هداك الله بنور الإسلام حتى تصل لأعلى مقام

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في  أصول الدين وسيرة المعصومين
صحيفة التوحيد الإلهي / الثانية / للكاملين / شرح الأسماء الحسنى الإلهية

الخبير

النور الثاني والتسعون

 

الخبير : العالم بكنه الشيء وحقيقته ، والخبر : العلم بتعليم من يعلم لمن لا يعلم ، والخبير : العالم بالباطن والظهار بحق ، والخبير : العالم بالجزئيات والتفاصيل .

والله تعالى هو الخبير الحق : لأنه تعالى عالم بذاته في ذاته من غير علم أضافي ، بل نفس وجوده النور الكريم الجواد المبارك العظيم العلي الجليل ، والذي لا يحد ولا يوصف هو عين علمه بوحدة واحدة بسيط متحدة مع جميع الأسماء الحسنى الذاتية بوحدة الواحد الأحد الصمد .

 فالله هو الخبير الحق : لأن علمه بذاته وبكل ما يشرق نوره من نور الأسماء الحسنى من أول الخلق إلا أبد الدهر معلوما له ، وبنفس الوضوح والعلم قبل الخلق وحين الخلق وبعد الخلق ، ولم يتغير ولم يتحول ولم يتبدل أبدا ، فقدّر كل شيء بأحسن تقدير من الأزل وأوجده في دهره وزمانه المناسب بما يوافق شأنه ومحل ومكانه وزمانه ، ومتقن بأحكم إتقان وجميل بأحسن حال وهيئة ومكان يناسبه ، ووفق علمه الأزلي الذي لم يتغير فيه شيء أبدا ، فسبحان العليم الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء ، والخبير البصير العالم بسرائر الخلق ومكنون الوجود كله .

والله تعالى هو الخبير الحق : لأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك في إيجاد الخلق وتكوينه وهداه وربوبيته له ، وهو السميع البصير بحال ومقال كل شيء ، فيهبه من نوره ما يوافق تهيئه واستعداده وطلبه ، ويجود عليه من نوره بما يوافق شأنه ، ويمده حتى يصل لغاية المقدرة له ، أو التي يطلبها بنفسه إن وهبه شيء من الاختيار كما للإنسان والجن ، وما خلق الله في هذا الكون الواسع .

 ولله العليم الخبير الحكيم القادر المدبر : لكل شيء خلقه له منه ظهور وبطون وعلم وحكمة وخبرة في شؤون تجلي بهاء العظمة منه إليه ، وسناء الكبرياء ونور الجليل الجواد الخالق الخبير ، فيهب لكل موجود بحسب شأن كل ما يحتاجه في أول خلقه وبعده حسب علمه بحاله ومقاله وبما يناسبه من نور الكمال، وحتى يصل لأحسن غاية ووفق أجمل وجود يستعد له ، فسبحان الله العليم الخبير الذي أتقن كل شيء خلق.

وإذا تجلى الله الخبير بالتجلي الخاص على شيء : جعله مظهرا تاما لعلمه وحكمته في كل وجوده وتصرفه وأفعاله ، وحتى يكون خليفته في أرضه يَعلم ويُعلم هداه ويظهر بشؤون عظمته ، فيوصل العباد لأكبر تشريف يوجه العباد لطب جود الله وكرمه وإحسانه وهداه ونعمه التي لا تحصى ، وبأفضل صورة ممكنة يتحملها مخلوق ، وهكذا كان حال الأنبياء والأوصياء في كمالهم الذاتي والصفاتي والأفعالي يتصرفون بحكمه ، لأنهم خبروا الحياة بهدى الله وتعليمه لكل ما يصلحهم معه ومع الوجود ومع العباد المؤمنين الطيبين الذين يطلبون الكمال الأبدي الحق .

وخير من تجلى عليه الله الخبير : هو نبينا الكريم محمد وآله الطيبين الطاهرين بعده ، وكل من تبعهم وصل لأعلى شأن جليل في وجوده ، فكان يطلب الكمال الأبدي بأجمل هدى خص الله به نبيا الكريم وشرحه وبينه آله الطيبين الطاهرين الصادقين المصدقين الأخيار ، وبصراط مستقيم موصل للنعيم الحق الخالد ، وذلك لأنه الله اصطفاهم وأختارهم لعلمه بحقيقة وجوده وخبرته لحالهم بعد الخلق وقبله ، وعرفهم وعرّفهم لعباده بكل شيء فضلهم به ، فكانوا مظهرا تاما لمناقب الكرامة منه ولكل نور تجلى بأعلى بهاء من أسماءه الحسنى ، فكانوا حكماء الوجود وأئمة الخلق بحق ، ولاة أمر هدى الله إلى يوم الدين إمام بعد إمام ، يظهرون بكل ما يمكن لما يصلح العباد المؤمنين حقا بفضل الله عليهم .

