هداك الله بنور الإسلام حتى تصل لأعلى مقام

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في  أصول الدين وسيرة المعصومين
صحيفة التوحيد الإلهي / الثانية / للكاملين / شرح الأسماء الحسنى الإلهية : الجزء الثالث

اللَّطِيفُ
النور الثامن والتسعون

اللطيف : الحسِن في تجلي باطنه أمره ، الجميل حين بيان حقيقته ، الخفي لعظيم وجوده وجلالة قدره ، المُظهر لخيره مع الحب ، و الظاهر بما خبره برحمه ، والمتجلي بمكنون الشيء بعطف ظريف ، أو فقل ظهور مخفي الرحمة ، المتجلي بمستور البركة ، باطن اسم العظم ، المظهر لخفي النعمة برفق ، ظهور جمال المكنون بدقة وإتقان .

واللطيف : الجميل الرفيق ، والحسن الرشيق ، والظريف منظره ، وكل خفي يظهر حسنه حين التوجه لحقيقته . وفي العلم المعنى الخفي وما يحتاج لبيانه توجه رقيق وبيان عميق يحتاج لمقدمات بديهية أو جدانية أو عقليه بل حتى البرهانية عند المتعمقين.

واللطف : من المعاني المستحسنة في العقل والمحببة للقلب ، وفي الخُلق والمعاملة ظهور رقة العطف بالخير والبركة ، ويستعمل في الهدية ، والكلمة الطيبة ، وفي تحقق الأمور الحسنة ، وفي البيان الجميل ، والأسلوب العذب ، والمعنى الرقيق الظاهر للمتدبر ، وهو يستخدم في ظريف الأمور ، وهو من المعاني التي لها آثار الإخبات في الروح ، وحصول المؤمل لما يهفو ، أو إيصال ما يحب من الخير إلى الغير بغير منّه ولا توقع ، وهو تجلي تقدير الخبير بالبر ، والعالم بحال الآخرين وموصل الخيرات لمن يأمله ومن لم يأمله ، والمعطي مع محبة ورفق ، واللطيفة : النكتة الظريفة المعجبة للمتكلم وللسامع .

 

والله سبحانه هو اللطيف الحق : لما له من الغنى المطلق والكمال العظيم الذي لا يحد ، فلطفَ عن خطرات القلوب والأوهام والإبصار ، ولا يعرف شأنه الجليل إلا بوصفه بظاهر أمره المتجلي في الكون ، فدل عليه كل ما ظهر من نور أسماءه الحسنى في كل شيء ، وبأجمل وجود بديع يستبين للمتدبر في دقائق وجود الكائنات وما يظهر له من حسن هداه ، وما أنعم عليها الله اللطيف من الخير والبركة بكل رقة وعطف ، حتى كان التدبر بأي شيء من خلقه يوجب الإيمان بخالقه اللطيف وحتى اليقين ، وإن لم يراه ولم يحط بمخلوقه علما بكل تفاصيل وجوده والخير الذي فيه فضلا عن العلم بعظمة ولطف خالقه ، بل يذعن بربه اللطيف لما يرى من دقة خلقه للتكوين وحسن الهدى . ولما يرى من تجلي نوره في كل شيء وظهوره فيه بأحسن تقدير متقن وأجمل تصوير حتى جعله بلطفه بأكمل ما يستحقه شأنه ، وأنعم عليه بما به بقائه سواء في وجوده أو بمحيطه الملائم له أو هداه الذي يسير به لأحسن غايته وغرض تحققه .

فالله تعالى هو اللطيف الحق : في وجوده العظيم الظاهر بكل نور الأسماء الحسنى في كل شيء مع عدم الإحاطة به علما ولا بشيء من خلقه مهما تدبر المتدبر ، ويدل حسن وجود كل شيء على لطف العليم الخبير الذي تجلى بأحسن صورة ممكنة يتحملها عالم الإمكان ، وبأي شيء من موجودات الكون تدبر المتدبر ، يرى إن الله اللطيف قد أتقن صنعه بدقة متناهية دقيقة ظريف لطيفة رائعة بما لا يمكن أن يوجد أحسن منه ولا تصور أفضل من شأنه في محله فترى بلطافته لطف اللطيف واقعا حقا .

كما أن اللطيف الخبير سبحانه : علمه بنا وبأحوالنا قبل الوجود وبعده وما سنّ من قوانين التكوين في إيصال كل شيء لما يستحقه بالعدل والإحسان ، يعرفنا علمه بأدق أحوالنا وبتقلب أفكارنا فضلا عن أعمالنا وسيرتنا وتصرفنا ، فيجازينا بما نستحقه برحمة ورقة وفضل وإحسان ، ويكمل وجودنا بأكمل وأعظم بركة نطلبها ، فيظهر تمام نوره اللطيف من كل نور الأسماء الحسنى للمؤمنين ، وما يخفي من نعيمه له يوم القيامة والجنة بل من حين الموت ، بل هنا في الدنيا بالاطمئنان والراحة لذكره .

ومن تجلى عليه اللطيف بالتجلي الخاص : جعله أخبر خلقه بدقائق مصالحه ، ويستعد بلطف لتلقي أكرم هدى منه ، فيكون لطيف به حتى يجعله رفيق بكل خلقه ومعلم هداه لهم ، وهدا ما خص الله به الأنبياء والرسل وأوصياءهم ، وبالخصوص نبينا الكريم وآله الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين ، حتى قال له وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، وإنك على خلق عظيم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة وهو ملكه العظيم اللطيف هنا ، وكما عرفت هذا المعنى بكل تفصيل في اسم الله العظيم ، بل بكل ما مر من معاني الأسماء الحسنى ، وسيأتي بيان إن الإمام وجوده لطف من الله في عباده لهم.

