بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأكرم محمد وآله الطيبين الطاهرين

الجزء السابع

أنوار نهضة الإمام الحسين عليه السلام ..

سفينة نجاة

الإمام الحسين عليه السلام

مسير نهضة وثورة الإمام الحسين  على الطغاة
حتى ليلة العاشر من المحرم في كربلاء

المجلس الأول

الذكر الثالث

مسلم حليف التقى في الكوفة حتى شهادته

 

الإشراق الأول :

سرقة الخلافة بعد البيعة للحسين كالسرقة الأولى لخلافة سيد المرسلين :

يا طيب : إن السيطرة على الحكومة والولاية على دولة ما ، بسرقة حكومتها وغصب الولاية الشرعية ورفض من هو أحق بها من أهل الباطل ، له كثير من الشواهد والأمثلة في جميع تاريخ الأمم وحكوماتها ، وانحراف أمة متدينة عن دينها في الغالب ، هو لسرقة السلطة والحكومة من حكامها الشرعيين ، وكثير من الحكام أزيلوا من مناصبهم بحيلة ومكر ودهاء من المعاصرين لهم ، ومن المساعدين لهم ومن أعوانهم الذين نالوا القوة بهم ، ومثل هذا له شواهد كثيرة في التاريخ الحديث ، ولا يندر وجوده في التاريخ القديم .

ولكن محل البحث هنا : هو سرقة حكومة وخلافة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه قد يثار التساؤل الملح وعن تعجب مفرط حين يعرف إن الله تعالى قد بين في القرآن الكريم الوصي والخليفة والهادي للأمة الإسلامية بعد النبي الأكرم في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ، وجعل بيعة وعهد له في رقاب المسلمين ، وإقرار لهم بأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة ، وتوصية عظيمة متكررة من النبي الأكرم قولي وعملي ، بأن علي ابن أبي طالب هو الخليفة والوصي والهادي للأمة بعده ، سواء في آيات يوم الدار أو يوم المبيت وشراء الأنفس و يوم الغدير أو يوم المباهلة أو يوم التصدق بالخاتم أو النجوى أو النجم ويوم ندعو كل أناس بإمامهم وآيات الولاية وغيرها الكثير .

 ثم يأتي أفراد ممن كان يحيطون بالنبي الأكرم : و من أفراد المسلمين لا مقام علمي ولا شجاعة واضحة له ولا آية تبين مقامه ولا رواية تبين علو شأنه ، إلا أنه النبي قد تزوج منه ، فتراه وصحبه وفق مكر مدبر وحيلة متقنة وخداع ظالم ، يستطيع أن يغتصب الخلافة بعد النبي ويصير حاكم على المسلمين ، ثم يصبغها بصبغة شرعية وتأييد وبيعة من المسلمين ، ثم الاعتقاد به وقبوله كأمر واقع من أغلب المسلمين ، وصار كخليفة حقيقي للنبي بدل غاصب ومحتال على الخلافة والإمامة .

 فالتساؤل : هو كيف استطاع الحاكم الأول بعد النبي الأكرم خدع هذه الجموع العظيمة من المسلمين والمؤمنين أولوا السابقة والفضل ويحتال عليهم ؟ وكيف يسلب منصب عظيم ومقام رفيع ، بحيث يتحكم عليهم ويأمرهم وينهاهم ، وهم فيهم الشجعان والمجاهدين والعلماء والفضلاء وأولي الدراية ؟

فإذا صعب عليك : تصور سرقة الحكومة والخلافة ، من قبل فرد مخادع وأنصار له مثله من المسلمين بالمكر والحيلة والدهاء من بعد النبي ، وحتى بعد بيعتهم للإمام علي عليه السلام في يوم الغدير مع علو مقامه وعظيم شأنه ، أو إطاعة معاوية وترك علي.

 فأنظر قصة الكوفة : في هذا الذكر ، ومبايعة الناس لمسلم ابن عقيل لولاية سيد شباب أهل الجنة ، وسبط النبي الأكرم وخليفته بالحق ، وبعد أخذ العهود عليهم ، والوعود بالنصر منهم ، وهم فيهم الصحابة والتابعين والفضلاء ، وفي بلد يقر أغلبه إن لم يكن أجمعه في فضل الإمام علي وآله آل الرسول ، لأنهم عاصروا الإمام علي عليه السلام وكانوا في حكومته ، وكانوا على استعداد تام لنصر الحسين عليه السلام ، وهم يعدون العدة والسلاح لجهاد أعداءه ، وكتبوا له بالبيعة بل بايعوا وكيله وكتبوا لإمامهم بالطاعة.

 ويأتي فرد : لا فضيلة له ولا علم ، ولا دين ولا هدى ، ولا سابقة مشرفة في الإسلام لا له ولا لأبيه ، بل عُرف بالمكر والحيلة والفسق والفجور والظلم والعدوان ، فيسرق البيعة منهم بالمكر والخداع والجور والتخويف والترغيب وبكل حيلة، فيسلب منهم أنفسهم ودينهم ويجعلهم ينقلبون على الحسين وصحبة حتى يسقوهم الشهادة .

فإذا أردت أن تعرف : كيف سرقة الولاية والحكومة ، وهي مستوثقة معدة للإمام علي في زمان النبي ، وكيف غصبت الولاية والحكومة من الحاكم الأول بعد النبي ، وصعب عليك تصور ما حصل في ذلك الزمان ، تدبر كيف تعمل الحيلة عملها وكيف يسيطر المكر  والخداع ، فيجعل الفاسق الجائر والي على المسلمين كيزيد السكير الفاجر وعبيد الله ابن زياد الذي هو مثله في الفسق والفجور .

فيقتل الحسين : الشريف الطاهر سبط النبي الأكرم ، ومسلم ابن عقيل الشريف المؤمن ، وتسلب البيعة والعهود من أهل الكوفة ، والتي عقدها الآلاف من المسلمين من أهل العلم والدراية والتابعين ، فيتحكم عليهم ويتسلط ويقتل خيارهم .

ولكي يتم البحث عن دراية والعلم : أذكر بعض الآيات التي تحكي سابقة الإمام علي عليه السلام وعلو مقامة ، وتبين خلافة وإمامته على المسلمين ، لكي يحسن عندك العلم بعظم الموضوع وأهميته ، ومدى إمكان انحراف المؤمنين وانخداعهم ، ومن ثم يتغير الأمر فيكون المعروف منكر والمنكر معروف في الموضوع والرجال ، وكيف تتغير الأمور فيُصبغ الباطل بصبغة الحق حتى ليكاد يغلبه .

وإليك يا طيب : آيات الحق ، والتي منها ما يصرح بالولاية و ينص عليها ، كقوله تعالى في آية الولاية :

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ 

 وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ}المائدة56.

وآية الهداية : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ

إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }الرعد7.

وآية الوزارة : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ *  فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} الشعراء 216 .

وآية البلاغ : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} المائدة 67 .

وآية إتمام النعمة وإكمال النعمة ورضا الدين : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا } المائدة 3 في يوم الغدير الذي شهده الآلاف من المسلمين وبيعتهم لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وعهدهم له بالولاية .

وآية معجزة الولاية: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}المعارج2.

وآية السابقة : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} التوبة19 .  وآية رضا الله : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } البقرة 207 .

وآية النفس النبوية آية المباهلة : {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} آل عمران61.

وأية التطهير : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} الأحزاب 33 .

وآية المودة : {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} الشورى 23 .

وكثير من الآيات الكريمة : في حق الإمام علي وآله عليهم السلام ، فضلاً عن سور كاملة في حقه وآله كسورة الكوثر المعطى للنبي الصادق في ذريته من علي ، وسورة الدهر الذي نزلة في بيان مقامه وآله ، وسورة العاديات ، وسورة الفجر وغيرهن .

ويا طيب : وإن الروايات لكثيرة في حق الإمام علي ابن أبي طالب وآله ، ويكفي المؤمن حديث الثقلين ، أو حديث الطائر المشوي ، وحديث الوزارة والأخوة والوصاية ، ومئات الأحاديث الأخرى في حق الإمام المبينة لحقه في الولاية والإمامة وخلافة لرسول الله صلى الله عليه وآله ، بالإضافة لما عرفت من الآيات السابقة والتي تبعث اليقين ، وتدل على القطع به ، وتبرهن بالصدق فتعطي الإمام الولاية والخلافة له ولآله بدون من تبقي لمؤمن أي شك ولا شبه .

ثم تصور يا طيب : وغُر بفكرك فيها ، لترى كيف تأتي عصابة تجلس في سقيفة بن ساعدة ، وبدهاء حيلة عجيبة ، ومكر مدبر ، وخداع بيّن ، فيسلبون الحكومة والولاية والخلافة بعد النبي من صاحبها الشرعي ، ويتلبس بها فرد عادي فلا فضل له يعرف به ، ولا آية تعزز موقفه ، ولا حديث يركن إليه يبين فضله وعلو ومقامه .