والله الخبير سبحانه وتعالى : عرفنا مجد نبينا وآله ، وخبرتهم في معارف شؤون عظمته ، وما يوصل للكمال الخالد عنده بكل علم خصهم به ، وبكل تصرف لهم من سيرتهم وسلوكهم يقر له الوجدان ، ويؤمن به المنصف الذي يطلب نور الله الطيب الطاهر الحلال الكريم الشريف في كل تصرف له ، وفي جميع مجالات الحياة وشؤون العلم والعمل بها لتحصيل الراحة والسعادة والاطمئنان في الدارين أبدا .

 وإن تعصي العباد عليهم : وعدم الإيمان بهم في زمانهم كلهم ، هو لكون طلب شؤون الجمال والعظمة والبهاء ، لا يطيقه الإنسان المحدود الذي يأنس بالمادة وزينة الحياة الدنيا وتغره زخارفها ، ويُضله عجبه بفكره ، وما تزين له وساوس الشيطان الرجيم المبعد عن رحمة الله ونور كرمه ومجده ، وللعجلة في تقدير الأمور وطلبها من غير خبرة بما يصلحه أبدا ، ولا معرفة واقعية بما يسعده حقا من غير ضرر دائم ، فيحسب ما ليس بحسن حسن لأنه ينفع في يومه دون الفكر بضرره بعده وإنه سيخسره أو يذبل أو يزول عنه ، فيجمع كل شيء يمكنه ويترك كل شيء أفنى عمره فيه ولم يقدمه لغده ، فعصى به الله الخبير ، مع أنه كان من نعمه ولم يطلب الله بحق العبودية المفروضة عليه ، بل التي شرفه الله بها بصراط مستقيم من المنعم عليهم والغير مغضوب عليهم ولا الضالين .

والمؤمن : خبير بدينه عالم بشؤون العظمة لربه واختباره لعباده فيرى الحق حقا من الهدى فيتبعه ، ويرى الباطل باطلا فيتجنبه ، ويبحث عن معارف الحق وآلهدى الصادق الذي جعله الله دينه القيم ، والذي يسلك بالعباد بصراط مستقيم لكل نعيم ، ولا يكون جاهلا لمعارف الحق من هدى الرب الجليل الذي أتقن كل شيء خلقه ، وبالخصوص هداه الحق الذي جعله دينا واحدا من عند الواحد والذي لا يرضى بالاختلاف فيه ولا التخلف عنه ، ولذا بعد الفحص والتحقيق يتبع أصحاب الخبرة من علماء الدين فيقلدهم في الفروع ، وبعد أن يعرف أئمة الحق لهم ، والذين أختارهم الله تعالى واصطفاهم لدينه ، ويعبده بإخلاص بهداه لأنه يعلم إن الله خبير حكيم لطيف .

ويا طيب : إن الله هو الخبير العليم الحكيم ، خلق الخلق لغاية حسنة ، وبالخصوص ما يشمل الإنسان المكلف ، فإن الله قد أصطفى وأختار أفضل عباده لتعليمهم دينه والظهور بنوره وتعريف شؤون عظمته ، ولا يرضى بالضلال عن الهدى الحق من دينه ، وقد أحكمه وبينه بكل سبيل يصل له كل طيب ومؤمن يحب الله ورسوله بحق ، ويحب أن يعبد الله بدينه الصادق الواقعي ، فبعد أن نعرف عظمة الله تعالى ونؤمن به ، يجب أن نؤمن بدينه الحق من أئمة الحق وولاة أمره المصطفين الأخيار بعد نبي الرحمة ، لا كل من يدعي أنه يعلم دين الله فهو صادق ، ولا كل من ظهر بتعاليم يدعي إنه معارف الإسلام فدينه واقعيا مرضيا لله ، فإن العلم وحب الظهور والعجب وتسويل النفس ووعاظ السلاطين ، وأهل القياس ومن يحب أن يتسلط على الناس بالفكر والكلام المنمق ليُعرّف فكره وما رآه وليعرف بأنه علامة فهامة لكثيرون.

 فإن أغلب أفراد البشر : يحب أن يظهر أنه عارف بالدين بل عالم به ، وبالخصوص إذا درس شيئا منه ، ولذا ترى الاختلاف بالدين ومعارفه بين المذاهب المختلفة ، وكلها يدعي أصحابها إن إمام مذهبهم هو الحق ، وإمام المذهب هو الذي ندعى به يوم القيامة كما عرفت : يوم يدعى كل أناس بإمامهم ، وهو الشهيد عليهم ، والله دينه واحد ويقبل إمام زمان واحد صادق صدقه ، وأختاره الله على علم لأنه الله خلق الوجود وعالم به كله حتى نية عباده فضلا عن علمهم وعملهم ، وهو مطلع على فكرهم وما كسبت قلوبهم فضلا عن سيرتهم وسلوكهم ، فهو الخبير الحق الذي أختار أئمة حق يتنزل عليهم الملائكة والروح في ليلة القدر ويؤيدهم بالهدى الحق ، لا كل مدعي يصدق وهو يخالف إمام الحق ، ولذا كانت مسألة الإمامة بعد معرف الله وإن له دين واحد ونبي هو خاتم الأنبياء ، تكون أهم موضوع يجب أن نسلك به لهدى الله ودينه القيم بصراط مستقيم ، ومن قبل إمام حق منعم عليه أختاره الله الخبير على علم على العالمين لأنه عرفه أخلص إنسان بعد نبيه لتعريف شؤون عظمته ودينه .