والمؤمن : لطيف يتلطف لنفسه بما يجعلها بنعيم أبدي بلطف الله به ، فيوفقه ليبحث عن لطف الله بكل حقائقه الدقيقة ومعانية الرقيقة ، والتي توصله لأعظم لطف الله الشافي الظاهر في التكوين بنعيم هدى ، وفي جمال المواد والأجسام التي جعلها من الحلال الطيب الطاهر له فيسعى بلطف لتحصيلها ومن غير جشع ولا بخل في صرفها.

فالمؤمن : يطلب هدى الله ممن ألطف الله بهم بهداه حتى جعلهم أئمة له ، ويتحقق به بكل لطف ومحبة ، ولا يبخل بشيء يوصله لعبودية الله اللطيف ، فتراه بكل إخلاص يتحقق بعبوديته وشكره على كل شيء ، ولا يتعصى على ما يوصله للطف الله ، بل يهيئ نفسه بالإنابة لله والتوجه له بكل ما يحب ويرضى ، ويظهر لطفه علما وعملا في التحقق بهدى الله ، وبما فضله به من كل الخيرات والبركات على كل عباد الله ، وبالخصوص أخوانه المؤمنين سواء إيصال العلم والنصح والإرشاد والمعروف لهم ، أو إيصال الخير والبركات التي فضله الله اللطيف بها ، ومن غير منة ولا أذى ، فترى المؤمن لطيف في علمه وخلقه وعمله ، ولا رياءه له مع ظهور لطفه ، ولا يحب الفخر ولا العجب فضلا عن التكبر ، ومع ما يعمل من الأعمال الصالحة والظهور بأعمال الخير فهو متواضع كريم النفس يطلب الله اللطيف ليطف به بكل شيء يظهر به من نعمه ، ويطلب منه المزيد من العلم والتوفيق للعمل والعافية الشافية الأبدية بكل عظمة ولطف ظهر به نور الأسماء الحسنى في الوجود المكرم المبارك أبدا .

ويعتقد المؤمن : أن كل ما حققه الله اللطيف به ، هو خيرا له ، وكما جاء :

عن داود بن سليمان قال : حدثنا الرضا علي بن موسى ، قال حدثني أبي موسى بن جعفر ، قال حدثني أبي جعفر، قال حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن الحسين زين العابدين ، قال حدثني أبي الحسين بن علي ، قال حدثني أبي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله قال الله عز وجل :

يا ابن آدم : كلكم ضال إلا من هديت ، و كلكم عائل إلا من أغنيت ، و كلكم هالك إلا من أنجيت ، فاسألوني : أكفكم ، و أهدكم سبيل رشدكم  .

فإن من عبادي المؤمنين : من لا يصلحه إلا الفاقة ، ولو أغنيته لأفسده ذلك .

وإن من عبادي : من لا يصلحه إلا الصحة ، ولو أمرضته لأفسده ذلك .

وإن من عبادي : من لا يصلحه إلا المرض، ولو أصححت جسمه لأفسده ذلك.

وإن من عبادي : لمن يجتهد في عبادتي و قيام الليل لي ، فألقي عليه النعاس نظرا مني له ، فيرقد حتى يصبح و يقوم حين يقوم و هو ماقت لنفسه زار عليها ، و لو خليت بينه و بين ما يريد لدخله العجب بعمله ، ثم كان هلاكه في عجبه و رضاه من نفسه ، فيظن أنه قد فاق العابدين ، و جاز باجتهاده حد المقصرين ، فيتباعد بذلك مني ، و هو يظن أنه يتقرب إلي .

 فلا يتكل العاملون : على أعمالهم و إن حسنت .

 و لا ييأس المذنبون من مغفرتي لذنوبهم و إن كثرت .

 لكن برحمتي فليثقوا ، و لفضلي فليرجوا . و إلى حسن نظري فليطمئنوا .

و ذلك أنـي أدبـر عبادي بما يصلحهم .

 و أنا بـهـم لـطـيـف خـبـيـر [1].

وإذا عرفنا هذا اللطف لنا من اللطيف سبحانه، فلنتدبر لطفه بنا حتى يوم القيامة .

 

الإشراق الأول :

الله هو اللطيف الحق و ظاهر لطفه بعلمه وأسماءه الحسنى في التكوين :

إن الله سبحانه هو اللطيف الحق : وقد ظهر بأحسن تجلي بكل معاني الأسماء الحسنى الجمالية في الوجود الأعلى والأدنى وبكل لطف ورقة وعطف ، وبسعة نور اسم الله العظيم الواسع المبارك في التكوين ، وفي كل شيء بحسب شأنه كان حسنه ، فما من شيء مع عظمته أو دقته إلا وباطنه فيه لطاف الله اللطيف ، وبجمال وبهاء ونور ظريف يعبر عن إتقان صنعه وإحكام تكوينه ، وبكل شيء يجعله أو يساعده لكي يستمر في بقائه حتى غايته بأحسن وجه يستحقه وحسب شأنه في التكوين .

فإن لطف الله اللطيف : تراه مع كل شيء وفي كل شيء حتى لو كان ظاهرا بعظمة ، فإن باطنه ومخفي أمرة لو تتدبر به ترى لطف الله متجلي به بكل دقة صنع وإحكام تكوين وجمال صورة بهيئته ، بل وما يتكون به من ظريف الأجزاء أو المواد أو الأمور التي تساعده على البقاء داخلية أو خارجية أو هدى ، وإن المجرد تكوينه ألطف.