وإذا صعب عليك تصديق الأمر السابق : في كيفية سرق الخلافة وغصب الولاية من الإمام علي وتسلط الأول وحكومته على المسلمين بعد النبي ، وليس له بحق فضيلة تذكر وعلم يشهر ولا شجاعة تعرف ، إلا أنه زوج أبنته للنبي ، ولكن سيرته السابقة سهلت الأمر له حتى غُض عن الحق ، ولكن الخدعة والطريقة  واحدة ، وإن كان الأسلوب يختلف بعض الشيء ، ولكن التفكر في مواضيع هذا الإشراقات في صحيفة الإمام الحسين عليه السلام وبالخصوص هذا الذكر والتمعن في المواضيع التالية المبينة لسرق الخلافة الحقيقة مرة أخرى ، تعطيك صورة واضحة عما كان في العهد الأول .

 فتدبر قصة سرق ابن زياد العهود والمواثيق: من أهل الكوفة، وبالخداع والحيلة ، وتحويلها عن الإمام الحق الحسين الطاهر الشريف ، لإمام الكفر يزيد الظالم الفاسق الفاجر، فيمكنك الوصول والتصور لكيفية كان الأول مقبول من المسلمين فسهل أمره ، وكيف حصل على الشرعية منهم في الحكومة وغصب المنصب العظيم لخلافة النبي .

وهذه قصة الحسين : مع يزيد ، تحكي سابقتها بشكل أخر ، وتقرب الموضع مع اختلاف الأحداث ، ولكن المسألة واحدة : هي سرق الخلافة : والولاية على المسلمين من قبل الغاصبين والظالمين بالمكر والحيلة والخداع ، فتدبر الأحاديث : السابقة والآتية تعرف ، فإن السرقة واحدة ، و الغصب مكرر أو مستمر للحكومة والولاية الإسلامية من قبل الحكام الظالمين والضالين ، وأخذها من أئمة الدين الحقيقيين .

 

 


 

 

 

 

الإشراق الثاني :

مسلم يكتب للإمام الحسين بالقدوم بعد مبايعة أهل الكوفة له :

يا طيب : عرفت في الذكر السابق ، إن الإمام الحسين عليه السلام كان في مكة المكرمة بعد هجرته من المدينة المنورة إليها ، وإن الناس كانت تجتمع به ، وترى الفرج به للخلاص من الحكام الظالمين والفجرة الفسقة ، وإن أهل الكوفة كانوا يكاتبوه ، بل تصله الرسائل منهم تترا حتى بلغت الآلاف ممن يكتب ويقرأ فضلا غيرهم، حتى أرسل إليهم رسوله مسلم بن عقيل ليأخذ له بيعتهم فبايعوه ، فأنظرها ثم أنظر كيف توانوا وخذلوه :

قال المفيد في الإرشاد : ثم أقبل ـ مسلم ـ حتى دخل الكوفة ، فنزل : في دار المختار بن أبي عبيدة ، وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيب .

وأقبلت الشيعة : تختلف إليه ، فكلما اجتمع إليه منهم جماعة ، قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام وهم يبكون .

وبايعه الناس : حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا .

 فكتب مسلم إلى الحسين عليه السلام : يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفا ، ويأمره بالقدوم ، وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل رحمه الله حتى علم بمكانه [54]

يا طيب : الظاهر مسلم أرسل أكثر من رسول واحد للحسين عليه السلام ، فيدعوه للقدوم ، لأن بعضهم أوصل رسالة للحسين عليه السلام ، كقيس ابن مسهر الصيداوي ، وهو الذي رافق مسلم من مكة عندما أرسله الإمام للكوفة ، راجع الذكر السابق موضوع الإمام يرسل مسلم بن عقيل ليخبره حال أهل الكوفة ، وسيأتي في الذكر الآتي إرسال الإمام قيس بن مسهر مرة أخرى لأهل الكوفة يدعوهم لنصره ، في موضوع : الإمام في الرملة يبعث برسالة لأهل الكوفة  .

كما سيأتي : أنه قبض على رسول مسلم عبد الله بن يقطر في رسالة ، الظاهر لاحقة ، انظر الموضوع في هذا الذكر ابن زياد يقبض على رسول مسلم  للحسين .

 

 

 


 

 

 

الإشراق الثالث :

النعمان والي الكوفة يحذر الكوفيين ويكتبوا ليزيد ضعفه فيعزله:

الإشعاع الأول :

 والي الكوفة النعمان يحذر أهل الكوفة من أتباع مسلم :

قال المفيد في الإرشاد : فبلغ النعمان بن بشير ذلك ـ أي دخول مسلم الكوفة ومبايعة الناس له ـ وكان واليا على الكوفة من قبل معاوية ، فأقره يزيد عليها .

 صعد نعمان المنبر : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :  أما بعد :

فاتقوا الله : عباد الله ، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة ، فان فيها تهلك الرجال ، وتسفك الدماء ، وتغصب الأموال ، إني لا أقاتل من لا يقاتلني ، ولا آتي على من لم يأت علي ، ولا أنبه نائمكم ، ولا أتحرش بكم ، ولا آخذ بالقرف ، ولا الظنة ، ولا التهمة ، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم ، فو الله الذي لا إله غيره ، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن لي منكم ناصر ، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل . 

فقام إليه : عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية ، فقال له :

إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم ، وهذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين .

فقال له النعمان : إن أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ، ثم نزل[55]

 

 


الإشعاع الثاني :

 متملقون يكتبون ليزيد ضعف والي الكوفة أمام مسلم :

قال المفيد في الإرشاد : وخرج عبد الله بن مسلم ، وكتب إلى يزيد بن معاوية كتابا: أما بعد :

فإن مسلم ابن عقيل قد قدم الكوفة ، وبايعه الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب ،  فإن يكن لك في الكوفة حاجة ، فأبعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوك ، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف . 

ثم كتب إليه : عمارة بن عقبة ، بنحو من كتابه .

ثم كتب إليه : عمر بن سعد بن أبي وقاص ، مثل ذلك[56] .

 

 

 


 

 

الإشعاع الثالث :

 يزيد يولي الكوفة أبن زياد باستشارة سرحون :

قال المفيد في الإرشاد : فلما وصلت الكتب إلى يزيد ، دعا سرحون مولى معاوية فقال : ما رأيك ؟

 إن الحسين قد نفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيئ ، فمن ترى أن أستعمل على الكوفة ؟

وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد ، فقال له سرجون : أ رأيت لو نشر لك معاوية حيا ما كنت آخذا برأيه ؟ قال : بلى .

 قال : فأخرج سرحون عهد عبيد الله على الكوفة ، وقال :

هذا رأي معاوية مات ، وقد أمر بهذا الكتاب ، فضم المصرين إلى عبيد الله .

فقال له يزيد : أفعل ، ابعث بعهد عبيد الله بن زياد إليه . 

ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيد الله معه :

 أما بعد : فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة ويخبرونني .

 أن ابن عقيل : فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين .

 فسر حين تقرأ كتابي هذا : حتى تأتي الكوفة ، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه ، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام ، وسلم إليه عهده على الكوفة [57].

 

 

 


 

الإشراق الرابع :

قصة خروج ابن زياد من البصرة و دخوله الكوفة متشبها بالحسين :

بعد ما عرفت : وصول كتاب يزيد لابن زياد في البصرة حيث كان حاكما لها أضاف له الكوفة ، وأمره بالخروج إليها .

وعرفت في آخر إشراق الذكر السابق توعده أهل البصرة إذا خالفوه ، وخلف أخاه حاكم على البصرة وخرج للكوفة ، وعرفت في الإشراق السابقة ، أن يزيد كتب له عهد بولاية الكوفة ، ولذا :

قال الشيخ المفيد : فخرج مسلم بن عمرو ( من عند يزيد ومعه عهده لابن زيادة بولاية الكوفة ) : حتى قدم على عبيد الله البصرة ، وأوصل إليه العهد والكتاب.

فأمر عبيد الله : بالجهاز من وقته ، والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد ، ثم خرج من البصرة ، فاستخلف أخاه عثمان[58]

 

قال ابن نما في كتاب مثير الأحزان :

فلما أشرف ـ اللعين ابن زياد ـ على الكوفة ، نزل حتى أمسى ليلا فظن أهلها أنه الحسين عليه السلام ، ودخلها مما يلي النجف .

فقالت امرأة : الله اكبر ابن رسول الله ورب الكعبة .

فتصايح الناس قالوا : إنا معك أكثر من أربعين ألفا ، وأزدحموا عليه حتى أخذوا بذنب دابته ، وظنهم أنه الحسين .

 فحصر اللثام ، وقال : أنا عبيد الله فتساقط القوم ، ووطئ بعضهم بعضا ، ودخل دار الإمارة ، وعليه عمامة سوداء . 

فلما أصبح : قام خاطبا ، وعليهم عاتبا ، ولرؤسائهم مؤنبا ، ووعدهم بالإحسان على لزوم طاعته ، وبالإساءة على معصيته والخروج عن حوزته .

 ثم قال : يا أهل الكوفة ، إن أمير المؤمنين يزيد ولاني بلدكم ، واستعملني على مصركم ، وأمرني بقسمة فيئكم بينكم ، وإنصاف مظلومكم من ظالمكم ، وأخذ الحق لضعيفكم من قويكم ، واللاحسان للسامع المطيع ، والتشديد على المريب .

فأبلغوا : هذا الرجل الهاشمي مقالتي ، ليتقي غضبي . ونزل .

