بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأكرم محمد وآله الطيبين الطاهرين

الجزء السابع

أنوار نهضة الإمام الحسين عليه السلام

مصباح هدى

مجالس ذكر الإمام الحسين للأولين أسوة وقدوة وبيان لشأنه الكريم

 

النور السادس

أعدت أرض كربلاء للحسين من قبل الشهادة ومعنى ابتلاء الأولياء

 

يا طيب : إن موضوع شهادة الحسين عليه السلام وكونه أسوة وقدوة لكل البشر من الأمم السابقة حتى يوم القيامة ، كان من ضمن القضاء والقدر الإلهي من آلاف السنين ، وإن الله سبحانه وتعالى حكمته ماضية وقضائه حتم وتقديره ينفذ بما يشاء ويراه يحسن ويصلح معه الكون وأهله ، ومع ذلك لا جبر على الفعل للبشر ، ولا إكراه على علم وعمل ، وكان للحسين عليه السلام أن يبايع لطاغية زمانه ويعيش بسلام .

ولكن الله سبحانه : أختار أكرم عباده لتنفيذ أمره وما به صلاح الكون ، وأجتبى أفضل أهل الكائنات لتبليغ رسالته وبيان حقائق دينه ، وإنه سبحانه وتعالى يبتليهم ويختبرهم ليبين سننه في التكوين ، وأنه لا يستثني الأنبياء والأوصياء فضلا عن غيرهم من العباد ، في ضرورة تحمل المشقات مهما كانت من أجل إقامة كل حدود دينه ، والصبر على النوائب كيف صارت لكي يسيروا على صراطه المستقيم ، وأن لا يتوانون في تنفيذ تطبيق معارف هداه ، ولا يقصرون في إقامة عبودية بكل تعاليمه .

وإن على النبي والوصي : وإمام القوم وسيدهم وولي أمر الله فيهم ، كلا حسب ظروف زمانه ، وكلا حسب أحول أهل ملته ، وما تتطور به أحوال قومه ، ونوع طلبهم للحق أو انحرافهم ، يجب عليه أن يقوم بكل ما يطلبه ظرفه وزمانه من النهضة وأعباء الدعوة لتعريف هدى الله الحق ، وما يصلح به العباد وما يحسن به الهدى ويقام بحق .

ولما كان من سنن الله سبحانه : أن يداول الأيام بين الناس ، ولا يجعل الحكومة بيد المؤمنين والأنبياء فقط ، ولا بيد الكفار أبدا ، لكي يصدق المؤمنون حين طاعتهم لأئمة الهدى في آي حال ، ويقيموا تعاليمه في كل الظروف .

والله سبحانه حكى :  كثيرا عن اختلاف الأمم ، وتفضيل من يختارهم ، بقوله :

{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ

 لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ

وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

  تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ

 مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ  الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ

وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ

وَلَكِنِ  اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ

 وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُو وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) } البقرة .

ويا طيب : بعد أن عرفت أن الله يرسل من يختارهم ليهدوا من يطلب الحق ، ويدفع بعضهم ببعض لكي يستقيم الكون وأهله ويحسن بوجود المؤمنين ، وكانت الآيات أعلاه تعرف الناس قبل الإسلام ، ولكنها عرفت قانون عام وسنة إليه ماضية .

وهذه آيات تدبرها بتمعن يا طيب  : لأنها تعرف اختلاف الناس بعد نبينا الأكرم ، وإن الله يداول الأيام ، ويعرف أنه سينقلب ناس على أئمة الحق والهدى ويحاربوهم ، وإن الله مع الصابرين الشاكرين وهم الحسين وآله صلى الله عليهم وسلم ومن تبعهم:

فقال الله تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ  فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ

وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ

وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ

 

وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء

 وَاللّهُ لاَ  يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

 

 أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ

وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ  الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)

وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ  رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143)

 

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ

أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ  انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ

وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

  وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً

وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا

وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ  نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا  أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ  أَن قَالُو ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)  فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) } آل عمران.

يا طيب : إن الآيات أعلاه حكت سنن إلهية كثير ، وفيها قوانين ربانية عظيمة ، تعرفنا إن الله سبحانه يداول الأيام ، ويختبر العباد ، وينقلب المسلمون عن الحق بعد وفاة النبي الأكرم ، والله سيجزي يجزي الشاكرين الصابرين .

وإن الله يبتلي المؤمنين : ليظهر منهم الصابرون ويختار منهم شهداء على العباد ، وهم سادة أهل الوجود ، كل إمام وشهيد وولي في زمانه ، وإن في زمان الإمام الحسين عليه السلام بلي بأعق وأضل حاكم في الإسلام ، فإنه كان متجاهر بالفجور والفسوق والعصيان ، ويكفيك أنه أمر بقتل الحسين وسبى آل محمد عليهم السلام .

ولذا قال الإمام الحسين عليه السلام : للوليد وهو الحكام من قبل يزيد على المدينة لما طلب منه البيعة ليزيد ، وبعد عدة مراجعات في الكلام بينهم :

 أقبل الإمام على الوليد فقال : أيها الأمير :

 إنا أهل بيت النبوة ، و معدن الرسالة ، و مختلف الملائكة .

و بنا فتح الله ، و بنا ختم الله .

و يزيد : رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق .

و مثلي : لا يبايع بمثله .

