسترقون السمع ، فلم رأوا الأعاجيب أرادوا أن يسترقوا السمع فإذا هموا قد حجبوا من السماوات كلها ، ورموا بالشهب ؛ دلالة لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم .

قال له اليهودي : فإن عيسى يزعمون أنه قد أبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله عز وجل .

فقال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من ذلك ، أبرأ ذا العاهة من عاهته ، فبينم هو جالس صلى الله عليه وآله وسلم إذ سأل عن رجل من أصحابه .

فقالوا : يا رسول الله إنه قد صار من البلاء ، كهيئة الفرخ لا ريش عليه فأتاه عليه السلام ، فإذا هو كهيئة الفرخ من شدة البلاء ، فقال : قد كنت تدعو في صحتك دعاء ؟ قال : نعم ، كنت أقول : يا رب أيما عقوبة معاقبي بها في الآخرة فعجلها لي في الدنيا .

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ألا قلت : ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ؟ فقالها : فكأنم نشط من عقال(46) وقام صحيحا وخرج معنا .

ولقد أتاه رجل من جهينة أجذم يتقطع من الجذام فشكا إليه صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذ قدحا من ماء فتفل فيه ثم قال : امسح به جسدك ففعل فبرئ لم يوجد فيه شيء ، ولقد أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأعرابي أبرص فتفل من فيه عليه فما قام من عنده إلا صحيحا .

ولئن زعمت : أن عيسى عليه السلام أبرأ ذوي العاهات من عاهاتهم .

فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم : بينما هو في بعض أصحابه إذا هو بامرأة فقالت : يا رسول الله إن ابني قد أشرف على حياض الموت ، كلما أتيته بطعام وقع عليه التثاؤب ، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقمنا معه فلما أتيناه قال له : جانب يا عدو الله ولي الله فأنا رسول الله ، فجانبه الشيطان فقام صحيحا وهو معنا في عسكرنا .

ولئن زعمت : أن عيسى عليه السلام أبرأ العميان .

فإن محمداً صلى الله عليه قد فعل أكبر من ذلك : إن قتادة بن ربعي كان رجلا صبيحا ، فلما أن كان يوم أُحد أصابته طعنة في عينه فبدرت حدقته فأخذه بيده ، ثم أتى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إن امرأتي الآن تبغضني . فأخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يده ثم وضعها مكانها فلم تكن تعرف إلا بفضل حسنها وفضل ضوئها على العين الأخرى .

ولقد جرح عبد الله بن عتيك وبانت يده يوم حنين فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمسح عليه يده فلم تكن تعرف من اليد الأخرى .

ولقد أصاب محمد بن مسلمة يوم كعب بن الأشرف مثل ذلك في عينه ويده ، فمسحه رسول الله فلم تستبينا .

ولقد أصاب عبد الله بن أنيس مثل ذلك في عينه فمسحها فما عرفت من الأخرى ، فهذه كلها دلالة لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم .

قال له اليهودي : فإن عيسى بن مريم يزعمون أنه قد أحيى الموتى بإذن الله تعالى .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سبحت في يده تسع حصيات ، تسمع نغماتها في جمودها ولا روح فيها لتمام حجة نبوته .

ولقد كلمته الموتى من بعد موتهم و استغاثوه مما خافوا من تبعته ، ولقد صلى بأصحابه ذات يوم فقال : ما ههنا من بني النجار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنة بثلاثة دراهم لفلان اليهودي ؟ وكان شهيدا .

ولئن زعمت أن عيسى عليه السلام كلم الموتى ، فلقد كان لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ما هو أعجب من هذا ، إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل بالطائف وحاصر أهلها بعثوا إليه بشاة مسلوخة مطلية ( مطبوخة ) بسم ، فنطق الذراع منها فقالت : يا رسول الله لا تأكلني فإني مسمومة ، فلو كلمته البهيمة وهي حية لكانت من أعظم حجج الله عز وجل على المنكرين لنبوته ، فكيف وقد كلمته من بعد ذبح وسلخ وشي(47) .

ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم : يدعو بالشجرة فتجيبه ، وتكلمه البهيمة ، وتكلمه السباع وتشهد له بالنبوة وتحذرهم عصيانه ، فهذا أكثر مم أعطي عيسى عليه السلام .

قال له اليهودي : إن عيسى يزعمون أنه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم فعل ما هو أكثر من هذا ، إن عيسى عليه السلام أنبأ قومه بما كان من وراء حائط . ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أنبأ عن مؤتة(48) وهو عنه غائب ، ووصف حربهم ومن استشهد منهم ، وبينه وبينهم مسيرة شهر .

وكان يأتيه الرجل يريد أن يسأله عن شيء ، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم : تقول أو أقول ؟ فيقول : بل قل يا رسول الله .

فيقول : جئتني في كذا وكذا حتى يفرغ من حاجته.

ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم : يخبر أهل مكة بأسرارهم بمكة حتى لا يترك من أسرارهم شيئاً :

منها : ما كان بين صفوان بن أمية وبين عمير بن وهب إذا أتاه عمير فقال : جئت في فكاك ابني . فقال له : كذبت بل قلت لصفوان وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر ، وقلتم : والله للموت أهون علينا من البقاء مع م صنع محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنا ، وهل حياة بعد أهل القليب ؟

فقلت أنت : لولا عيالي ودين علي لأرحتك من محمد ، فقال صفوان : عليَّ أن أقضي دينك وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن من خير أو شر .

فقلت أنت : فأكتمها علي وجهزني حتى أذهب فأقتله ، فجئت لتقتلني ، فقال : صدقت يا رسول الله ، فأنا أشهد أن لا إله إل الله ، وأنك رسول الله . وأشباه هذا مما لا يحصى .

قال له اليهودي : فإن عيسى يزعمون أنه خلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله عز وجل .

فقال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم قد فعل ما هو شبيه بهذا أخذ يوم حنين حجرا ، فسمعنا للحجر تسبيح وتقديسا ، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم للحجر : انفلق فانفلق ثلاث فلق ، نسمع لكل فلقة منها تسبيحا لا يسمع للأخرى .

ولقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته ولكل غصن منها تسبيح وتهليل و تقديس ، ثم قال لها : انشقي فانشقت نصفين ، ثم قال لها : التزقي فالتزقت ، ثم قال لها : اشهدي لي بالنبوة فشهدت ، ثم قال لها : ارجعي إلى مكانك بالتسبيح والتهليل والتقديس ، ففعلت ، وكان موضعها بجنب الجزارين بمكة .

قال له اليهودي : فإن عيسى يزعمون أنه كان سياحا .

فقال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت سياحته في الجهاد ، واستنفر في عشر سنين مالا يحصى من حاضر وباد ، وأفنى فئاما(49) عن العرب من منعوت بالسيف ، لا يداري بالكلام ولا ينام إلا عن دم ، ولا يسافر إلا وهو متجهز لقتال عدوه .

قال له اليهودي : فإن عيسى يزعمون أنه كان زاهدا .

قال له علي عليه السلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أزهد الأنبياء عليهم السلام ، كان له ثلاث عشرة زوجة سوى من يطيف به من الإماء ، ما رفعت له مائدة قط وعليها طعام ، وما أكل خبز بر قط ، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قط ، توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأربعة دراهم ، ما ترك صفراء ولا بيضاء مع ما وطئ(50) له من البلاد ومكن له من غنائم العباد ، ولقد كان يقسم في اليوم الواحد ثلاث مائة ألف وأربعمائة ألف ، ويأتيه السائل بالعشي فيقول : والذي بعث محمدا بالحق ما أمسى في آل محمد صاع من شعير ولا صاع من بر ولا درهم ولا دينار .

قال له اليهودي : فإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله ، وأشهد أنه ما أعطى الله نبيا درجة ولا مرسل فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وزاد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء صلوات الله عليهم أضعاف درجة .

فقال ابن عباس لعلي بن أبي طالب عليه السلام : أشهد يا أب الحسن أنك من الراسخين في العلم ، فقال : ويحك ومالي لا أقول ما قلت في نفس من استعظمه الله عز وجل في عظمته ، فقال جلت عظمته : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم 4.

المصدر : بحار الأنوار ج10ص28ب2ح1 عن الاحتجاج : 111 – 120.

توضيح وبيان للحديث ذكر في بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله :

(1) كاع عنه : جبن عنه وهابه . (2) أزرى به وأزراه : عابه ووضع من حقه . (3)اعترافا في خ ل أي نسخه بدل ، وكل ما نضعه بين قوسين في المتن فهو لنسخ بدل .(4) أي يتلوى من وجع الجوع.

(5) في المصدر بسلا ناقة وشاة ،السلى : جلدة يكون فيها الولد في بطن أمه وإذا انقطع في البطن هلكت الأم والولد . (6) في نسخة : إلى حامل . وفى أخرى : إلى جاجائيل . وفى ثالثة . حبابيل .(7) في نسخة : وان أمرت أطبقت عليهم الجبال . (8) المقة : بكسر الميم : المحبة .

(9) انهمر الماء : انسكب وسال ، هطل المطر : نزل متتابعا متفرقا عظيم القطر والمنهمر : الغزير ، أي ماء شديد الانصباب سريع التهطال . (10)أي تساقط وتتابع . (11) والشيح بالكسر : نبت تنبت بالبادية قوله صلوات الله عليه : ( ومراتع البقع ) البقع بالضم جمع الأبقع وهو ما خالطا بياضه لون آخر ، ولعل المراد الغراب الأبقع فإنه يفر من الناس و يرتع في البوادي ويحتمل أن يكون في الأصل البقيع أو لفظ آخر ، والظاهر أن فيه تصحيفا .

(12) رغا البعير : صوت وضج .(13)قوله : ( بحجب ثلاثة ) لعل المراد البطن والرحم والمشيمة حيث أخفى حمله عن نمرود ، أوفي الغار بثلاثة حجب ، أو أحده عند الحمل والثاني في الغار والثالث في النار . (14) نخر العظم : بلى وتفتت ، فهو ناخر ونخر ، فرك الشيء : حكه حتى تفتت .

(15) جذه : كسره فانكسر .(16) تله : أي صرعه . (17) حرض : كان مضنى مرضا فاسدا أي حتى كاد يشرف على الهلاك من الحزن . (18) الكأبة : الغم وسوء الحال والانكسار من الحزن . استشعر الخوف أي جعله شعار قلبه .

(19) والسبع الطوال على المشهور من البقرة إلى الأعراف ، والسابعة سورة يونس أو الأنفال وبراءة جميعا ، لأنهما سورة واحدة عند بعض والمراد هنا م يبقى بعد إسقاط البقرة والمائدة وبراءة ، وقوله : ( والقرآن العظيم ) أريد به بقية القرآن ، أو المراد به الفاتحة أيضا ، وقوله : ( وأعطي الكتاب ) إشارة إلى البقية قال الطريحى في مجمع البحرين : المفصل سمى به لكثرة ما يقع فيه من فصول التسمية بين السور وقيل لقصر سوره ، واختلف في أوله فقيل من سورة ق ، وقيل : من سورة محمد ، وقيل : من سورة الفتح ، وعن النووي مفصل القرآن من محمد ، وقصاره من الضحى إلى آخره ، ومطولاته إلى عم ، ومتوسطاته إلى الضحى ، وفى الخبر المفصل ثمان وستون سورة انتهى .

(20) الأسفار : جمع السفر بالكسر فالسكون : التوراة.

(21)قوله : عليه السلام : ( في هذا الاسم ) يحتمل أن يكون المعنى أن اسمه صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أن الله تعالى ألقى محبته على العباد لدلالته على كونه محمودا في السماء والأرض ، أو يكون المراد بالاسم الذكر ، فكثير ما يطلق عليه مجازا ،من الاسم ، والحاصل أنه من الذي يشركه في أن لايتم الشهادة لله بالوحدانية إلا بذكر اسمه والشهادة له بالنبوة ؟ كل هذا إذا قرء ( من ) بالفتح ، وبمكن أن يقرأ بالكسر فيوجه بأحد الوجهين الأخيرين.

(22) النبل : السهام العربية ويقال : رشت السهم : إذا ألزقت عليه الريش والشظية : الفلقه من العصا ونحوها والأكحل : عرق في اليد يفصد (23)أي فتدحرج . (24) السموم : الريح الحارة . (25)قوله : ( وروي ) الظاهر أنه كلام الطبرسي رحمه الله أدخله بين الخبر . (26) والشدخ : كسر الشيء الأجوف أي شدخت رأسه به. (27) ويقال : فغر فاه ، أي فتحه .(28) أي يسيل . (29) أي لا تبتل

(30) قوله : ( وحتى التفت خواصر الخيل ) أي جنبتاها من شدة العطش . (31) صدر عن الماء : رجع عنه .(32) المزادة : ما يوضع فيه الزاد . (33) القليب : البئر وقيل : البئر القديمة . (34) الميضأة والميضاءة : الموضع يتوضأ فيه المطهرة يتوضأ منها .(35) في نسخة : فهل فعل بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا ؟

(36)قوله عليه السلام : ( وجعلها غارا ) يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الغار أحدث الغار ودخل فيه ولم يكن ثمة غار ، وأما صخرة بيت المقدس فكان ليلة المعراج . (37) وأما قوله : ( قد رأينا ذلك والتمسناه تحت رايته ) أي رأينا تحت رايته عليه الصلاة والسلام أمثال ذلك كثيرا والمراد بالراية العلامة أي رأى بعض الصحابة ذلك تحت علامته في بيت المقدس ، ويلوح لي أن فيه تصحيفا ، وكان في الأصل ( وجعلها هارا ) فيكون إشارة إلى ما سيأتي في أبواب معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم أن في غزوة الأحزاب بلغوا إلى أرض صلبة لا تعمل فيها المعاول ، فصب صلى الله عليه وآله وسلم عليها ماء فصارت هائرة متساقطة فقوله : ( قد رأين ذلك ) إشارة إلى هذا .