 يعني بالهاشمي : مسلم بن عقيل رضي الله عنه [59]

 

وقال المفيد في الإرشاد : وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي ، وحشمه وأهل بيته ، حتى دخل الكوفة ، وعليه عمامة سوداء ، وهو متلثم .

والناس قد بلغهم : إقبال الحسين عليه السلام ، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه ، وقالوا : مرحبا بك يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه .

 فقال مسلم بن عمرو لما أكثروا : تأخروا هذا الأمير عبيد الله ابن زياد . 

وسار حتى والى القصر بالليل : ومعه جماعة قد التفوا به ، لا يشكون أنه الحسين عليه السلام ، فأغلق النعمان بن بشير عليه وعلى خاصته ، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب .

فاطلع عليه النعمان وهو يظنه الحسين فقال :  أنشدك الله إلا تنحيت ، والله ما أنا بمسلم إليك أمانتي ، ومالي في قتالك من إرب ، فجعل لا يكلمه ، ثم إنه دنا وتدلى النعمان من شرف القصر ، فجعل يكلمه فقال : افتح : لا فتحت ، فقد طال ليلك، وسمعها إنسان خلفه ، فنكص إلى القوم الذين اتبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين.

فقال : يا قوم ! ابن مرجانة ، والذي لا إله غيره .

ففتح له النعمان : فدخل ، وضربوا الباب في وجوه الناس ، وانفضوا . 

وأصبح فنادى في الناس : الصلاة جامعة .

 فاجتمع الناس : فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

أما بعد : فإن أمير المؤمنين ، يزيد ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، والإحسان إلى سامعكم ، ومطيعكم كالوالد البر ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليتق امرؤ على نفسه ، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد ، ثم نزل . 

وأخذ العرفاء بالناس أخذا شديدا فقال : اكتبوا إلي العرفاء ! ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين ، ومن فيكم من أهل الحرورية ، وأهل الريب الذين شأنهم الخلاف والنفاق والشقاق ، فمن يجئ لنا بهم فبرئ ، ومن لم يكتب لنا أحدا فليضمن لنا من في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا باغ ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله ، أيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره ، والغيت تلك العرافة من العطاء [60]

 

 

 


 

الإشراق الخامس :

مكر ابن زياد لمعرفة مكان إقامة مسلم ورفض مسلم قتله بالمكر :

 

الإشعاع الأول:

 ابن زيادة يستعمل الحيلة والمكر لمعرفة مكان مسلم :

قال المفيد في الإرشاد : ولما سمع مسلم بن عقيل رحمه الله ، مجيء عبيد الله إلى الكوفة ، ومقالته التي قالها ، وما أخذ به العرفاء والناس .

خرج من دار المختار : حتى انتهى إلى دار هانئ  ابن عروة فدخله ، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ على تستر واستخفاء  من عبيد الله ، وتواصوا بالكتمان .

 فدعا ابن زياد مولى له يقال له : معقل ، فقال :

خذ  ثلاثة آلاف درهم : واطلب مسلم بن عقيل ، والتمس أصحابه ، فإذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم .

 وقل لهم : استعينوا بها على حرب عدوكم ، وأعلمهم أنك منهم ، فإنك لو قد أعطيتهم إياها لقد اطمأنوا إليك ووثقوا بك ، ولم يكتموك شيئاً من أمورهم وأخبارهم ، ثم اغد عليهم ورح حتى تعرف مستقر مسلم ابن عقيل ، وتدخل عليه .

فعل ذلك : وجاء حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم ، وهو يصلي ، فسمع قوما يقولون : هذا يبايع للحسين .

 فجاء : وجلس إلى جنبه حتى فرغ من صلاته .

ثم قال : يا عبد الله إني امرؤ من أهل الشام ، أنعم الله علي بحب أهل البيت ، وحب من أحبهم ، وتباكى له ، وقال : معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم ، بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، فكنت أريد لقاءه فلم أجد أحدا يدلني عليه ، ولا أعرف مكانه ، فإني لجالس في المسجد الآن :

إذ سمعت نفرا من المؤمنين يقولون : هذا رجل له علم بأهل هذا البيت ، وإني أتيتك لتقبض مني هذا المال ، وتدخلني على صاحبك ، فإني أخ من إخوانك ، وثقة عليك ، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه .

فقال له ابن عوسجة : احمد الله على لقائك إياي ، فقد سرني ذلك ، لتنال الذي تحب ، ولينصرن الله بك أهل بيت نبيه عليه وعليهم السلام ، ولقد سأني معرفة الناس إياي بهذا الأمر قبل أن يتم ، مخافة هذه الطاغية وسطوته .

فقال له معقل : لا يكون إلا خيرا خذ البيعة علي ! فأخذ بيعته : وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحن وليكتمن ، فأعطاه من ذلك ما رضي به .

ثم قال له : اختلف إلي أياما في منزلي،  فإني طالب لك الإذن على صاحبك ، وأخذ يختلف مع الناس ، فطلب له الإذن ، فأذن له ، وأخذ مسلم بن عقيل بيعته ، وأمر أبا ثمامة الصائدي بقبض المال منه ، وهو الذي كان يقبض أموالهم ، وما يعين به بعضهم بعضا ، ويشتري لهم به السلاح ، وكان بصيرا وفارسا من فرسان العرب ، ووجوه الشيعة ، وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم ، فهو أول داخل وآخر خارج ، حتى فهم ما احتاج إليه ابن زياد من أمرهم ، فكان يخبره به وقتا فوقتا [61]

 

 

 


 

الإشعاع الثاني :

 مسلم يرفض استخدام المكر لقتل ابن زياد :

وقال ابن شهر آشوب : لما دخل مسلم الكوفة سكن في دار سالم بن المسيب ، فبايعه اثنا عشر ألف رجل ، فلما دخل ابن زياد انتقل من دار سالم إلى دار هانئ ، في جوف الليل ، ودخل في أمانه ، وكان يبايعه الناس حتى بايعه خمسة وعشرون ألف رجل ، فعزم على الخروج .

فقال هانئ : لا تعجل ، وكان شريك بن الأعور الهمداني جاء من البصرة مع عبيد الله بن زياد ، فمرض فنزل دار هانئ أياما .

 ثم قال لمسلم : إن عبيد الله يعودني ، وإني مطاولة الحديث ، فأخرج إليه بسيفك فاقتله ، وعلامتك أن أقول : اسقوني ماء ، ونهاه هانئ عن ذلك .

فلما دخل عبيد الله : على شريك ، وسأله عن وجعه ، وطال سؤاله ، ورأى أن أحدا لا يخرج ، فخشي أن يفوته ، فأخذ يقول شعر : 

ما الانتظار بسلمى أن تحيوها   حيوا سليمى وحيوا من يحييها

كأس المنية بالتعجيل أسقوها

فتوهم : ابن زياد ، وخرج[62] .

 

وقال ابن نما في مثير الأحزان : فلما خرج ابن زياد دخل مسلم ، والسيف في كفه . قال له شريك : ما منعك من الأمر ؟

 قال مسلم : هممت بالخروج فتعلقت بي امرأة ، وقالت : نشدتك الله إن قتلت ابن زياد في دارنا ، وبكت في وجهي ، فرميت السيف وجلست .

قال هانئ : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فررت منه وقعت فيه .

وقال أبو الفرج في المقاتل : قال هانئ لمسلم : إني لا أحب أن يقتل في داري .

 قال : فلما خرج مسلم قال له شريك : ما منعك من قتله ؟

قال : خصلتان : أما إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في داره ، وأما الأخرى فحديث حدثنيه الناس عن النبي صلى الله عليه وآله :

أن الإيمان قيد الفتك ، فلا يفتك مؤمن .

 فقال لها هانئ : أما والله لو قتلته ، لقتلت فاسقا فاجرا كافرا [63].

 

 

 


 

الإشراق السادس :

       أبن زياد يقبض على رسول مسلم ويمكر بهاني فيأتي قصره فيسجنه:

 

الإشعاع الأول :

 ابن زياد يقبض على أبن يقطر رسول مسلم  للحسين :

وقال ابن شهر آشوب رحمه الله :

 فلما دخل القصر ـ ابن زياد أي بعد مجيئه من بيت هاني ـ

أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب ، أخذه من يدي عبد الله بن يقطر .

فإذا فيه : للحسين بن علي عليهما السلام :

أما بعد : فإني أخبرك ، أنه قد بايعك من أهل الكوفة ، كذا ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فالعجل العجل ، فإن الناس كلهم معك ، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى .

فأمر ابن زياد بقتله [64]

 

 

 


 

 

الإشعاع الثاني :

 مكر ابن زياد لجلب هانئ لقصر الإمارة وسجنه :

و قال المفيد رحمه الله في الإرشاد : وخاف هانئ بن عروة عبيد الله على نفسه ، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض ، فقال ابن زياد : لجلسائه ما لي لا أرى هانئا ؟

 فقالوا : هو شاك . فقال : علمت بمرضه لعدته ، ودعا محمد بن الأشعث ، وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانئ بن عروة ، وهي أم يحيى بن هانئ .

فقال لهم : ما يمنع هانئ بن عروة من إتياننا ؟

فقالوا : ما ندري ، وقد قيل إنه يشتكي .

قال : قد بلغني أنه قد برئ ، وهو يجلس على باب داره ، فألقوه ومروه أن لا يدع ما عليه من حقنا ، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب . 