وقد عرفت : في صحيفة التوحيد وفي الجزء الأول من هذا الشرح كلام أئمة الحق في تعريف الله وشأنه العظيم ، والذين كان أولهم علي بن أبي الطالب ، والذي عرفه الله بكثير من الآيات الكريمة ، وعرف شأنه وعظمته في بيان هداه ، وصدقت سيرته وسلوكه في جنب الله وتعريف شأنه العظيم ودينه القيم ، وهكذا كان بعده أئمة الحق الحسن والحسين والمعصومين من ذرية الحسين عليهم الصلاة والسلام حتى إمام زماننا الحجة بن الحسن عجل الله تعالى ظهوره .

وقد عرفت هذا المعنى : في كل الأسماء الحسنى بأنهم أفضل مصداق مخلوق من ظهورها في الوجود ، وإن الله أمر بودهم وأخذ دينه منهم ، وإنهم هم المنعم عليهم الذي يهدون العباد بصراط مستقيم ، لأنه الله تعالى هو الذي أختارهم ، وذلك لأنه الرب الجليل   شأنه عظيم  فمن كرمه وجاد عليه بهداه هو الذي كان أفضل عباده ، فإنه تعالى بعد أن خلق السماوات والأرض لم يغفل عن عباده ، بل هو الخبير بهم وأختار لهم من علم صدقه وعرّفه بكثير من الآيات ، ولمعرفة قسما أخرا من هذا المعنى بالإضافة لما عرفت نتلو قوله  تعالى :

{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الخبير (73) } الأنعام .

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ

وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الخبير (1)

 يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) } سبأ .

 فهذه آيات : تعرفنا إن الله خلق الخلق وهو العالم الخبير به و بكل ما فيه يخرج أو يعرج فيه ، بل يحاسبنا على نياتنا وفكرنا الذي لا يعلم به غيره ، فيهب ويجود على من يشاء الكتاب والحكمة بعد أن يعلم صدقهم معه فهو الذي قال :

{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) } البقرة .

{ الله يَصْـطَـفِـي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّـــاسِ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 75) يَعْلَـمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأُمُورُ (76) } الحج.

{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  وَيَــخْــتَــارُ

مَا كَانَ لَهُمُ الْـخِـيَـرَةُ سُبْحَانَ الله وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)}القصص.

وبهذا عرفنا ربنا الخبير : إنه هو الذي يختار ويصطفي من البشر من يراه أهلا لتبليغ دينه ، فيفي له بأحسن الثواب الجزيل ، ويشكر سعيه ويغفر الله له كما عرفت في آيات المودة ، وفي أسماء الله الحسنى كلها وبالخصوص الوفي والودود الهادي المولى والشهيد وغيره ، ولا يمكن لأحد يدعي منصب الكتاب والحكمة وتعليم هدى الله الحق ولم يختاره الله ولم يصطفيه لهذا المنصب ، والله العالم الخبير به يعرف فراره من الدين وعدم قدرته على تحمل هدى الله وتبليغ بدون خلط من فكره ، فإن الله يرعى أئمة الهدى وولاة أمره ويعرفهم عظمته وشؤون كبرياءه وجلاله وهداه ، وكل ما به سعادة البشر ، وذلك لأنه خبير بحالهم عليم بهم يعلم أنهم سيؤدون رسالته تبليغا وشرحا بأحسن ما يمكن لعبدا مخلصا لله قد رعاه الله ورسوله وأختاره واصطفاه ، وقد عرف آيات القربى والمباهلة والتطهير والبيوت المرفوعة ونور الله في الأرض ، فكلها كان أكبر متحقق بها بعد نبي الرحمة هم آله الأطهار ، وبالخصوص وصيه الأول وأخيه ووزيره علي بن أبي طالب صلى الله عليهم وسلم .

ولهذا أمرنا الله الخبير : أن نؤدي الأمانات إلى أهلها كما عرفت ، وإن نكون شهداء بالقسط في معرف هدى الله الحق من أئمة الحق وأتباعهم والتعبد لله بدينه وفي كل شيء ، ولذا قال الله الخبير تعالى :

 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ

شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا

فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُـونَ خَبِيرً(135) } النساء .