(38) وقال الجزري : فيه : ( إنه كان يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء ) أي خنين من الجوف بالخاء المعجمة وهو صوت البكاء ، وقيل : هو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء انتهى والمرجل كمذبر : القدر والأثافي : الأحجار يوضع عليه القدر .

(39) والرفرف : ثياب خضر يتخذ منها المحابس وتبسط ، وكسر الخباء ، وجوانب الدرع وما تدلى منها ، وما تدلى من أغصان الأيكة وفضول المحابس والفرش وكل م فضل فثنى والفراش ، ذكرها الفيروز آبادي .

(40)قوله عليه السلام : ( فكان فيما أوحى إليه ) لعل المعنى أنه كانت تلك الآية فيما أوحى الله إليه قبل تلك الليلة ليتأتى تبليغها أمته وقبولهم لها ، فيكون ذكرها لبيان سبب ما أوحى إليه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الوقت ، ويحتمل أن يكون التبليغ إلى أمير المؤمنين عليه السلام من ذلك المكان في تلك الليلة قبل الوصول إلى ساق العرش ، ويحتمل أن يكون التبليغ بعد النزول ويكون قوله : ( فلما رأى الله تعالى منهم القبول ) أي علم الله منهم أنهم سيقبلونها . والأول أظهر .

(41)والثبور : الهلاك والخسران . (42)فاقبل إليه من الجن التسعة من أشرافهم ، واحد من جن نصيبين والثمان من بنى عمرو بن عامر . (43)قوله عليه السلام : من الاحجة جمع حجيج بمعنى مقيم الحجة على مذهبه ، وفي بعض النسخ : من الأجنحة ، أي الرؤساء ، أو اسم قبيلة منهم .(44)في هامش المصدر : شصاة ومصاة خ ل

(45) في المصدر : وهاضب وهضب . (46) أي أطلق من عقال .

(47)قوله عليه السلام : ( وشي ) أي بعد ما كان مشويا مطبوخا.

(48) ومؤتة بضم الميم وسكون الهمزة وفتح التاء : اسم موضع قتل فيه جعفر بن أبى طالب ، ومرت قصته وكيف أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شهادته وغيرها . (49) والفئام بالكسر مهموزا : الجماعة الكثيرة كما ذكره اللغويون ، وقد فسر في بعض أخبارنا بمائة ألف .(50) قوله عليه السلام : ( مع ما وطئ له من البلاد ) على بناء المجهول من باب التفعيل ، أي مهد وذلل ويسر له فتحها والاستيلاء عليه ، من قولهم : فراش وطئ أي لا يؤذي جنب النائم .

الذكر الثالث
حديث جامع لبعض معجزات لنبينا الأكرم محمد
صلى الله عليه وآله وسلم

ـــ ( قصة حديث المعجزات وسبب ذكره ) :

في قرب الإسناد : عن الحسن بن ظريف ، عن معمر ، عن الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال :

كنت عند أبي عبد الله عليه السلام ذات يوم وأنا طفل خماسي(1) إذ دخل عليه نفر من اليهود فقالوا : أنت ابن محمد نبي هذه الأمة ، والحجة على أهل الأرض ؟

قال لهم : نعم .

قالوا : إنا نجد في التوراة إن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم وولده الكتاب والحكم والنبوة ، وجعل لهم الملك والإمامة ، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لا تتعداهم النبوة والخلافة والوصية ، فما بالكم قد تعداكم ذلك ، وثبت في غيركم ، ونلقاكم مستضعفين مقهورين ، لا يرقب فيكم ذمة نبيكم(2) ؟

فدمعت عينا أبي عبد الله عليه السلام ، ثم قال : نعم لم تزل أنبياء الله(3) مضطهدة(4) مقهورة مقتولة بغير حق ، والظلمة غالبة ، وقليل من عباد الله الشكور .

قالوا : فإن الأنبياء وأولادهم علموا من غير تعليم ، وأوتو العلم تلقينا(5) ، وكذلك ينبغي لأئمتهم وخلفائهم وأوصيائهم ، فهل أوتيتم ذلك ؟

فقال أبو عبد الله عليه السلام : أدنه يا موسى ، فدنوت فمسح يده على صدري ، ثم قال : اللهم أيده بنصرك بحق محمد وآله .

ثم قال : سلوه عما بدا لكم .

قالوا : وكيف نسأل طفلا لا يفقه ؟

قلت : سلوني تفقها ، ودعوا العنت(6) .

قالوا : أخبرنا عن الآيات التسع التي أوتيها موسى بن عمران .

قلت : العصا ، وإخراجه يده من جيبه بيضاء ، والجراد ، والقمل ، والضفادع، والدم ، ورفع الطور ، والمن والسلوى آية واحدة ، وفلق البحر .

قالوا : صدقت ، فما أعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من أرسل إليه ؟

قلت : آيات كثيرة أعدها إن شاء الله ، فاسمعوا وعوا وافقهوا .

ـــ ( معجزات نبينا قبل البعثة ) ـ :

أما أول ذلك : فإن أنتم تقرون أن الجن كانوا يسترقون السمع قبل مبعثه فمنعت في أوان(7) رسالته بالرجوم ، وانقضاض النجوم ، وبطلان الكهنة والسحرة .

ومن ذلك : كلام الذئب يخبر بنبوته ، واجتماع العدو والولي على صدق لهجته ، وصدق أمانته ، وعدم جهله أيام طفوليته ، وحين أيفع ، وفتى(8) وكهلا ، لا يعرف له شكل(9) ، ولا يوازيه مثل .

ومن ذلك : إن سيف بن ذي يزن حين ظفر بالحبشة وفد عليه(10) قريش فيهم عبد المطلب ، فسألهم عنه ، ووصف لهم صفته ،فأقروا جميعا بأن هذه الصفة في محمد ، فقال : هذا أوان مبعثه ومستقره أرض يثرب وموته بها .

ومن ذلك : إن أبرهة بن يكسوم(11) قاد الفيلة إلى بيت الله الحرام ليهدمه قبل مبعثه ، فقال عبد المطلب : إن لهذا البيت رب يمنعه ، ثم جمع أهل مكة فدعا ، وهذا بعدما أخبره سيف بن ذي يزن ، فأرسل الله تبارك وتعالى عليهم طيرا أبابيل ودفعهم عن مكة وأهلها .

ـ( معجزات نبينا بعد البعثة في مكة )ـ :

ومن ذلك : إن أبا جهل عمرو بن هشام المخزومي أتاه وهو نائم خلف جدار ، ومعه حجر يريد أن يرميه به ، فالتصق بكفه .

ومن ذلك : إن أعرابيا باع ذودا له من أبي جهل فمطله(12) بحقه ، فأتى قريشا فقال : أعدوني على أبي الحكم فقد لوى بحقي ، فأشاروا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي في الكعبة .

فقالوا : ائت هذا الرجل فاستعديه عليه ، وهم يهزؤون بالإعرابي ، فأتاه فقال له ، يا عبد الله أعدني على عمرو بن هشام فقد منعني حقي ، قال : نعم ، فانطلق معه فدق على أبي جهل بابه ، فخرج إليه متغيرا فقال له ما حاجتك ؟ قال : أعط الإعرابي حقه .

قال : نعم ، وجاء الإعرابي إلى قريش فقال : جزاكم الله خيرا ، انطلق معي الرجل الذي دللتموني عليه فأخذ حقي ، وجاء أبو جهل فقالو : أعطيت الإعرابي حقه ؟ قال : نعم ، قالوا : إنما أردنا أن نغريك بمحمد(13) ونهزأ بالإعرابي ، قال : يا هؤلاء دق بابي فخرجت إليه ، فقال : أعط الإعرابي حقه ، وفوقه مثل الفحل فاتحا فاه كأنه يريدني ، فقال : أعطه حقه ، فلو قلت : لا ، لأبتلع رأسي ، فأعطيته .

ومن ذلك : إن قريشا أرسلت النضر بن الحارث وعلقمة بن أبي معيط بيثرب إلى اليهود ، وقالوا لهما : إذا قدمتما عليهم فسائلوهم عنه ، وهم قد سألوهم عنه ، فقالوا : صفوا لنا صفته ، فوصفوه .

وقالوا : من تبعه منكم ؟ قالوا : سفلتنا ، فصاح حبر منهم فقال : هذا النبي الذي نجد نعته في التوراة ، ونجد قومه أشد الناس عداوة له .

ومن ذلك : إن قريشا أرسلت سراقة بن جعشم حتى يخرج إلى المدينة في طلبه فلحق به ، فقال صاحبه : هذا سراقة يا نبي الله .

فقال : اللهم أكفنيه ، فساخت قوائم ظهره(14) . فناداه يا محمد خل عني بموثق أعطيكه أن لا أناصح غيرك ، وكل من عاداك لا أصالح . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إن كان صادق المقال فأطلق فرسه ، فأطلق فوفى ، وما انثنى بعد ذلك (15) .

ـ( معجزات نبينا في المدينة المنورة ) :

ومن ذلك : أن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس أتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال عامر لأزيد : إذا أتيناه فأنا أشاغله عنك فاعله بالسيف(16) ، فلما دخلا عليه قال عامر : يا محمد حال(17) . قال : لا حتى تقول : لا إله إلا الله ، وإني رسول الله . وهو ينظر إلى أربد ، وأربد لا يخبر شيئا(18) ، فلما طال ذلك نهض وخرج ، وقال لأربد : ما كان أحد على وجه الأرض أخوف منك على نفسه فتكا منك ، ولعمري لا أخافك بعد اليوم .

فقال له أربد : لا تعجل فإني ما هممت بما أمرتني به إل دخلت الرجال بيني وبينك حتى ما أبصر غيرك فأضربك .

ومن ذلك : إن أربد بن قيس والنضر بن الحارث اجتمعا على أن يسألاه عن الغيوب ، فدخلا عليه فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أربد فقال : يا أربد أتذكر ما جئت له يوم كذا وكذا ومعك عامر بن الطفيل ؟ وأخبر بم كان منهما ، فقال أربد : والله ما حضرني وعامرا أحد وما أخبرك بهذا إلا ملك السماء ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله .

ـ( معجزة إجابة نبينا عن الأسئلة قبل أن يُسأل )ـ :

ومن ذلك : أن نفرا من اليهود أتوه فقالوا لأبي الحسن جدي : استأذن لنا على ابن عمك نسأله ، فدخل علي عليه السلام فأعلمه

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وما يريدون مني ؟ فإني عبد من عبيد الله ، لا أعلم إلا ما علمني ربي ، ثم قال : أذن لهم فدخلوا عليه .

فقال : أتسألوني عما جئتم له أم أنبئكم ؟ قالوا : نبئنا .

قال : جئتم تسألوني عن ذي القرنين ، قالوا : نعم .

قال : كان غلاما من أهل الروم ، ثم ملك وأتى مطلع الشمس ومغربه ، ثم بنى السد فيها ، قالوا : نشهد أن هذا كذا .

ومن ذلك : أن وابصة بن معبد الأسدي أتاه فقال : لا أدع من البر والأثم شيئا إلا سألته عنه ، فلما أتاه قال له بعض أصحابه : إليك ي وابصة عن رسول الله . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : دعه ، أدنه يا وابصة ، فدنوت . فقال : أتسأل عما جئت له أو أخبرك ؟ قال : أخبرني .

قال : جئت تسأل عن البر والأثم ، قال : نعم .

فضرب بيده على صدره ثم قال : يا وابصة البر ما اطمأنت به النفس والبر ما اطمأن به الصدر ، والأثم ما تردد في الصدر وجال في القلب ، وإن أفتاك الناس وأفتوك .

ومن ذلك : إنه أتاه وفد عبد القيس فدخلوا عليه ، فلما أدركو حاجتهم عنده قال : ائتوني بتمر أهلكم مما معكم ، فأتاه كل رجل منهم بنوع منه .

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا يسمى كذا وهذ يسمى كذا . فقالوا : أنت أعلم بتمر أرضنا ، فوصف لهم أرضهم ، فقالو :أدخلتها ؟ قال : لا ، ولكن فسح لي(19) فنظرت إليها .

فقام رجل منهم فقال : يا رسول الله هذا خالي وبه خبل(20) فأخذ بردائه ، ثم قال : اخرج عدو الله ثلاثا ثم أرسله فبرأ .

ـ( معجزة فهم نبينا لحال الحيوانات وأخباره عنها )ـ :

وأتوه بشاة هرمة فأخذ أحد أذنيها بين أصابعه فصار لها ميسما(21) .