ولذا يا طيب بلطف الله : سنبحث هنا معاني ظريفة وحقائق دقيقة لطيفة في أحوال ظهور أسم الله اللطيف في أهم ما يظهر به من معانيه ، سواء بظهوره في نفس إشراق الأسماء الحسنى وما يظهر من نورها اللطيف ، أو في لطف ولطائف عالم التكوين الأعلى والأدنى ودقائق صنعه وما يخفى علينا في أول وهلة للنظر به ، وما يظهر للمتدبر في حقائق تكوينه من اللطف والطرافة والظرافة في وجوده ، وفيما أنعم الله عليه في رتبة وجوده وشأنه وهداه حتى لو كان عظيما وكبيرا ، فنرى لطف الله ساري في كل شيء حقيقة وجودية أو هدى تكويني أو تشريعي .

ولقربنا من إتمام: شرح الأسماء الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة، وكما ذكرنا في اسم الله العظيم ملكنا العظيم اللطيف الشافي بعد رحيلنا لملكوته الأعلى ، نذكر هنا لطف الله بنا يوم القيامة ، وفي الاسم الشافي لطفه بنا في الجنة إن شاء الله فأنتظر :

 

الإشعاع الأول

 أحاديث في اسم الله اللطيف ومعانية بالعظمة والعلم والظهور :

يا لطيف ألطف بنا :

يا طيب : إن لبطون عظمته سبحانه مع ظهوره في كل شيء كان لطيفا لا يحاط به علما إلا بالإيمان به لما نرى من آثار عظمته ، فإن لطف الله ظاهر في كل شيء تكوينا وهدى ، وعلما بكل شيء لطيف ، فنعرف بعض لطف بطونه وظهوره في الوجود خبرتا وعلما ، وبهذه الأحاديث اللطيفة العظمة والشافية في بيان لطف الله .

 نتحدث في هذا الإشعاع : عن معاني اسم الله اللطيف بما هو مع باقي الأسماء الحسنى ، وإنه لعظمته لا يحاط به علما ، فلطف علينا معرفة شأنه الجليل بما هو إلا ما علمنا من تجلي أسمائه الحسنى بالخير ، وأن لعلمه الظاهر بكل خبرة في تكوين كل شيء بما يصلحه ، ظهر لطفه الخبير بكل رحمة وبركة في التكوين وهدى لكل شيء .

 وفي الإشعاع الثاني : نتكلم عن ظهور لطف الله في خلقه وبنفس أسلوب الأحاديث المشيرة لعظمة خبرته في الكون ، وظهوره بكل رحمة وعطف لكل شيء فظهر لطفه فيه عملا ، وعلمه المصلح لكل كائن في كل وجوده وأحواله إلى منتهى غايته فعلا ، على أن نشير لكثير من أحوال لطف الله في بعض الكائنات ، وأيضا بأحاديث ممن لطف الله بهم بكل عظمة ، فعلمهم معارف لطفه العظيم الشافي فتدبر .

 

عظمة الله لا يحاط بها علما فهو اللطيف سبحانه ولا يدرك بنفسه :

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام :

يَا أَبَا حَمْزَةَ : إِنَّ الله لَا يُوصَفُ بِمَحْدُودِيَّةٍ ، عَظُمَ رَبُّنَا عَنِ الصِّفَةِ .

 فَكَيْفَ يُوصَفُ بِمَحْدُودِيَّةٍ ، مَنْ لَا يُحَدُّ ، وَ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ .

 وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ، وَ هُوَ اللطيف الْخَبِيرُ[2] ؟ .

قد عرفنا في هذا الحديث الشريف اللطيف : إن لعظمته سبحان لا يعرف ولا تدركه الأبصار فهو اللطيف، وللطفه الظاهر في الكائنات نعرف إنه اللطيف الخبير فآمنا به، ولمعرفة تفاصيل هذا المعنى تدبر الأحاديث الآتية عن معنى لطف الله اللطيف الباطن والظاهر : فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ :

 إِنَّ الله عَظِيمٌ رَفِيعٌ : لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَى صِفَتِهِ . وَ لَا يَبْلُغُونَ كُنْهَ عَظَمَتِهِ .

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ، وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ .

 وَ هُوَ اللطيف الْخَبِيرُ ، وَ لَا يُوصَفُ بِكَيْفٍ وَ لَا أَيْنٍ وَ حَيْثٍ .

 وَ كَيْفَ أَصِفُهُ بِالْكَيْفِ ؟

وَهُوَ الَّذِي كَيَّفَ الْكَيْفَ حَتَّى صَارَ كَيْفاً ، فَعُرِفَتِ الْكَيْفُ بِمَا كَيَّفَ لَنَا مِنَ الْكَيْفِ .

 أَمْ كَيْفَ أَصِفُهُ بِأَيْنٍ ؟

وَ هُوَ الَّذِي أَيَّنَ الْأَيْنَ حَتَّى صَارَ أَيْناً ، فَعُرِفَتِ الْأَيْنُ بِمَا أَيَّنَ لَنَا مِنَ الْأَيْنِ .

 أَمْ كَيْفَ أَصِفُهُ بِحَيْثٍ ؟

 وَ هُوَ الَّذِي حَيَّثَ الْحَيْثَ حَتَّى صَارَ حَيْثاً، فَعُرِفَتِ الْحَيْثُ بِمَا حَيَّثَ لَنَا مِنَ الْحَيْثِ.

 فَالله تَبَارَكَ وَ تعالى : دَاخِلٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ  وَ خَارِجٌ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ .

 لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ  وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ .

 لَا إِلَهَ إِلَّا هُـوَ الْعَلِـيُّ العظيم ، وَ هُـوَ اللطيف الْخَبِيـرُ [3].