و لكن نصبح و تصبحون : و ننظر و تنظرون ، أينا أحق بالخلافة و البيعة ، ثم خرج عليه السلام [83].‏

 وقد قال الإمام الحسين عليه السلام في محاورته مع مروان :

 إنا لله و إنا إليه راجعون ، و على الإسلام السلام .

إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد .

 و لقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :

 الخلافة محرمة على آل أبي سفيان [84].

وإذا عرفنا ابتلاء الإمام الحسين عليه السلام : بمثل يزيد ، والله سبحانه قدر للحسين حسب ما عرفت من كثرة الأحاديث في الأنوار السابقة :

 أن يخرج عليه السلام : ثائرا ومعلما ، ومجاها مقاوما ، يعرفنا ضلال من تسلط على حكم المسلمين ، وما حل بالإسلام والمسلمين حتى تسلط الأدعياء ، وتجاهروا بالفسق والفجور وهم في أول نشأة وظهور الإسلام ، وإن بلاء الله صار قضاء حتم في تسلط الطاغية ، ليظهر من يثبت على الهدى ويتبع إمام الحق ، ممن ينحرف عن الدين ويتبع الحاكم الجائر الفاسق الضال ، فما بقي على الإمام الحسين عليه السلام إلا أن يستجيب لله ولرسوله ويقوم بواجبه ، وبنهضته يعرف الحق وينشر الهدى وينال المقام الأسمى والأجر الأوفى ، بل يصير منار لكل من يحب أن يعرف الله ويعبده بحق عبادته .

وإن هذا البلاء : وإن كان عاما لكن كان الإمام الحسين عليه السلام ، هو المقصود في أن يدخله ويمتحن البشر به على طول التأريخ ، فمن يقبل بالحسين يبلغ الفتح ، ومن يتخلف ويرضى بفعل يزيد فقد خابر وخسر .

وإن الله سبحانه حكى: إنه بالمؤمنين رءوف رحيم مع شدة ابتلاءهم بالكافرين ، وإن في محنتهم لهم الأجر الجزيل كما سترى ، وأنه يهون عليهم مصائب الدنيا وكل بلية حين يختبرهم بها إن صدقوا معه النية , ولذا قال سبحانه وتعالى :

{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ

وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ  الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ  لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا

قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ  إِلَى مَضَاجِعِهِمْ

وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ

وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) }آل  عمران.

وفي آخر النور السابق : مر أن الإمام الحسين عليه السلام أو آله كأخته زينب تأخذهم غفوة ونعاس أمن بعد غم ، يسمعون ما يذكرهم بشهادتهم ، ويقومون صابرون ويتكلمون بما يرضي الله سبحانه ، ويعبرون عن رضاهم بقضاء الله وقدره بأحسن كلام ممكن ، وستجد أخر إغفائه وخفقة للإمام الحسين عليه السلام قبل يوم شهادته وحين مقدم جيش الكفر لمحاربته وتقدمهم نحوه ، فتعرف أنه الله سبحانه كان رءوف بالإمام وكان اختار له ما به مصلحته وأجره العظيم في الآخرة ، وكما سترى في أن البلاء يكون للأنبياء ثم للأقرب منهم فالأقرب على حسب قوة وشدة الإيمان ورسوخه وثباته ، وعظيم بلاء الإمام الحسين يريك منزلته وعظمته عند الله سبحانه وتعالى .

وإذا عرفت هذا يا طيب : وإن الابتلاء جاري على البشر وأن الاختبار والصفاء حسب مكنون الأشياء والكائنات وحسب شأنه في توجهه لله ، وستعرف إن سنة الله وامتحانه يجري على النبات والحجر وكل شيء ، كما ذكر في أن العقيق والدر وغيره من الأحجار الكريمة ، فيفضلها الله ويحسن وجودها لأنها أول من استجاب لله سبحانه .

وهذه كربلاء : المشتقة من الكرب والبلاء كانت نصيب الإمام الحسين ، وأنه لأنها أرض كريمة ، ولكونها كانت عارفة شاكرة فضلها الله على أقدس الأماكن ، واسكنها الإمام الحسين عليه السلام ، وجعلها مثوى يزار بالقلوب والعقول قبل الأبدان ، ومن قبل أكرم أهل الأرض إيمانا ، وهم شيعة الإمام الحسين عليه السلام المقتدون به .

ولمعرفة هذا المعنى يا طيب : نذكر في هذا الإشراق فضل كربلاء ، وبعده في الإشراق الثاني معنى الابتلاء الإلهي وإنه يصيب الأولى فالأولى بالإيمان ، لنتعرف على بلاء الله وقوله تعالى : { وَهُوَ  الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ

 لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَل (7) } هود .

وإن أحسن الناس عمل : هم الأنبياء ثم الأوصياء ، وإن للحسين عليه السلام يكون له المقام الأسمى بعد جده وأبيه وأخيه وأمه صلوات الله عليهم ، ثم أبناءه المعصومين ، وبعدهم من يلحقهم ويعرف شأنهم ويقتدي بهداهم .

 فنعرف أن الإمام الحسين عليه السلام هو المبتلى والساكن أرض كربلاء : وهو أحسنكم عملا والعبد المختار المصطفى ، والسيد الكريم المجتبى من بين العباد ، حتى كان أسوة وقدوة لكل البشر حتى لجده وأبيه وهم سادة الخلق كلهم وأكرمهم .

فإذا عرفنا شيء : عن مجالس ذكر الإمام الحسين عليه السلام ، النابعة من أهمية ثورته وفضل نهضته ، وليكن هذا المقال شرحا لما سبق ونورا لتعريف الآتي ، فلنتدبر شأن كربلاء وكيف فازت بالابتلاء حتى استحقت أن يسكنها سيد الشهداء .