وقد عرفت تزكية الله ورسوله : للإمام علي بن أبي طلاب عليه السلام في كثير من الآيات والأحاديث الخاصة به ، وراجع كتاب الغدير أو إحقاق الحق أو العبقات وغيرها تعرف إمامته بكثير من الأدلة ، وإن كان ما ذكرنا هنا فيه الكفاية ، فإن الله يصطفي ويختار ويُعرف من يختاره في كتابه الذي هو تبيانا كل شيء ، ويعرف المؤمن دينه وإمامه بحق حين مراجعته والتدبر بآياته ، وذكرنا كثر من الشواهد وهذه بعض المعارف من سورة التوبة التي تعرفنا كيف يبين الله هداه بإمام حق وخليفة لرسوله يبلغ عنه ، ويرجع من لم يكن أهلا لتبليغ رسالة الله بعد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

والله لو تدبرنا فقط : في آية المودة ومعناه في التبليغ وأجره ، أو في سورة التوبة وحدها ؛ لعرفنا إن الله يختار ويصطفي الطيبين الطاهرين من آل النبي وقرباه بحق ، وذلك لما علم وخبر من حالهم وصدقهم في أداء رسالته وتبليغها وشرحها وبيانها ، ويكفي التدبر في علوم الطرفين من أئمة الدين ومعارف عظمة الله وهداه فيها ، وهذا قصة سورة براءة نتلو في معارفها حديث لتعرف كيف يٌعرف الله الخبير ورسول الدين ويعلمنا به ، وأنه بعد النبي لزم ووجب أن يكون من النبي وآله المبلغ للرسالة ، ومن يتصدى غيرهم لابد أن ينحوه المسلمون، لأنه الله نحاه وعزله ، وعرفه بأنه ليس أهل لتبليغ دينه ، وهذا شأن النزول لسورة براءة ، وقد ذكر ما نذكره أو بعضه كل من فسرها وعرّف شأن نزولها فتدبر :

بَراءَةٌ مِنَ الله وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } التوبة1.

وعن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك في سنة سبع من الهجرة ، قال و كان رسول الله لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، و كان سنة في العرب في الحج أنه من دخل مكة و طاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها و كانوا يتصدقون بها و لا يلبسونها بعد الطواف ، و كل من وافى مكة يستعير ثوبا و يطوف فيه ثم يرده ، و من لم يجد عارية اكترى ثيابا ، و من لم يجد عارية و لا كراء و لم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عريانا .....

 وكانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلا من قاتله و لا يحارب إلا من حاربه و أراده ، و قد كان نزل عليه في ذلك من الله‏ عز و جل « فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاتل أحدا قد تنحى عنه و اعتزله حتى نزلت عليه سورة براءة ، و أمره الله بقتل المشركين من اعتزله و من لم يعتزله ، إلا الذين قد كان عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة إلى مدة ، منهم صفوان بن أمية و سهيل بن عمرو ، فقال الله عز و جل : « بَراءَةٌ مِنَ الله وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ » ثم يقتلون حيث ما وجدوا ، فهذه أشهر السياحة عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرة من شهر ربيع الآخر .

فلما نزلت الآيات من أول براءة : دفعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر و أمره أن يخرج إلى مكة ، و يقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلما خرج أبو بكر نزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك .

 فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمير المؤمنين عليه السلام في طلبه ، فلحقه بالروحاء ، فأخذ منه الآيات ، فرجع أبو بكر إلى رسول الله فقال : يا رسول الله أ أنزل الله في شي‏ء ؟

 قال : لا إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني .

وهذا دين الله ومعارف شؤون عظمته : وكيفية التوجه له ، فإنه يجب أن نعرفه بحق من إمام حق قد أمره الله بتبليغ هداه في زمن رسول الله وبعده شرحا وبينانا ، وهو أعلم عباد الله بعده وهكذا كان آلهم ، فإن الإمامة مستمرة ولابد أن نعرف بحق من كان خليفة رسول الله ، لا لمجرد أنه تسلط بفلتة وتمكن أن يتحكم بالخداع وغصب الخلافة يمكن أن يكون خليفة ، وبعده كان معينه الذي شجعه على غصب الخلافة ، وهكذا حتى تصلى لآل أمية الذين حاربوا الإسلام في كل وجودهم ، فربوا علماء وشجعوا وعاظ يحرفون الناس عن هدى الله، ووضعوا أحاديث في شأن حكامهم وابعدوا المسلمين عن أئمتهم الحقيقيين ، وأخذوا يدرون أو لا يدرون يتبعون أئمة وحكام ليس لهم تزكية من الله الخبير .