ثم قال : خذوها فإن هذه السمة في آذان ما تلد إلى يوم القيامة ، فهي توالد وتلك في آذانها معروفة غير مجهولة .

ومن ذلك : إنه كان في سفر فمر على بعير قد أعيا(22) وقام مبركا(23) على أصحابه ، فدعا بماء فتمضمض منه في إناء وتوضأ ، وقال : افتح فاه فصب في فيه ، فمر ذلك الماء على رأسه وحاركه ، ثم قال : اللهم احمل خلادا وعامر ورفيقيهما وهما صاحبا الجمل ، فركبوه وإنه ليهتز بهم أمام الخيل .

ومن ذلك : إن ناقة لبعض أصحابه ضلت في سفر كانت فيه .

فقال صاحبها : لو كان نبي لعلم أين الناقة .

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : الغيب لا يعلمه إلا الله(24) ، انطلق يا فلان فإن ناقتك بموضع كذا وكذا ، قد تعلق زمامها بشجرة ، فوجدها كما قال .

ومن ذلك : إنه مر على بعير ساقط فتبصبص له(25) ، فقال : إنه ليشكو شر ولاية أهله له ، وسأله أن يخرج عنهم.

فسأل عن صاحبه فأتاه فقال : بعه وأخرجه عنك ، فأناخ البعير يرغو ، ثم نهض وتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يسألني أن أتولى أمره ، فباعه من علي عليه السلام فلم يزل عنده إلى أيام صفين .

ومن ذلك : إنه كان في مسجده إذ أقبل جمل ناد(26) حتى وضع رأسه في حجره ، ثم خرخر(27) ، فقال النبي صلى الله عليه آله : يزعم هذا أن صاحبه يريد أن ينحره في وليمة على ابنه فجاء يستغيث ، فقال رجل : يا رسول الله هذا لفلان وقد أراد به ذلك ، فأرسل إليه وسأله أن لا ينحره ففعل .

ـ( معجزة استجابة دعاء نبينا على أقوام )ـ :

ومن ذلك : إنه دعا على مضر فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر(28) ، واجعلها عليهم كسني يوسف ، فأصابهم سنون(29) ، فأتاه رجل فقال : فوالله ما أتيتك حتى لا يخطر لنا فحل ولا يتردد منا رائح(30) .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " اللهم دعوتك فأجبتني ، وسألتك فأعطيتني ، اللهم : فاسقنا غيثا مغيثا مريئا سريعا(31) طبقا سجالا عاجلا غير رائث(32) ، نافعا غير ضار " فما قام حتى ملا كل شيء ، ودام عليهم جمعة ، فأتوه فقالوا : يا رسول الله انقطعت سبلنا وأسواقنا ، فقال النبي صلى الله عليه و2آله وسلم : حوالينا ولا علين ، فانجابت السحابة عن المدينة وصار فيما حولها وأمطروا أشهرا(33) .

ـ( معجزة تضليل الغمام لنبينا ومعرفة الراهب بنبوته )ـ :

ومن ذلك : أنه توجه إلى الشام قبل مبعثه مع نفر من قريش فلم كان بحيال بحير(34) الراهب نزلوا بفناء ديره ، وكان عالما بالكتب وقد كان قرأ في التوراة مرور النبي صلى الله عليه وآله وسلم به ، وعرف أوان ذلك ، فأمر فدعي إلى طعامه ، فأقبل يطلب الصفة في القوم فلم يجدها .

فقال : هل بقي في رحالكم أحد ؟ فقالوا : غلام يتيم .

فقام بحير الراهب : فاطلع ، فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نائم وقد أظلته سحابة ، فقال للقوم : ادعوا هذا اليتيم ففعلوا ، وبحير مشرف عليه وهو يسير والسحابة قد أظلته ، فأخبر القوم بشأنه وأنه سيبعث فيهم رسولا وما يكون من حاله وأمره ، فكان القوم بعد ذلك يهابونه ويجلونه ، فلما2 قدموا أخبروا قريشا بذلك (35) ، وكان معهم عبد خديجة بنت خويلد ، فرغبت في تزويجه وهي سيدة نساء قريش ، وقد خطبها كل صنديد ورئيس قد أبتهم ، فزوجته نفسها بالذي بأنها من خبر بحير (36) .

ـ( معجزة إطعام نبينا للكثير بطعام قليل )ـ :

ومن ذلك : أنه كان بمكة قبل الهجرة أيام ألبت عليه قومه وعشائره ، فأمر عليا أن يأمر خديجة أن تتخذ له طعاما ففعلت ، ثم أمره أن يدعو له أقرباءه من بني عبد المطلب فدعا أربعين رجلا .

فقال : احضر لهم طعاما يا علي ، فأتاه بثريدة وطعام يأكله الثلاثة والأربعة ، فقدمه إليهم ، وقال : كلوا وسموا ، فسمى (37) ولم يسم القوم .

فأكلوا وصدروا شبعى(38) ، فقال أبو جهل : جاد ما سحركم محمد ، يطعم من طعام ثلاثة رجال أربعين رجلا ، هذا والله السحر الذي لا بعده .

فقال علي عليه السلام : ثم أمرني بعد أيام فاتخذت له مثله ودعوتهم بأعيانهم فطعموا وصدروا .

ومن ذلك : أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : " دخلت السوق فابتعت لحما بدرهم ، وذرة بدرهم ، وأتيت به فاطمة عليها السلام حتى إذا فرغت من الخبز والطبخ قالت : لو دعوت أبي ، فأتيته وهو مضطجع وهو يقول : أعوذ بالله من الجوع ضجيعا ، فقلت له : يا رسول الله إن عندنا طعاما ، فقام واتك علي ومضينا نحو فاطمة عليه السلام .

فلما دخلنا قال : هلم طعامك يا فاطمة ، فقدمت إليه البرمة(39) والقرص ، فغطى القرص وقال : " اللهم بارك لنا في طعامنا " .

ثم قال : اغرفي لعائشة ، فغرفت ، ثم قال : اغرفي لام سلمة فغرفت ، فما زالت : تغرف حتى وجهت إلى نسائه التسع قرصة قرصة ومرقا .

ثم قال : اغرفي لابنيك وبعلك ، ثم قال : اغرفي وكلي وأهدي لجاراتك ، ففعلت وبقي عندهم أياما يأكلون .

ـ( معجزة عدم تأثر نبينا بالسم )ـ :

ومن ذلك : إن امرأة عبد الله بن مسلم أتته بشاة مسمومة ، ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر بن البراء بن عازب ، فتناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذراع ، وتناول بشر الكراع(40) ، فأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلاكها ولفظها ، وقال : إنها لتخبرني أنها مسمومة ، وأما بشر فلاك المضغة وابتلعها فمات ، فأرسل إليها فأقرت ، فقال : ما حملك على ما فعلت ؟

قالت : قتلت زوجي وأشراف قومي ، فقلت : إن كان ملكا قتلته ، وإن كان نبيا فسيطلعه الله تبارك وتعالى على ذلك .

ـ( معجزة إطعام من حضر بحفر الخندق بشاة )ـ :

ومن ذلك : إن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : رأيت الناس يوم الخندق يحفرون وهم خماص(41) ، ورأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحفر وبطنه خميص . فأتيت أهلي فأخبرتها ، فقالت : ما عندنا إلا هذه الشاة ، ومحرز(42) من ذرة ، قال : فاخبزي ، وذبح الشاة وطبخوا شقها وشوو الباقي حتى إذا أدرك ، أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله اتخذت طعاما فأتني أنت ومن أحببت .

فشبك أصابعه في يده ، ثم نادى ألا إن جابرا يدعوكم إلى طعامه ، فأتى أهله مذعورا خجلا فقال لها : هي الفضيحة قد جفل(43) بها أجمعين .

فقالت : أنت دعوتهم أم هو . قال : هو . قالت : فهو أعلم بهم ، فلما رآنا أمر بالأنطاع(44) ، فبسطت على الشوارع ، وأمره أن يجمع (45) التواري - يعني قصاعا كانت من خشب - والجفان ، ثم قال : ما عندكم من الطعام ؟ فأعلمته ، فقال : غطوا السدانة(46) والبرمة والتنور واغرفوا ، وأخرجوا الخبز واللحم وغطوا ، فما زالوا يغرفون وينقلون ولا يرونه ينقص شيئا حتى شبع القوم وهم ثلاثة آلاف ، ثم أكل جابر وأهله وأهدو وبقي عندهم أياما .

ـ( معجزة إخباره عن فضله وبركته على سعد)ـ :

ومن ذلك : أن سعد بن عبادة الأنصاري أتاه عشية وهو صائم فدعاه إلى طعامه ، ودعا معه على بن أبي طالب عليه السلام ، فلما أكلوا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نبي ووصي ، يا سعد أكل طعامك الأبرار ، وأفطر عندك الصائمون ، وصلت عليكم الملائكة ، فحمله سعد على حمار قطوف ، وألقى عليه قطيفة ، فرجع الحمار وإنه لهملاج(47) ما يساير .

ـ( معجزة بركة نبينا على الماء فيكفي أصحابه) :

ومن ذلك : أنه أقبل من الحديبية وفي الطريق ماء يخرج من وشل(48) بقدر ما يروي الراكب والراكبين ، فقال : من سبقنا إلى الماء فلا يستقين منه ، فلما انتهى إليه دعا بقدح فتمضمض فيه ثم صبه في الماء ، ففاض الماء فشربو وملا وأداواهم ومياضيهم(49) وتوضئوا . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لان بقيتم أو بقى منكم ليسقين(50) بهذا الوادي يسقى ما بين يديه من كثرة مائه ، فوجدوا ذلك كما قال .

ـ( معجزة نبينا في أخباره بالغيوب)ـ :

ومن ذلك : إخباره عن الغيوب وما كان وما يكون فوجدوا ذلك موافقا لما يقول .

ومن ذلك : أنه أخبر صبيحة الليلة التي اسري به بما رأى في سفره ، فأنكر ذلك بعض وصدقه بعض ، فأخبرهم بما رأى من المارة والممتارة (51) ، وهيأتهم ومنازلهم وما معهم من الأمتعة ، وإنه رأى عيرا أمامها بعير أورق ، وأنه يطلع يوم كذا من العقبة مع طلوع الشمس .

فعدوا يطلبون تكذيبه للوقت الذي وقته لهم ، فلما كانوا هناك طلعت الشمس ، فقال بعضهم : كذب الساحر .

وبصر آخرون بالعير قد أقبلت يقدمها الأورق(52) فقالو : صدق ، هذه ، نعم قد أقبلت .

ـ( معجزة نبينا حين يسقي صحبه الماء في تبوك)ـ :

ومن ذلك : إنه أقبل من تبوك فجهدوا عطشا وبادر الناس إليه يقولون : الماء الماء يا رسول الله ، فقال لأبي هريرة : هل معك من الماء شيء ؟ قال : كقدر قدح في ميضاتي ، قال : هلم ميضاتك ، فصب ما فيه في قدح ودعا وأوعاه(53) وقال : ناد من أراد الماء ، فأقبلوا يقولون : الماء يا رسول الله . فم زال يسكب وأبو هريرة يسقي حتى روي القوم أجمعون. و ملئوا ما معهم ، ثم قال لأبي هريرة : اشرب ، فقال : بل آخركم شربا ، فشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشرب .

ـ( معجزة بركة نبينا على التمر حتى كفى أصحابه )ـ :

ومن ذلك : أن أخت عبد الله بن رواحة الأنصاري مرت به أيام حفرهم الخندق ، فقال لها : إلى أين تريدين ؟ قالت : إلى عبد الله بهذه التمرات ، فقال : هاتيهن فنثرت في كفه ، ثم دعا بالأنطاع وفرقها عليها وغطاها بالأزر ، وقام وصلى ففاض التمر على الأنطاع ، ثم نادى هلموا وكلوا ، فأكلوا وشبعوا وحملو معهم ودفع ما بقي إليها .

ومن ذلك : أنه كان في سفر فأجهدوا جوعا ، فقال : من كان معه زاد فليأتنا به فأتاه نفر منهم بمقدار صاع ، فدعا بالأزر والأنطاع ثم صب التمر عليها ، ودعا ربه فأكثر الله ذلك التمر حتى كان أزوادهم إلى المدينة .

ـ( معجزة بركة نبينا على زيادة ماء البئر واللبن والسمن)ـ :

ومن ذلك : إنه أقبل من بعض أسفاره فأتاه قوم ، فقالوا : يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان القيظ(54) اجتمعنا عليها ، وإذ كان الشتاء تفرقنا على مياه حولنا ، وقد صار من حولنا عدوا لنا ، فادع الله في بئرنا ، فتفل صلى الله عليه وآله وسلم في بئرهم ففاضت المياه المغيبة ، وكانو لا يقدرون أن ينظروا إلى قعرها بعد من كثرة مائها ، فبلغ ذلك مسيلمة الكذاب فحاول مثله من قليب قليل ماؤه ، فتفل الأنكد في القليب فغار ماؤه ، وصار كالجبوب(55) .

ومن ذلك : أن سراقة بن جعشم حين وجهه قريش في طلبه ناوله نبل من كنانته ، وقال له : ستمر برعاتي فإذا وصلت إليهم فهذا علامتي ، أطعم عندهم واشرب ، فلما انتهى إليهم أتوه بعنز حايل(56) فمسح صلى الله عليه وآله وسلم ضرعها فصارت حاملا ودرت حتى ملئوا الإناء وارتووا .