فأتوه : حتى وقفوا عليه عشية ، وهو جالس على بابه ، وقالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير ؟ فإنه قد ذكرك ، وقال : لو أعلم أنه شاك لعدته .

فقال لهم : الشكوى تمنعني .

فقالوا : قد بلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك ، وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يحتمل السلطان ، أقسمنا عليك لما ركبت معنا .

فدعا بثيابه :  فلبسها ، ثم دعا ببغلته فركبها ، حتى إذا دنا من القصر ، كأن نفسه أحست ببعض الذي كان ، فقال لحسان بن أسماء بن خارجة : يا ابن الأخ إني والله لهذا الرجل لخائف ، فما ترى ؟

فقال : يا عم ، والله ما أتخوف عليك شيئا ، ولم تجعل على نفسك سبيلا ، ولم يكن حسان يعلم في أي شيء بعث إليه عبيد الله . 

فجاء هانئ : حتى دخل على عبيد الله بن زياد ، وعنده القوم ، فلما طلع .

قال عبيد الله : أتتك بخائن رجلاه ـ خانته رجلاه أو جاء حين هلاكه ـ .

فلما دنا من ابن زياد : وعنده شريح القاضي ، التفت نحوه فقال :

أريد حباءه ويريد قتلي     عذيرك من خليلك من مراد

وقد كان : أول ما قدم مكرما له ملطفا .

 فقال له هانئ : وما ذاك أيها الأمير ؟ 

قال : إيه يا هانئ بن عروة ، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له الجموع ، والسلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أن ذلك يخفى عليّ ؟

قال : ما فعلت ذلك ، وما مسلم عندي .

قال : بلى قد فعلت ، فلما كثر بينهما ، وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته ، دعا ابن زياد معقلا ذلك العين ، فجاء حتى وقف بين يديه وقال : أتعرف هذ ؟

 قال : نعم ، وعلم هانئ عند ذلك أنه كان عينا عليهم ، وأنه قد أتاه بأخبارهم ، فاسقط في يده ساعة . 

ثم راجعته نفسه ، فقال : اسمع مني وصدق مقالتي ، فو الله ما كذبت ، والله ما دعوته إلى منزلي ، ولا علمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول ، فاستحييت من رده ، وداخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته ، وقد كان من أمره ما بلغك :

 فإن شئت : أن أعطيك الآن موثقا مغلظا ، أن لا أبغيك سوءا ولا غائلة ، ولآتينك حتى أضع يدي في يدك ، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك ، وأنطلق إليه : فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض ، فأخرج من ذمامه وجواره . 

فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به .

قال : لا والله لا أجيئك به أبدا ، أجيئك بضيفي تقتله ؟

قال : والله لتأتيني به .

قال : والله لا آتيك به .

 فلما كثر الكلام بينهما :

 قام مسلم بن عمرو الباهلي : وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره .

فقال : أصلح الله الأمير خلني وإياه حتى أكلمه ، فقام فخلا به ناحية من ابن زياد ، وهما منه بحيث يراهما ، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان . 

فقال له مسلم : يا هانئ أنشدك الله أن تقتل نفسك ، وأن تدخل البلاء في عشيرتك ، فوالله إني لأنفس بك عن القتل ، إن هذا ابن عم القوم ، وليسوا قاتليه ، ولا ضائريه ، فادفعه إليهم ، فإنه ليس عليكم بذلك مخزاة ولا منقصة ، إنما تدفعه إلى السلطان .

 فقال هانئ : والله إن عليَّ في ذلك الخزي والعار ، أن أدفع جاري وضيفي ، وأنا حي صحيح أسمع وأرى ، شديد الساعد ، كثير الأعوان ، والله لو لم يكن لي إلا واحد ليس لي ناصر ، لم أدفعه حتى أموت دونه .

 فأخذ يناشده ، وهو يقول : والله لا أدفعه إليه أبدا . 

فسمع ابن زياد لعنه الله ذلك فقال : أدنوه مني ، فأدنوه منه .

 فقال : والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك .

 فقال هانئ : إذا والله تكثر البارقة حول دارك .

 فقال ابن زياد : والهفاه عليك ، أبالبارقة تخوفني ؟

 وهو ( هاني ) يظن : أن عشيرته سيمنعونه .

ثم قال : أدنوه مني ، فأدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخده ، حتى كسر أنفه وسال الدماء على وجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخده على لحيته ، حتى كسر القضيب ، وضرب هانئ يده على قائم سيف شرطي وجاذبه الرجل ومنعه . 

فقال عبيد الله : أحروري سائر اليوم ـ خارجي خرج على رئيسه ـ قد حل دمك جروه ، فجروه فألقوه في بيت من بيوت الدار ، وأغلقوا عليه بابه .

 فقال : اجعلوا عليه حرسا ، ففعل ذلك به .

فقام إليه حسان بن أسماء ، فقال : أرسل غدر سائر اليوم ! ـ أي أرسل يا غادر رئيس القوم ـ أمرتنا أن نجيئك بالرجل ، حتى إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه ، وسيلت دماءه على لحيته ، وزعمت أنك تقتله ؟

فقال له عبيد الله : وإنك لههنا ؟ فأمر به فلهز وتعتع وأجلس ناحية .

فقال محمد بن الأشعث : قد رضينا بما رأى الأمير ، لنا كان أم علينا ، إنما الأمير مؤدب .

وبلغ عمرو بن الحجاج : أن هانئا قد قتل ، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم ، وقال : أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة ، وقد بلغهم أن صاحبهم قد قتل ، فأعظموا ذلك .

فقيل لعبيد الله بن زياد : وهذه فرسان مذحج بالباب ؟ !

فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ، ثم اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل ، فدخل شريح فنظر إليه .

فقال هانئ : لما رأى شريحا ، يا لله يا للمسلمين ، أهلكت عشيرتي ، أين أهل الدين ، أين أهل المصر ، والدماء تسيل على لحيته.

 إذ سمع الضجة على باب القصر ، فقال : إني لأظنها أصوات مذحج ، وشيعتي من المسلمين ، إنه إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني . 

فلما سمع كلامه شريح ، خرج إليهم فقال لهم : إن الأمير لما بلغه كلامكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه ، فأمرني أن ألقاكم وأعرفكم أنه حي ، وإن الذي بلغكم من قتله باطل .

فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه : أما إذ لم يقتل فالحمد لله ، ثم انصرفوا [65].

 

 

 


 

 

الإشراق السابع :

 مسلم يخرج بالمبايعين لحرب ابن زياد ومكر ابن زياد بتفريقهم:

الإشعاع الأول :

 مسلم يخرج بالمبايعين لحرب بن زياد بعد سجن هاني:

يا طيب : بعد سجن هاني وبعد ما عرفت من مكر بن زياد بتفريق عشيرة هاني عن نصرته وإخراجه من السجن ، قال المفيد في الإرشاد :

 فخرج عبيد الله بن زياد فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه .

فقال : أما بعد ، أيها الناس ، فاعتصموا بطاعة الله ، وطاعة أئمتكم ، ولا تفرقوا ، فتهلكوا ، وتذلوا ، وتقتلوا ، وتجفوا ، وتحرموا ، إن أخاك من صدقك ، وقد أعذر من أنذر ، والسلام .  ثم ذهب لينزل .

فما نزل عن المنبر : حتى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمارين يشتدون. ويقولون : قد جاء ابن عقيل ، فدخل عبيد الله القصر مسرعا وأغلق أبوابه .

فقال عبد الله بن حازم : أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانئ ، فلما ضرب وحبس ، ركبت فرسي ، فكنت أول داخل الدار على مسلم بن عقيل بالخبر ، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين يا عبرتاه يا ثكلاه .

فدخلت على مسلم فأخبرته الخبر .

فأمرني : أن أنادي في أصحابه ، وقد ملا بهم الدور حوله ، كانوا فيها أربعه آلاف رجل ، فقال :

ناد : يا منصور أمت ، فناديت ، فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه .

فعقد مسلم رحمه الله : لرؤوس الأرباع ، كندة ، ومدحج ، وتميم ، وأسد ، ومضر ، وهمدان ، وتداعى الناس واجتمعوا ، فما لبثنا إلا قليلا حتى أمتلئ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يتوثبون حتى المساء [66].

 

 

 


الإشعاع الثاني :

 ابن زياد بالمكر يخذل الناس عن مسلم ويفرقهم :

يا طيب : بعد ما أجتمع الناس مع مسلم، قال الشيخ المفيد رحمه في الإرشاد:

فضاق بعبيد الله أمره : وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر ، وليس معه إلا ثلاثون رجلا من الشرطة ، وعشرون رجلا من أشراف الناس ، وأهل بيته وخاصته ، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميين ، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم ، وهم يرمونهم بالحجارة ، ويشتمونهم ، ويفترون على عبيد الله ، وعلى أمه .

فدعا ابن زياد :

 كثير بن شهاب : وأمره أن يخرج فيمن أطاعه في مذحج ، فيسير في الكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل ، ويخوفهم الحرب ، ويحذرهم عقوبة السلطان .