 

 

 


 

 

الإشراق الأول :

أرض كربلاء أعدة قبل آلاف السنين للحسين عليه السلام :

الإشعاع الأول :

أرض كربلاء خلقت قبل أربعة وعشرين ألف سنة وهي من رياض الجنة :

 عن ابي الجارود ، قال : قال علي بن الحسين عليهما السلام :

اتخذ الله ارض كربلاء : حرما آمنا مباركا قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرما ، بأربعة وعشرين ألف عام .

وانه إذا زلزل الله تبارك وتعالى : الأرض وسيرها ، رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية ، فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة ، وأفضل مسكن في الجنة لا يسكنها إلا النبيون والمرسلون - أو قال : أولو العزم من الرسل .

وإنها لتزهر بين رياض الجنة : كما يزهر الكوكب الدري بين الكواكب لأهل الأرض ، يغشي نورها أبصار أهل الجنة جميعا ، وهي تنادي :

إنا أرض الله المقدسة الطيبة المباركة التي تضمنت :

سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة [85].

وعن عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :

 خلق الله تعالى كربلا : قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام .

وقدسها وبارك عليه : فما زالت قبل أن يخلق الله الخلق مقدسة مباركة ، ولا تزال كذلك ، ويجعلها أفضل أرض في الجنة[86] .

 

 


 

 

الإشعاع الثاني :

تواضعت أرض كربلاء وماء الفرات حين خلق الأرض فكرمت بالحسين :

عن صفوان الجمال ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :

 أن الله تبارك وتعالى : فضل الأرضين والمياه بعضها على بعض ، فمنها ما تفاخرت ـ ومنها ما بغت ، فما من ماء ولا أرض إلا عوقبت لتركها التواضع لله ، حتى سلط الله المشركين على الكعبة ، وأرسل إلى زمزم ماء مالحا حتى أفسد طعمه .

 وإن ارض كربلا وماء الفرات : أول أرض ، وأول ماء ، قدس الله تبارك وتعالى ، وبارك الله عليهما .

 فقال لها : تكلمي بما فضلك الله تعالى فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض .

 قالت : أنا أرض الله المقدسة المباركة ، الشفاء في تربتي ومائي ، ولا فخر بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك ، ولا فخر على من دوني ، بل شكرا لله ، فأكرمها .

 وزادها بتواضعها وشكرها لله بالحسين عليه السلام وأصحابه .

 ثم قال أبو عبد الله عليه السلام :

من تواضع لله رفعه الله ، ومن تكبر وضعه الله تعالى [87].

 

 


 

 

الإشعاع الثالث :

الملائكة زارت كربلاء من قبل ألف سنة من شهادة الحسين :

عن الفضل بن يحيى ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليه السلام  ، قال :

 زوروا كربلاء : ولا تقطعوه ، فان خير أولاد الأنبياء ضمنته .

إلا وان الملائكة : زارت كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جدي الحسين عليه السلام ، وما من ليلة تمضي إلا وجبرائيل وميكائيل يزورانه .

فاجتهد يا يحيى : أن لا تفقد من ذلك الموطن [88].

 

 

 


 

 

 

الإشعاع الرابع :

أرض كربلاء زارها الأنبياء وهي قبة الإسلام :

قال أبو جعفر عليه السلام : الغاضرية:

هي البقعة : التي كلم الله فيها موسى بن عمران  عليه السلام .

 وناجي نوحا عليه السلام فيها .

 وهي أكرم : أرض الله عليه ، ولولا ذلك ما استودع الله فيها أولياءه وأنبأ نبيه ، فزوروا قبورنا بالغاضرية [89].

وعن حماد ابن أيوب ، عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

 يقبر ابني بأرض يقال لها : كربلاء .

 هي البقعة : التي كانت فيها قبة الإسلام .

 التي نجا الله : عليها المؤمنين الذين أمنوا مع نوح عليه السلام في الطوفان[90].

يا طيب : سيأتي كلاما مفصلا عن فضل كربلاء وتربتها ، وقد كتبنا قصة المتبصر بتراب كربلاء وطبعت ، وعدة مقالات في خصائص كربلاء وفضلاها وكرامتها عند الله ، وما تهبه للمؤمن من المعنى والهدى ، وكيف خالط العز والإباء ترابها ، وكيف يستلهم المؤمنون والثوار والأحرار من زيارتها ، فتهبهم معارف الهدى والغيرة والكرامة والبذل والعطاء في سبيل إعلاء كلمة الحق وطلب الإصلاح ، حتى صارت منارا للأحرار ، وحملت تربتها كتربة يسجد عليها وسبحة يسبح الله سبحانه بها ، وشفاء للداء العضال ، وطب دوار ، وبلسم كرامة وإكسير حياة ، ولمعرفة المزيد راجع صحيفة الإمام الحسين عليه السلام في موسوعة صحف الطيبين ، والبحوث الآتية عنها وفضل زيارتها .