 

وعن الأصبغ بن نباتة قال : لما جلس أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة و بايعه الناس ، خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لابسا بردة رسول الله ، متنعلا نعل رسول الله ، متقلدا سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصعد المنبر فجلس عليه متكئا ، ثم شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه ، ثم قال : يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني ، هذا سفط العلم ،
 هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هذا ما زقني رسول الله :

 فاسألوني : فإن عندي علم الأولين و الآخرين ، أما و الله لو ثنيت لي وسادة و جلست عليها ، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، حتى تنطق التوراة فتقول : صدق علي ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ ، و أفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتى ينطق الإنجيل فيقول : صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في ، و أفتيت أهل القرآن بقرآنهم ، حتى ينطق القرآن فيقول : صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في ، و أنتم تتلون الكتاب : ليلا و نهارا ، فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه ؟ و لو لا آية في كتاب الله عز و جل ، لأخبرتكم بما كان ، و ما يكون ، و ما هو كائن إلى يوم القيامة ، و هي آية : { يَمْحُوا الله ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ } .

ثم قال علي السلام : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الذي فلق الحبة و برأ النسمة ، لو سألتموني : عن أية آية ، في ليل أنزلت أو في نهار أنزلت، مكيها ومدنيها ، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيله، لأخبرتكم به.

فقام إليه رجل : يقال له ذعلب ، و كان ذرب اللسان ، بليغا في الخطب ، شجاع القلب ، فقال : لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة ، لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربك ؟

فقال : ويلك يا ذعلب ، لم أكن بالذي أعبد ربا لم أره ؟ !

قال : فكيف رأيته ، صفه لنا ؟

قال عليه السلام : ويلك لم تـره العيون بمشاهدة الأبصار ، و لكن رأته القلـوب بحقائـق الإيمـان . ويلك يا ذعلب :  إن ربي : لا يوصف بالبعد ، و لا بالحركة ، و لا بالسكون ، و لا بقيام قيام انتصاب ، و لا بجيئة ، و لا بذهاب .

لطيف اللطافة : لا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ، رءوف الرحمة لا يوصف بالرقة ، مؤمن لا بعبادة ، مدرك لا بمجسة ، قائل لا بلفظ .

هو : في الأشياء على غير ممازجة ، خارج منها على غير مباينة ، فوق كل شي‏ء ، و لا يقال شي‏ء فوقه ، أمام كل شي‏ء و لا يقال له أمام ، داخل في الأشياء لا كشيء في شي‏ء ، داخل خارج منها لا كشيء من شي‏ء خارج .

 فخر ذعلب : مغشيا عليه ، ثم قال : بالله ما سمعت بمثل هذا الجواب ، و الله لا عدت إلى مثلها أبدا [4]...

يا طيب : إن الله لطيف خبير وعلي عظيم وكبير متعال ، ولكنه لا بعظم جثة وضخامة ولا بلطف رقة وظرف خفاء الأشياء الجسيمة أو المصنوعة بلطف وظرافة ، أو دقة وإتقان جميل ، ولا كالمبين بعد خفاء ، بل عظمته وهو العلي العظيم و لا يحد كما عرفت فخفي معرفة شأنه الجليل وبطن علوه المجيد فكان لطيفا، ولطفه الظاهر هو لخبرته ظهر حسن تجلي الأسماء الحسنى فعلا بكل شيء بأحسن وجه يستحقه كل كائن ، حتى لا يتصور إمكان أن يكون أحسن منه خلقا بحسب شأنه ودقة تكوينه وجمال صنعه وإتقان وجوده وما له بأحواله بمدد الله اللطيف به وفضله عليه .

وإذا عرفنا : بعض شؤون العظيم اللطيف الخبير الشافي العليم القدير الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا بكل لطف ظهر بالعدل والإحسان ، مع كون الأسماء الحسنى الذاتية حقيقة واحدة ، ويتكثر نور ظهورها فعلا في الخلق والتكوين وإيجاد الوجود بكل كائناته البديعة ، وبكل لطف ودقة وحسن وبهاء رائع التكوين ، بفضل تجلي الخبير الذي أتقن كل شيء صنعا ولطف به بكل رحمة ، فهذا حديث آخر يعرفنا عظمته وشأنه الجليل وعلوه المجيد الواحد الأحد الفرد الصمد والعليم الخبير القدير ، المتجلي نور أسمائه الحسنى بكل شيء فألطف به ، وكيف نصفه بأسمائه الحسنى بكل لطف وعظمة يحبها :

 

لطف أتصاف اللطيف بأسمائه الحسنى وكيف نطلقها عليه :

روي عن أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام فَسَأَلَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَ تعالى ، لَهُ أَسْمَاءٌ وَ صِفَاتٌ فِي كِتَابِهِ ، وَ أَسْمَـاؤُهُ وَ صِفَـاتُـهُ هِـيَ هُــوَ ؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : إِنَّ لِهَذَا الْكَلَامِ ، وَجْهَيْنِ :

 إِنْ كُنْتَ تَقُولُ : هِيَ هُوَ ، أَيْ إِنَّهُ ذُو عَدَدٍ وَ كَثْرَةٍ ، فَتعالى الله عَنْ ذَلِكَ .

 وَ إِنْ كُنْتَ تَقُولُ : هَذِهِ الصِّفَاتُ وَ الْأَسْمَاءُ لَمْ تَزَلْ ،فَإِنَّ لَمْ تَزَلْ مُحْتَمِلٌ مَعْنَيَيْنِ :  فَإِنْ قُلْتَ : لَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ فِي عِلْمِهِ وَ هُوَ مُسْتَحِقُّهَا ، فَنَعَمْ .