وأمر محمد بن الأشعث : أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت ، فيرفع راية أمان لمن جاء من الناس ، وقال مثل ذلك : للقعقاع الذهلي ، وشبث بن ربعي التميمي ، وحجار بن أبجر السلمي ، وشمر بن ذي الجوشن العامري ، وحبس باقي وجوه الناس عنده أستيحاشا إليهم لقلة عدد من معه من الناس . 

فخرج كثير بن شهاب : يخذل الناس عن مسلم ، وخرج محمد بن الاشعث حتى  وقف عند دور بني عمارة فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث عبد الرحمن بن شريح الشيباني ، فلما رأى ابن الأشعث كثرة من أتاه ، تأخر عن مكانه ، وجعل محمد بن الأشعث وكثير بن شهاب والقعقاع بن ثور الذهلي وشبث بن ربعي يردون الناس عن اللحوق بمسلم ، ويخوفونهم السلطان ، حتى اجتمع إليهم عدد كثير من قومهم وغيرهم ، فصاروا إلى ابن زياد من قبل دار الروميين ، ودخل القوم معهم . 

فقال كثير بن شهاب : أصلح الله الأمير ! معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ، ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك ، فاخرج بنا إليهم ، فأبى عبيد الله ، وعقد لشبث ابن ربعي لواء وأخرجه .

وأقام الناس : مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء ، وأمرهم شديد .

 فبعث عبيد الله : إلى الأشراف فجمعهم ، ثم أشرفوا على الناس ، فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة ، وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة ، وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم . 

وتكلم كثير بن شهاب : حتى كادت الشمس أن تجب .

فقال : أيها الناس الحقوا بأهاليكم ، ولا تعجلوا الشر ، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل ، فان هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن تممتم على حربه ، ولم تنصرفوا من عشيتكم ، أن يحرم ذريتكم العطاء ، ويفرق مقاتليكم في مفازي الشام ، وأن يأخذ البريء منكم بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جنت أيديها .

وتكلم الأشراف بنحو من ذلك . 

فلما سمع الناس مقالتهم : أخذوا يتفرقون .

وكانت المرأة : تأتي ابنها ، أو أخاها  ، فتقول : انصرف ! الناس يكفونك .

 ويجيء الرجل : إلى ابنه ، أو أخيه ، ويقول : غدا تأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشر ؟ انصرف ! فيذهب به فينصرف .

فما زالوا : يتفرقون حتى أمسى ابن عقيل ، وصلى المغرب وما معه إلا ثلاثون نفسا في المسجد .

فلما رأى أنه قد أمسى : وليس معه إلا أولئك النفر ، خرج متوجها إلى أبواب كندة ، فلم يبلغ الأبواب إلا ومعه منهم عشرة [67].

 

 

 


 

الإشراق الثامن :

مسلم وحيدا في بيت طوعة وأبن زياد يعطي جائزة لمن يدله عليه :

الإشعاع الأول :

 يتفرق الناس عن مسلم ويبقى وحيد في بيت طوعة :

قال المفيد في الإرشاد : ثم خرج مسلم من الباب ـ باب كنده ـ وإذا ليس معه إنسان يدله ، فالتفت ، فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق ، ولا يدله على منزله ، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو ، فمضى على وجهه متلددا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب ؟ حتى خرج إلى دور بني جبلقة من كندة .

 فمضى حتى أتى إلى باب امرأة يقال لها طوعة : أم ولد كانت للأشعث بن قيس ، وأعتقها ، وتزوجها أسيد الحضرمي ، فولدت له بلالا ، وكان بلال قد خرج مع الناس ، وأمه قائمة تنتظره . 

فسلم عليها ابن عقيل : فردت عليه السلام .

فقال لها : يا أمة الله اسقيني ماء ، فسقته ، وجلس ، ودخلت .

 ثم خرجت ، فقالت : يا عبد الله ألم تشرب ؟ قال : بلى .

قالت : فاذهب إلى أهلك ، فسكت ، ثم أعادت مثل ذلك ، فسكت.

 ثم قالت في الثالثة : سبحان الله ، يا عبد الله قم عافاك الله إلى أهلك ، فانه لا يصلح لك الجلوس على بابي ، ولا أحله لك .

فقام وقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم ، قالت : يا عبد الله وما ذاك ؟

قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذبني هؤلاء القوم ، وغروني وأخرجوني .

قالت : أنت مسلم ؟ !

 قال : نعم . قالت : ادخل . 

فدخل : إلى بيت دارها ، غير البيت الذي تكون فيه ، وفرشت له وعرضت عليه  العشاء ، فلم يتعش .

ولم يكن بأسرع : من أن جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول في  البيت والخروج منه.

فقال لها : والله إنه ليريبني كثرة دخولك إلى هذا البيت وخروجك منه منذ الليلة ، إن لك لشأناً . قالت له : يا بني اله عن هذا . قال : والله لتخبريني .

قالت له : أقبل على شأنك ، ولا تسألني عن شيء .

 فألح عليها فقالت : يا بني لا تخبرن أحدا من الناس بشيء مما أخبرك به .

قال : نعم ، فأخذت عليه الأيمان ، فحلف لها ، فأخبرته فاضطجع وسكت [68]

 

 

 


الإشعاع الثاني :

 ابن زياد يخدع الناس بجائزة فيعرف مكان مسلم :

قال المفيد في الإرشاد : ولما تفرق الناس عن مسلم بن عقيل رحمه الله ، طال على ابن زياد وجعل لا  يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا كما كان يسمع قبل ذلك .

 فقال لأصحابه : أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدا ؟  فأشرفوا فلم يجدوا أحدا . قال : فأنظروهم لعلهم تحت الظلال قد كمنوا لكم ، فنزعوا تخاتج المسجد ، وجعلوا يخفضون بشعل النار في أيديهم وينظرون ، وكانت أحيانا تضيء لهم وتارة لا تضيء لهم كما يريدون ، فدلوا القناديل وأطنان القصب تشد بالحبال ، ثم يجعل فيها النيران ثم تدلى حتى  ينتهي إلى الأرض ، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها ، حتى فعل ذلك بالظلة التي فيها المنبر ، فلما لم يروا شيئا ، أعلموا ابن زياد بتفرق القوم .

ففتح باب السدة التي في المسجد : ثم خرج فصعد المنبر ، وخرج أصحابه معه وأمرهم فجلسوا قبيل العتمة ، وأمر عمر بن نافع فنادى : ألا برئت الذمة من رجل من الشرط أو العرفاء والمناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد .

 فلم يكن إلا ساعة :حتى أمتلئ المسجد من الناس ، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة ، وأقام الحرس خلفه، وأمرهم بحراسته، ومن أن يدخل إليه من يغتاله ، وصلى بالناس . 

ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أما بعد : فإن ابن عقيل السفيه الجاهل ، قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقوا الله عباد الله ، وألزموا الطاعة وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا . 

يا حصين بن نمير : ثكلتك أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة ، وخرج هذا الرجل ولم تأتني به ، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة . فابعث مراصد على أهل الكوفة ودورهم ، وأصبح غدا وأستبرء الدور ، وجس خلاله ، حتى تأتيني بهذا الرجل ، وكان الحصين بن نمير على شرطه ، وهو من بني تميم .

ثم دخل ابن زياد القصر : وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمره على الناس . 

فلما أصبح : جلس مجلسه ، وأذن للناس ، فدخلوا عليه . وأقبل محمد بن الأشعث، فقال: مرحبا بمن لا يستغش ولا يتهم ، ثم أقعده إلى جنبه .

وأصبح ابن تلك العجوز : فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند أمه . فأقبل عبد الرحمن : حتى أتى أباه ، وهو عند ابن زياد ، فساره ، فعرف ابن زياد سراره .

فقال له ابن زياد : بالقضيب في جنبه ، قم ، فأتني به الساعة .

فقام : وبعث معه قومه ، لأنه قد علم ، أن كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل مسلم بن عقيل [69]

 

 

 


 

الإشراق التاسع :

مسلم بعد إعطاءه الأمان وأسره وتسليمه لابن زياد :

قال الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد : ( بعدما عرف أبن زياد مكان مسلم ) :

بعث عبيد الله بن زياد : محمد بن الأشعث ، و معه عبيد الله بن عباس السلمي ، في سبعين رجلا من قيس ، حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل رحمه الله .

فلما سمع : وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال ، علم أنه قد أتي .

 فخرج إليهم : بسيفه ، واقتحموا عليه الدار ، فشد عليهم يضربهم بسيفه ، حتى أخرجهم من الدار ، ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك .

 فاختلف : هو ، وبكر بن حمران الأحمري ، ضربتين .

 فضرب بكر فم مسلم : فقطع شفته العليا ، وأسرع السيف في السفلى ، وفصلت له ثنيتاه .

وضرب مسلم : في رأسه ضربة منكرة ، وثناه بأخرى على حبل العاتق ، كادت تطلع إلى جوفه . 

فلما رأوا ذلك : أشرفوا عليه من فوق البيت ، وأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في أطنان القصب ، ثم يرمونها عليه من فوق البيت .

فلما رأى ذلك : خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكة .

 فقال محمد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك .

وهو يقاتلهم ويقول : 

أقسـمت لا اقتل إلا حرا   وإن رأيـت المـوت شيئا نكرا

ويخلط البارد سخنا مـرا     رد شـعاع الشـمـس فاستقرا

كل امرئ يوما ملاق شرا    أخاف أن اكـذب أو اغرا

فقال له محمد بن الأشعث : إنك لا تكذب ولا تغر ولا تخدع ، إن القوم بنوا عمك ، وليسوا بقاتليك ، ولا ضائريك ، وكان قد أثخن بالحجارة .

وعجز عن القتال : فانتهز ، واستند ظهره إلى جنب تلك الدار .

فأعاد ابن الأشعث عليه القول : لك الأمان .

 فقال : آمن أنا ؟ قال : نعم .

 فقال للقوم الذين معه : ألي الأمان ؟ قال القوم له : نعم .

إلا عبيد الله بن العباس السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل ، ثم تنحى.

فقال مسلم : أما لو لم تأمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، فأتى ببغلة فحمل عليها ، واجتمعوا حوله ونزعوا سيفه ، وكأنه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ، ثم قال : هذا أول الغدر .

 فقال له محمد بن الأشعث : أرجو أن لا يكون عليك بأس .

قال : وما هو إلا الرجاء ؟ أين أمانكم ؟

إنا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى .

فقال له عبيد الله بن العباس : إن من يطلب مثل الذي طلبت ، إذا ينزل به مثل ما نزل بك ، لم يبك .

قال : والله إني ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا ، ولكني أبكي لأهلي المقبلين .

إني أبكي للحسين وآل الحسين عليه السلام . 

ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال : يا عبد الله إني أراك والله ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير ، تستطيع أن تبعث من عند رجلا على لساني أن يبلغ حسينا ، فإني لا أراه إلا وقد خرج اليوم أو خارج غدا وأهل بيته .

ويقول له : إن ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في يد القوم لا يرى أنه يمسي حتى يقتل ، وهو يقول لك :

 ارجع : فداك أبي وأمي بأهل بيتك ، ولا يغررك أهل الكوفة ، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل .

إن أهل الكوفة قد كذبوك ، وليس لكذوب رأي .

 فقال ابن الأشعث : والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك [70].

 

وقال محمد بن شهر آشوب :

 أنفذ عبيد الله ، عمرو بن حريث المخزومي ، ومحمد بن الأشعث ، في سبعين رجلا ، حتى أطافوا بالدار .

فحمل مسلم عليهم وهو يقول : 

هو الموت فاصنع و بك ما أنت صانع    فأنت   لكأس    الموت  لا  شك  جارع

فـصـبر    لأمـر    الله    جـل   جلالـه     فحـكم   قضـاء   الله  في  الخلق   ذائع

فقتل منهم أحدا وأربعين رجلا [71].

 

وقال محمد بن أبي طالب :

لما قتل مسلم منهم جماعة كثيرة .

وبلغ ذلك ابن زياد : أرسل إلى محمد بن الأشعث ، يقول : بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة ، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره ؟

فأرسل ابن الأشعث : أيها الأمير أتظن أنك بعثتني إلى بقال من بقالي الكوفة ، أو إلى جرمقاني من جرامقة ألحيرة ؟

 أو لم تعلم أيها الأمير : أنك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف  حسام ، في كف بطل همام ، من آل خير الأنام .

 فأرسل إليه ابن زياد : أعطه الأمان ، فإنك لا تقدر عليه إلا به [72]

 

وقال السيد أبن طاووس : ولما قتل مسلم منهم جماعة .

نادى إليه محمد بن الأشعث : يا مسلم لك الأمان .

 فقال مسلم : وأي أمان للغدرة الفجرة ثم أقبل يقاتلهم.

ويرتجز بأبيات حمران بن مالك الخثعمي يوم القرن .

 أقسمت لا اقتل إلا حر .... إلى آخر الأبيات .

 فنادى إليه : إنك لا تكذب ، ولا تغر ، فلم يلتفت إلى ذلك ، وتكاثروا عليه بعد أن أثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه فخر إلى الأرض فأخذ أسيرا [73].

وقال المجلسي رحمه الله أقول :

روي في بعض كتب المناقب بسنده عن عمرو بن دينار  قال :

 أرسل الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد .

 قال عمرو وغيره :

 لقد كان من قوته : أنه يأخذ الرجل بيده ، فيرمي به فوق البيت [74]

 

 

 

 


 

 

الإشراق العاشر :

مسلم في قصر الإمارة بعد أسره حتى استشهاده :

وإنهم بعد أخذوا مسلما أسيرا جاءوا به لأبن زياد ولذا قال الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد : وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر ، واستأذن ، فأذن له .

فدخل : على عبيد الله بن زياد ، فأخبره خبر ابن عقيل ، وضرب بكر إياه ، وما كان من أمانه له . فقال له عبيد الله : وما أنت والأمان ؟ كأنا أرسلناك لتؤمنه ، إنما أرسلناك لتأتينا به . فسكت ابن الأشعث .

وانتهى بابن عقيل : إلى باب القصر ، وقد اشتد به العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ، ينتظرون الإذن ، فيهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو ، وكثير بن شهاب . وإذا قلة باردة : موضوعة على الباب . 

فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء ! فقال له مسلم بن عمرو : أتراها ما أبردها لا والله لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم .

فقال له ابن عقيل : ويحك من أنت ؟ فقال : أنا الذي عرف الحق إذا أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وأطاعه إذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي .

فقال له ابن عقيل : لأمك الثكل ما أجفاك وأقطعك وأقسى قلبك ، أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني .  ثم جلس فتساند إلى حائط .

وبعث عمرو بن حريث : غلاما له فأتاه بقلة عليها منديل وقدح .

فصب فيه ماء ، فقال له : اشرب .

فأخذ : كلما شرب أمتلئ القدح دما من فمه ، ولا يقدر أن يشرب ، ففعل ذلك مرتين ، فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح .

فقال : الحمد الله لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته .

 وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه .  فلما دخل لم يسلم عليه بالآمرة .

 فقال له الحرسي : ألا تسلم على الأمير ؟  فقال : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ، وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه.

 فقال له ابن زياد : لعمري لتقتلن ، قال : كذلك ؟ قال : نعم .

 قال : فدعني أوصي إلى بعض قومي ، قال : افعل !

 فنظر مسلم: إلى جلساء عبيد الله بن زياد ، وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص .

 فقال : يا عمر إن بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي ، وهي سر ، فامتنع عمر أن يسمع منه .

فقال له عبيد الله بن زياد : لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك ؟

فقام معه : فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد .

 فقال له : إن علي بالكوفة دينا أستدنته منذ قدمت الكوفة سبع مائة درهم ، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني ، وإذا قتلت فأستوهب جثتي من ابن زياد فوارها .

وابعث إلى الحسين عليه السلام : من يرده ، فإني قد كتبت إليه اعلمه أن الناس معه ، ولا أراه إلا مقبلا . 

فقال عمر لابن زياد : أتدري أيها الأمير ما قال لي ؟ إنه ذكر كذا وكذا .

فقال ابن زياد : إنه لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن ، أما ماله فهو له ، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحب ، وأما جثته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها ، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده .  ثم قال ابن زياد : إيه ابن عقيل : أتيت الناس وهم جمع فشتت بينهم ، وفرقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض .

قال مسلم : كلا لست لذلك أتيت .

ولكن أهل المصر : زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعو إلى الكتاب .

 فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق ؟ لمَ لم تعمل فيهم بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ؟ قال مسلم : أنا أشرب الخمر ؟

 أما  والله : إن الله ليعلم أنك غير صادق ، وأنك قد قلت بغير علم ، وأني لست كما ذكرت ، وأنك أحق بشرب الخمر مني ، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا ، فيقتل النفس التي حرم الله قتله ، ويسفك الدم الذي حرم الله  على الغصب والعداوة ، وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب ، كان لم يصنع شيئا . 

فقال له ابن زياد : يا فاسق إن نفسك منتك ما حال الله دونه ، ولم يرك الله له أهلا .

فقال مسلم : فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟ فقال ابن زياد : أمير المؤمنين يزيد .

 فقال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم .

   فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة  لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس.

 فقال له مسلم : أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن ، وإنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السيرة ، ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك .

فأقبل ابن زياد : يشتمه ويشتم الحسين وعليا وعقيلا ، وأخذ مسلم لا يكلمه . 

ثم قال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر ، فاضربوا عنقه ، ثم أتبعوه جسده .

فقال مسلم رحمه الله : والله لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني .

فقال ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف . فدعا بكر بن حمران الأحمري ، فقال له : اصعد فليكن أنت الذي تضرب عنقه . فصعد به :

وهو يكبر ويستغفر الله ، ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وآله.

ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وخذلونا . 

وأشرفوا به : على موضع الحذائين اليوم ، فضرب عنقه وأتبع رأسه جثته [75]

 

وقال السيد أبن طاووس :فلما دخل على عبيد الله  :لم يسلم عليه .فقال له الحرسي : سلم على الأمير . فقال له : اسكت يا ويحك ، والله ما هولي بأمير .

فقال ابن زياد : لا عليك سلمت أم لم تسلم فإنك مقتول .