فإن الله الخبير : كان من أول الأمر يمكنه أن يُخبر الرسول الكريم بمن يجب أن يُبلغ عنه ، ولا يجعل هذه القصة ويسير الناس مسافة وعليهم أبو بكر أمير ، ثم يُرجعه النبي بأمر الله بأنك لا تصلح ويقلل شأنه أمام هذا الجمع ، وإن ليس من شأن الله ولا رسوله تقليل شأن أحد بغير حق وحكمة وخبرة بحاله ، والله جعل هذه القصة ليعرفنا بأنه الإمام الحق من يكون بأمر الله ورسوله دائما ، وإنه إذا تصدى وغلب إمام الباطل يجب أن ينحى ، وهذه حكمة الله الخبير العليم بتعليم دينه وأئمة هداه الصادقين .

 وإن في سورة التوبة : كثير من الشواهد في تزكية الإمام علي عليه السلام بالإضافة لما عرفت ، وبهذا يأمرنا الله أن نعرف الحق وأهله ونتبع من أمر الله ورسوله بأتباعه إذ قال الله الخبير تعالى :

 { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً

وَالله خـَبِـيــرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) ـ فبعد أن تبدأ الآية في البراءة من المشركين تعرفنا أمر كريما آخرا ، وهو بأن من يعمر دين الله ومساجده التي يطاع بها الله هو من يكون مخلصا لله تعالى قد زكاه الله ، وهو أفضل عباد الله يكون إمامهم لا أنه مجرد أنه من الذين أسلموا يمكن أن يفضلون أنفسهم على أئمتهم ويفتخرون على ولاتهم ، فهذا لا يكون في دين الله ولا يصح أن يزكي الإنسان نفسه ويفضل نفسه على إمامه حتى لو كان عم النبي العباس رضى الله عنه ، فإنه عرفنا سبحانه في آيات أخرى من السورة قوله تعالى:

 { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ  (17)  إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (18)

 أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ الله وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

 الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوالهمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) ـ

فهذه آيات كريمة : تبين جدية الله في تعريف وليه وإمام الحق ، والذي يكون أفضل ممن كان بيده مفاتيح بيت الله أو كان يسقي الحجيج ، ولا يحق لأحد أن يتقدم عليه فإنه في شأن نزول الآيات أعلاه جاء عن كتاب الطرائف :

و من ذلك : ما رواه في كتاب الجمع بين الصحاح الستة في الجزء الثاني من صحيح النسائي في تفسير قوله تعالى : أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ الله لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ الله ، عن محمد بن كعب القرظي قال : افتخر شيبة بن أبي طلحة ، و رجل ذكر اسمه ( العباس عم النبي في كل الروايات الأخرى ) و علي بن أبي طالب عليه السلام .

فقال شيبة بن أبي طلحة : معي مفتاح البيت ، و لو أشاء بت فيه ، و قال ذلك الرجل : أنا صاحب السقاية و القائم عليها و لو أشاء بت في المسجد .

و قال علي عليه عليه السلام : ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة قبل الناس ، و أنا صاحب الجهاد .

 فأنزل الله تعالى : أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، الآية ، و رواه الثعلبي كذلك في تفسير هذه الآية عن الحسن ، والشعبي ومحمد بن كعب القرظي ، و رواه الشافعي ابن المغازلي عن إسماعيل بن عامر و عن عبد الله بن عبيدة البريدي ، و إن عليا عليه السلام هو المشهود له بالفضل و هو المقصود بالإيمان و اليوم الآخر و الجهاد في سبيل الله تعالى [59]. وهكذا بعدة أساليب حكته الرواة في كل من فسرها .

ويشهد للإمام علي في نفس السورة : ما حكى الله عن نصر الله المسلمين بعلي بن أبي طالب عليه السلام ، فإنه يوم حنين عجب المسلمون كثرتهم ، وقالوا :

لن نغلب لكثرة الجيش الذي كان معهم ، وكان النبي وعمه العباس وبعض من أسلم كلهم في المؤخرة والقيادة كانت بيد الإمام علي وهو في المقدمة ، فلما هجمت هوازن عليهم فر المسلمون ، ولم يبقى إلا عشرة أنفار مع النبي وعلي أميرهم بأمره ، حتى أنزل الله سكينته عليهم وثبتهم ، فرجع لهم من أشرقت منهم السكينة لهم ، وقد حكى الله هذه القصة يعرف من نزلة عليه السكينة وهي أعلى مراتب الإيمان في المواقف الصعبة التي يثبت بها أوليائه فقال الله الخبير :

{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)

ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ الله مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) } التوبة .