وَ إِنْ كُنْتَ تَقُولُ : لَمْ يَزَلْ تَصْوِيرُهَا وَ هِجَاؤُهَا وَ تَقْطِيعُ حُرُوفِهَا ، فَمَعَاذَ الله أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَيْ‏ءٌ غَيْرُهُ ، بَلْ كَانَ الله وَ لَا خَلْقَ ، ثُمَّ خَلَقَهَا وَسِيلَةً بَيْنَهُ وَ بَيْنَ خَلْقِهِ يَتَضَرَّعُونَ بِهَا إِلَيْهِ ، وَ يَعْبُدُونَهُ ، وَ هِيَ ذِكْرُهُ ، وَ كَانَ الله وَ لَا ذِكْرَ ، وَ الْمَذْكُورُ بِالذِّكْرِ هُوَ الله الْقَدِيمُ ، الَّذِي لَمْ يَزَلْ .

وَ الْأَسْمَاءُ وَ الصِّفَاتُ مَخْلُوقَاتٌ : وَ الْمَعَانِي وَ الْمَعْنِيُّ بِهَا هُوَ الله ، الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ الِاخْتِلَافُ وَ لَا الِائْتِلَافُ ، وَ إِنَّمَا يَخْتَلِفُ وَ يَأْتَلِفُ الْمُتَجَزِّئُ .

 فَلَا يُقَالُ : الله مُؤْتَلِفٌ ، وَ لَا الله قَلِيلٌ ، وَلَا كَثِيرٌ ، وَ لَكِنَّهُ الْقَدِيمُ فِي ذَاتِهِ ، لِأَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ مُتَجَزِّئٌ ، وَ الله وَاحِدٌ لَا مُتَجَزِّئٌ ، وَ لَا مُتَوَهَّمٌ بِالْقِلَّةِ وَ الْكَثْرَةِ .

 وَ كُلُّ مُتَجَزِّئٍ أَوْ مُتَوَهَّمٍ بِالْقِلَّةِ وَ الْكَثْرَةِ : فَهُوَ مَخْلُوقٌ دَالُّ عَلَى خَالِقٍ لَهُ .

 فَقَوْلُكَ : إِنَّ الله قَدِيرٌ ، خَبَّرْتَ أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْ‏ءٌ ، فَنَفَيْتَ بِالْكَلِمَةِ الْعَجْزَ ، وَ جَعَلْتَ الْعَجْزَ سِوَاهُ .

 وَكَذَلِكَ قَوْلُكَ : عَالِمٌ ، إِنَّمَا نَفَيْتَ بِالْكَلِمَةِ الْجَهْلَ ، وَجَعَلْتَ الْجَهْلَ سِوَاهُ . وَ إِذَا أَفْنَى الله الْأَشْيَاءَ : أَفْنَى الصُّورَةَ ، وَالْهِجَاءَ وَالتَّقْطِيعَ ، وَلَا يَزَالُ مَنْ لَمْ يَزَلْ عَالِماً.

فَقَالَ الرَّجُلُ : فَكَيْفَ سَمَّيْنَا رَبَّنَا سَمِيعاً ؟

فَقَالَ عليه السلام : لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يُدْرَكُ بِالْأَسْمَاعِ ، وَ لَمْ نَصِفْهُ بِالسَّمْعِ الْمَعْقُولِ فِي الرَّأْسِ ، وَ كَذَلِكَ سَمَّيْنَاهُ بَصِيراً لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ ، مِنْ لَوْنٍ أَوْ شَخْصٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَ لَمْ نَصِفْهُ بِبَصَرِ لَحْظَةِ الْعَيْنِ .

 وَ كَذَلِكَ سَمَّيْنَاهُ لَطِيفاً : لِعِلْمِهِ بِالشَّيْءِ اللطيف ، مِثْلِ الْبَعُوضَةِ وَ أَخْفَى مِنْ ذَلِكَ ، وَ مَوْضِعِ النُّشُوءِ مِنْهَا ، وَ الْعَقْلِ ، وَ الشَّهْوَةِ لِلسَّفَادِ ، وَ الْحَدَبِ عَلَى نَسْلِهَا ، وَ إِقَامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَ نَقْلِهَا الطَّعَامَ وَ الشَّرَابَ إِلَى أَوْلَادِهَا ، فِي الْجِبَالِ وَ الْمَفَاوِزِ وَ الْأَوْدِيَةِ وَ الْقِفَارِ .

فَعَلِمْنَا أَنَّ خَالِقَهَا لَطِيفٌ : بِلَا كَيْفٍ ، وَ إِنَّمَا الْكَيْفِيَّةُ لِلْمَخْلُوقِ الْمُكَيَّفِ .

 وَ كَذَلِكَ سَمَّيْنَا رَبَّنَا قَوِيّ : لَا بِقُوَّةِ الْبَطْشِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِ ، وَ لَوْ كَانَتْ قُوَّتُهُ قُوَّةَ الْبَطْشِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِ لَوَقَعَ التَّشْبِيهُ ، وَ لَاحْتَمَلَ الزِّيَادَةَ ، وَ مَا احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ احْتَمَلَ النُّقْصَانَ ، وَ مَا كَانَ نَاقِصاً كَانَ غَيْرَ قَدِيمٍ ، وَ مَا كَانَ غَيْرَ قَدِيمٍ كَانَ عَاجِزاً .

فَرَبُّنَا تَبَارَكَ وَ تعالى : لَا شِبْهَ لَهُ وَ لَا ضِدَّ وَ لَا نِدَّ ، وَ لَا كَيْفَ وَ لَا نِهَايَةَ وَ لَا تَبْصَارَ بَصَرٍ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى الْقُلُوبِ أَنْ تُمَثِّلَهُ ، وَعَلَى الْأَوْهَامِ أَنْ تَحُدَّهُ ، وَ عَلَى الضَّمَائِرِ أَنْ تُكَوِّنَهُ ، جَلَّ وَعَزَّ عَنْ أَدَاةِ خَلْقِهِ، وَسِمَاتِ بَرِيَّتِهِ وَ تعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً [5].