فقال له مسلم: إن قتلتني فلقد قتل من هو شر منك من هو خير مني. ثم قال ابن زياد: يا عاق ويا شاق، خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة.

 فقال مسلم : كذبت يا ابن زياد ، إنما شق عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد .

 وأما الفتنة : فإنما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد عبد بني علاج من ثقيف .

وأنا : أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شر بريته . 

ثم قال السيد بن طاووس : بعد ما ذكر بعض ما مر :

 فضرب عنقه ، ونزل مذعورا .فقال له ابن زياد : ما شأنك ؟ فقال : أيها الأمير ، رأيت ساعة قتلته رجلا أسود سيئ الوجه حذائي ، عاضا على أصبعه ، أو قال : شفتيه ، ففزعت فزعا لم أفزعه قط !فقال ابن زياد : لعلك دهشت [76]

وقال المسعودي : دعا ابن زياد : بكير بن حمران الذي قتل مسلما ، فقال : أقتلته ؟ قال : نعم .قال : فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه ؟

قال : كان يكبر ويسبح ويهلل ويستغفر الله ، فلما أدنيناه لنضرب عنقه .

قال : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا ، ثم خذلونا وقتلونا .

 فقلت له : الحمد لله الذي أقادني منك ، وضربته ضربة لم تعمل شيئا .

 فقال لي : أو ما يكفيك في خدش مني وفاء بدمك ؟ أيها العبد .

قال ابن زياد : وفخرا عند الموت ؟ قال : وضربته الثانية فقتلته[77]

 

قال في الإرشاد : وكان خروج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين ، وقتل رحمه الله يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة [78].

فإنا لله وإنا إليه راجعون ورحم الله مسلما وألحقنا به نحف بالحسين عليه السلام.

 

 

 

 


 

الإشراق الحادي عشر :

استشهاد هاني وبعث رأسه ليزيد فيمدح يزيد ويأمره بأخذ الحسين :

الإشعاع الأول :

 شهادة هانئ بن عروة رحمه الله :

وقال الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد :

فقام محمد بن الأشعث : إلى عبيد الله بن زياد ، فكلمه في هانئ بن عروة .

 فقال : إنك قد عرفت موضع هانئ من المصر ، وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك ، وأنشدك الله لما وهبته لي ، فإني أكره عداوة المصر وأهله .

فوعده أن يفعل : ثم بدا له ، وأمر بهاني في الحال .

 فقال : أخرجوه  إلى السوق فاضربوا عنقه .

 فأخرج هاني : حتى أتي به إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم ، وهو مكتوف .

 فجعل يقول : وا مذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه يا مذحجاه أين مذحج ؟ 

فلما رأى أن أحدا لا ينصره : جذب يده فنزعها من الكتاف ، ثم قال : أما من عصا ، أو سكين ، أو حجارة ، أو عظم يحاجز به رجل عن نفسه ؟

 ووثبوا إليه : فشدوه وثاقا . ثم قيل له : امدد عنقك .

فقال : ما أنا بها بسخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي . فضربه : مولى لعبيد الله بن زياد تركي ، يقال له : رشيد ، بالسيف ، فلم يصنع شيئا .

فقال له هانئ : إلى الله المعاد .

 اللهم : إلى رحمتك ورضوانك ، ثم ضربه أخرى ، فقتله [79]

أول ما رثي به مسلم وهانئ من الشعر :

قال الشيخ المفيد في الإرشاد : وفي مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة رحمهما الله يقول : عبد الله بن الزبير الأسدي :

فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري     إلى  هانئ  في  السوق  و ابن عقيـل

إلى  بطل  قـد  هشـم  السيف وجهه      وآخر    يهـوي   من   طمـار   قتيـل

أصـابهما     أمـر    اللعـين    فأصبـح      أحاديـث   من   يسري  بكل  سبيـل

تـرى   جسـدا  قد  غير  المـوت  لونه       و  نضح  دم  قـد  سال  كل مسيـل

فـتى   كـان   أحيـا   من   فتـاة  حيية      و  أقطـع  من  ذي  شفرتين  صقيـل

أ  يركـب    أسـماء    الهماليـج    آمنـا     وقـد     طالبتـه    مذحج    بـذحـول

تطيـف     حـواليـه     مـراد   و كـلهم      على   رقبة   مـن  سـائل  و  مسؤول

     فـإن    أنتـم    لم   تـثـأروا    بأخيـكم      فكونـوا    بغـايا    أرضيت    بقليـل[80]

 

 

 

 


 

 

الإشعاع الثاني:

 ابن زياد يكتب ليزيد ويبعث له برأس مسلم وهاني:

وقال الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد :

ولما قتل ( ابن زياد ) مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة رحمة الله عليهما :

 بعث ابن زياد : برأسيهما ، مع هانئ بن أبي حية الوادعي ، والزبير بن الأروح التميمي ، إلى يزيد بن معاوية .

وأمر كاتبه : أن يكتب إلى يزيد بما كان من أمر مسلم وهانئ .

 فكتب الكاتب : وهو عمرو بن نافع ، فأطال فيه ، وكان أول من أطال في الكتب ، فلما نظر فيه عبيد الله كرهه .

وقال : ما هذا التطويل وهذه الفضول ، أكتب : 

أما بعد : الحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه ، وكفاه مؤنة عدوه .

 أخبر أمير المؤمنين : أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وإني جعلت عليهما المراصد والعيون ، ودسست إليهما الرجال ، وكدتهما حتى أخرجتهما ، وأمكن الله منهما ، فقدمتهما ، وضربت أعناقهما .

وقد بعثت إليك : برأسيهما ، مع هانئ بن أبي حية الوادعي ، والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة ، فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب من أمرهما ، فإن عندهما علما وورعا وصدقا والسلام [81]

 

 

 


 

 

 

الإشعاع الثالث :

يزيد لعنه الله يمدح أبن زياد ويكتب له بخروج الحسين :

وقال الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد

: فكتب إليه يزيد : أما بعد .

 فإنك : لم تعد أن كنت لما أحب ، علمت عمل الحازم ، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، وقد أغنيت وكفيت ، وصدقت ظني بك ورأيي فيك .

 وقد دعوت : رسوليك ، وسألتهما وناجيتهما ، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت ، فاستوص بهما خيرا .

وإنه قد بلغني : أن حسينا قد توجه نحو العراق ، فضع المناظر والمسالح ، واحترس واحبس على الظنة ، واقتل على التهمة .

واكتب إلي : في كل يوم ما يحدث من خبر إن شاء الله [82].

وقال ابن نما : كتب يزيد إلى ابن زياد :

 قد بلغني : أن حسينا قد سار إلى الكوفة .

وقد ابتلى :

به زمانك من بين الأزمان ، وبلدك من بين البلدان .

 وابتليت : به من بين العمال ، وعندها تعتق أو تعود عبدا ، كما تُعبد العبيد [83].

 

إنا لله وإنا إليه راجعون : إذ ابتليت الأمة برعاة وحكام مثل يزيد وابن زياد ، ممن لا يعرفون للحق حرمة ولا للدين حومة ، ويعملون بكل مكر وحيلة وخداع لتضليل الناس وجعلهم عبيد لهم وتحت سلطانهم ، ليتحكموا عليهم بما يشاءون ، ومن غير علم بدين ولا معرفة بهدى ، ويطالبوهم بأن يدعوهم أمير المؤمنين ، وخلفاء لرسول رب العالمين.

 وهم أبعد : ما يكونوا من الدين وعن رسول الله ، وذلك بما قتلوا من بني هاشم وطلبهم لقتل الحسين بن علي عليه السلام ، وهو سيد شباب أهل الجنة وإمام الهدى ومحل الإيمان كله ، وله كرامة الله بالعمل بالتقوى ، والتوفيق للظهور بالصلاح بعد العمى وما عمله أهل الباطل والضلال .

ولله سبحانه : الأمر من قبل ومن بعد ، وهو جعل فتنته ومحنته بالحسين عليه السلام ، كما قالوا وعرفوا حكمة الله ، ولكنهم جحدوا الحق وأحبوا الباطل بعد أن استيقنتها أنفسهم ، وهذا المحنة إلى أخر دهر ، وليس مصر الكوفة وحده ولا ذلك الزمان دون غيره ابتلوا بابن زياد ويزيد من جانب ، والحسين من جانب آخر ، بل لأخر الدهر محنة الله وفتنته جارية ، وبلاءه مستمر لخلقه وعباده ولكل المسلمين والمؤمنين ، ومنهجهما مختلف .

وأهل الباطل : يختارون ضلال ابن زياد ويزيد ومن لف لفهما ومن مهد لهم .

والمؤمنون : على نهج الإمام الحسين عليه السلام ومعارف نور هداه وسنته وسيرته وسلوكه ، فيمن يحب الحسين وينصره ويقتدي به ، فله الحسنى ومعه في الجنة مع رسول الله وآله صلى الله عليهم وسلم ، أو يقتدي بعدوه ويحبه فله النار خالدا فيها .