 وقد حكى قصة يوم حنين : كل من فسر هذه الآيات ، وعرفنا إن النبي وعلي هم الثابتون ، وفر المسلمون كلهم وقد بلغوا عشرة آلاف نفر ، والثابت مع علي والنبي هم الذي أقروا لعلي بالإمامة وثبتوا معه ولم يفروا عنه بعد وفاة رسول الله ، ونذكر ما ذكره الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد إذ قال :

ثم كانت غزاة حنين : حين استظهر رسول الله صلى الله عليه فيها بكثرة الجمع ، فخرج متوجها إلى القوم في عشرة آلاف من المسلمين ، فظن أكثرهم أنهم لن يغلبوا لما شاهدوه من جمعهم ، و كثرة عدتهم و سلاحهم ، و أعجب أبا بكر الكثرة يومئذ ، فقال : لن نغلب اليوم من قلة ، فكان الأمر في ذلك بخلاف ما ظنوه ، و عانهم أبو بكر بعجبه بهم . فلما التقوا مع المشركين لم يلبثوا حتى انهزموا بأجمعهم ، فلم يبق منهم مع النبي ص إلا عشرة أنفس تسعة من بني هاشم خاصة ، و عاشرهم أيمن ابن أم أيمن فقتل أيمن رحمه الله ، و ثبت التسعة الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان انهزم ، فرجعوا أولا فأولا حتى تلاحقوا ، و كانت الكرة لهم على المشركين . و في ذلك أنزل الله تعالى و في إعجاب أبي بكر بالكثرة :

وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .

يعني أمير المؤمنين : علي بن أبي طالب عليه السلام  و من ثبت معه من بني هاشم يومئذ و هم ثمانية أمير المؤمنين تاسعهم العباس بن عبد المطلب عن يمين رسول الله . و الفضل بن العباس بن عبد المطلب عن يساره . و أبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند ثفر بغلته . و أمير المؤمنين عليه السلام بين يديه بالسيف . و نوفل بن الحارث ، و ربيعة بن الحارث ، و عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، و عتبة و معتب ابنا أبي لهب حوله . و قد ولت الكافة مدبرين سوى من ذكرناه و في ذلك يقول مالك بن عبادة الغافقي :

لم يواس النبي غير بني هاشم      عند السيوف يوم حنين‏

هرب الناس غير تسعة رهط      فهم يهتفون بالناس أين‏

ثم قاموا مع النبي على الموت      فآبوا زينا لنا غير شين‏

و ثوى أيمن الأمين من القوم     شهيدا فاعتاض قرة عين‏

و قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في هذا المقام :

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة    و قد فر من قد فر عنه فأقشعوا

و قولي إذا ما الفضل شد بسيفه     على القوم أخرى يا بني ليرجعوا

و عاشرنا لاقى الحمام بنفسـه      لما ناله في الله لا يتوجـــع‏

يعني به أيمن ابن أم أيمن ، و لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله هزيمة القوم عنه قال : للعباس رضي الله عنه و كان رجلا جهوريا صيتا : ناد في القوم و ذكرهم العهد ، فنادى العباس بأعلى صوته : يا أهل بيعة الشجرة يا أصحاب سورة البقرة إلى أين تفرون ، اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، و القوم على وجوههم قد ولوا مدبرين ، و كانت ليلة ظلماء و رسول الله في الوادي ، و المشركون قد خرجوا عليه من شعاب الوادي و جنباته و مضايقه مصلتين بسيوفهم و عمدهم و قسيهم .

قالوا فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلى الناس ببعض وجهه في الظلماء ، فأضاء كأنه القمر ليلة البدر ، ثم نادى المسلمين أين ما عاهدتم الله عليه ، فأسمع أولهم و آخرهم فلم يسمعها رجل إلا رمى بنفسه إلى الأرض ، فانحدروا إلى حيث كانوا من الوادي حتى لحقوا بالعدو فواقعوه .

 قالوا : و أقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم ، إذا أدرك ظفرا من المسلمين‏ أكب عليهم ، و إذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين ، فاتبعوه و هو يرتجز و يقول :

أنا أبو جرول لا براح            حتى نبيح القوم أو نباح‏

فصمد له أمير المؤمنين عليه السلام ، فضرب عجز بعيره فصرعه ، ثم ضربه فقطره ثم قال :

قد علم القوم لدى الصباح       أني في الهيجاء ذو نصاح‏

فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول لعنه الله . ثم التأم المسلمون و صفوا للعدو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :  اللهم إنك أذقت أول قريش نكالا فأذق آخرها نوالا ، و تجالد المسلمون و المشركون ، فلما رآهم النبي  قام في ركابي سرجه حتى أشرف على جماعتهم و قال : الآن حمي الوطيس ، أنا النبي لا كذب ، أنا بن عبد المطلب‏

فما كان بأسرع من أن ولى القوم أدبارهم ، وجي‏ء بالأسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكتفين .

و لما قتل أمير المؤمنين عليه السلام : أبا جرول و خذل القوم لقتله ، وضع المسلمون سيوفهم فيهم ، و أمير المؤمنين عليه السلام يقدمهم حتى قتل أربعين رجلا من القوم ، ثم كانت الهزيمة و الأسر حينئذ ، .. و كانت هذيل بعثت رجلا يقال له ابن الأكوع أيام الفتح عينا على النبي حتى علم علمه ، فجاء إلى هذيل بخبره ، فأسر يوم حنين فمر به عمر بن الخطاب فلما رآه أقبل على رجل من الأنصار ، و قال عدو الله الذي كان عينا علينا ها هو أسير فاقتله فضرب الأنصاري عنقه ، و بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكرهه و قال أ لم آمركم أن لا تقتلوا أسيرا . و قتل بعده جميل بن معمر بن زهير و هو أسير . فبعث النبي إلى الأنصار و هو مغضب فقال :  ما حملكم على قتله و قد جاءكم الرسول ألا تقتلوا أسيرا ، فقالوا : إنما قتلنا بقول عمر فأعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كلمه عمير بن وهب في الصفح عن ذلك[60] .

وذكره هذا : كل من فسر سورة التوبة أو ذكر تأريخ غزوات الإسلام وتاريخه وخير من علق على هذا العلامة في نهج الحق بقوله :

و قد تضمن الكتاب العزيز : وقوع أكبر الكبائر منهم ، و هو الفرار من الزحف فقال تعالى : وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . و كانوا أكثر من عشرة آلاف نفر فلم يتخلف معه إلا سبعة أنفس علي بن أبي طالب و العباس و الفضل ابنه و ربيعة و أبو سفيان ابنا الحارث بن عبد المطلب و أسامة بن زيد و عبيدة ابن أم أيمن ، و أسلمه الباقون إلى الأعداء للقتل ، و لم يخشوا النار و لا العار ، و آثروا الحياة الدنيا الفانية على دار البقاء و لم يستحيوا من الله تعالى و لا من نبيهم و هو يشاهدهم عيانا .

 و قال تعالى وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً. رووا أنهم كانوا إذا سمعوا بوصول تجارة تركوا الصلاة معه و الحياء منه و مراقبة الله تعالى و كذا في اللهو . و من كان في زمانه معه بهذه المثابة كيف يستبعد منه مخالفته بعد موته و غيبته عنهم بالكلية . و قال تعالى :

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ اتهموا رسول الله و هم من أصحابه [61].....

وهذه التزكية والسكينة من الله للمؤمنين الثابتين : هي لكي يعرفهم بالثبات في دينه في أصعب الظروف كما عرفت فضلا عن تبليغ دينه بحق كما يحب ، وهو ليعرفنا وليخبرنا الخبير بمن أصطفى وأختار إمام وولي وخليفة للنبي ، وليس من يفتي رأيه وتعجبه الكثرة يمكن أن يحكم المسلمين ، وقد عرفت أسماءهم في الأحاديث ، فسبحان الله الخالق الخبير ، الخبير الخالق خير الناصرين .

والمؤمن يا طيب : خبير بدينه يبحث عن أولي الخبرة بدين الله حقا فيأخذهم أولياء لا كل من تصدى لحكم وفتوى ، بل إما أن يقرئ كتاب الله وسنة النبي أو تأريخ الإسلام ليعرف رجالة الدين من أتباع  أئمته بحق ، وولاة أمر الله والذين كانوا ثابتين في دين الله ، وإن الله الخبير أيدهم ونصرهم وعرّف إن هداه عندهم بل رسوله عرفهم , وتكفي للمنصف لكي يكون خبير بدينه قصة سورة لتوبة وقصة الغدير وسيرة المعصومين أنفسهم ، وكيف عرفونا الدين وهدى الله وشؤون عظمته وهذا حدث يعرفنا الإسلام والإيمان والإمام منقول عن إمام حق ، فقد جاء عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس قال :

سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام و سأله رجل عن الإيمان فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الإيمان لا أسأل عنه أحدا غيرك و لا بعدك ؟

فقال علي عليه السلام : جاء رجل إلى النبي و سأله عن مثل ما سألتني عنه فقال له مثل مقالتك‏ ، فأخذ يحدثه ، ثم قال له : اقعد ، فقال له‏ : آمنت .

 ثم أقبل علي عليه السلام على الرجل فقال : أ ما علمت أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورة آدمي ، فقال له : ما الإسلام ؟ فقال : شهادة أن لا إله إلا الله ، و أن محمدا رسول الله ، و إقام الصلاة ، و إيتاء الزكاة ، و حج البيت ، و صيام شهر رمضان ، و الغسل من الجنابة .

فقال : و ما الإيمان ؟ قال : تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله ، و بالحياة بعد الموت ، و بالقدر كله‏ خيره و شره و حلوه و مره‏ ، فلما قام الرجل .

 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا جبرائيل جاءكم ليعلمكم دينكم ، فكان كلما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله شيء شيئا .