يا لطيف : ألطف بنا ، وإنا لا نعرف من عظمتك إلا ما أظهرت من لطفك بكل شيء نعمه وحسن تقدير ودقة إتقان وجمال هدى حتى يصل كل شيء لأكمل غاية له ، وإنك لعظمتك لطيف لا تدرك ، وإن لطفك لظاهر بكل شيء عن خبرة عليم قدير ورحيم بر وبفعل لطيف كريم قديم كله أحسان وبركة وخيرات .

وإذا عرفنا يا طيب : بعض معاني لطف الله بعظمته التي لا تدرك ، فلنتدبر بعظمة لطفه الظاهر في الوجود بكل خبرة ودقة في تكوين كل شيء لطيف، وبأحاديث لطيفة ممن ألطف بهم الله اللطيف فظهر لطفه بعلمهم الظاهر بلطف اللطيف فتدبر .

 

 

الإشعاع الثاني :

أحاديث في معاني لطف الله الظاهر بخلقه اللطيف التكوين :

سُبْحَانَكَ أَنْتَ الله اللطيف الْوَاسِعُ، لَطِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ، اللطيف بِعِلْمِهِ.

سبحانه مِنْ عَلِيمٍ مَا أَخْبَرَهُ ، وَ سبحانه مِنْ خَبِيرٍ مَا أَكْرَمَهُ ، وَ سبحانه مِنْ كَرِيمٍ مَا لطفه ، وَ سبحانه مِنْ لَطِيفٍ مَا أَبْصَرَهُ ....

اللطيف الْخَبِيرُ الْقَائِمُ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ .

اللطيف بِعِبَادِهِ عَلَى فَقْرِهِمْ وَ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَ مَلْكَتِهِ إِيَّاهُمْ .

يَا مَنْ فِعْلُهُ لَطِيفٌ ، يَا مَنْ لطفه مُقِيمٌ  إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ لَطِيفٌ لِمَا تَشَاءُ .

يا من هو في قربه لطيف ، يا من هو في لطفه شريف ، يا من هو في حكمته لطيف ، يا من هو في لطفه قديم ، يا من هو لطيف بلا بتجسيم ، يا ألطف من كل لطيف ، يا دائم اللطف ، لطيف في جلالك ليس يشغلك شي‏ء عن شي‏ء ، و لا يستتر عنك شي‏ء ، علمك في السر كعلمك في العلانية .

يا لطيف : ألطف لي بلطفك الخفي من حيث أعلم ، و من حيث لا أعلم ، إنك أنت علام الغيوب ، يا لطيف ألطف لي في كل ما تحب و ترضى يا لطيف .

 فأنت اللطيف : تجود على المسرفين برحمتك، و تتفضل على الخاطئين بكرمك ، فارحمني يا أرحم الراحمين ، فإنك غني عني ، وأنا فقير إلى رحمتك ولطفك .

يا طيب : بعد أن عرفنا لطف الله الواسع العظيم في جلاله، وعلمه الذي خبر كل شيء ، فظهر بحكمة ورحمة في كل كائن ، فلطف خلقه ودل عليه بكل لطف وعظمة وبهاء ونور ، حتى حبه عباده الطيبون ، وتوجه للطفه المؤمنون و بكل مودة من لطفه يأملون ، وأخلص له المتيقنون فلطفت سرائرهم حتى بان لطفه بهم في كلامهم وما يعرفون من عظمته اللطيفة في كل كائن ، فبعد أن عرفنا شيء عن معاني لطف الله بعظمته وأسمائه الحسنى ، نتدبر ظهور لطفه في خلقه بكلام مَن لطف بهم ، فتدبر .

 

عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام قَالَ :

سَمِعْتُهُ يَقُولُ : وَ هُوَ اللطيف الْخَبِيرُ : السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ ، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ، لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ ، لَمْ يُعْرَفِ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ ، وَ لَا الْمُنْشِئُ مِنَ الْمُنْشَإِ .

 لَكِنَّهُ الْمُنْشِئُ : فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ جَسَّمَهُ وَ صَوَّرَهُ وَ أَنْشَأَهُ ، إِذْ كَانَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْ‏ءٌ ، وَ لَا يُشْبِهُ هُوَ شَيْئاً .

 قُلْتُ : أَجَلْ جَعَلَنِيَ الله فِدَاكَ ، لَكِنَّكَ قُلْتَ : الْأَحَدُ الصَّمَدُ ، وَ قُلْتَ : لَا يُشْبِهُهُ شَيْ‏ءٌ ، وَ الله وَاحِدٌ ، وَ الْإِنْسَانُ وَاحِدٌ ، أَ لَيْسَ قَدْ تَشَابَهَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ ؟

قَالَ : يَا فَتْحُ ، أَحَلْتَ ثَبَّتَكَ الله ، إِنَّمَا التَّشْبِيهُ فِي الْمَعَانِي ، فَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْمُسَمَّى ، وَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ ، وَ إِنْ قِيلَ وَاحِدٌ ، فَإِنَّهُ يُخْبَرُ أَنَّهُ جُثَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَ لَيْسَ بِاثْنَيْنِ ، وَ الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ لَيْسَ بِوَاحِدٍ ، لِأَنَّ أَعْضَاءَهُ مُخْتَلِفَةٌ ، وَ أَلْوَانَهُ مُخْتَلِفَةٌ ؛ وَ مَنْ أَلْوَانُهُ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَ هُوَ أَجْزَاءٌ مُجَزَّاةٌ ، لَيْسَتْ بِسَوَاءٍ ، دَمُهُ غَيْرُ لَحْمِهِ ، وَ لَحْمُهُ غَيْرُ دَمِهِ ، وَ عَصَبُهُ غَيْرُ عُرُوقِهِ ، وَ شَعْرُهُ غَيْرُ بَشَرِهِ ، وَ سَوَادُهُ غَيْرُ بَيَاضِهِ ، وَ كَذَلِكَ سَائِرُ جَمِيعِ الْخَلْقِ ، فَالْإِنْسَانُ وَاحِدٌ فِي الِاسْمِ ، وَ لَا وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى .

 وَ الله جَلَّ جَلَالُهُ : هُوَ وَاحِدٌ لَا وَاحِدَ غَيْرُهُ ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ، وَ لَا تَفَاوُتَ وَ لَا زِيَادَةَ وَ لَا نُقْصَانَ ، فَأَمَّا الْإِنْسَانُ الْمَخْلُوقُ الْمَصْنُوعُ ، الْمُؤَلَّفُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَ جَوَاهِرَ شَتَّى ، غَيْرَ أَنَّهُ بِالِاجْتِمَاعِ شَيْ‏ءٌ وَاحِدٌ .

قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ فَرَّجْتَ عَنِّي فَرَّجَ الله عَنْكَ .

فَقَوْلَكَ : اللطيف الْخَبِيرُ ، فَسِّرْهُ لِي ، كَمَا فَسَّرْتَ الْوَاحِدَ ، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ لطفه عَلَى خِلَافِ لُطْفِ خَلْقِهِ ، لِلْفَصْلِ ، غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَشْرَحَ ذَلِكَ لِي ؟

فَقَالَ عليه السلام : يَا فَتْحُ ، إِنَّمَا قُلْنَا :

اللطيف : لِلْخَلْـقِ اللطيف ، وَ لِعِلْمِـهِ بِالشَّــيْءِ اللطيف .

 أَ وَ لَا تَرَى : وَفَّقَكَ الله وَ ثَبَّتَكَ ، إِلَى أَثَرِ صُنْعِهِ فِي النَّبَاتِ اللطيف وَ غَيْرِ اللطيف ، وَ مِنَ الْخَلْقِ اللطيف ، وَ مِنَ الْحَيَوَانِ الصِّغَارِ ، وَ مِنَ الْبَعُوضِ وَ الْجِرْجِسِ ، وَ مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا ، مَا لَا يَكَادُ تَسْتَبِينُهُ الْعُيُونُ ، بَلْ لَا يَكَادُ يُسْتَبَانُ لِصِغَرِهِ الذَّكَرُ مِنَ الْأُنْثَى ، وَ الْحَدَثُ الْمَوْلُودُ مِنَ الْقَدِيمِ ، فَلَمَّا رَأَيْنَا صِغَرَ ذَلِكَ فِي لطفه ، وَ اهْتِدَاءَهُ لِلسَّفَادِ ، وَ الْهَرَبَ مِنَ الْمَوْتِ ، وَ الْجَمْعَ لِمَا يُصْلِحُهُ ، وَ مَا فِي لُجَجِ الْبِحَارِ ، وَ مَا فِي لِحَاءِ الْأَشْجَارِ وَ الْمَفَاوِزِ وَ الْقِفَارِ ، وَ إِفْهَامَ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ مَنْطِقَهَا ، وَ مَا يَفْهَمُ بِهِ أَوْلَادُهَا عَنْهَا ، وَ نَقْلَهَا الْغِذَاءَ إِلَيْهَا ، ثُمَّتَأْلِيفَ أَلْوَانِهَا حُمْرَةٍ مَعَ صُفْرَةٍ ، وَ بَيَاضٍ مَعَ حُمْرَةٍ ، وَ أَنَّهُ مَا لَا تَكَادُ عُيُونُنَا تَسْتَبِينُهُ لِدَمَامَةِ خَلْقِهَا ، لَا تَرَاهُ عُيُونُنَا ، وَ لَا تَلْمِسُهُ أَيْدِينَا .

 عَلِمْنَا أَنَّ خَالِقَ هَذَا الْخَلْقِ لَطِيفٌ :  لَطُفَ بِخَلْقِ مَا سَمَّيْنَاهُ : بِلَا عِلَاجٍ وَ لَا أَدَاةٍ وَ لَا آلَةٍ . وَ أَنَّ كُلَّ صَانِعِ شَيْ‏ءٍ فَمِنْ شَيْ‏ءٍ صَنَعَ .

 وَ الله الْخَالِقُ اللطيف الْجَلِيلُ خَلَقَ وَ صَنَعَ لَا مِنْ شَيْءٍ [6].

يا طيب : كان الحديث يعرفنا عظمة الله في كبرياءه ووحدانيته ، والظاهر بلطف في خلقه للخلق اللطيف المهتدي لمصالحه ، وبفضل علم الله الذي خبر حاله ، فمده بما به صلاحه وبقائه بكل لطف ظهر به وجودا وعلما وعملا وصفاتا وأحوالا وسيرة حسنة تهديه لمصالحه، وإذا عرفنا هذا المعنى بعلم الله اللطيف الظاهر بفعله اللطيف وصنعه الظريف وتكوينه لخلقه المتقن الدقيق، فلنتدبر في حديث آخر عن مولى الموحدين وإمام المتقين يعرفنا عظمة الله في ذاته المقدسة ولطفه في كبرياءه ، والظاهر لطفه في صنعه وفعله بكل شيء ، وبالخصوص في بيان لطفه الظاهري في بعض أحوال الخلق .

