هداك الله بنور الإسلام حتى تصل لأعلى مقام

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في  أصول الدين وسيرة المعصومين
صحيفة التوحيد الإلهي / الثانية / للكاملين / شرح الأسماء الحسنى الإلهية : الجزء الثالث
الْعَظِيمُ
النور السابع والتسعون

الإشراق الثاني عشر :

عظمة الإيمان في الصبر على الطاعات وعن المعاصي وفي البلاء :

سبحان ربي العظيم وبحمده سبحان ربي الأعلى وبمحمده :

يا طيب : بعد إن عرفنا كرامة الإنسان وبالخصوص عظماء الوجود في كل مراتب الوجود ، وعرفنا سر كرامتهم بتحمل أمانة الله وتبليغها لعباد الله حتى كانت إمامتهم وولايتهم نبأ عظيم بكل أبعاده ، وهكذا كل من أخذ أمانة الله وبلغها وظهر بها بما علموه حقا يكون قد ظهر بنور الأسماء الحسنى بعظمة عالية حسب علمه وإخلاصه ، وقد ذكرنا فضل العلم ونوره المحقق لعظمة الإنسان حين يظهر به عبادة وطاعة لله تعالى وطلبا لشكره ورضاه ، وأثره في تكوين ملك الإنسان في روحه وفي محيطه في ملكوت الرب العظيم المعد له في شرح الاسم العليم ، وفي صحيفة الإمام الحسين عليه السلام ، وفي صحيفة فضيلة نشر العلم من موسوعة صحف الطيبين .

ولكن يا أخي : إنك تعرف إنه لكي يكون لنا ملك عظيم والمقام العظيم في الدنيا والآخرة ، فهو يجب أن نتحمل أمانة الله في أرضه كما تحملها أئمة الحق وظهورا بها وأنبئوا عنها بكل وجودهم علما وعملا ، وقد عرفت أثر الصبر في ملك النبوة والإمامة ، وهو صبر تحمل دين الله وتبليغه لعباد الله علما وعملا وسيرة وسلوكا بل وتحمل أذى المعاندين ، وهكذا من صبر وتحمل دين الله وسابق بالخيرات والطاعات وصبر عن المعاصي وصبر على الأذى في جنب الله ولم يهمه أمر الدنيا بما هي إلا لأجل تبليغ دين الله ، يكون حقا قد طلب ما عند الله من العظمة الحقيقة كأئمة الحق .

ولذا يا أخي : نذكر في هذا الإشراق بعض الكلام عن عظمة أمر الله في هداه وسره الذي يجعله ظاهرا في وجود الإنسان المفضل ، وذلك حين الصبر على الطاعات وفعل الخيرات ، وفي الصبر عن المعاصي ، وصبر تحمل الأذى في جنب الله ، فنذكر عدة أحاديث ، لنذكر بعدها الثواب العظيم المعد للمؤمنين حقا .

 

الإشعاع الأول :

الأجر والفضل العظيم للنبي وللإمام ولمن يتبعهم :

 سبحان ربي العظيم وبحمده سبحان ربي الأعلى وبحمده :

يا طيب : عرفنا في آخر الإشراق السابق إن بعض الأعمال لها أجرا عظيما لأنها مخلصة وعند الله لها وزن وقيمة عظيمة ، ويفضلها على كثير من الأعمال مع كونها تعد مفخرة لمن يتصف بها بل عظيمة في الدين ، لأن التفاوت في العظمة ومنازل المؤمنين بعدد آي القرآن المجيد ، ومقامات بمقدار ما عرفت من سعة الملكوت ومراتبه ودرجاته وكيف كانت الإحاطة بينها حتى العرش و سدرة المنتهى ، والأجر العظيم يحف بالنبي أو يكون أقرب عباد الله المفضلون بعده ومعه كما كان له ولآله وللأنبياء معه ، وقد عرفت الآيات التي تصف الإمام علي عليه السلام بصاحب الأجر العظيم ، وهذه آيات تعرفنا التفاوت بين المؤمنين ، وإنها درجات حسب العلم بأمر الله وهداه وحسب أهمية العلم والعامل به وقد قال الله تعالى لنبينا سواء في نزول تعاليم الله عليه من المقام الرفيع الذي عرفته أو في ثوابه العظيم المحمود من الله الحميد الشكور العظيم :

{ رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ ذُو الْعَـرْشِ يُلْقِي الـرُّوحَ مِنْ أَمْـــرِهِ

 عَلَى مَنْ يَشَـاءُ مِنْ عِبَـادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ (15) } غافر .

 { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا (77)
أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) } الإسراء .

فإن نبينا الكريم هو صاحب أعظم مقام في الوجود بفضل الله تعالى : ولكنه عرفت هذا المقام لما علم الله من خلقه بأنه أكمل وجود مخلوق في جميع المراتب ، وقد عرفته في المراتب العالية بنص كتاب الله وبنص كثير من الأحاديث ، وهنا في الدنيا أثبت بكل وجوده صبره في جنب الله تعالى في تبليغ دينه وعبادته والإخلاص له بكل علم علمه ، وبكل قول قاله وسيرة وسلوك ظهر به ، فكان خُلقه القرآن ورحمة للعالمين وسراجا منيرا وذو خلقا عظيما وكثير من الأوصاف له في كلام الله العظيم كما عرفت هذا ، وهكذا كان مقام الأنبياء والأوصياء ، فكان لهم أعمال عبادية وفق معارف قيمة علماها الله لهم واصطفاهم لتبليغها والظهور بها إما ابتدأ كرسالة أو شرح وبيان ، فكان لهم أعظم اجر مشكور محمود من غير أي شيء ينغصه .