ومن ذلك : إنه نزل بأم شريك فأتته بعكة(57) فيه سمن يسير ، فأكل هو أصحابه ، ثم دعا لها بالبركة فلم تزل العكة تصب سمنا أيام حيتها .

ـ( معجزة عدم رؤية امرأة أبو لهب له ) :

ومن ذلك : إن أم جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبت ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر بن أبي قحافة ، فقال : يا رسول الله هذه أم جميل محفظة ، أي مغضبة تريدك ، ومعها حجر تريد أن ترميك به .

فقال : إنها لا تراني ، فقالت لأبي بكر : أين صاحبك ؟ قال : حيث شاء الله ، قالت : لقد جئته ولو أراه لرميته فإنه هجاني ، واللات والعزى إني لشاعرة . فقال أبو بكر : يا رسول الله لم ترك ؟

قال : لا ، ضرب الله بيني وبينها حجابا .

ـ( معجزة تصديق اليهود له بما نقل عنه عن الإمام الكاظم )ـ:

ومن ذلك : كتابه المهيمن الباهر لعقول الناظرين ، مع ما أعطي من الخلال(58) التي إن ذكرناها لطالت .

فقالت اليهود : وكيف لنا أن نعلم أن هذا كما وصفت ؟

فقال لهم موسى عليه السلام : وكيف لنا بأن نعلم أن ما تذكرون من آيات موسى صلى الله عليه على ما تصفون ؟

قالوا : علمنا ذلك بنقل البررة الصادقين .

قال لهم : فاعلموا صدق م أنبأتكم به بخبر طفل(59) لقنه الله من غير تلقين ولا معرفة عن الناقلين .

فقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأنكم الأئمة والقادة والحجج من عند الله على خلقه .

فوثب أبو عبد الله عليه السلام فقبل بين عيني .

ثم قال : أنت القائم من بعدي .

ـ فلهذا قالت الواقفة : إنه حي ، وإنه القائم(60) .ـ

ثم كساهم أبو عبد الله عليه السلام ووهب لهم وانصرفوا مسلمين.

قرب الإسناد : 132 - 140 عنه في بحار الأنوار ج17ص225ب2ح1.

بيان وتوضيح الحديث :

ذكره في البحار : (1) قال الفيروزآبادي : غلام خماسي : طوله خمسة أشبار . (2) أي لا يحفظ فيكم ذمة نبيكم ، والذمة : العهد والأمان . والحرمة والحق . وقال : رقبه : انتظره ، والشيء : حرسه . (3) أمناء الله خ ل . (4) اضطهده : قهره وجار عليه ، أذاه واضطره بسبب المذهب والدين .

(5) أى تلقينا من الملك بوحى وإلهام ، ولم يكن علومهم مكتسبة من طريق يكتسب غيرهم .(6) أي ولا تسألوني متعنتا ، والمتعنت : من يسأل غيره من جهة التلبيس عليه ، والعنت محركة : الفساد والإثم والهلاك ، ودخول المشقة على الإنسان .

(7) قوله عليه السلام : فمنعت في أوان رسالته ، لعله محمول على المنع الشديد ، أو المراد بأوان الرسالة ما تقدمها أيضا إلى الولادة ، لئلا ينافي م سبق من أن ظهور ذلك كان عند ولادته صلى الله عليه وآله وسلم . أقول الظاهر المنع منعين الأول بدون رجم والثاني منع شديد مع الرجم وتشهد له سورة الجن . (8) وفتى أي حين كان فتى ، والفتى : الشاب الحدث . وأيفع الغلام ، أي ارتفع و ترعرع وناهز البلوغ . (9) الشكل : المثل والنظير .

(10) وفد خ ل وفى المصدر : وفد عليه مثل وفد قريش . أقول : لعل كلمة مثل زائدة .وقوله عليه السلام : وهذا بعد ما أخبره سيف بن ذي يزن ، خلاف ما هو المشهور من أن قصة الفيل كانت في سنة ولادته صلى الله عليه وآله وسلم أو قبله كما قصة الفيل ، ووفد قريش مع عبد المطلب على سيف بن ذي يزن ، وتقدم هناك خبر يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ولد حين الوفود راجع البحار ج 15 : 186 وأما قصة الفيل فكانت قبل ولادته صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا أوثق لصحة الخبر ، ويمكن أن يتكلف بحمل هذا الخبر من سيف على خبر آخر غير ما سبق ، أو بحمل قوله : بأن هذه الصفة في محمد ، على أن المراد الصفة من حيث الأب والأم والآثار بأن يكون قبل مولده ، ولا يخفى بعدهما .

(11) راجع البحار تجد قصته في الباب الأول : ج 15 ص 65 . (12) والذود من الإبل : ما بين الثلاث إلى العشر . مطله بحقه : سوفه بوعد الوفاء مرة بعد الأخرى . وأعدى فلانا على فلان : نصره واعانه عليه واستعدى الرجل : استعان به . قوله : أعدوني ، أي انصروني ، ولواه بحقه أي مطله . (13) أغرى الرجل بكذا : حضه عليه . (14) ساخ في الطين : غاص فيه وغاب والظهر : الركاب التى تحمل الاثقال . وفى طبعة أمين الضرب والحروفية : قوائم فرسه .

(15) قوله : وما انثنى ، أي لم ينعطف ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو عن ذلك العهد . (16) علاه بالسيف : ضربه به . (17) في المصدر : يا محمد خائر ؟ قوله : حال ، كذا في أكثر النسخ بالحاء المهملة ، ولعله أمر من حالى يحالي ، يقال : حاليته ، أي طايبته ، وفي بعضها بالمعجمة ، ولعله بتشديد اللام من المخالة بمعنى المصادقة ، أي كن صديقي وخليلي . (18) قوله : لا يخبر شيئا ، كذا في أكثر النسخ بالخاء المعجمة ، والباء الموحدة ، فيحتمل أن يكون بضم الباء أي لا يعلم شيئا ، ولا يبعد أن يكون في الاصل لا يحير بالحاء المهملة والياء المثناة من قولهم : طحنت فما أحارت شيئا ، أي ما ردت شيئا من الدقيق ، ذكره على سبيل المثل ، أو بالجيم والزاء المعجمة ، أي ما يجيز القتل ، أو بالجيم والسين المهملة أي لا يجترئ عليه وهو أظهر ، والفتك : أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار (غار الرجل : نام في نصف النهار ، والمراد هنا شدة الغفلة ) غافل حتى يشد عليه فيقتله . (19)قوله صلى الله عليه وآله وسلم : فسح لي على المجهول ، أي وسع لي ورفعت الحجب عني .

(20) الخبل : الجنون . (21) قوله : فصار لها ميسما ، أي هذا الأخذ صار لها بمنزلة الميسم حيث أثر فيها . (22) أي قد تعب وكل . (23) وقاء منزلا على أصحابه .

(24) قوله صلى الله عليه وآله وسلم : الغيب لا يعلمه إلا الله ، أقول : يحتمل وجوها : الأول : أن عدم إخباري أولا إنما كان لعدم علمي به ، ولم يخبرني الله به ، وإنما أخبرني في هذا الوقت . الثاني : أن يكون المراد بيان أن ما أخبره صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله ليكون دليلا على نبوته . الثالث : التبري عن أن ينسبوه إلى أنه يعلم الغيب بنفسه ، والأوسط أظهر .

(25) وبصبص الكلب وتبصبص : حرك ذنبه ، والتبصبص : التملق . (26) ند البعير : نفر وذهب شاردا . (27) والخرخرة ، صوت النمر ، وصوت السنور ، استعير هن لصوت البعير . ورغا البعير : أي صوت .

(28) قوله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اشدد وطأتك ، قال الجزري : الوطأة في الأصل : الدوس بالقدم ، فسمي به الغزو والقتل ، لان من يطأ الشيء برجله فقد استقصى في إهلاكه وإهانته ، ومنه الحديث اللهم اشدد وطأتك على مضر ، أي خذهم أخذا شديدا (29)السنة : الجدب .

(30) في نسخة من المصدر : ولا يزداد منا رابح .وقال : في حديث الاستسقاء ما يخطر لنا جمل ، أي ما يحرك ذنبه هزالا ، لشدة ، القحط والجدب ، يقال : خطر البعير بذنبه يخطر : إذا رفعه وحطه . انتهى . قوله رائح ، أي حيوان يأتينا عند الرواح بالبركة ، أو ماش من قولهم : راح : إذا مشى وذهب .

(31) مريعا خ ل . قوله صلى الله عليه وآله وسلم : مغيثا ، من الإغاثة بمعنى الإعانة عند الاضطرار ، أو يأتي بعده بغيث آخر أو معشبا ، فإن الغيث يطلق على الكلاء ينبت بماء السماء ، وقال الجزري : في حديث الاستسقاء اسقنا غيثا مريئ مريعا ، يقال : مريء الطعام وأمرأني : إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيب ، والمريع : المخصب الناجع ، وغيث طبق ، أي عام واسع ، ويقال : سجلت الماء سجل : إذا صببته صبا متصلا .

(32) في المصدر : غير زائب ، وقال : غير رائث ، أي غير بطئ متأخر ، من راث : إذا أبطأ ، وقال فيه : اللهم حوالينا ولا علينا ، يقال : رأيت الناس حوله وحواليه ، أي مطيفين به من جوانبه ، يريد اللهم أنزل الغيث في مواضع النبات ، لا مواضع الابنية ، وفيه : فأنجاب السحاب عن المدينة ، أي انجمع وتقبض بعضه إلى بعض وانكشف عنها . انتهى .

(33) في المصدر : وامطروا شهرا .(34) في نسخة من المصدر : بحيراء ، وكذا فيما يأتى بعد .

(35) راجع خبره مع بحيرا في بحار الأنوار الباب الرابع راجع ج 15 : 408 .

(36) راجع تزوجه بخديجة في بحار الأنوار الباب الرابع راجع ج 16 : 1 - 81 والصنديد بالكسر : السيد الشجاع . (37) في نسخة من المصدر : فسميا . أقول : أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عليه السلام . (38) وشبعوا خ ل وهو الموجود في المصدر قوله : وصدروا : أي رجعوا . (39) والبرمة بالضم : قدر من حجارة .

(40)والكراع كغراب : مستدق الساق . (41) قوله : وهم خماص بالكسر ، أي جياع . (42)قوله : ومحرز - على بناء المفعول - إي شيء قليل أحرزته لعيالي ، ولعل فيه تصحيفا . (43) ) حفل خ ل وكذا في المصدر ، وفى نسخة منه : فدخل قوله : جفل بهم أي أسرع وذهب ، ويقال : أنجفل القوم ، إي أنقلعوا فمضوا ، وفي بعض النسخ بالحاء المهملة . قال الفيروزآبادي : حفل الوادي بالسيل : جاء بملأ جنبيه ، والسماء : اشتد مطرها ، والدمع : كثر ، والقوم : اجتمعوا . (44) الأنطاع جمع النطع : بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب أو بقطع الرأس .

(45)أمرنا أن نجمع خ ل . (46) السدانة : ستر الباب والمراد غطوا الباب بالستر وكذلك غطوا البرمة والتنور لئلا يرون الناس ما فيها . (47) ويقال : قطفت الدابة ، إي ضاق مشيها فهي قطوف ، والهملاج بالكسر : السريع السير ، الواسع الخطو . قوله : ما يساير ، أي لا تسير معه دابة ، ولا يسابق لسرعة سيره . قال الجزري : في الحديث : إن رجلا من الأنصار قال حملنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حمار لنا قطوف فنزل عنه فإذا هو فراغ لا يساير ، إي سريع المشي واسع الخطو . انتهى .

(48) والوشل بالتحريك : الماء القليل ، ووشل الماء وشلا ، أي قطر . (49) والأداوى بفتح الواو جمع الأدوات ، والمياضي جمع الميضاة وهي المطهرة .

(50) ليسمعن خ ل ومعنى يسقي ما بين يديه ، إي يسقي الأراضي التي عنده للزرع . (51) والأمتيار جلب الميرة ، والعير بالكسر : الإبل التي تحمل الميرة . (52) والأورق من الإبل : الذي في لونه بياض إلى سواد . (53) ووعاه خ ل وأعاده خ ل صح ، والمصدر مثل الاخير . ومعنى دعا واوعاه : دعا بالبركة والوفور ثم ستر القدح لئلا يرونه . (54) القيض ح ل ، إذا كان القيظ اجتمعنا عليها : العادة تقتضي عكس ذلك ، فإن في القيظ تنقص المياه ، وفي الشتاء تزيد ، ولعل المراد أن في الشتاء لنا مياه آخر ، فلا نحتاج إلى الاجتماع على هذا الماء ، وأما في الصيف فييبس تلك المياه فنجتمع عليها وهي لا تكفينا على حال ، أو المراد بالقيظ الربيع ، وفي بعض النسخ بالضاد يقال : بئر مقيضة ، أي كثير الماء ، والظاهر أن النساخ بدلوا فجعلو القيظ مكان الشتاء .