 

 


 

 

 

 

الإشراق الثاني :

في شدة ابتلاء الأولياء المؤمنون :

يا طيب : قد ذكرنا كلاما في ابتلاء الخلق ليصفى العباد ، حتى يظهر المسلمون ، ويصفى المسلمون حتى يظهر المؤمنون ، ويصفى المؤمنون حتى يخلص لهم إمام وولي لله شاهد عليهم ، والله سبحانه يبتلي عبادة بما شاء وكيف شاء ، ويداول الأيام بين الناس ، ليظهر حقائق الخلق والصبر في جنب الله سبحانه ، وإن الله يبقي من العباد المخلصون والمؤمنون حقا فيجعلهم مراتب في الإيمان ، وأدونهم الذين لا يتخذون الظالمين أولياء ولا أئمة ولا يرضون بهم خلفاء لله سبحانه وتعالى ، لأنه سبحانه لا يحب الظالمين ولا الفاسقين فضلا عن الكفار والمنافقين .

ويا طيب : قد عرفت أن الولي المصطفى المختار الشهيد الإمام الحسين عليه السلام حين نزل كربلاء يوم الخميس في العاشر من محرم سنة إحدى و ستين ، قال عليه السلام :

هذا موضع الكرب و البلاء .

هذا مناخ ركابنا .

و محط رحالنا .

و مقتل رجالنا .

و سفك دمائنا [91].

فأرض كربلاء : وإن شرفت بالحسين عليه السلام لكنها أيضا محصت واختيرت لمثوى سيد الشهداء بعد الاختبار والتواضع لله سبحانه كما عرفت في الأحاديث السابقة ، وإنها شكرت نعمت الله عليها ، والله يختار ما يشاء من الأرض فيشرفها بموسى ليدعوه فيها أو نوح أو غيرها من الأنبياء كما عرفت بل يجعلها مزار الملائكة وأحباءه المؤمنون .

وإن المؤمن : يا طيب يبتلى ليظهر إخلاصه وقد مر البحث في هذا كما في مثل قوله تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}العنكبوت.

أو قوله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ  بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ

 قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا

قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) } البقرة .

وإن الحسين عليه السلام : من نسل إبراهيم ونبي الله محمد صلى الله عليهم وسلم ، وأبتلي براعي كيزيد ، وكان عليه أن يقاوم ويرفض طغيانه ، وفعل ما أمره الله ورسوله به كما عرفت . ولا يقال ما فائدة خروج الحسين عليه السلام : حتى خرج ليقتل ، فإنه هذا القول مثل قول بعض من يدعي الإسلام ، ولا يحب أن يجاهد في سبيل الله ، ولا يقدم على تضحية في سبيل هداه وإقامة عبوديته وقد قال من قبل سبحانه :

{ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا

 قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ  إِلَى مَضَاجِعِهِمْ

وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ   وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ

وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) } آل  عمران .

وقد عرفت : من الأحاديث السابقة ، أن الله قدر أن يقتل ليعرف محل الهدى وليكون مرقدة ومحل مثواه قبة الإسلام ، ومن كثرة عقد مجالسه من أولياءه في اللاحق كما كان في الزمن الأول ، ينتشر الإسلام ويعرف محله فيقصد ويقتدي به ويتأسى ويسلك صراطه المستقيم ، ونعرف أهل الضلال من أعدائه ومن تبعهم فنبتعد عنهم .

وإن الله: محص الحسين عليه السلام وابتلاه فوجده الصابر المخلص له في كل حال ، ولم يتوانى عن الذب عن هدى الله وطلب الإصلاح في دينه ، ولذا كرمه الله بالشهادة وجعله قدوة وأسوه ، وبالإضافة لما عرفت من أن قتل في أرض كرب وبلاء، فتدبر معنا البلاء الذي قدر للبشر وبالخصوص للمؤمنين إذ يبتليهم الله ليظهر إخلاصهم وتفانيهم ، فلنتدبر أحاديث الأبتلاء قبل أن ندخل في سفينة النجاة لمعرفة قصة نهضة الإمام :

 

 


 

 

الإشعاع الأول :

أشد الناس الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل على قدر الإيمان :

عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

إن أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الذين يلونهم ، ثم الأمثل فالأمثل.

وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال : ذكر عند أبي عبد الله عليه السلام ،  البلاء ، و ما يخص الله عز و جل به المؤمن .

فقال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله من أشد الناس بلاء في الدنيا ؟

فقال : النبيون ، ثم الأمثل فالأمثل .

 و يبتلى المؤمن بعد : على قدر إيمانه و حسن أعماله ، فمن صح إيمانه و حسن عمله اشتد بلاؤه . و من سخف إيمانه : و ضعف عمله ، قل بلاؤه.

وعن محمد بن بهلول بن مسلم العبدي عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان ، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه.

وعن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن في كتاب علي عليه السلام :

أن أشد الناس بلاء : النبيون ، ثم الوصيون ، ثم الأمثل فالأمثل . و إنما يبتلى المؤمن : على قدر أعماله الحسنة ، فمن صح دينه و حسن عمله اشتد بلاؤه .

 و ذلك أن الله عز و جل : لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ، و لا عقوبة لكافر .

و من سخف دينه و ضعف عمله : قل بلاؤه .

و أن البلاء : أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض .

وعن فضيل بن يسار عن أبي‏ جعفر عليه السلام قال :

أشد الناس بلاء :  الأنبياء ، ثم الأوصياء ، ثم الأماثل فالأماثل [92].

يا طيب : إن سادة الأوصياء هم أئمتنا ، وكلا كان مبتلى بما يناسب حال أهل زمانه ، وإن أشد المحنى والبلاء كان للإمام الحسين حتى كان قدوة وأسوة للكل ، فتدبر .