وقد عرفت يا طيب : بعض شأن الإمام علي عليه السلام وظهور في طاعة الله العظيم ، حتى كان له أجره العظيم كما في آخر الإشراق ، وهذه آيات تعرفنا أنه له أجر درجة عالية لأعمال خص بها لم يتمكن غيره من إتيانها ، و كما جاء في شأن نزول آيات في سورة المجادلة وغيرها كما قال الله تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا

يَرْفَعْ الله الَّذِينَ آمَنُـوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُـوا الْعِلْـمَ دَرَجَــاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُو بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) } المجادلة .

وقد ذكر الإمام علي عليه السلام : سبعين منقبة لم يشركه بها أحد وقد ذكرنها في صحيفة ذكر علي عليه السلام عبادة ، وبعد أن أعد جملة منها ثم قال عليه السلام و أما الرابعة و العشرون : فإن الله عز و جل أنزل على رسوله :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو : إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ، فكان لي دينار فبعته عشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أصدق قبل ذلك بدرهم ، و و الله ما فعل هذا أحد من أصحابه قبلي و لا بعدي ، فأنزل الله عز و جل : أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ الله عَلَيْكُمْ ... الآية ، فهل تكون التوبة إلا من ذنب كان؟ [58] .

وسيأتي بعض الكلام : عن المقامات الرفيعة والدرجات العالية والمنزلة العظيمة لنبينا وآله صلى الله عليه وآله وسلم ولمن تبعهم حقا فسار على صراطهم المستقيم ، وهذه آيات كريمة تعرفنا المقام العالي للمؤمنين حقا ، ولو تدبر الأجر العظيم في الإشراق السابق وعلو الدرجة والاختصاص بالمقام الرفيع بالآيات أعلاه ، تعرف أن وصي النبي كالنبي بل هو نفسه ويحيط به كما في آية المباهلة والتطهير والنور والبيوت المرفوعة وغيرها .

ويا طيب : توجد آيات كثيرة في تبين إن أجر الله العظيم هو للأنبياء وللأوصياء وللمخلصين لله بدينهم حقا ، بل كانوا علماء ظهروا بنور معارف الله وهداه وأمره فعظم وجودهم وأجرهم ومنزلتهم عند الله ، ولكن يا أخي : توجد آيات خاصة في الإمام علي والنبي صلى الله عليهم وسلم ، أو لنفر أقر بالإمام للإمام علي عليه السلام وتولاه حقا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل حتى الآيات التي من يتلوها يتصور فيها الإنسان إن الأجر العظيم عام للمسلمين أو للسابقين ، ولكن حين التدبر في شأن نزولها تراها مختصة بالإمام عليه السلام أو مع النبي كالآيات أعلاه أو هو أمير من كان معه من المؤمنين كنبي الله ، وكما في قول الله العظيم :

في سورة آل عمران : التي تختص ببيان أمر المباهلة ومقام أهل البيت عليه السلام وصدقهم ، وقسم كبير منها يتكلم عن غزوة أحد ، ويعرفنا أن المسلمين بعد النصر المحقق بفضل الإمام علي عليه السلام وسيد الشهداء حمزة ، تعرفنا بعد النصر خالف المسلمون أمر النبي ونزلوا لجمع الغنائم ، ولكن لما خالد بن الوليد هجم عليهم فر المسلمون كلهم ، بل حتى وصل قسم كثير منهم المدينة وأشاعوا قتل النبي الكريم ، إلا الإمام علي يحيط بالنبي ويدافع عنه وسبعة نفر كلهم استشهدوا وهم الذين استجابوا للنبي ولم يفروا ، وأعرف في الآيات التالية لأجرهم العظيم وفضل الله العظيم لهم ، والنبي كسرة رباعيته وبعد التي واللتيا جاء نفر من المسلمين وأنشغل الكفار بجمع الغنائم وفضت الحرب .

وإن أحببت يا طيب : راجع التفاسير والسيرة لتعرف عظمة الأمر فيها ، والثبات للنبي وآله وبالخصوص الإمام علي الذي كان النصر على يده في أول الغزوة وفي أخره ، وهذه قسم من آيات غزوة أحد تعرفنا أجره وأجر النبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ، وتعرفنا أن المؤمنين أحياء عند الله يرزقون ، وتخص من قتل في الحرب وهذا هو فضل الله العظيم والأجر العظيم لأعظم عظيم في الأرض بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم  :

{ وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهدى هدى الله أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ

قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
 يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ العظيم (74) ......
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْـــــــرٌ عَظِيـــــــمٌ (172)

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ

وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله وَالله ذُو فَضْــــلٍ عَظِيـــــمٍ (174)

إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا الله شَيْئًا يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَــذَابٌ عَظِيــــمٌ (176)

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا الله شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ  (178)

مَا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّـبِ

وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ

وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِالله وَرُسُلِهِ

وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْــرٌ عَظِيــــمٌ (179)

 وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)  فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
 فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ
 وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا

وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ

فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)

لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) } آل عمران .