(55) وبالعكس ، والأنكد : المشؤوم ، والجبوب : الأرض ، أي غليظه أو وجهها ، أو التراب . (56) من حال الأنثى : لم تحمل . (57) والعكة بالضم : آنية السمن أصغر من القربة . (58) الخلال : الخصال . (59) أراد عليه السلام نفسه .

(60) قوله : فلهذا ، أقول : هذا كلام الراوي أو الحميري ، والمعنى أنه عليه السلام قال : أنت القائم ، أي بأمر الإمامة بعدي ، فتمسكت به الواقفة لعنهم الله ، وحملوه على أنه القائم صاحب الغيبة ، وآخر الأئمة فأنكروا إمامة من بعده .

قرب الإسناد : 132 - 140 عنه في بحار الأنوار ج17ص225ب2ح1.

هذه يا طيب : بعض معجزات نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ذكرتها الروايات الكثيرة بحديث لكل معجزة ، وفصلت بعضها ، وجمعه ونقلها بالتفصيل يحتاج لكتاب ، ولذا نكتفي بها فإن هذين الحديثين جامعين لأغلبه ، وهي كما في الحديث الأول كانت مقارنة مع معجزات الأنبياء الكرام على طول التاريخ في مختلف الأمم من آدم حتى نبينا الأكرم ، وقد حكى بعضها الله سبحانه وتعالى قصصه في القرآن المجيد كتابه الخالد عن الأنبياء وأممهم وتجدها في قصصهم معهم ، وهي مسلم لمن آمن بالله وقدرته وعظمته في تأييد دينه وإقامة الحجة على عباده ، حتى يؤمنوا به الطيبون ، ولا عذر يبقى للمنافقين والكفار والمشركين حتى يتساهلوا فل يطيعوا سيد المرسلين وخاتم النبيين .

وإنه فقط لو كان باقي من معجزات نبينا الأكرم القرآن المجيد وما حكاه من المعجزات الواقعة ،لكفى به دليل محكم على نبوته وصدق بعثته من رب العالمين وبأكمل دين ولكل البشر إلى يوم القيامة ، فإنه في تعاليم كل هدى وما يصلح البشر إلى يوم القيامة .

كما إنه في القرآن المجيد حكى عن معجزات كثيرة تخص شرف نبين الأكرم وشأنه العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها خص بها أجداده كبناء الكعبة وشرفها وصدق وجودها بأمر الله من قبل جده إبراهيم عليه السلام ، وهجرة اليهود للمدينة وحولها ينتظرون بعثته وترقب المسيحيين المخلصين لظهور دعوته ومعرفته بأوصافه ، ومنها رمي جيش أصحاب الفيل بحجارة من سجيل وحافظ على شرف الكعبة رب العالمين وبين لنا فضل جده عبد المطلب وكرامته ، وكرمه بزمزم وغيرها ، بل فضل أبو طالب عمه بكثير من العلامات لكفالته له وشأنه الكريم ، وبالخصوص مسألة أكل الأرضة لصحيفة المقاطعة في مكة ، وكذا صدق الله مسألة المعراج بقدوم العير وإخبارهم صدق علاماته ، وكذ صدق النبي في مسألة الروم وغلبها لفارس بعد ما غلبت في بضع سنين ، وفتح مكة وغيره من انتشار دينه وهدى ، وغيرها من العلامات المعجزة التي تهدي كل منصف لأن يصدق نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

وإن القرآن المجيد : نزل وهم شاهدون لهذه الوقائع وفي زمانهم ولم يكذبها أحد ، وهذا شرف كريم لنبينا الصادق الأمين صلى الله عليه وآله ، وإن أحببت المزيد فراجع الكتب الموسعة الذاكرة لكل سيرته و معجزاته ، ونكتفي بهذا المقدار ونسأل الله أن يهبنا التصديق بها ، والجد لتطبيق هداه وعن إيمان برسالته ودينه القيم بكل حدوده ، ومخلصين له الدين حتى ليجعلنا نحف بنينا الأكرم وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وكل الصالحين والأنبياء والمرسلين ، تحت عرشه في المقام المحمود والناس مشغولين بالحساب ، إنه أرحم الراحمين وهو ولي التوفيق ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .


الباب العاشر
ذكر رحيل نبينا الأكرم إلى ربه
وبعض الأحداث بعده

في هذا الباب : نعرف أمرا عظيما ورزية كبرى فقد بها المسلمون حبيب رب العالمين وسيد الأنبياء والمرسلين وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وذهابه إلى الرفيق الأعلى في ملكوت الرب عند عرش الرحمان ، فنذكر أحوال رحيله وبعض الأحداث الجلل التي وقعت بعده ، فأختبر الله بها عباده ، ففاز من تمسك بالحق وسلك سبيل الله لهداه بصراطه المستقيم بعد تلك أحداث العظيمة ، فعرف الهدى الحق وأهله فتمسك بهم ودان لله بدينهم وصار في نعيم الله معهم .

تذكرة: رحيل نبينا بعد أن بلغ رسالته وأتم نعمته :

يا طيب : عرفنا شيئا مختصرا عن بعض سيرة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله وبعض أحاديثه الشريفة و معجزاته في الأبواب السابقة ، والتي بها عرفنا شيئاً عن مقامة الكريم عند الله وما فتح الله عليه من هداه الحق ، والواجب على كل العباد التعبد لله به إلى يوم القيامة، ومن ضل عنه هوى وتردى في جهنم وخسر نفسه وبعُد عن ربه والعياذ بالله من الضلال والكفر وأهله .

وبعد ما عرفنا في الباب الرابع والخامس شيء من ثبات وجهاد نبينا الأكرم في مكة المكرمة والمدينة المنورة لتبلغ الرسالة الإلهية ومن أول بعثته، بل من ولادته حتى أواخر حياته الكريمة التي كان فيها حجة الوداع والتي لم يحج بعده ، وقدوم الوفود عليه صلى الله عليه وآله وسلم ، ودخول شبه الجزيرة العربية في الإسلام وقبولهم لدعوته وهداه ، وهم في بلادهم أو هاجر بعضهم إلى المدينة المنورة ليكون قرب رسول الله صلى الله عليه وآله ليأخذ من نوره وهداه .

وذكرنا بعدها جملة من سننه وأحاديثه الشريفة بعد أن بينا ثباته وجهاده في سبيل دعوته لدينه وإصراره على تبليغ رسالة ربه ، والتي بذل كل حياته الشريفة لها ، وما أيده الله به من المعجزات الخالدة لتثبيت هداه ودينه في قلوب جميع المسلمين ، حتى أينعت الرسالة في قلوب المؤمنين ، وأثمرت دين الله في الأرض هدى لكل العالمين ، فانتشرت تعاليمه وعرفها الناس حتى في أقاصي الأرض حين راسل ملكوهم ودعاهم لهداه ، فمنهم من آمن لولا خوفه من قومه ، أم لم يؤمن ولكن قامت حجة الله عليه وبلغت رسالة ربه إليه ، وإنه قد تبين الرشد من الغي ولا إكراه في الدين ، والتي جعلت معنى للوجود وشرفت الإنسان على كثير مما خلق الله لمن كان من الطيبين فآمن ، وإلا فهو أضل من الحيوان .

وبهذا عرفنا يا طيب : إن بعثة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق ، وهداه هو هدى الله ، وإنه لن يقبل الله من أحد دينا غير الإسلام إلى يوم القيامة ، فكان نبينا الأكرم رحمة للعالمين وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، وعرّف هدى الله بكل ثبات ويقين ، ففاز من أخلص لله بدينه وصار من الصالحين ، وجعلنا الله معهم ورحم الله من قال آمين .

وأما في هذه الباب : نذكر أموراً : تعرفنا ما بقي من أواخر حياة نبينا الكريم وما بقي من مدة وجوده بجسده في الأرض لتبليغ رسالة ربه ، فنذكر إنقاذه صلى الله عليه وآله وسلم لجيش أسامة ، وكيف عقد له اللواء بعسكر كبير لغزو الشام ، فجعله أميراً على كل الصحابة إلا من بقي مع النبي الأكرم من آله ومن صحبه الذين أبقاهم في المدينة المنورة فكان نبينا هو أميرهم .

وكان صلى الله عليه وآله وسلم : يدبر أمر الجيش ويحث على خروج كل المسلمين معه، ويطلب منهم نصره ويُحرم التخلف عنه ويلعن من لم يلتحق به ، ولكنه صلاة الله عليه تمرض فتخلف ناس عن جيش أسامة ، فلعنهم ، ثم كان اشتداد مرضه ثم رحيله إلى ربه ، وبعدها كانت أحداث مهمة ، قفز بها بعضهم لتسلم خلافة المسلمين وليس له حق بها وقال : فلته ، ثم دبر أمرها فوضع من جعله خليفة وتواطأ معه بعده حتى استولى من استولى على المسلمين فحكمهم وهو ممن كان يكيد الإسلام ، فحارب آل نبينا من جديد وحرف الناس عنهم حتى قتلوهم ، وهي أنبياء عظيمة نذكر اليسير منه ، وبها نختم بحث النبوة ، ونذكر القسم المهم منها في صحيفة الإمامة الأصل الرابع للدين بعد هذا فيكون هذا الباب ممهد لما يأتي من صحيفة الإمامة ، فنذكر هن المهم من الأمور ، ونسأل الله أن يريننا الحق حقا فنتبعه ويرينا الباطل باطل فنجتنبه ، ويجعلنا مع النبي وآله الطيبين الطاهرين وكل المحبين لهم والمقتدين ، إنه أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين.

فهنا مشارق نور تعرفنا رحيل نبينا الأكرم وما جرى من الأحداث بعده :

الإشراق الأول :
خاتم الأنبياء يرحل إلى ربه وهو يبلغ دينه :

وفيها قبسات نور :

النبي يرسل الصحابة في جيش أسامة :

بعد غزوة مؤتة وتبوك ، وبعد قدوم نبينا الأكرم من حجة الوداع.

فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : المدينة من حجّ الوداع ، بعث بعده ـ بعد قدومه ـ أسامة بن زيد وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه ، وقال له : ( أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الرّوم ) ، وجعل في جيشه وتحت رايته أعيان المهاجرين ووجوه الأنصار ، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.

وعسكر أُسامة بالجرف : فاشتكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكواه التي توفّي فيها ، وكان عليه السلام يقول في مرضه : ( نفذوا جيش أسامة ) ويكرّر ذلك ، وإنّما فعل عليه السلام ذلك لئلاّ يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الإمامة ، ويطمع في الإمارة ، ويستوسق الأمر لأهله.

ما نقل هنا عن وفاة النبي الأكرم من إعلام الورى ج1ص264 ، وهكذا في ما يأتي ، وانظر: إرشاد المفيد 1: 180، قصص الأنبياء للراوندي: 357 | 432، سيرة ابن هشام 4: 300، تاريخ اليعقوبي 2: 113.

النبي يخبر عن دنو أجله :

قال : ولمّا أحسّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم بالمرض الذي اعتراه ـ وذلك يوم السبت أو يوم الأحد ليال بقين من صفر ـ أخذ بيد عليّ عليه السلام ، وتبعه جماعة من أصحابه ، وتوجّه إلى البقيع ثمّ قال :

( السلام عليكم أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها .

ثمّ قال : إنّ جبرائيل عليه السلام كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة ، وقد عرضه علي العام مرّتين ، ولا أراه إلاّ لحضور أجلي ) .

ثمّ قال: ( يا علي : إنّي خُيِّرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنّة ، فاخترت لقاء ربّي والجنّة ، فإذا أنا مت فغسّلني واستر عورتي ، فإنّه لا يراها أحد إلاّ أُكمه ) .

ثمّ عاد إلى منزله ، فمكث ثلاثة أيّام موعوكاً .

ثمّ خرج إلى المسجد يوم الأربعاء معصوب الرأس متّكئاً على علي بيمنى يديه وعلى الفضل بن عبّاس باليد الأُخرى ، فجلس على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

( أمّا بعد : أيّها الناس ، إنّه قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، فمن كانت له عندي عدة فليأتني أُعطه إياها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به ).

فقام رجلٌ فقال : يا رسول الله لي عندك عدة ، إنّي تزوّجت فوعدتني ثلاثة أواق ، فقال عليه السلام : ( أنحلها ايّاه يا فضل ) .

ثمّ نزل فلبث الأربعاء والخميس ، ولمّا كان يوم الجمعة جلس على المنبر فخطب ثمّ قال :

( أيّها الناس : إنّه ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً ، أو يصرف به عنه شرّاً ، إلاّ العمل الصالح .

أيّها الناس : لا يدّع مدّع، ولا يتمنّ متمنّ، والذي بعثني بالحقّ لا ينجي إلاّ عمل مع رحمة الله ، ولو عصيت لهويت ، اللهمّ هل بلّغت ؟ ـ ثلاثاً ـ ) .

ثمّ نزل فصلّى بالناس ، ثمّ دخل بيته ، وكان إذ ذاك في بيت أمّ سلمة، فأقام به يوماً أو يومين ، فجاءت عائشة فسألته أن ينقل إلى بيتها لتتولّى تعليله ، فأذن لها ، فانتقل إلى البيت الذي أسكنته عائشة ، فاستمر المرض به فيه أيّاماً وثقل عليه السلام ، فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله مغمورا بالمرض فنادى الصلاة رحمكم الله .