 

 


 

 

الإشعاع الثاني:

البلاء قلما يصيب غير المؤمن ولا حاجة لله فيه ولا أجر له  :

عن ذريح المحاربي عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

كان علي بن الحسين عليه السلام يقول :

إني لأكره للرجل أن يعافى في الدنيا ، فلا يصيبه شي‏ء من المصائب .

وعن أبي داود المسترق رفعه قال قال أبو عبد الله عليه السلام :

دعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم  : إلى طعام ، فلما دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت ، فتقع البيضة على وتد في حائط فثبتت عليه ، و لم تسقط و لم تنكسر ، فتعجب النبي صلى الله عليه وآله منها ، فقال له الرجل : أ عجبت من هذه البيضة ، فو الذي بعثك بالحق ما رزئت شيئا قط .

 قال فنهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : و لم يأكل من طعامه شيئا .

و قال : من لم يرزأ فما لله فيه من حاجة .

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

 لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله و بدنه نصيب .

و عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال الله عز و جل : لو لا أن يجد : عبدي المؤمن في قلبه ، لعصبت رأس الكافر بعصابة حديد ، لا يصدع رأسه أبدا.

و قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

مثل المؤمن : كمثل خامة الزرع ، تكفئها الرياح كذا و كذا ، و كذلك المؤمن تكفئه الأوجاع و الأمراض . و مثل المنافق : كمثل الإرزبة المستقيمة ، التي لا يصيبها شي‏ء حتى يأتيه الموت ، فيقصفه قصفا .

وعن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

إن المؤمن : ليكرم على الله حتى لو سأله الجنة بما فيها ، أعطاه ذلك من غير أن ينتقص من ملكه شيئا .

و إن الكافر : ليهون على الله حتى لو سأله الدنيا بما فيها ، أعطاه ذلك من غير أن ينتقص من ملكه شيئا .

و إن الله : ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء ، كما يتعاهد الغائب أهله بالطرف ، و إنه ليحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض.

وعن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يوما لأصحابه ، ملعون كل مال لا يزكى ، ملعون كل جسد لا يزكى ، و لو في كل أربعين يوما مرة .

فقيل : يا رسول الله أما زكاة المال فقد عرفناها ، فما زكاة الأجساد ؟

فقال لهم : أن تصاب بآفة . قال : فتغيرت وجوه الذين سمعوا ذلك منه، فلما رآهم قد تغيرت ألوانهم ، قال لهم : أ تدرون ما عنيت بقولي ؟

قالوا : لا يا رسول الله .

قال : بلى الرجل يخدش الخدشة ، و ينكب النكبة ، و يعثر العثرة ، و يمرض المرضة ، و يشاك الشوكة ، و ما أشبه هذا ، حتى ذكر في حديثه اختلاج العين[93] .

يا طيب : إن الكافر ومثله المنافق والمشرك ، لم يطلبوا آخرة ولم يتعظوا بالمحن ، فليس لهم من الأجر شيء ، وإن ملك الله الخالد لمن يحب الله فيحبه ويجعله يعمل الخيرات ،  وإن بلاء الله واختباره : للعباد بالمصائب والمحن ، هو لكي يتوجهوا لله سبحانه ويطلبوا ما عنده من النعيم المقيم ، وليخلصوا بالصبر في جنب الله ، من كل ما خالطهم من الظلم ، فلا يظهر من المؤمن إلا الخير ، لأنه يعرف أن المصائب فيها أذى فلا يحبها للغير ولا يعملها ، فلا تجد منه إلا كل خير ، وهو مثل الصوم ليتذكر به حال من هو فقير فينفق في سبيل الله ، ويحب الخير ويظهر به ، ومن البلاء ما يكون تكفير ذنوب ، ومنه لزيادة الأجر ، كما سيأتي بيانه فتابع البحث ليتم المعنى .

 

 


 

 

الإشعاع الثالث :

عظيم الأجر مع عظيم البلاء وهو لمن يحبهم الله وهو خير لهم وذخر :

عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

إن عظيم الأجر ، لمع عظيم البلاء ، و ما أحب الله قوما إلا ابتلاهم.

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

إن لله عز و جل : عبادا في الأرض من خالص عباده ، ما ينزل من السماء تحفة إلى الأرض إلا صرفها عنهم إلى غيرهم ، و لا بلية إلا صرفها إليهم .

وعن الحسين بن علوان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال و عنده سدير :

إن الله إذا أحب عبدا غته بالبلاء غتا . و إنا و إياكم يا سدير لنصبح به و نمسي.

عن الوليد بن علاء عن حماد عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال :

إن الله تبارك و تعالى : إذا أحب عبدا غته بالبلاء غتا ، و ثجه بالبلاء ثجا .

 فإذا دعاه ، قال : لبيك عبدي ، لئن عجلت لك ما سألت إني على ذلك لقادر ، و لئن ادخرت لك فما ادخرت لك فهو خير لك.

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن عظيم البلاء : يكافأ به عظيم الجزاء ، فإذا أحب الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء ، فمن رضي فله عند الله الرضا ، و من سخط البلاء فله عند الله السخط .

وعن يونس بن رباط قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :

إن أهل الحق : لم يزالوا منذ كانوا في شدة .

أما إن ذلك إلى مدة قليلة ، و عافية طويلة.

وعن محمد بن بهلول العبدي قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : لم يؤمن الله : المؤمن من هزاهز الدنيا ، ولكنه آمنه: من العمى فيها، و الشقاء في الآخرة .