يا طيب : الفضل والأجر العظيم بيد الله ويهبه لمن يخلص له ويثبت في دينه كما في هذه الآيات ، وقد عرفت قصة الهجرة وفداء النفس والأجر العظيم ، أو الأجر الرفيع للنجوى للإمام علي عليه السلام  ، أو راجع سورة النساء من الآية 13 والآية 48 والآية 54 وكيف فضل الله المجاهدين بأجر عظيم ، وفي الآية 146 تعرفنا أجر عظيم للمؤمنين ولكن أعلى عظمة هي للراسخين بالعلم ويحف بهم المؤمنون والتائبون إن أخلصوا لله بهداه وأمر دينه الذي خصه بأئمة الحق كما أنبئوا عنه ولم يختلفوا فيه وعليه ، ولولا التطويل لبينت بعض شأن نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام ومن لحقه ، وهكذا عرفت قصص سورة الأحزاب وأجره العظيم له لثباته وغيرها من السور ومن المواقف العظيمة في طاعة الله وتعليمه لعظمة الله تعالى ، ولكن يكفي أن تتدبر أحاديث ثباته في غزوة أحد وما أصابه من الأذى في جنب الله وكان النصر على يده والثبات والحماية له عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

فعن أنس أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : إِنَّهُ أُتِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآهل بِـعَـلِـيٍّ عليه السلام
، وَ عَلَيْهِ نَيِّفٌ وَ سِتُّونَ جِرَاحَةً
.

قَالَ أَبَانٌ : أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لأُمَّ سُلَيْمٍ وَ أُمَّ عَطِيَّةَ أَنْ تُدَاوِيَاهُ ، فَقَالَتَا : قَدْ خِفْنَا عَلَيْهِ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وَ الْمُسْلِمُونَ يَعُودُونَهُ ، وَ هُوَ قَرْحَةٌ وَاحِدَةٌ .

 فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : يَمْسَحُهُ بِيَدِهِ ، وَ يَقُولُ :

 إِنَّ رَجُـلًا لَقِيَ هَذَا فِي الله لَقَدْ أَبْلَى وَ أَعْذَرَ ، فَكَانَ يَلْتَئِمُ .

فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي لَمْ أَفِرَّ ، وَ لَمْ أولي الدُّبُرَ.

 فَشَكَرَ الله تعالى لَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ وَ هُوَ قَوْلُهُ تعالى :

 سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ . وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[59].

وهو في أول ذكره سبحانه لقصة غزوة أحد يعرف بها الثابتين والفارين كما في قوله تعالى :  وَلِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

 أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنة وَلَمَّا يَعْلَمْ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئًا وَسَيَجْـزِي الله الشَّاكِـرِيـنَ (144)

 وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّــاكِـرِيـنَ (145)

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّــابِـرِيـنَ (146)

 وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) } آل عمران . 

وذكر العلامة الطباطبائي في الميزان وغيره في تفسير الآية : و أما أصحابه عامة فقد تكاثرت الروايات أنهم تولوا عن آخرهم ، و لم يبق مع  رسول الله منهم إلا رجلان من المهاجرين و سبعة من الأنصار، ثم إن المشركين هجموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتل دون الدفاع عنه الأنصار واحدا بعد واحد حتى لم يبق معه منهم أحد .

ويا طيب : لو راجعت الآيات أعلاه لعرف إن هذا المقام الرفيع والعظيم والإمامة وملاكها والتفضيل العظيم للنبي وآله صلى الله عليهم وسلم ، هو لتحملهم الأمانة والظهور بنبئها علما وعملا وسيرة وسلوكا بأعلى إخلاص ، والله سبحانه وتعالى وإن كان يراعهم في كل مراتب الوجود ، وإن نورهم نزل في الأرض ليظهر نورهم فيعلم العباد الإخلاص لله والتفاني في طاعة الله سبحانه وتعالى بكل إخلاص مع مالهم من العظمة في العلم والعمل والأخلاق العظيمة .

فيا أخي : كانت الآيات كلها تعرفنا الاختبار الإلهي ومن يؤدي أمانته وما حمله الله من معارف دينه ويثبت في تبليغها حقا ، ووفق ما علمها أصحاب الصراط المستقيم يكون له مقام رفيع وعظيم يحف بهم ولكل مؤمن منزلته ، فحتى أنزل مرتبة من الجنة تسع السماء والأرض والتي هي حلقة في فلاة في الكرسي ، محبس في صحراء عظيمة كما عرفت ، وإن أعلى مراتب العظمة لأئمة المؤمنين ومن تبعهم حقا فيصل لمرتبة العرش العظيم مقامهم الرفيع ومنزلتهم الكريمة كما ستعرف ، ولكن يا طيب الأول فالأولى ، وراجع الآيات أعلاه تعرف حكمة الله في الوجود في اختبار عباده ليبين صدقهم وتعظم منزلتهم عنده حين إتمام أمر الله لهم ، وإذا عرفنا ثبات الإمام علي العملي الجهادي نذكر تعريفة لضرورة الثبات والصبر .