فقال عليه السلام : ( يصلّي بالناس بعضهم ) .

فقالت عائشة : مروا أبا بكر فليصل بالناس، وقالت حفصة : مروا عمر.

فقال صلى الله عليه وآله وسلّم: ( اُكففن، فإنّكن صويحبات يوسف ).

ثمّ قال ، وهو لا يستقلّ على الأرض من الضعف .

وقد كان عنده أنّهما خرجا إلى أسامة .

فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب والفضل بن عبّاس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف ، فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده ، فتأخّر أبو بكر . وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلّم وكبّر وابتدأ بالصلاة .

النبي يأمر بكتابة الصحيفة ويمتنعون :

فلمّا سلّم وانصرف إلى منزله استدعى أبا بكر وعمر وجماعة من حضر المسجد ثمّ قال :

( ألم آمركم أن تنفذوا جيش أسامة ؟)

فقال أبو بكر : إنّي كنت خرجت ثمّ عدت أُحدث بك عهداً .

وقال عمر: إنّي لم أخرج لأني لم اُحب أن أسال عنك الركب .

فقال عليه السلام: ( نفذوا جيش أسامة ) ـ يكررها ثلاث مرات ـ ثمّ أغمي عليه صلوات الله عليه وآله من التعب الذي لحقه .

فمكث هنيئة وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده ومن حضر .

فأفاق عليه السلام وقال : ( ائتوني بدواة وكتف ، أكتب لكم كتاباً ، لا تضلوا بعده أبداً ) ثمّ أغمي عليه .

فقام بعض من حضر من أصحابه يلتمس دواة وكتفاً .

فقال له عمر: ارجع فإنّه يهجر ! ! فرجع .

فلمّا أفاق (صلى الله عليه وآله وسلّم ) قال بعضهم : ألاّ نأتيك ي رسول الله بكتف دواة ؟

فقال : ( أبعد الذي قلتم ! ! لا ، ولكن احفظوني في أهل بيتي ، واستوصوا بأهل الذمة خيراً ، وأطعموا المساكين وما ملكت أيمانكم ) .

فلم يزل يردّد ذلك حتّى أعرض بوجهه عن القوم ، فنهضوا .

وبقي عنده العبّاس والفضل وعليّ عليه السلام وأهل بيته خاصة .

فقال له العباس : يا رسول اللهّ إن يكن هذا الأمر فينا مستقرّاً من بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنّا نغلب عليه فأوص بنا .

فقال : ( أنتم المستضعفون من بعدي ) واصمت ، ونهض القوم وهم يبكون .

النبي يوصي لخليفة الحق علي :

فلمّا خرجوا من عنده قال : ( ردّوا عليّ أخي عليّ بن أبي طالب وعمّي ) فحضرا .

فلمّا استقر بهما المجلس قال رسول اللهّ صلى الله عليه وآله وسلّم : ( يا عبّاس يا عمّ رسول الله ، تقبل وصيّتي وتنجز عدتي وتقضي ديني ؟ ) .

فقال له العبّاس : يا رسول الله ، عمّك شيخ كبير ذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سخاء وكرماً ، وعليك وعدٌ لا ينهض به عمّك .

فأقبل على عليّ عليه السلام فقال :

( يا أخي تقبل وصيّتي وتنجز عدتي وتقضي ديني ؟ ).

فقال : «نعم يا رسول الله » .

فقال : ( اُدن منّي ) فدنا منه فضمّه إليه ونزع خاتمه من يده ، فقال له : ( خذ هذا فضعه في يدك ) ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته فدفع ذلك إليه.

والتمس عصابة كان يشدها على بطنه إذا لبس درعه ـ ويروى : أنّ جبرائيل نزل بها من السماء ـ فجيء بها إليه ، فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال له : ( اقبض هذا في حياتي ) ، ودفع إليه بغلته وسرجها وقال :

( امض على اسم الله إلى منزلك ) .

فلمّا كان من الغد حجب الناس عنه ، وثقل في مرضه صلى الله عليه وآله وسلّم ، وكان عليّ لا يفارقه إلاّ لضرورة ، فقام في بعض شؤونه فأفاق إفاقة فافتقد عليّاً فقال :( ادعوا لي أخي وصاحبي ) وعاوده الضعف فاصمت .

فقالت عائشة : اُدعوا أبا بكر، فدعي فدخل ، فلمّا نظر إليه أعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر.

فقال : ( اُدعوا لي أخي وصاحبي ) .

فقالت حفصة : اُدعوا له عمر ، فدعي ، فلمّا حضر رآه النبيّ عليه السلام فأعرض عنه بوجهه فانصرف .

ثمّ قال : ( اُدعوا لي أخي وصاحبي ) فقالت اُمّ سلمة : ادعو له عليّاً فإنّه لا يريد غيره .

فدعي أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا دنا منه أومأ إليه فأكبّ عليه ، فناجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم طويلاً .

ثمّ قام فجلس ناحية حتّى أغفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، فلمّا أغفى خرج فقال له الناس : يا أبا الحسن ما الذي أوعز إليك ؟

فقال : ( علّمني رسول الله ألف باب من العلم

فتح لي كلّ باب ألف باب ، ووصاني بما أنا قائمٌ به إن شاء اللهّ ) .

شهادة النبي للرفيق الأعلى :

ثمّ ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وحضره الموت ، فلمّ قرب خروج نفسه قال له : ( ضع رأسي يا عليّ في حجرك فقد جاء أمر الله عزّ وجل ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثمّ وجّهني إلى القبلة ، وتولّ أمري ، وصلّ عليّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتّى تواريني في رمسي ، واستعن بالله عزّ وجل ) .

وأخذ عليّ رأسه فوضعه في حجره فاُغمي عليه ، وأكبّت فاطمة عليه السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ففتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عينيه وقال بصوت ضئيل :

( يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه .

ولكن قولي : { وَما مُحَمّدٌ الاّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ اَفَاِن ماتَ اَو قُتِلَ أنقَلَبتُم عَلى أعقابكُم } ) آل عمران 144 .

فبكت طويلاً ، فأومأ إليها بالدنوّ منه ، فدنت إليه ، فأسر إليه شيئَاً هلل له وجهها.

ثمّ قضى صلى الله عليه وآله وسلم ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ، ففاضت نفسه عليه السلام فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثمّ وجّهه وغمّضه ومدّ عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره .

فسئلت فاطمة عليها السلام : ما الذي أسر إليك رسول اللهّ صلى الله عليه وآله وسلّم فسرى عنك ؟

قالت : ( أخبرني أنّي أوّل أهل بيته لحوقاً به ، وأنّه لن تطول المدّة بي بعده حتّى أدركه ، فسرى ذلك عنّي ).

الإرشاد للمفيد ج 1ص 181 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 2: 465 | 19 .

وروي عن اُمّ سلمة قالت : وضعت يدي على صدر رسول اللهّ صلى الله عليه وآله وسلّم يوم مات ، فمرّ بي جُمع ـ يعني عدة أسابيع ـ، آكل وأتوضّ ، ما يذهب ريح المسك عن يدي .

دلائل النبوة للبيهقي ج7ص219 ، ونقله بحار الأنوار ج22ص 528 ح35 .

وروى ثابت عن أنس قال : قالت فاطمة عليها السلام - لمّ ثقل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وجعل يتغشّاه الكرب - : "

يا أبتاه إلى جبرائيل ننعاه ، يا أبتاه مِن ربه ما أدناه .

يا أبتاه جنان الفردوس مأواه ، يا أبتاه أجاب رباً دعاه " .

المناقب لابن شهر آشوب 1 : 237 ، الطبقات الكبرى 2 : 311، دلائل النبوة للبيهقي 7 :212 ، الأنوار في شمائل النبي المختار 2 : 1253 | 752 ، الوف بأحوال المصطفى 2 :802 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 22 : 528 | 35.

قال الباقر عليه السلام : ( لمّا حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَم الوفاة نزل جبرائيل عليه السلام فقال : يا رسول الله أتريد الرجوع إلى الدنيا وقد بلغت ؟ قال : لا .

ثم قال له : يا رسول الله تريد الرجوع إلى الدنيا ؟

قال : لا ، الرفيق الأعلى ).

المناقب لابن شهرآشوب 1 : 237 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 528 | 35 .

وقال الصادق عليه السلام : ( قال جبرائيل عليه السلام : ي محمد هذا آخر نزولي إلى الدنيا ، إنّما كنت أنت حاجتي منها .

قال : وصاحت فاطمة عليها السلام وصاح المسلمون و ( صاروا ) يضعون التراب على رؤوسهم ) .

المجلسي في بحار الأنوار 22 : 529 | 35 .

ومات صلوات الله عليه وآله وسلم لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من هجرته.

المقنعة : 456 ، مسار الشيعة (ضمن مجموعة نفيسة): 63، التهذيب 6 : 2 ، مصباح المتهجد : 732، قصص الأنبياء للراوندي : 359، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 22 :529

وروي أيضاً لاثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول يوم الاثنين.

الكافي 1 :365 ، الكامل في التاريخ 2 : 323، دلائل النبوة للبيهقي 7 :235 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 2 2 : 529 | 35 .

النبي يغسل النبي ويصلي عليه :

ولمّا أراد عليّ عليه السلام : غسله استدعى الفضل بن عبّاس ، فأمره أن يناوله الماء ، بعد أن عصب عينيه ، فشقّ قميصه من قبل جيبه حتّى بلغ به إلى سرّته ، وتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه والفضل يناوله الماء .

فلمّا فرغ : من غسله وتجهيزه ، تقدّم فصلّى عليه.

إرشاد المفيد ج1ص187 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 22 : 529 | 35 .

و عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال الناس : كيف الصلاة عليه ؟

فقال عليّ صلوات الله وسلامه عليه : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إمامنا حيّاً وميّتاً ، فدخل عليه عشرة عشرة فصلّوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء ، حتّى الصباح ويوم الثلاثاء ، حتّى صلّى عليه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، وضواحي المدينة ، بغير إمام .

دفين النبي الأكرم :

وخاض المسلمون في موضع دفنه ، فقال عليّ عليه السلام : « إنّ الله سبحانه لم يقبض نبيّاً في مكان إلاّ وارتضاه لرمسه فيه ، وإنّي دافنه في حجرته التي قبض فيها » فرضي المسلمون بذلك .

فلمّا صلّى المسلمون عليه أنفذ العبّاس رجلاً إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ، وكان يحفر لأهل مكّة ويصرح ، وأنفذ إلى زيد بن سهل أبي طلحة ، وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد ، فاستدعاهما ، وقال : اللهم خر لنبيّك ، فوجد أبو طلحة فقيل له : اُحفر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، فحفر له لحداً .

ودخل أمير المؤمنين علي صلوات الله وسلامه عليه والعباس والفضل وأُسامة بن زيد ليتولّوا دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، فنادت الأنصار من وراء البيت : يا عليّ إنّا نذكرك الله وحقّنا اليوم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن يذهب ، أدخِل منّا رجلاً يكون لنا به حظّ من مواراة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم .

فقال : ( ليدخل أوس بن خولي ) رجل من بني عوف بن الخزرج وكان بدريّاً ، فدخل البيت وقال له عليّ صلوات الله وسلامه عليه : « أنزل القبر » فنزل ، ووضع عليّ عليه السلام رسول الله على يديه ثمّ دلاه في حفرته ثمّ قال له : ( اخرج ) فخرج .

ونزل عليّ عليه السلام فكشف عن وجهه ووضع خدَّه على الأرض موجّهاً إلى القبلة على يمينه ، ثمّ وضع عليه اللبن وهال عليه التراب .

عن إعلام الورى وخرجه المحققون عن إرشاد المفيد 1 : 188 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 22 : 529 | 35 .

فسلام الله وصلاة عليه وعلى آله يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً ، طبت يا رسول الله حياً وميتاً ، فقد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ، وجزاك الله المقام المحمود الذي وعدك ، وزقنا الله الثبات على دينك الحق ، وحشرنا الله معك في الدنيا والآخرة ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الإشراق الثاني
مختصر عمر نبينا الأكرم الذي عمر به الدني :

عاش نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم : سعيد مجاهدا نبينا رسولا وسراجا منيرا ورحمة للعالمين ونذيرا بشيرا إلى يوم الدين ، حتى كان أشرف المرسلين وخاتم النبيين وأكرم إنسان في الوجود سواء قبل الخلق أو في الدنيا أو في البرزخ وفي يوم القيامة وفي الآخرة ، وهكذا يلحقه بالكرامة الإلهية آله المعصومين ثم أتباعهم المخلصين بدينهم لرب العالمين ، وهذا بشهادة الله والملائكة و أولي العلم وكل المؤمنين والطيبين .