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام :

في خطبة له في احتجاجه عليه السلام فيما يتعلق بتوحيد الله عز وجل :

 الحمد لله : الذي لا تدركه الشواهد ، و لا تحويه المشاهد ، و لا تراه النواظر ، و لا تحجبه السواتر ، الدال على قدمه بحدوث خلقه ، و بحدوث خلقه على وجوده ، و باشتباههم على أن لا شبه له ، الذي صدق في ميعاده ، و ارتفع عن ظلم عباده ، و قام بالقسط في خلقه ، و عدل عليهم في حكمه .

مستشهد : بحدوث الأشياء على أزليته ، و بما وسمها به من العجز على قدرته ، و بما اضطرها إليه من الفناء على دوامه .

واحد : لا بعدد ، و دائم : لا بأمد ، و قائم : لا بعمد .

تتلقاه الأذهان : لا بمشاعرة ، و تشهد له المرائي لا بمحاضرة ، لم تحط به الأوهام ، بل تجلى لها بها ، و بها امتنع منها ، و إليها حاكمها ، ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما ، و لا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا ، بل كبر شأنا ، و عظم سلطانا .

ـ ومنها في الاستدلال عليه تعالى بعجيب خلقه من أصناف الحيوان و غيرها ـ

و لو فكروا في عظيم القدرة : و جسيم النعمة ، لرجعوا إلى الطريق ، و خافوا عذاب الحريق ، و لكن القلوب عليلة ، و الأبصار مدخولة .

 أ فلا ينظرون : إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، و أتقن تركيبه ، و فلق له السمع و البصر ، و سوى له العظم و البشر ؟!

انظروا إلى النملة : في صغر جثتها ، و لطافـة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، و لا بمستدرك الفكر ، كيف دبت على أرضها ، و صبت على رزقها ، تنقل الحبة إلى جحرها ، و تعدها في مستقرها ، تجمع في حرها لبردها ، و في ورودها لصدورها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنان ، و لا يحرمها الديان ، و لو في الصفاء اليابس ، و الحجر الجامس .

 و لو فكرت : في مجاري أكلها ، و في علوها و سفلها ، و ما في الجوف من شراسيف بطنها ، و ما في الرأس من عينها و أذنها ، لقضيت من خلقتها عجبا ، و لقيت من وصفها تعبا ، فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، و بناها على دعائمها ، و لم يشركه في فطرتها فاطر ، و لم يعنه على خلقها قادر .

ولو ضربت: في مذاهب فكرك ، لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة ، إلا على أن فاطر النملة ، هو فاطر النحلة . لدقيق : تفصيل كل شي‏ء ، و غامض اختلاف كل حي .

 و ما الجليل و اللطيف : و الثقيل و الخفيف ، و القوي و الضعيف في خلقه ، إلا سواء ، كذلك السماء و الهواء و الريح و الماء .

 فانظر : إلى الشمس و القمر ، و النبات و الشجر ، و الماء و الحجر ، و اختلاف هذا الليل و النهار ، و تفجر هذه البحار و الأنهار ، و كثرة هذه الجبال ، و طول هذه القلال ، و تفرق هذه اللغات : و الألسن المختلفات .

 فالويل : لمن أنكر المقدر ، أو جحد المدبر ، و زعمو أنهم كالنبات ، ما لهم زارع ، و لا لاختلاف صورهم صانع ، لم يلجئوا إلى حجة فيما ادعوا ، و لا تحقيق فيما أوعوا .  و هل يكون : بنـاء من غير بـان ، أو جنايـة من غير جـانِ .

 وإن شئت قلت في الجرادة : إذ خلق لها عينين حمراوين ، وجعل لها السمع الخفي ، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض ، و منجلين بهما تقبض ، ترهبها الزراع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبها، ولو أجمعوا بجمعهم حتى ترد الحرث من نزواتها، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة .

 فتبارك الله : الذي يسجد له من في السماوات و الأرض طوعا وكرها ، و يعفر له خدا ووجها ، ويلقي بالطاعة له سلما وضعفا ، و يعطي له القيادة رهبة وخوفا .

 و الطير مسخرة لأمره : أحصى عدد الريش منها ، و النفس ، و أرسى قوائمها على الندى ، و أ ليبس قدر أقواتها ، و أحصى أجناسها ، فهذا غراب ، و هذا عقاب ، و هذا حمام ، و هذا نعام ، دعا كل طائر باسمه ، و كفل برزقه .

 و أنشأ السحاب الثقال : فأهل ديمها ، و عدد قسمها ، فبل الأرض بعد جفوفها ، و أخرج نبتها بعد جدوبها  [7].


[1]الأمالي‏ للطوسي ص166م6ح 278-30 .

[2]الكافي ج1ص100باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه ح 2 .

[3] الكافي ج1ص103ح12 .

[4]والتوحيد ص : 305ب43باب حديث ذعلب ح1 . والكافي ج1ص138باب جوامع التوحيد ح4. الاختصاص ص235 . الأمالي ‏للصدوق ص341مجلس 55 حديث 1 .

[5]الكافي ج1ص116باب معاني الأسماء و اشتقاقها حديث 7 . التوحيد  ص193ب29ح7 .

[6] الكافي ج1ص118ح1. التوحيد ص185ب29ح1.عيون‏ أخبار الرضا عليه السلام ج1ص127ب11ح23.

[7] الاحتجاج ج1ص204 . نهج ‏البلاغة ص 270 .

 

 

 

   

أخوكم في الإيمان بالله ورسوله وبكل ما أوجبه تعالى
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة صحف الطيبين
http://www.msn313.com

يا طيب إلى أعلى مقام صفح عنا رب الإسلام بحق نبينا وآله عليهم السلام


يا طيب إلى فهرس صحيفة شرح الأسماء الحسنى رزقنا الله نورها