 

 

 

الإشعاع الثاني :

خطبة الصاعقة تعرفنا أنه يعظم العباد بالصبر على دين أئمة الحق :

سبحان ربي العظيم الحليم العليم الحكيم اللطيف الشافي :

يا طيب : بعد إن عرفنا مقام نبينا وآله وأئمة الحق وولاة أمر الله العظيم ، والذي يعظم به كل من يسير على صراطهم المستقيم كما علمه المنعم عليهم ، نذكر بيان يعرفنا أن حكمة الوجود في اختبار الأنبياء والأوصياء وكل العباد المؤمنين معهم ، هو ليظهر إخلاصهم وعلمهم عملا في سبيله ، ولهم منه الفضل والأجر العظيم .

وقد عرفت في الآيات الكريمة أعلاه : فوز نبينا وولي الله ومن ثبت معهم ، وحصلوا على أجر عظيم جدا في أعلى درجات ، لأنه كان ظهورهم في طاعة الله والإخلاص له هو أعلى مرتبه يمكن أن يثبت ويصبر عليها كائن مخلوق ، وإن الله لم يعطيهم هذا المنصب بدون ظهور لهم بالإخلاص في طاعته والثبات على دينه علما وعملا ، وهذه خطبة للإمام علي عليه السلام تسمى القاصعة تعرفنا حكمة ابتلاء واختبار الأنبياء والمؤمنين فضلا عن كل الناس في ضرورة امتثال أمر الله .

 ويحذرنا عليه السلام بها : من مخالفته وآله في آخر الخطبة ، لكونه عليه السلام كان حقا أول وأعظم ظاهر بإطاعة الله العظيم ، والإخلاص له علما وعملا بعد نبيه العظيم ، وقد عرفنا جهاده وهذا علمه وعمله بنص كلامه عليه السلام وفيه بيان لشيء من حكمته ، ولنعتبر به فإنه ذكر هذه الخطبة بطولها لنتدبر حقيقة وجودنا في الأرض وما يجب علينا ، ولا نكتفي بأن نقول الإنسان مفضل وبأي دين أو لأي إنسان تبع وتعلم منه دينه ، وإن سيفوز وله مقام عظيم عند الله العظيم .

بل الله العظيم : دينه عظيم وتعاليمه عظيمة ، ولا تعرف إلا ممن طهرهم واجتباهم وأختارهم لدينه فعظمهم كما عرفت ، وبعد أن أبتلالهم جعل لهم أعلى مقام وأعظم منزلة حتى كانوا أئمة وولاة أمره ينبئون عنه ويخبرون عن أمانته وسرها :

ومن خطبة للإمام أمير المؤمنين ولي أمر الله : بعد رسول علي بن أبي طالب عليه السلام ، تسمى القاصعة ، و هي تتضمن ذم إبليس لعنه الله ، على استكباره و تركه السجود لآدم عليه السلام ، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية ، ويحذر الناس من سلوك طريقته ، وقد وضعنا لها عناوين لتعرفنا أهم مواضيعها ولتساعدنا على التوجه لما فيها من المعارف العظيمة في الاختبار والابتلاء للعباد وشأنهم ودرجاتهم ، وقد قال عليه السلام :

حمد لله وبيان لعظمته واختباره للملائكة بالسجود لأدم :

الْحَمْدُ لِلَّهِ : الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ ، وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ‏ خَلْقِهِ ، وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ ، وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ .

وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ : عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ .

ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ : مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ ، فَقَالَ سبحانه ، وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ : إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ، اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ ، فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ ، وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ .

 فَعَدُوُّ الله إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ ، وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ ، وَ نَازَعَ الله رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ ، وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ ، وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ ، أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ الله بِتَكَبُّرِهِ ، وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ ،  فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً ، وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً .

وَ لَوْ أَرَادَ الله : أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نور يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ ، وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ ، وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ ، لَفَعَلَ .

 وَ لَوْ فَعَلَ : لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً ، وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ .

 وَ لَكِنَّ الله سبحانه ، يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ . تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ ، وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ ، وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ .

طلب العبرة بفشل إبليس بالاختبار لتكبره على أمر الله :

فَاعْتَبِرُوا : بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الله بِإِبْلِيسَ ، إ ِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ ، وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ ، وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ الله سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ ، لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ .

مَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ : سْلَمُ عَلَى الله بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ ، كَلَّا مَا كَانَ الله سبحانه لِيُدْخِلَ الجنة بَشَراً ، بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَك ، إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ ، وَ مَا بَيْنَ الله وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ .

التحذير من الشيطان وغوايته عن الحق في الدين وأهله :

فَاحْذَرُوا عِبَادَ الله : عَدُوَّ الله ، أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ ، وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ ، وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ ، وَ رَجِلِهِ ، فَلَعَمْرِي : لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ ، وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ ، وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ، فَقَالَ : رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ ، وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ ، صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ ، وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ ، وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِ وَ الْجَاهِلِيَّةِ .

حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ : الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ ، وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ ، فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ ، اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ ، وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ ، فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ ، وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ ، وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ ، وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ ، وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ ، وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ ، وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النار الْمُعَدَّةِ لَكُمْ ، فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً ، وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ ، وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ ، فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ .

فَلَعَمْرُ الله : لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ ، وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ ، وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ ، وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ ، وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ ، يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ ، وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ ، لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ ، وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ ، وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ ، وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ ، وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ ، فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ ، وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ ، وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ ، وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ ، وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ ، وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ ، وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ ، وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيس‏ وَجُنُودِهِ ، فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً، وَرَجِلًا وَ فُرْسَاناً.

 

 تحذير من التكبر على أولياء الله والفساد وإطاعة أئمة الضلال:

 وَ لَا تَكُونُوا : كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ الله فِيهِ ، سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعظمة بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ ، وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ ، وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ ، الَّذِي أَعْقَبَهُ الله بِهِ النَّدَامَةَ ، وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

أَلَا وَ قَدْ : أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ ، وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ ، مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ ، وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ ، فَالله الله فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ ، وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ ، حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ ، ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ ، وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ ، وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ .

أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ : مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ ، الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ ، وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ ، وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ‏ ، وَ جَاحَدُو الله عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ ، مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ ، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ ، وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ ، وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ .

فَاتَّقُوا الله : وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً ، وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً ، وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ ، وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ ، وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ .

 وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ : وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ ، اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ ، وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ ، وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ ، وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ ، وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ ، فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ ، وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ ، وَ مَأْخَذَ يَدِهِ .

 

العبرة باختبار الله وابتلائه والتوجه له بإخلاص بدينه الحق :

فَاعْتَبِرُوا : بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ الله ، وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ ، وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ ، وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ ، وَ اسْتَعِيذُوا بِالله مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ ، فَلَوْ رَخَّصَ الله فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ ، لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ .

وَ لَكِنَّهُ سبحانه : كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ ، وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ .

 فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ : وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ ، وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَ كَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ ، قَدِ اخْتَبَرَهُمُ الله بِالْمَخْمَصَةِ ، وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ ، وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ ، وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ .

 فَلَا تَعْتَبِرُوا : الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ ، جَهْلً بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ ، وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ ، فَقَدْ قَالَ سبحانه وَ تعالى : أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ، فَإِنَّ الله سبحانه يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ .

 

تواضع الأنبياء وابتلائهم بكبر المستكبرين على الحق :

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ : وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ عليه السلام عَلَى فِرْعَوْنَ ، وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ ، وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ ، فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ ، فَقَالَ : أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ ، وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ ، فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ ، وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ .

وَ لَوْ أَرَادَ الله سبحانه : لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ ، كُنُوزَ الذِّهْبَانِ ، وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ ، وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ ، وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ ، وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ ، لَفَعَلَ ، وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ ، وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ ، وَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ ، وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ ، وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ ، وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا .

وَ لَكِنَّ الله سبحانه : جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ ، وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ ، مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى ، وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى .

وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ : أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ ، وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ ، وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ ، وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ .

 لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ ، وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ ، وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ ، أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً ، وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً .

وَ لَكِنَّ الله سبحانه : أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ ، وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ ، وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ ، وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ ، وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ ، وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ .

 

اختبار الناس بالحج للكعبة المقدسة مع تواضع محلها :

أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ الله سبحانه : اخْتَبَرَ :

الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عليه السلام إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ ، بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ ، وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً ، ثُمَ‏ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَر ، وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً ، وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً ، بَيْنَ : جِبَالٍ خَشِنَةٍ ، وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ ، وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ ، وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ ، لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ .

 ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عليه السلام وَ وَلَدَهُ : أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ ، وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ ، تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ ، وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ ، وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ ، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا ، يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ ، وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ ، قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ .

 ابْتِلَاءً عَظِيماً : وَ امْتِحَاناً شَدِيداً ، وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً ، وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً ، جَعَلَهُ الله سَبَباً لِرَحْمَتِهِ ، وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ .

وَ لَوْ أَرَادَ سبحانه : أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ ، وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ ، بَيْنَ : جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ ، وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ ، جَمَّ الْأَشْجَارِ ، دَانِيَ الثِّمَارِ ، مُلْتَفَّ الْبُنَى ، مُتَّصِلَ الْقُرَى بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ ، وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ ، وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ ، وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ ، وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ ، وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ .

 لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ : عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ .

وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ : الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا ، وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا ، بَيْنَ : زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ ، وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، وَ نور وَ ضِيَاء .

 لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ : وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ ، وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ .

 وَ لَكِنَّ الله يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ : وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ ، وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ ، وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ ، وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ ، وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ .

 

تحذير من التعصب للبغي والدعوة للطاعات ولآثارها الحسنة:

فَالله الله : فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ ، وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ ، وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ ، فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى ، وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى ، الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ ، فَمَا تُكْدِي أَبَداً ، وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ ، وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ .

وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ الله : عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ ، بِالصَّلَوَاتِ ، وَ الزَّكَوَاتِ ، وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ .

 تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ : وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ ، وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ ، وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ ، وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ .

وَ لِمَا فِي ذَلِكَ : مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُع ، وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً ، وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا ، مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ .

انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ : مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ ، وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ .

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ : فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ ، إِلا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ ، أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ ، فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ .

أَمَّا إِبْلِيسُ : فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ ، وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ ، فَقَالَ : أَنَا نَارِيٌّ ، وَ أَنْتَ طِينِيٌّ .

وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ : مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ ، فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ ، فَقالُوا : نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً ، وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ .

فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ :

 فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ : وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ ، وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا : الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ ، وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ ، بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ ، وَ الْأَحْلَامِ العظيمةِ ، وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ ، وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ  .

فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ : مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ ، وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ ، وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ ، وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ ، وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ ، وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ ، وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ ، وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ ، وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِ ، وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ .

 

العبرة بالماضين لعدم التكبر على أولياء أمر الله ودينه :

وَ احْذَرُوا : مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ ، وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ ، وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ ، فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ .

 فَالْزَمُوا : كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ ، وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ ، وَ مُدَّتِ العافية بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ ، وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ ، مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ ، وَاللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ ، وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا ، وَالتَّوَاصِي بِهَا.

وَ اجْتَنِبُوا : كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ ، وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ ، مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ ، وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ ، وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ ، وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي .

وَ تَدَبَّرُوا : أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ ، أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً ، وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً ، وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا ، اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً ، فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ ، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ ، وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ ، لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ ، وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ .

حَتَّى إِذَا رَأَى الله سبحانه : جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ ، وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً ، فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ ، وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً ، وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً ، وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ الله لَهُمْ‏ مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ .

 فَانْظُرُوا : كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً، وَالْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً ، وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَالْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً، وَالسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً ، وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً ، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً ، أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ ، وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ .

 فَانْظُرُوا : إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ ، وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ ، وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ ، وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ ، وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ ، وَ قَدْ خَلَعَ الله عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ ، وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ ، وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ .

فَاعْتَبِرُوا : بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ، وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ،  فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ ، وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ ، تَأَمَّلُوا : أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ ، لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ ، يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ ، وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ ، وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ ، وَ مَهَافِي الرِّيحِ ، وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ ، فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ ، إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ ، أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً ، وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً ، لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا ، وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا ، فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ ، وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ ، وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ ، فِي بَلَاءِ أَزْلٍ ، وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ ، مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ ، وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ ، وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ ، وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ .

 

النعمة برسول الله وإطاعة أولي أمره ويحذر التكبر عليه :

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ الله عَلَيْهِمْ : حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولً ، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ ، وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا ، وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا ، وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا ، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ ، وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ ، قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ ، وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ .

 وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ : فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ ، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ ، يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ ، وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ ، لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ ، وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ .

أَلَا وَ إِنَّكُمْ : قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ ، وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ الله الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ .

فَإِنَّ الله سبحانه : قَدِ امْتَنَ‏ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ ، الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا ، وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا ، بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً ، لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ ، وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ .

وَ اعْلَمُو : أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً ، وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاب ، مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ ، وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ .

 تَقُولُونَ : النار وَ لَا الْعَارَ ، كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُو الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ .

 وَ نَقْضاً : لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ الله لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ ، وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ، وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ ، حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ، ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ ، وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ ، إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَكُمْ .

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ : مِنْ بَأْسِ الله وَ قَوَارِعِهِ ، وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ ، فَلَا تَسْتَبْطِئُو وَعِيدَهُ جَهْلً بِأَخْذِهِ ، وَ تَهَاوُن بِبَطْشِهِ ، وَ يَأْس مِنْ بَأْسِهِ ، فَإِنَّ الله سبحانه لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ، إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَلَعَنَ الله السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي ، وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي . أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ ، وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ ، وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ .

أَلَا وَقَدْ أَمَرَنِيَ الله : بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَ النَّكْثِ ، وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ‏ .

فَأَمَّا النَّاكِثُونَ: فَقَدْ قَاتَلْتُ ، وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ ، وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ ، وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ ، وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَ لَئِنْ أَذِنَ الله فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ ، إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً .

 

فضل نبينا والإمام علي وعظمة أمر الله لهم وضرورة طاعتهم :

أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ : بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.

وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم : بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ ، وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ ، يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ ، وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ ، وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ ، وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ ، وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ ، وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ، وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ .

وَ لَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ صلى الله عليه وآله : مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً ، أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ ، لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ .

وَ لَقَدْ كُنْتُ : أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ ،
 يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً ،
 وَ
يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ .
وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ : فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي ،
 وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا .

أَرَى نور الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ : وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ ، وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ الله مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ ؟ فَقَالَ : هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ ، وَ تَرَى مَا أَرَى ، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ، وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ ، وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ .

وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلى الله عليه وآله وسلم : لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً ، لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ ، وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ ، وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً ، إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ ، وَ أَرَيْتَنَاهُ ، عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ .

فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم : وَ مَا تَسْأَلُونَ ، قَالُوا : تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا ، وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ .

فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم : إِنَّ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ، فَإِنْ فَعَلَ الله لَكُمْ ذَلِكَ ، أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ ؟ قَالُوا : نَعَمْ .

قَالَ : فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ ، وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ ، وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ ، وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ .

 ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم : يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ الله ، فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ الله ، فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ‏ بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ ، وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم  مُرَفْرِفَةً ، وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي ، وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ .

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ : إِلَى ذَلِكَ ، قَالُوا : عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً ، فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا .  فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ : فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا ، كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ ، وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً ، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم .  فَقَالُوا : كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ . فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وآله سولم فَرَجَعَ .

 فَقُلْتُ أَنَا : لَا إِلَهَ إِلَّا الله ، إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ الله ، وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ الله تعالى ، تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ ، وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ .

 فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ : بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ ، عَجِيبُ السِّحْرِ ، خَفِيفٌ فِيهِ ، وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي .

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ : لَا تَأْخُذُهُمْ فِي الله لَوْمَةُ لَائِمٍ ، سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ ، وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ ، عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ ، يُحْيُونَ سُنَنَ الله ، وَ سُنَنَ رَسُولِهِ ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ ، وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لا يُفْسِدُونَ ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ ، وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ [60].

يا طيب : إن لله في خلقه شؤون عظيمة يعظم من يتبع ما عظمه الله من أمر دينه وولاته وأئمة الحق بأي ظرف كان وكانوا وكانت الأحوال ، وحجة الله واضحة قد أرناها في سننه في التكوين والأنفس وفي الأمم الماضية ومداولة الأيام وابتلاء الناس واختبارهم بما يوجب لهم حسن المثوبة وعظيم المنزلة ، وذلك حين يتحققوا بما يصلحهم من هداه حقا كما علمه أئمة الحق وولاة أمر الله العظيم ، وإلا العذاب العظيم والعياذ بالله ، وبعد الذي عرفنا من أمر الله في الاختبار ، وأحوال الأمم والمسلمين وأمير المؤمنين وصدقه وعظيم منزلته وحكمته ، نذكر ما يساعدنا على التحقق برضا الله وتحصيل الثواب والأجر والفوز العظيم عنده .

 

 

الإشعاع الثالث :

الصبر على الطاعات والبلاء وعن المعصية ملاك الأجر العظيم :

سبحان ربي العظيم وبحمده سبحان ربي الأعلى وبحمده :

يا طيب : إن الله أمره عظيم حقا في خلقه سواء في التكوين وسعته ومراتبه ، أو في هداه ، وإن نور الأسماء الحسنى وتجليه بكل ما يتصف به لابد أن يظهر في الوجود بالعدل والإحسان كما عرفت ، وقد خلق الخلق بلطفه ورحمته ، وقد سبقت رحمته غضبه ، وسبق لطفه وكرمه نقمته ، وِأخذه الشديد لمن يتكبر على أولياء أمره ، وقد دلنا سبحانه في كل شيء على وجود عظمته حين التدبر به وبلطفه بخلقه لإتقانه وحسن صنعه فيهم ، وما أعد لمن يتبع صراطه المستقيم من الثواب الجزيل العظيم .

وقد عرفت يا طيب : إن أمر هدى الله أشفقت من تحمل أمانته وتبليغها والظهور به السماوات والأرض والجبال ، وتحمله الإنسان فسخر الله كل شيء له بلطفه ليعظم عنده فيصل لأعلى مراتب العظمة ، وبعد أن عرفنا إن الله خص أمر هداه بأعظم خلقه وظهروا بأمر الله وأمانته في كل مراتب الوجود .

حان الآن يا أخي في الإيمان : بعد الإيمان بالله العظيم تعالى ، وبولاة أمر هداه الذين تجلى نوه فيهم وبدينه القيم ، وبعد أن تيقنا ضرورة إطاعة الله بصراطه المستقيم للمنعم عليهم بهداه العظيم لنفوز معهم فوزا عظيما ، وننجى في ابتلاءه واختباره الذي أعده لعباده ليعلم صدقهم في طاعته والتوجه إليه بكل حال لهم سواء في الشدة أو في الرخاء ، أو في الصحة والمرض ، أو في الغنى والفقر ، في دولة العدل والظَلمة ، في حال ظهور الإمام وولي أمر الله أو في حال غيبته بحكمة الله وفضله الذي أعده لإقامة دولة العدل ، فحان الآن : لأن لنعرف ما يساعدنا على أمر الله من الصبر على طاعته والبلاء وعن معصيته ، وما يقربنا فضله ، حتى نجد في التوجه لله بما يحب ويرضى.