وعن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

إنه ليكون للعبد : منزلة عند الله ، فما ينالها إلا بإحدى خصلتين .

إما بذهاب ماله أو ببلية في جسده.

وعن فضيل بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

إن في الجنة منزلة لا يبلغها عبد ، إلا بالابتلاء في جسده [94].

يا طيب : لو تدبر الأحاديث أعلاه في هذا الإشراق لرأيتها كلها تنطبق على الإمام الحسين عليه السلام ، وأنه كان أعلى مصداق لها ، فكان له عظيم الأجر لعظيم بلائه وكان بيان كريم لحب الله ورسوله له ، لأنه غت بالبلاء غتا وكانت تحف الله ، وأنه نجح برضائه بقضاء الله وقدرة ، لأنه صبر فذخر له مقام لا يناله إلا بالشهادة ، فصار لعافية طويلة من عمل مدة الدنيا القليلة ، وأمنه الله من العمى والبلاء في دينه ، بل صار منار للهدى ومحل لمعرفة الدين الحق ، سواء بزيارته أو بعقد مجالس ذكره ومعرفته .

وإنه عليه السلام : بلي بكل تحفة ، وبلية في المال والبدن والأهل ، وكان مقتله أصعب مقتل قتل به ولي لله ، سواء كان نبي أو وصي فضلا عن مؤمن عادي ، فكان عليه السلام بحق نال المقام العالي في الجنة , ولذا قال رسول الله له :

إن الإمام الحسين عليه السلام لما رفض البيعة لطاغية زمانه : ذهب ليودع جده قبل ذهابه إلى محل شهادته ، ولما كانت الليلة الثانية ، راح ليودع القبر , فقام يصلي فأطال فنعس و هو ساجد .

فجاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم  و هو في منامه ، فأخذ الحسين عليه السلام و ضمه إلى صدره ، و جعل يقبل عينيه ، و يقول : بأبي أنت كأني أراك مرملا بدمك بين عصابة من هذه الأمة يرجون شفاعتي ، ما لهم عند الله من خلاق .

يا بني : إنك قادم على أبيك و أمك و أخيك ، و هم مشتاقون إليك .

و إن لك في الجنة : درجات لا تنالها إلا بالشهادة[95] .

 

 


 

 

 

الإشعاع الرابع :

أنواع بلاء المؤمن وأنه يبتلى بكل بلية وهو يشكر الله :

عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :

المؤمن : لا يمضي عليه أربعون ليلة ، إلا عرض له أمر يحزنه يذكر به.

وعن معاوية بن عمار عن ناجية قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : إن المغيرة يقول : إن المؤمن لا يبتلى بالجذام و لا بالبرص و لا بكذا و لا بكذا .

فقال عليه السلام : إن كان لغافلا عن صاحب ياسين ، إنه كان مكنعا ، ثم رد أصابعه ، فقال : كأني أنظر إلى تكنيعه ، أتاهم فأنذرهم ، ثم عاد إليهم من الغد فقتلوه ، ثم قال : إن المؤمن يبتلى بكل بلية ، و يموت بكل ميتة ، إلا أنه لا يقتل نفسه.

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن الله عز و جل يبتلي المؤمن بكل بلية ، و يميته بكل ميتة ، و لا يبتليه بذهاب عقله.

 أ ما ترى أيوب : كيف سلط إبليس على ماله ، و على ولده و على أهله ، و على كل شي‏ء منه .  و لم يسلط : على عقله ، ترك له‏ ليوحد الله به.

وعن ابن بكير قال سألت أبا عبد الله عليه السلام : أ يبتلى المؤمن بالجذام و البرص و أشباه هذا ؟

قال فقال عليه السلام : و هل كتب البلاء إلا على المؤمن.

وعن عبد الله بن أبي يعفور قال : شكوت إلى أبي عبد الله عليه السلام ما ألقى من الأوجاع ، و كان مسقاما . فقال لي : يا عبد الله ، لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب ، لتمنى أنه قرض بالمقاريض .

وعبيد بن زرارة قال :  سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :

إن المؤمن : من الله عز و جل لبأفضل مكان ثلاثا ، إنه ليبتليه بالبلاء .

 ثم ينزع نفسه عضوا عضوا من جسده ، و هو يحمد الله على ذلك [96].

يا طيب : كما عرفت إن الإمام الحسين عليه السلام كان يعلم بكل ما سيحل به وبآله الكرام ، وإن يقتل بأفظع قتله يقتل بها إنسان ، ومن ناس كلهم يدعون الإسلام ، وإنه أقدم ويعلم أن يقرض بحوافر الخيل ، وأن يبلى في ماله وفي بدنه وفي أهله وفي كل شيء كان له ، ولكنه أقدم راضيا بما أختار الله له من الصبر والثبات والأجر العظيم ، وإن مع علمه بما سيصيبه من نزع أعضائه وقطع رأسه الشريف ، فهو يشكر الله ويحمده على ما محل به ويدعوه ويقول ، كما قال : المفيد رحمه الله في الإرشاد : روي عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام أنه قال :

لما صبحت الخيل الحسين : رفع يديه ، و قال :

اللَّهُمَّ : أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ ، وَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ .

 وَ أَنْتَ لِي : فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ، ثِقَةٌ وَ عُدَّةٌ .