بعمره الشريف : عمر الدنيا بالهدى الحق والدين الإلهي الصادق ، فكان رسولا مبلغا لهدى الله بصراط مستقيم ، وفي كل مجالات الحياة وتطبيقه عين الهدى والنعيم ، وفاز من تمسك به وأخلص لله بدينه القويم ، فهو تمام تجلي أسماء الله الحسنى في الوجود وكمال ظهورها به ، حتى كان مظهرا حقا لها ورحمة للمؤمنين وغضب الله على الكافرين ، وهدى ونورا للطيبين ، ومن ضل عنه كان خاسرا لنوره مظلم وجوده حتى يوم الدين ، فهو نور الله ورضاه وبدينه يعبد الله ويشكر ويرضاه، فرحمه الله ووهبه لواء الحمد والمقام المحمود الذي وعده، وجعلنا معه في أعلى عليين إنه أرحم الراحمين ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

أما مدة عمره الشريف بجسده في الدنيا :

فقد كانت مدة عمره عليه الصلاة والسلام : (63) ثلاثاً وستين سنة .

منها مع أبيه سنتين وأربعة أشهر . وتوفت أمه وعمره ستة سنوات .

ومع جدّه عبد المطلب للسنة الثامنة . ثمّ كفّله عمّه أبو طالب بعد وفاة جدّه عبد المطّلب فكان يكرمه ويحميه وينصره .

فخرج لأول تجارة معه له وعمره الشريف أثنى عشر سنة وشهرين .

وتزوّج بخديجة بنت خوليد وهو ابن خمس وعشرين سنة.

وتوفّي عمّه أبو طالب وله ستّ وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة وعشرون يوماً. وتوفّيت خديجة بعده بثلاثة أيّام .

وسمّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ذلك العام عام الحزن .

وروى هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : ( ما زالت قريش كاعّة عنّي حتّى مات أبو طالب ) .

وأقام صلى الله عليه وآله وسلّم بمكّة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة.

ثمّ هاجر منها إلى المدينة بعد أن استتر في الغار ثلاثة أيّام وقيل:ستّة أيّام.

ودخل المدينة يوم الاثنين الحادي عشر من شهر ربيع الأول وبقي به عشر سنين . ثمّ قبض صلى الله عليه وآله وسلّم يوم الاَثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة.

إعلام الورى ج1ص42ب1ص41. وأنظر: الكافي 1: 346، كشف الغمة 1: 16، وسيرة ابن هشام 2: 130، وصحيح البخاري 5: 73، وصحيح مسلم 4: 1826 | 2351، وتاريخ الطبري 2: 379، ومروج الذهب 3: 18|1467، وصفة الصفوة 1: 117و 129، والكامل في التاريخ 2: 104 و 106 و 107.

فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا ، فقد مات صلى الله عليه وآله حميدا كريما عند الله وكل الطيبين ، شكر الله سعيه وضاعف أجره ، ورزقه الله المقام المحمود الذي وعده وأتحفه بالكرامة والعز الأبدي ، له ولمن تبع وأخلص لله بهداه ودينه ، ونسأ الله بحقه وبحق آله الطيبين الطاهرين أن يرقنا دينه ورضاه لنا علما وعملا ، ويجعلنا الله معه في الدنيا والآخرة ، في رضاه ومزيد كرامته تحت عرشه في جنة الخلد والكرامة والعز والنعيم الأبدي ، إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الإشراق الثالث
خبر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر

واجتمعت الأنصار : في سقيفة بني ساعدة يوم توفي ، ورسول الله يغسل ، فأجلست سعد بن عبادة الخزرجي ، وعصبته بعصابة ، وثنت له وسادة .

وبلغ أبا بكر وعمر و المهاجرين ، فأتوا مسرعين ، فنحوا الناس عن سعد ، وأقبل أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح .

فقالوا : يا معاشر الأنصار ! منا رسول الله ، فنحن أحق بمقامه .

وقالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير !

فقال أبو بكر : منا الأمراء وأنتم الوزراء . فقام ثابت بن قيس ابن شماس ، وهو خطيب الأنصار ، فتكلم وذكر فضلهم .

فقال أبو بكر : ما ندفعهم عن الفضل ، وما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل ، ولكن قريش أولى بمحمد منكم ، وهذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله : اللهم اعز الدين به ! وهذا أبو عبيدة بن الجراح الذي قال رسول الله : أمير هذه الأمة ، فبايعوا أيهما شئتم !

فأبيا عليه ـ عمر وأبي عبيده ـ وقالا : والله ما كن لنتقدمك ، وأنت صاحب رسول الله وثاني اثنين . فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر ، وثنى عمر ، ثم بايع من كان معه من قريش .

ثم نادى أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ! إنكم كنتم أول من نصر ، فلا تكونوا أول من غير وبدل .

وقام عبد الرحمن بن عوف فتكلم فقال : يا معشر الأنصار ، إنكم ، وإن كنتم على فضل ، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي .

وقام المنذر بن أرقم فقال : ما ندفع فضل من ذكرت ، وإن فيهم لرجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد ، يعني علي بن أبي طالب .

فوثب بشير بن سعد من الخزرج ، فكان أول من بايعه من الأنصار ، وأسيد بن حضير الخروجي ، وبايع الناس حتى جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة ، وحتى وطئوا سعدا .

وقال عمر : اقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا .

وجاء البراء بن عازب ، فضرب الباب على بني هاشم وقال : ي معشر بني هاشم ، بويع أبو بكر .

فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ، ونحن أولى بمحمد . فقال العباس : فعلوها رب الكعبة .

وكان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي ، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس ، وكان لسان قريش ، فقال :

يا معشر قريش ، إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه ، ونحن أهله دونكم ، وصاحبنا أولى بها منكم .

وقام عتبة بن أبي لهب فقال :

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن

عن أول الناس إيمانا وسابقـــة وأعلم النــاس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبي و مــن جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا يمتـــرون به وليس في القوم ما فيه من الحسن

فبعث إليه علي فنهاه ، وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم :

العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب .

فأرسل أبو بكر : إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة ، فقال : ما الرأي ؟

قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب ، فتجعل له في هذا الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي ، إذا مال معكم .

فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا ، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله بعث محمدا نبيا وللمؤمنين وليا ، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم ، حتى اختار له ما عنده ، فخلى على الناس أمورا ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين ، فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعيا ، فوليت ذلك ، وما أخاف بعون الله وتشديده ، وهنا ولا حيرة ولا جبنا ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت ، وإليه أنيب .

وما انفك يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامة المسلمين يتخذكم لجأ ، فتكون حصنه المنيع وخطبه البديع ، فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعو عليه ، وإما صرفتموهم عما مالوا إليه ، ولقد جئناك ونحن نريد أن لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك ، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله ، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك عنكم ، وعلى رسلكم بنى هاشم ، فإن رسول الله منا ومنكم .

فقال عمر بن الخطاب : إي والله وأخرى ، إنا لم نأتكم لحاجة إليكم ، ولكن كرها أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم ، فانظروا لأنفسكم .

فحمد العباس الله وأثنى عليه وقال : إن الله بعث محمدا كم وصفت نبيا وللمؤمنين وليا ، فمن على أمته به ، حتى قبضه الله إليه ، واختار له ما عنده ، فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحق ، لا مائلين بزيغ الهوى ، فإن كنت برسول الله فحقا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، فما تقدمنا في أمرك فرضا ، ولا حللنا وسطا ، ولا برحنا سخطا ، وإن كان هذا الأمر إنما وجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنا كارهين .

ما أبعد قولك : من أنهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك ومالو إليك ، وما أبعد تسميتك بخليفة رسول الله من قولك خلى على الناس أمورهم ليختاروا فاختاروك ، فأما ما قلت إنك تجعله لي ، فإن كان حقا للمؤمنين ، فليس لك أن تحكم فيه ، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض ، وعلى رسلك ، فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها .

فخرجوا من عنده .

وكان فيمن تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب ، وقال : أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم ؟

وقال لعلي بن أبي طالب :

امدد يدك أبايعك ، وعلي معه قصي ، وقال :

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ولا سيما تيم بن مـرة أو عدي

فما الأمـــر إلا فيكم وإليكم و ليس لها إلا أبـو حسن علي

أبا حسن فاشدد بها كف حـازم فإنـك بالأمر الذي يرتجى ملي

و إن أمرء يرمي قصي وراءه عزيز الحمى والناس من غالب قصي

وكان خالد بن سعيد : غائبا ، فقدم فأتى عليا فقال : هلم أبايعك ، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك .

واجتمع جماعة : إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له .

فقال لهم : اغدوا على هذا محلقين الروؤس .

فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر .

وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله .

فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار ، وخرج الزبير ومعه السيف فلقيه عمر فصارعه عمر فصرعه وكسر سيفه .

ودخلوا عمر الدار فخرجت فاطمة فقالت : والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولاعجن إلى الله !

فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياما .

ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع .

ولم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر وقيل أربعين يوما .

تأريخ اليعقوبي 123 .

وتفصيل خبر السقيفة وكيفية بيعة علي عليه السلام والهجوم على الدار راجع كتاب السقيفة ، وما كتبه المؤرخون عنها .

ينحون أسامة عن أمرة الجيش :

وقالوا : وبعثوا إلى عكرمة بن أبي جهل وعمومته الحارث بن هشام وغيره فأحضروهم ، وعقدوا لهم الرايات على نواحي اليمن والشام ، ووجّهوهم من ليلهم .

وبعثوا إلى أبي سفيان فارضوه بتولية يزيد بن أبي سفيان.

قال : ولمّا بايع الناس أبا بكر قيل له : لو حبست جيش اُسامة واستعنت بهم على من يأتيك من العرب ؟ وكان في الجيش عامّة المهاجرين .

فقال اُسامة لأبي بكر : ما تقول في نفسك أنت ؟

قال : قد ترى ما صنع الناس ، فأنا اُحبّ أن تأذن لي ولعمر .

قال : فقَد أذنت لكما .

قال : وخرج أسامة بذلك الجيش ، حتى إذا انتهى إلى الشام عزله واستعمل مكانه يزيد بن أبي سفيان .

فما كان بين خروج أسامة ورجوعه إلى المدينة إلاّ نحو من أربعين يوماً ، فلمّا قدم المدينة قام على باب المسجد ثمّ صاح :

يا معشر المسلمين ، عجباً لرجل استعملني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، فتأمّر عليّ وعزلني !

إعلام الورى 371 إرشاد المفيد 1: 188،ونقله في بحار الأنوار 22: 529 |35 .

الإشراق الرابع
أيام أبي بكر ومقاومة علي عليه السلام

وكانت : بيعة أبي بكر يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة 11 ، في اليوم الذي توفي فيه رسول الله .

واسم أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر . وكان يسكن بالسنح خارج المدينة ، وكانت امرأته حبيبة بنت خارجة فيه ، وكان له أيضا منزل بالمدينة فيه أسماء بنت عميس ، فلما ولي كان منزله المدينة .

وأتته فاطمة ابنة رسول الله تطلب ميراثها من أبيها .

فقال لها : قال رسول الله : إنا معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركن صدقة .

فقالت : أفي الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟

أما قال رسول الله : المرء يحفظ ولده ؟

فبكى أبو بكر بكاء شديدا . وأمر أسامة بن زيد أن ينفذ في جيشه .

وسأله أن يترك له عمر يستعين به على أمره .

فقال : فما تقول في نفسك ؟

فقال : يا ابن أخي ! فعل الناس ما ترى فدع لي عمر ، وانفذ لوجهك .

فخرج أسامة بالناس وشيعه أبو بكر فقال له : ما أنا بموصيك بشيء ، ولا آمرك به ، وإنما آمرك ما أمرك به رسول الله ، وامض حيث ولاك رسول الله ، فنفذ أسامة ، فأقام منذ خرج إلى أن قدم المدينة منصرفا ستين يوما ، أو أربعين يوما ، ثم دخل المدينة ولواؤه معقود ، حتى يدخل المسجد ، فصلى ، ثم دخل إلى بيته ولواؤه الذي عقده رسول الله معه .

وصعد أبو بكر المنبر عند ولايته الأمر ، فجلس دون مجلس رسول الله بمرقاة ، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال :

إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن استقمت فاتبعوني ، وإن زغت فقوموني ! لا أقول إني أفضلكم فضلا ، ولكني أفضلكم حملا . وأثنى على الأنصار خيرا ، وقال : أنا وإياكم ، معشر الأنصار ، كما قال القائل :

جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت بنا نعلنا في الواطئين فزلت

أبوا أن يملونا ولــو أن أمنـا تلاقي الذي يلقون منا لملت

فاعتزلت الأنصار عن أبي بكر ، فغضبت قريش ، وأحفظها ذلك ، فتكلم خطباؤها ، وقدم عمرو بن العاص ، فقالت له قريش : قم فتكلم بكلام تنال فيه من الأنصار ! ففعل ذلك .

فقام الفضل بن العباس فرد عليهم ثم صار إلى علي ، فأخبره وأنشده شعرا قاله .

فخرج علي: مغضبا حتى دخل المسجد ، فذكر الأنصار بخير ، ورد على عمرو بن العاص قوله .

فلما علمت الأنصار ذلك سرها وقالت : ما نبالي بقول من قال مع حسن قول علي ، واجتمعت إلى حسان ابن ثابت ، فقالوا : اجب الفضل .

فقال : إن عارضته بغير قوافيه فضحني .