وجعلنا الله وإياكم : مع الحسين سيد شباب أهل الجنة وآله وصحبه صلوات الله عليهم وسلامه ، إنه أرحم الراحمين والعالم بما في أنفس من حب أهل الخير والعدل والصلاح والهدى ، و حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم : بحق محمد وآله صلاة الله وسلامه عليهم ، أسلك بنا صراطهم المستقيم ، واجعلنا مع الحسين وآله في كل نعيم ، وأبعدنا عن نهج أولي الجحيم ، إنك يا رب أنت الودود الرحيم ، والسيد الولي الكريم ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

 

 

 

 



[54] الإرشاد ج2ص40 ، بحار الأنوار ج40ب37ص332ح2.

[55] الإرشاد ج2ص41 ، بحار الأنوار ج40ب37ص336ح2. والتحريش : الإغراء بين القوم ، و القرف : التهمة ، والغشم : الظلم .

[56] الإرشاد ج2ص42 ، بحار الأنوار ج40ب37ص336ح2. بعض كتب سرحون وبعض سرجون.

[57] الإرشاد ج2ص36 ، بحار الأنوار ج40ب37ص336ح2. طلب الخرزة كأنه كناية عن شدة الطلب فإن من يطلب الخرزة يفتشها في كل مكان وثقبة ، وثقفه : صادفه .

[58] الإرشاد ج2ص36 ، بحار الأنوار ج40ب37ص336ح2 .

[59] بحار الأنوار ج40ب37ص340ح2.

[60] الإرشاد ج2ص43 ، بحار الأنوار ج40ب37ص340ح2. قوله :  لا فتحت : دعاء عليه أي لا فتحت على نفسك بابا من الخير . فقد طال ليلك : أي كثر وامتد همك أو انتظارك ، وفي مروج الذهب ، فقد طال نومك أي غفلتك ، وضربوا الباب أي أغلقوه .

قوله : فإن الصدق ينبئ عنك ، قال الزمخشري في المستقصى : الصدق ينبئ عنك لا الوعيد : غير مهموز من أنباه إذا جعله نابيا أي إنما يبعد عنك العدو ويرده أن تصدقه القتال ، لا التهديد ، يضرب للجبان يتوعد ثم لا يفعل ، وقال الجوهري : في المثل : الصدق ينبئ عنك لا الوعيد : أي إن الصدق يدفع عنك الغائلة في الحرب دون التهديد قال أبو عبيد : هو ينبئ غير مهموز ، ويقال : أصله الهمز من  الأنباء أي إن الفعل يخبر عن حقيقتك لا القول انتهى .

وفي بعض النسخ عليك أي عند ما يتحقق ما أقول ، تطلع على فوائد ما أقول لك وتندم على ما فات لا مجرد وعيدي ، يقال : نبأت على القوم طلعت عليهم ،  والظاهر أنه تصحيف .

و  العريف : النقيب ، وهو دون الرئيس .

[61] الإرشاد ج2ص45 ، بحار الأنوار ج40ب37ص341ح2.

[62] بحار الأنوار ج40ب37ص343ح2 عن مناقب آل أبى طالب ج 4 ص 91 و 92 .

[63] بحار الأنوار ج40ب37ص343ح2. مقاتل الطالبين ص 71 والحديث رواه أبو داود في سننه ج 2 ص 79 عن أبي هريرة ، ومعناه : أن الإيمان يمنع من الفتك الذي هو القتل بعد الأمان غدرا ، كما يمنع القيد من التصرف .

[64] باختصار في بحار الأنوار ج40ب37ص343ح2 عن مناقب آل أبى طالب ج4ص91.

[65] الإرشاد ج2ص46 والملهوف ص 42. ، بحار الأنوار ج40ب37ص344ح2 قوله : ولم تجعل على نفسك : الجملة حالية ، وقال الجزري : في حديث علي عليه السلام قال : وهو ينظر إلى ابن ملجم : عذيرك من خليلك من مراد ، يقال : عذيرك من فلان بالنصب ، أي هات من يعذرك فيه ، فعيل بمعنى فاعل ، قوله : أيه أي اسكت ، والشائع فيه إيها . وقال الفيروز آبادي : ربص بفلان ربصا : انتظر به خيرا أو شرا يحل به كتربص . ويقال : سقط في يديه : أي ندم ، وجوز اسقط في يديه . والذمام : الحق والحرمة ، وأذم فلانا أجاره ، ويقال : أخذتني منه مذمة أي رقة وعار من ترك حرمته . والغالئة : للداهية ، ونفس به : بالكسر أي ضن به ، والبارقة : السيوف .

 والحروري الخارجي : أي أنت كنت ، أو تكون خارجيا في جميع الأيام ، أو في بقية اليوم . 

وقال الجوهري : ومن أمثالهم في اليأس عن الحاجة : أسائر اليوم ، وقد زال الظهر ، أي أتطمع فيما بعد وقد تبين لك اليأس ، لأن من كان حاجته اليوم بأسره وقد زال الظهر ، وجب أن ييأس منه بغروب الشمس ، انتهى . والظاهر أن هذا  المعنى لا يناسب المقام ( الظاهر يعبر به باليأس منه ) . في مجمع الأمثال : أ سائر القوم وقد زال الظهر ، راجع ج 1 ص 335 تحت الرقم 1790 .

[66] الإرشاد ج2ص51 ، بحار الأنوار ج40ب37ص348ح2.

[67] الإرشاد ج2ص52 ، بحار الأنوار ج40ب37ص348ح2. قوله : استيحاشا إليهم ، يقال : استوحش أي وجد الوحشة .

[68] الإرشاد ج2ص54 ، بحار الأنوار ج40ب37ص350ح2. والمتلدد : المتحير الذي يلتفت يمينا وشمالا .

[69] الإرشاد ج2ص55 ، بحار الأنوار ج40ب37ص351ح2. و التخاتج : لعله جمع تختج ، معرب : تخته ، أي نزعوا الأخشاب من سقف المسجد لينظروا هل فيه أحد منهم ، وإن لم يرد بهذا المعنى في اللغة ، والمنكب : هو رأس العرفاء ، والاستبراء : الاختبار والاستعلام .  قوله : وجس خلالها ، من قولهم { جاسوا خلال الديار } أي تخللوها فطلبوا ما فيها .

[70] الإرشاد ج2ص57 ، بحار الأنوار ج40ب37ص352ح2. قال المجلسي : فانتهز : أي اغتنم الأمان .  قوله : لا ناقة لي في هذا ، قال الزمخشري في مستقصى الأمثال : أي لا خير لي فيه ولا شر . أي لا يهمني ولا يزيدني ولا ينقصني .

[71] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 93 . بحار الأنوار ج40ب37ص354ح2.

[72] بحار الأنوار ج40ب37ص354ح2. عن كتاب مقتل الحسين صلوات الله عليه المسمى بتسلية المجالس وزينة المجالس . وقال الفيروز آبادي : الجرامقة قوم من العجم ، صاروا بالموصل في أوائل الإسلام ، الواحد :جرمقاني ، والضرغام : بالكسر الأسد ، والهمام : كغراب الملك العظيم الهمة ، والسيد : الشجاع ، قوله عليه السلام : من يلغ : من ولوغ الكلب ، و طمار : المكان المرتفع .

[73] راجع كتاب الملهوف ص 47 - 50 . بحار الأنوار ج40ب37ص357ح2.

[74] بحار الأنوار ج40ب37ص354ح2.

[75] الإرشاد ج2ص60 ، بحار الأنوار ج40ب37ص354ح2.

[76] الملهوف ص 47 - 50 ، وذيل العاشر ص 306 . بحار الأنوار ج40ب37ص357ح2.

[77] بحار الأنوار ج40ب37ص358ح2.

[78] . الإرشاد ج2ص67 ، بحار الأنوار ج40ب37ص363ح2

[79] الإرشاد ج2ص63 ، بحار الأنوار ج40ب37ص358ح2.

[80] الإرشاد ج2ص64 ، بحار الأنوار ج40ب37ص358ح2. نسب الشعر في ذيل الصحاح ص 726 إلى سليم بن سلام الحنفي ، وفيه : قد عفر السيف وجهه ، ويروي : قد كدح السيف وجهه ، ويروى : قد عفر الترب وجهه  . 

قال المجلسي : وقال الأصمعي : انصب عليه من طمار ، مثل قطام ، قال الشاعر : فإن كنت ، إلى آخر البيتين ، وكان ابن زياد أمر برمي  مسلم بن عقيل من سطح انتهى . 

قوله : أحاديث من يسري : أي صارا بحيث يذكر قصتهما كل من يسير  بالليل في السبل . وشفرة السيف : حده ، أي من سلاح مصقول يقطع من الجانبين . والصقيل : السيف أيضا . والهماليج : جمع الهملاج ، وهو نوع من البراذين وأسماء  هو أحد الثلاثة الذين ذهبوا بهانئ إلى ابن زياد . والرقبة : بالفتح الارتقاب والانتظار وبالكسر التحفظ . قوله : فكونوا بغايا : أي زواني ، وفي بعض النسخ أيامي .

[81] الإرشاد ج2ص65 ، بحار الأنوار ج40ب37ص359ح2.

[82] الإرشاد ج2ص65 ، بحار الأنوار ج40ب37ص359ح2.

[83]مثير الأحزان لبن نما ص 40 ، وعنه في بحار الأنوار ج40ب37ص360ح2.

 

 

خادم علوم آل محمد عليهم السلام

الشيخ حسن حردان الأنباري

موسوعة صحف الطيبين

http://www.msn313.com