 كَمْ مِنْ كَرْبٍ : يَضْعُفُ عَنْهُ الْفُؤَادُ ، وَ تَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ ، وَ يَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ ، وَ يَشْمُتُ فِيهِ الْعَدُوُّ .  أَنْزَلْتُهُ بِكَ : وَ شَكَوْتُهُ إِلَيْكَ ، رَغْبَةً مِنِّي إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ ، فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ. فَأَنْتَ : وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ ، وَ صَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ ، وَ مُنْتَهَى كُلِّ رَغْبَةٍ[97].

 

وَ آخِرُ دُعَاء الْحُسَيْنِ عليه السلام يَوْمَ كُوثِرَ :

 اللَّهُمَّ : مُتَعَالِيَ الْمَكَانِ ، عَظِيمَ الْجَبَرُوتِ ، شَدِيدَ الْمِحَالِ ، غَنِيّاً عَنِ الْخَلَائِقِ ، عَرِيضَ الْكِبْرِيَاءِ

 قَادِرٌ عَلَى مَا تَشَاءُ ، قَرِيبُ الرَّحْمَةِ ، صَادِقُ الْوَعْدِ ، ، سَابِقُ النِّعْمَةِ .

حَسَنُ الْبَلَاءِ .

قَرِيبٌ : إِذَا دُعِيتَ ، مُحِيطٌ بِمَا خَلَقْتَ ، قَابِلُ التَّوْبَةِ لِمَنْ تَابَ إِلَيْكَ ، قَادِرٌ عَلَى مَا أَرَدْتَ ، وَ مُدْرِكٌ مَا طَلَبْتَ .

 وَ شَكُورٌ : إِذَا شُكِرْتَ ، وَ ذَكُورٌ إِذَا ذُكِرْتَ .

أَدْعُوكَ مُحْتَاجاً : وَ أَرْغَبُ إِلَيْكَ فَقِيراً ، وَ أَفْزَعُ إِلَيْكَ خَائِفاً ، وَ أَبْكِي إِلَيْكَ مَكْرُوباً

 وَ أَسْتَعِينُ بِكَ ضَعِيفاً ، وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ كَافِياً .

احْكُمْ بَيْنَنا : وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ .

فَنَّهُمْ : غَرُّونَا وَ خَدَعُونَا ، وَ غَدَرُوا بِنَا وَ قَتَلُونَا .

وَ نَحْنُ عِتْرَةُ نَبِيِّكَ : وَ وُلْدُ حَبِيبِكَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، الَّذِي اصْطَفَيْتَهُ بِالرِّسَالَةِ ، وَ ائْتَمَنْتَهُ عَلَى وَحْيِكَ .

فَاجْعَلْ لَنَ : مِنْ أَمْرِنَا فَرَجاً وَ مَخْرَجاً ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ [98].

 

ويا طيب : إن ما عرفته من البلاء والشكر لله والرضا بقضاء الله وقدره له ، له أس من معارف الدين يبنى عليه ، وبه يطاع الله ويعبد ، ولإقامة دينه لابد من تحمل نوره ، والتشرف به عن رضا وحب ، لأنه يهون كل مصاب الدنيا ويجعلها محل ونور توجهه لله سبحانه والثبات في جنبه حتى يقدم عليه وينال أعلى مقام .

ويا طيب : إن لمعارف البلاء وأسبابه ودفعه وأدعيته كلام كثير ذكرنا منه اليسير وكله من أصول الكافي ، وللبحث المطول راجع البحار والكتب المختصة ، وإن بما ذكرنا كان كفاية لمعرفة أن بلاء الله للحسين عليه السلام كان مع شدته ، هو خير للبشرية إلى يوم القيامة ، لأنه يعرف محل الدين وأهله ، وحقا لنا عقد مجالس ذكره ، لنعرف دين الله الحق وصراطه المستقيم  .

 

 


 

 

 

خاتمة :

مجلس للنبي الأكرم يقول : لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين :

في مَجْمُوعَةُ الشَّهِيدِ : نَقْلًا مِنْ كِتَابِ الْأَنْوَارِ لِأَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ هَمَّامٍ : بالإسناد عن ابْنِ سِنَانٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام قَالَ :

نَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام وَ هُوَ مُقْبِلٌ ، فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ ، وَ قَالَ :

إِنَّ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ : حَرَارَةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ، لَا تَبْرُدُ أَبَداً .

ثُمَّ قَالَ عليه السلام :

 بِأَبِي قَتِيلُ كُلِّ عَبْرَةٍ .

قِيلَ عليه السلام : وَ مَا قَتِيلُ كُلِّ عَبْرَةٍ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ ؟

قَالَ : لَا يَذْكُرُهُ مُؤْمِنٌ إِلَّا بَكَى [99].