فقالوا : فاذكر عليا فقط ، فقال :

جزى الله خيرا والـجزاء بكفـه أبا حسـن عنا و من كأبي حسن

سبقت قريشا بالذي أنت أهـله فصـدرك مشروح و قلبك ممتحن

تمنت رجـال من قريش أعـزة مكانـك هيهات الهزال من السمن

وأنـت من الإسلام في كل منزل بمنزلـة الطرف البطين من الرسن

غضبت لنا إذ قال عمرو بخصـلة أمات بها التقوى وأحيى بها الإحن

وكنت المرجى من لوي بن غالب لما كان منـه والذي بعد لم يكن

حفظت رسول الله فينا وعهـده إليك ومـن أولى به منك من ومن

ألست أخاه في الهدى و وصيـه و أعلم فهــر بالكتاب وبالسنن

فحقك مادامت بنجــد وشيجة عظيمـ علينا ثم بعد على اليمن

في تاريخ اليعقوبي 2 ص‍ 107 ، وشرح أبن أبي الحديد 3 ص14 وغيرهما.

وقال الأميني في الغدير في شرح شعر حسان قوله :

فصدرك مشروح : إشارة إلى ما ورد في قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام ، فإنها نزلت في علي وحمزة . رواه الحافظ محب الدين الطبري عن الحافظين الواحد وأبي الفرج ، وفي ذخائر العقبى .

قوله : وقلبك ممتحن : أشار به إلى النبوي الوارد في أمير المؤمنين : انه أمتحن الله قلبه بالإيمان .

قوله : ألست أخاه في الهدى ووصيه . أوعز به إلى حديثي الإخاء والوصية ، وهما من الشهرة والتواتر بمكان عظيم ، يجدهما الباحث في جل مسانيد الحفاظ والإعلام.

قوله : وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن . أراد به ما ورد في علم علي أمير المؤمنين بالكتاب والسنة . أخرج الحفاظ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث فاطمة سلام الله عليها :

زوجتك خير أهلي أعلمهم علما ، وأفضلهم حلما ، وأولهم إسلاما .

وفي حديث آخر : أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب .

وفي ثالث : أعلم الناس بالله وبالناس .

عن الغدير أخرجه من الحفاظ والعلماء منهم : النسائي في خصايصه ص‍ 11 ، والترمذي في الصحيح 2 ص 298 ، والخطيب البغدادي في تاريخه 1 ص 133 ، م - والبيهقي في المحاسن والمساوي 1 ص 29 ] ومحب الدين الطبري في الرياض 2 ص 191 ، وذخاير العقبى ص76 وقال : أخرجه الترمذي وصححه ، والكنجي في الكفاية ص34 ، وقال : هذا حديث عال حسن صحيح ، والحمويي في فرايده في الباب ال‍ 33 ، والسيوطي في جمع الجوامع بعدة طرق كما في كنز العمال 6 ص‍ 393 و 396 ، والبدخشي في نزل الابرار ص‍ 11 وغيرهم .

وفي حديث : يا علي لك سبع خصال وعد منها : وأعلمهم بالقضية ، وأخرج محب الدين الطبري عن عائشة : انه أعلم الناس بالسنة .

والذخاير ص ‍78 ،وأبن عبد البر في الاستيعاب هامش الإصابة 3 ص 4.

وفي كفاية الكنجي عن أبي أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم : أعلم أمتي بالسنة والقضاء بعدي علي إبن أبي طالب.

في كفاية الكنجي ص190

وأخرج الخوارزمي وشيخ الإسلام الحمويي في فرايده في الباب الثامن عشر بإسناده عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب.

المناقب ص 49 .

وأخرج الحفاظ عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وعلى من نزلت ، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسان ناطق .

و عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزء‌ا أحد .

وقال السيد أحمد زيني دحلان في الفتوحات الإسلامية : كان علي رضي الله عنه أعطاه الله علما كثيرا وكشفا غزيرا .

الغدير في " الفتوحات الإسلامية ج 2 ص 337.

قال أبو الطفيل : شهدت عليا يخطب و هو يقول : سلوني من كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل ، ولو شئت أوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب.

في الإصابة 2 ص‍ 509 : سلوني سلوني سلوني عن كتاب الله . الحديث

وقال أبن عباس رضي الله عنه : علم رسول الله من علم الله تبارك وتعالى ، وعلم علي رضي الله عنه من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلمي من علم علي رضي الله عنه ، وما علمي وعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في علم علي رضي الله عنه إلا كقطرة في سبعة أبحر .

ويقال : إن عبد الله بن عباس أكثر البكاء على علي رضي الله عنه حتى ذهب بصره ، وقال أبن عباس أيضا : لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم ، وأيم الله لقد شارك الناس في العشر العاشر .

وكان معاوية يسأله ويكتب له فيما ينزل به فلما توفي علي رضي الله عنه قال معاوية : لقد ذهب الفقه والعلم بموت علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

وكان عمر بن الخطاب يتعوذ من معضلة ليس فيها أبو الحسن .

وسئل عطاء أكان في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحد أعلم من علي ؟ قال : لا والله ما أعلمه . أنتهى .

وعن عبد الله ابن مسعود : إن القرآن نزل على سبعة أحرف م منها حرف إلا وله ظهر وبطن ، و إن عليا عنده علم الظاهر والباطن .

وهناك نظير هذه الأحاديث والكلمات حول علم أمير المؤمنين بالكتاب والسنة ، كثير جدا لو جمعته يد التأليف لجاء كتابا ضخما .

أقول راجع تتمة البحث في الغدير ج2ص43، ولمعرفة شيء عن كيفية السقيفة راجع الغدير ج7ص74ـ88،170، وج10ص9 فما بعد ، وج3ص240 ، فقد ذكره كل من ذكر السقيفة وألف فيها ، وهي مصيبة حلت بالإسلام والمسلمين وبها اختبارهم وبلائهم ، لطلب الحق ودين الله الصادق من أهله ، فهدي من هدي لأئمة الحق وأولياء الله الصادقين ، وضل من ضل ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ما أعظمها من مصيبة ، حيث أنقطع عنا الوحي وأختلف الناس لولا بيان لله لملاك الإمامة في كتابه ، وظهر بها آل محمد بكل وجودهم صبرا وإيمانا وعلما وعملا وهدى ، راجع ما ذكرنا في صحيفة الإمامة وصحيفة الثقلين وصحيفة الإمام علي والحسين ، من وموسوعة صحف الطيبين تعرف ذلك ، أو راجع الكتب المختصة بالإمامة ، والله الموفق للصواب ويهدي من يشاء الهداية ، فيطلب الحق بوجدان صافي وضمير حي .

ورزقنا لله هداه بما يحب ويرضى ، حتى يجعلنا نعلمه ونعمل به ، فيحشرن مع النبي وآله وكل الطيبين الذين هم لهم محبين في الدنيا والآخرة ، إنه ولي التوفيق وأرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

الإشراق الخامس
الله يختبر عباده لمعرفة الصادقين

يا طيب : هذا كان قبس من معرفة حال الناس في زمن وفاة سيد الأنبياء والمرسلين الأكرم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وحال البيعة لمن سرق خلافة رسول الله من أهلها وتولى على المسلمين ، وحكمهم بمكيدة لم يحضر أهل البيت فيها ، وهذا حال أمير المؤمنين الحق علي بن أبي طالب وهو يتولى تجهيز رسول الله للرفيق الأعلى ، وبعض صفاته التي عرفت قسم منها في حياة النبي الأكرم ، فهو معه من أول يومه حتى تجهيزه ودفنه في مرقده الطاهر ، والناس مشغولون بالخلافة والبيعة والغدر لبيعة الغدير والعهد الإلهي الذي تم به تنصيب علي بن أبي طالب عليه السلام وليا وخليفة وإمام للمسلمين .

ولتطلع على جلي الأمر وأهمية خلافة رسول الله ومنصب الوصاية للرسول الأكرم ، ومعنى الإمام والإمامة على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، نذكر بحث الإمامة الآتي في الصحيفة الرابعة لأصول الدين ، فتدبره تعرف الحق وآله ، وأن تعاليم الله ومعارفه الحق عند أئمة الحق من آل محمد وأهل بيته ، وإن منصب الإمامة والخلافة لرسول الله ليس منصب يأخذ على حين غره وباستغفال المسلمين ولم يكن الله ورسوله يهتم له .

وإنما منصب الإمامة والولاية : على المسلمين والخلافة لرسول الله هو منصب بتنصيب الله لمن يختاره ويصطفيه لتبليغ تعاليمه ومعارفه ، وبعد تربية بكل ما يؤهله لأن يبلغ شرح كتاب الله ونور سنة نبيه عن علم وعمل بحق ، وأن يكون له إعداد خاص من الله ورسوله .

لا إنه لم يأتمنه الله ورسوله في تبليغ آيات من كتاب الله : كما عرفت في مسألة البراءة من الكافرين وإن لا يحج مشرك ، فلم يؤمّر وأُرجع وبلغ علي أبن أبي طالب بدله سورة براءة بأمر الله ، وليعلم الناس من يكون بعد رسوله شارح لهداه ومبين لتعاليمه وبالخصوص في أواخر البعثة الإلهية وبختم الرسالة الربانية ، وإنه لا كل أحد حتى لو رفض تبلغيه الله ولم يأتمنه حتى رسوله يكون أمير وخليفة ولو بالخداع والظلم والطغيان والغصب لمنصب رسول الله وآله المطهرون بأمر الله ، بل خليفة الرسول وهدى الله وتبليغ الرسالة وشرحها بعده لابد أن يكون له شاهد بل وشواهد وبراهين بتبليغ الرسالة وثباته بطول عمره مع رسول الله ، ولا أن يعتذر بأعذار واهية حتى ينحيه رسول الله عن مصلاه ويلعنه لأنه تخلف عن جيش أسامه ، ثم يتسلط على الجيش ببيعة يستغفل بها المسلمين وينصره من يطمع بالخلافة بعده ، فينحي أسامه عن قيادة الجيش ، ويساوم أبو سفيان فيجعل أبنه أمير جيش رسول الله ويخالف الله ورسوله وأمره بمسير أسامه ، ومنع فاطمة إرثها وغيرها من المسائل التي فصلها صاحب كتاب الغدير راجعه إن أحببت المزيد من المعرفة .

بل يا طيب : يجب أن يكون خليفة رسول الله وإمام المؤمنين بحق يظهر بنور الله بكل وجوده في كل سيرته وتأريخه وعلمه وعمله ، بما عرفت من علمه في الأحاديث أعلاه ، بل حتى بحق يُعرف إنه هادي بعد رسول الله ومصداق حق لمعنى قوله تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ

إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } الرعد 7 .

ولما كان يدعى يوم القيامة كل أناس بإمامهم ، فعليك يا طيب أن تتحرى الدقة والبرهان المحكم لمعرفة الإمام الحق ، ولمعرفة سبب تسلط غير أولي الأمر على الحكومة وغصبهم لمنصب رسول الله ، وهذا هو خلاصته الاختبار الإلهي وبيانه بآيات من القرآن المجيد : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُو آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } العنكبوت3 .

{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ

أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ

انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ

وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا

وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } آل عمران 144.

ولذا علينا الإجابة في يوم القيامة حين نسأل عن الإمام الحق والمختار من الله وهل أتبعناه أم لا إذ قال تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ

مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِين (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ (66)

فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ(67)

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ

مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ

سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 68)

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)

وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } القصص 70 .

فإذا كان الله هو الذي يختار من عباده لمن يهديهم لعلمه بصدقهم وإخلاصهم ، وهو الحاكم لم يترك لهم الحكم لا في الأولى الدنيا ولا في الآخرة يوم القيامة ، وحكومة الله مستمرة لمن يختارهم ويصطفيهم من خلص عباده ، ومن اعتنى بهم في جميع أدوار حياتهم وزكاهم وطهرهم سواء من الأنبياء والمرسلين أو أوصياءهم وخلفاءهم ، ولم يترك الله دينه وتعاليمه لكل من حكم وبأي أسلوب ، فلذا علينا أن نعرف إمامنا الحق ونتبعه ونأخذ تعاليم الله منه .

هذا وقال تعالى : { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ

وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ

آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } آل عمران 142 .

{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ

فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } الإسراء72.

إنا لله وإنا إليه راجعون ، ونسأل الله : أن يرنا الحق حق فنتبعه ويرنا الباطل باطل فنجتنبه ، ويعرفنا أئمة الحق اليوم ويوم يدعوا كل أناس بإمامهم ، ويجعلنا مع نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين في رضاه ورحمته ، فائزين بكرامته ومن حزبه الغالبون لكل ضلال ، والناجيين بسفينة نجاة نبيه وآله صلى الله عليهم وسلم ، ولا يغلب علينا تقليد ولا إتباع الهوى ولا أئمة الضلال ولا الطغاة ولا الظالمين ، ويرزقنا حسن العاقبة بتطبيق كل هدى الدين الذي علمه المنعم عليهم نبينا وآله الأخيار المنتجبين ، ويجعلنا وأول من يرتوي من الحوض معهم في العلى عليين، وتحت لواء الحمد معهم ندخل جنة الخلد على سرر متقابلين وعلى الكوثر مع الحور العين، إنه ولي التوفيق وهو ارحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين .




  ف ✐

           

  ✺ ت