ويا طيب : عرفت إن الصبر في طاعة الله سواء في إقامة العبادات أو في عدم إتيان المحرمات أو الصبر في البلاء والامتحان الإلهي كان ملاك للإمامة ولولاية أمر الله تعالى ، وهو أس تحمل أمانته وتبليغها ، وهو إقامة ما يريد الله تعالى ويحبه من أمر هداه ودينه في كل حال يمر به الإنسان ، وإنه كان له أجر ولاية نور أمر الله وهداه في خلقه ، وقد عرفت إن قد خص بأعظم خلق الله وهم الأنبياء وأولي العزم من الرسل ثم الأنبياء والأوصياء ، ثم من تبعهم حقا بإحسان .

ويا أخي : إن الأجر لعظيم والمقام العظيم والمنزلة الرفيعة لا يعطيها الله تعالى لكل أحد مهما كان ويكيف ما عبد ، بل الله أمره محكم وقضاءه مبرم ، وتقديره تقدير عليم خبير ، يعطي الأجر العظيم لمن يخلص له ويجد ويجتهد في التحقق بأمر هداه العظيم حقا ، ويبتعد عن كل ذنب عظيم أو صغير وعن كل ما يبعد عنه ، ويراقب نفسه في كل حال له ليكون مع الله تعالى ، وصابرا على تحمل أمره بكل وجوده طاعة مخلصة لله العظيم ، وبكل خشوع وخضوع وتذلل ومسكنة مشعرا بالتقصير وكما عرفت في اسم الله الشكور .

فإن هذه الدنيا : دار بلاء وطاعة ، لا دار نعيم للمؤمن ولو كان يملك ما يملك منها ، لأنه ملك الدنيا منقطع زائل ما لم يطلب به رضا الله حقا ويصرف في طاعته ، ويقيم بنعمه عبوديته تعالى ومخلصا له الدين .

ولمعرفة فضل الصبر في طلب الحق والتحقق به وأجره العظيم : نذكر هذه الأحاديث لتعرفنا شأننا العظيم حين ألتحققنا بما يقربنا لله من عبادته وطاعته والانتهاء عن معصيته في كل حال لنا ، والرضا بقضاء الله وقدره ، والتوجه له مخلصين له الدين عن يقين وإيمان بما علمه أولياءه الصادقين المجتبين الأخيار ، فتدبر عظمة ثواب الله العظيم لنا إن صدقنا في التوجه لعظمته بما يحب ويرضى ، وأنظر درجات ثواب الله والنسبة بينه الصبر على البلاء والطاعة والمعصية وتفاضل الأجر العظيم بينها .

فعن الإمام عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ :صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ، وَ صَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَ صَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ .

فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ : حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزَائِهَا ، كَتَبَ الله لَهُ ثَلَاثَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ .

وَ مَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ : كَتَبَ الله لَهُ سِتَّمِائَةِ دَرَجَةٍ

مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الْأَرْضِ إِلَى الْعَرْشِ .

وَ مَنْ صَبَرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ : كَتَبَ الله لَهُ تِسْعَمِائَةِ دَرَجَةٍ

مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الْأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى الْعَرْشِ [61].

 و قال عليه السلام : الصبر على ثلاثة أوجه :

فصبر على المصيبة . و صبر عن المعصية ، و صبر على الطاعة [62].

و قال صلى الله عليه وآله وسلم : قسم الله العقل ثلاثة أجزاء ، فمن كن فيه كمل عقله ، و من لم يكن فلا عقل له ، حسن المعرفة بالله ، و حسن الطاعة لله ، و حسن الصبر على أمر الله [63].

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : الصبر شجاعة ، والعجز آفة ، الصبر صبران : صبر على ما يكره ، و صبر على ما يحب ، و الصبر على الإيمان كالرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس معه ، ولا في إيمان لا صبر معه[64].

عَنْ أَبِي الْجَارُودِ عَنِ الْأَصْبَغِ قَالَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ :

الصَّبْرُ صَبْرَانِ : صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ حَسَنٌ جَمِيلٌ ، وَ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرُ عِنْدَ مَا حَرَّمَ الله عَزَّ وَ جَلَّ عَلَيْكَ ، وَ الذِّكْرُ ذِكْرَانِ ذِكْرُ الله عَزَّ وَ جَلَّ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الله عِنْدَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكَ فَيَكُونُ حَاجِزا[65] .



[58] الخصال ج2ص574. وأنظر تفسير فرات ‏الكوفي ص470ح616 .تفسير القمي ج2ص356.

[59] بحار الأنوار ج41ص3 باب 99 يقينه صلوات الله عليه و صبر .

[60] نهج البلاغة ص276 ـ 301 الخطبة القاصعة 192 . وفي الكافي ج4ص198باب ابتلاء الخلق و اختبارهم بالكعبة ح2ذكر قسما منه .

[61] الكافي ج2ص91 باب الصبر حديث 15 .

[62] الإرشاد ج1ص302.

[63] تحف‏ العقول ص 54 .

[64] روضة الواعظين ج2ص422 مجلس في ذكر فضل الصبر .

[65] الكافي ج2 ص90باب الصبر حديث 11 .

 

   

أخوكم في الإيمان بالله ورسوله وبكل ما أوجبه تعالى
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة صحف الطيبين
http://www.msn313.com

يا طيب إلى أعلى مقام صفح عنا رب الإسلام بحق نبينا وآله عليهم السلام


يا طيب إلى فهرس صحيفة شرح الأسماء الحسنى رزقنا الله نورها