ووله دره ما قال في المناقب من أبيات شعر لدعبل الخزاعي :

هَلَّا بَكَيْتَ  عَلَى   الْحُسَيْنِ  وَ أَهْلِهِ  ‍  هَلَّا بَكَيْتَ لِمَنْ  بَكَاهُ  مُحَمَّدٌ

فَلَقَدْ   بَكَتْهُ   فِي السَّمَاءِ   مَلَائِكٌ  ‍  زُهْرٌ   كِرَامٌ   رَاكِعُو نَ وَ سُجَّدٌ

لَمْ   يَحْفَظُوا  حُبَّ   النَّبِيِّ   مُحَمَّدٍ  ‍  إِذْ   جَرَّعُوهُ   حَرَارَةً  مَا تَبْرُدُ

قَتَلُوا  الْحُسَيْنَ   فَأَثْكَلُوهُ   بِسِبْطِهِ  ‍  فَالثُّكْلُ مِنْ بَعْدِ الْحُسَيْنِ مُبَدَّدٌ

هَذَا  حُسَيْنٌ    بِالسُّيُوفِ    مُبَضَّعٌ  ‍  مُتَخَضَّبٌ    بِدِمَائِهِ   مُسْتَشْهِدٌ

عَارٍ بِلَا  ثَوْبٍ  صَرِيعٌ  فِي  الثَّرَى  ‍  بَيْنَ الْحَوَافِرِ وَ السَّنَابِكِ يُقْصَدُ

كَيْفَ  الْقَرَارُ وَ فِي السَّبَايَا زَيْنَبُ  ‍  تَدْعُو   بِفَرْطِ   حَرَارَةٍ يَا   أَحْمَدُ

يَا جَدِّ  إِنَّ  الْكَلْب  يَشْرَبُ  آمِناً  ‍  رَيّاً  وَ نَحْنُ  عَن ِ الْفُرَاتِ  نُطْرَدُ

يَا جَدِّ مِنْ ثَكْلِي وَ طُولِ مُصِيبَتِي  ‍  وَ لِمَا  أُعَايِنُهُ  أَقُوم ُ وَ    أَقْعُدُ

 

فإنا لله وإنا إليه راجعون : ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على نبينا الأكرم محمد وآله الطيبين الطاهرين ، والسلام على الحسين وآله في الأولين والآخرين وإلى أبد الآبدين ، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم معهم في الدنيا والآخرة ، ومن المحيين لذكرهم والمقيمين لمجالس ذكر الإمام الحسين عليه السلام ، إن أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

ويا طيب : لما عرفنا سبب نهضة الإمام الحسين عليه السلام ، وأنه قام بأمر الله مختارا ، فصار للدين منارا ، حتى صار قدوة للأولين والآخرين من جميع الأنبياء والأوصياء والمؤمنين ، بل حتى صار مزار لملائكة رب العالمين .

فلنذكر : حوادث وواقع نهضته وثورته مفصلا ، من يوم رفضه البيعة لطاغية زمانه حتى ليلة العاشر من المحرم في كربلاء ، وأما الشهادة وما بعدها مما يناسب شأنه الكريم في أجزاء آتية ، وسنتعرف في هذا الجزء في سفينة النجاة بعد هذا المصباح على ما بلي به عليه السلام من المحنة من انقلاب العباد عن الدين ورفضهم لطاعة ولي أمر المؤمنين بأمر الله ، وإمامهم الحق ، فأطاعوا إمام الكفر والنفاق ، فكان واجبه الحسين أن يرشدهم لما عليه من الحق ، ويدلهم الصراط المستقيم ولو يتوجهوا له بعد حين ، وفعلا نصر هداه وعرفت كرامته عند كل المؤمنين بل من جميع المنصفين ، وأسأل الله لكم ولي التوفيق إنه ولي حميد.

اللَّهُمَّ : لَكَ الْحَمْدُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ عَلَى مُصَابِهِمْ .

 الْحَمْدُ لِلَّهِ : عَلَى عَظِيمِ رَزِيَّتِي فِيهِمْ .

اللَّهُمَّ : ارْزُقْنِي شَفَاعَةَ الْحُسَيْنِ يَوْمَ الْوُرُودِ ، وَ ثَبِّتْ لِي قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَكَ مَعَ الْحُسَيْنِ

 وَ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ الَّذِينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَ الحسين عليه السلام .

كتب ليلة الأربعاء ستة محرم 1431 هـ .



 

[83] اللهوف ص22م1 . وعنه في بحار الأنوار ج44ص324ب37 .

[84] اللهوف ص24م1 . مثير الأحزان ص25 .

[85] كامل الزيارات لابن قولويه ص451ح678/5 . بحار الأنوار ج98 ص109ح10.

[86] كامل الزيارات ص453ح687/14 . تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج6ص72ح137/6 .

[87] كامل الزيارات ص455ح690/17 .

[88] كامل الزيارات ص453ح684/11 . بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج98ص109 ح16 .

[89] كامل الزيارات ص452ح680/7 .

[90] كامل الزيارات ص452ح682/9 .

[91]  المناقب ج4ص95 .

[92] الكافي ج2ص252ـ 259ح1 ، 2 ، 10 ، 29 ،ـ 4 .

[93] الكافي ج2ص256ـ 258ح19 ، 20 ، 21 ، 24 ، 25 ، 28 ـ 26.

[94] الكافي ج2ص255 ح3،ح5 ح6 ح16 ح7،ح8،ح18،ح23،ح14.

[95] الأمالي ‏للصدوق ص151ح1 م30 . بحار الأنوار ج44ص313ب37 .

[96] الكافي ج2ص254 ح11، ح12 ، ح22 ، ح27 ، ح15 ، ح13.

[97] الإرشاد ج2ص96. بحار الأنوار ج45ص4 بقية الباب 37 .

[98] مصباح ‏المتهجد ص827 .  إقبال‏ الأعمال ص690 . بحار الأنوار ج98ص348ب28ح1 .

[99] المناقب ج4ص116. بحار الأنوار ج45ص243ب44 شعر 4.

 

 

 

خادم علوم آل محمد عليهم السلام

الشيخ حسن حردان الأنباري

موسوعة صحف الطيبين

http://www.msn313.com