 قال له : صدقت .  قال : فمتى الساعة ؟

قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ؟ قال : صدقت ؟

ثم قال علي عليه السلام : بعد ما فرغ من قول جبرائيل صدقت .

ألا إن الإيمان بني على أربع دعائم : على اليقين ، و الصبر ، و العدل ، و الجهاد .

 فاليقين منه على أربع شعب : على الشوق ، و الشفق ، و الزهد ، و الترقب ، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ، و من أشفق من النار اتقى المحرمات ، و من زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ، و من ارتقب الموت سارع في الخيرات .

و الصبر على أربع شعب : على تبصرة الفطنة ، و تأول الحكمة ، و معرفة العبرة ، و سنة الأولين ، فمن تبصر الفطنة تبين في الحكمة ، و من تبين في الحكمة عرف العبرة ، و من عرف العبرة تأول الحكمة ، و من تأول الحكمة أبصر العبرة ، و من أبصر العبرة فكأنما كان في الأولين .

و العدل منه على أربع شعب : على غوامض الفهم ، و غمر العلم ، و زهرة الحكم ، و روضة الحلم ، فمن فهم فسر جمل العلم ، و من علم عرضه شرائع الحكمة ، و من حلم لم يفرط في أمره و عاش به في الناس حميدا .

و الجهاد على أربع شعب : على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و الصدق في المواطن ، و الغضب لله ، و شنئان الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن ، و من نهى عن المنكر  أرغم أنف الفاسق ، و من صدق في المواطن قضى الذي عليه ، و من شنأ الفاسقين و غضب لله غضب الله له .

و ذلك الإيمان : و دعائمه و شعبه .

قال له الرجل : يا أمير المؤمنين ما أدنى ما يكون به الرجل مؤمنا ، و أدنى ما يكون به كافرا ، و أدنى ما يكون به ضالا .

قال قد سألت : فاسمع الجواب ، أدنى ما يكون به مؤمن : أن يعرفه الله نفسه فيقر له بالربوبية و الوحدانية ، و أن يعرفه نبيه فيقر له بالنبوة و بالبلاغة ، و أن يعرفه حجته في أرضه و شاهده على خلقه فيقر له بالطاعة .

قال يا أمير المؤمنين : و إن جهل جميع الأشياء غير ما وصفت ؟

قال : نعم إذا أمر أطاع ، و إذا نهي انتهى .

و أدنى ما يكون به كافر : أن يتدين بشي‏ء فيزعم أن الله أمره به مما نهى الله عنه ، ثم ينصبه دينا فيتبرأ و يتولى ، و يزعم أنه يعبد الله الذي أمره به

. و أدنى ما يكون به ضال : أن لا يعرف حجة الله في أرضه و شاهده على خلقه الذي أمر الله بطاعته و فرض ولايته .

 فقال : يا أمير المؤمنين سمهم لي ؟

قال : الذين قرنهم الله بنفسه و نبيه ، فقال : أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ . قال : أوضحهم لي ؟

قال : الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر خطبة خطبها ثم قبض من يومه :

إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله ، و أهل بيتي.

 فإن اللطيف الخبير : قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين ، وأشار بإصبعيه المسبحتين ، ولا أقول كهاتين ، وأشار بالمسبحة و الوسطى لأن إحداهما قدام الأخرى ، فتمسكوا بهما لا تضلوا و لا تقدموهم فتهلكوا ، و لا تخلفوا عنهم فتفرقوا ، و لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .

قال : يا أمير المؤمنين سمه لي . قال : الذي نصبه رسول الله بغدير خم فأخبرهم أنه أولى بهم من أنفسهم ، ثم أمرهم‏ أن يعلم الشاهد الغائب منهم .

 فقلت : أنت هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : أنا أولهم وأفضلهم ، ثم ابني الحسن من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ثم ابني الحسين من بعده أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ثم أوصياء رسول الله ص حتى يردوا عليه حوضه واحدا بعد واحد .

فقام الرجل : إلى علي عليه السلام فقبل رأسه ، ثم قال : أوضحت لي و فرجت عني ، و أذهبت كل شي‏ء في قلبي [62]. وسبحان الله الخبير الخالق .


[59] الطرائف ج1ص50ح44 .

[60] الإشاد ج1ص140 .

[61] نهج‏ الحق ص317 .

[62] كتاب ‏سليم ‏بن ‏قيس ص613ح8 . الكافي ج2ص414 باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا حديث 1 ذكر القسم الأخير من الحديث.

 

   

أخوكم في الإيمان بالله ورسوله وبكل ما أوجبه تعالى
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة صحف الطيبين
http://www.msn313.com

يا طيب إلى أعلى مقام صفح عنا رب الإسلام بحق نبينا وآله عليهم السلام


يا طيب إلى فهرس صحيفة شرح الأسماء الحسنى رزقنا الله نورها