بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في أصول الدين وسيرة المعصومين
صحيفة التوحيد الإلهي / الثانية / للكاملين

التحكم بالصفحة + = -

تكبير النص وتصغيره


لون النص

أحمر أزرق أخضر أصفر
أسود أبيض برتقالي رمادي

لون الخلفية


النص المفضل

لون النص والصفحة
حجم النص

الباب الثالث
التوحيد الإلهي ومراتبه الذاتية والصفاتية والفعلية ومعارف شؤونه العظيمة الكريمة



 

 

إشراق يتقدم : فينورنا أسس معارف التوحيد ومراتبه :

يا طيب: كانت كل البراهين السابقة و التي ذُكرت لمعرفة وجوب الإيمان بالله تعالى مبينة وداعية لتوحيده سبحانه ، والله سبحانه في كل الأدلة التي يقيمها في القرآن المجيد ، بل وفي السنة المطهرة لنبينا الأكرم وآله الأطهار تشير وتبين وجوب التوحيد بنفس الوقت الذي تبين فيه وجوب الإيمان بالله تعالى ، وبنفس إحكام البرهان وقوة الدليل الذي يذعن له المنصف ويقر له طالب الكمال والجمال الحقيقي والواقعي الصادق ، وتجعله يحس بلذة الإيمان بالله وتوحيده في قلبه ، ويسلم له ويعتقد به في عقله ، ويرسخ في لبه وفكره يقينا ، وتطمئن به نفسه ، ويشهد بكل وجوده أن الله لا إله إلا هو لا شريك له وهو الواحد الأحد ، وهو الغني بنفسه وله الكمال المطلق ومنه كل غنى وكمال ، وكل شيء فقير له محتاج إليه في وجوده وبقائه وهداه التكويني والتشريعي .

بل في الأدلة والبراهين : للباب السابق ، قد عرفنا أتصاف الذات المقدسة الإلهية بكثير من الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وذلك لأنه لابد أن يكون خالق الوجود ونظمه المتقن المحكم ، في وجوده وفي صفاته وفي أفعاله : فردا صمدا واحد أحد ، وعليم قادر حي ، وحكيم قاهر قيوم ، بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وله الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وله كل كمال وجمال وجلال مطلق ، ومنفي عنه كل نقص وحاجة ، وليس كمثله شيء ، وهو الغني الحميد الكبير المتعال .

 ولذا يا طيب : يكون البحث في هذا الباب من معارف التوحيد في ذكرين :

الذكر الأول : في بيان بعض أدلة التوحيد وباختصار بالإضافة لما عرفت.

والثاني : في معرفة مراتب التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي وفي الطاعة وفي الولاية التشريعية حاكمية وطاعة وتشريع .

 ثم تأتي أبوابا أخرى إن شاء الله  : في معرفة الأسماء الحسنة ، وكيفية اتصاف الذات المقدسة الإلهية بها ، وفي كيفية تجليها بها وظهورها في الكون ، ثم يأتي جزأ آخرا فيه شرحها مفصلا لمعارف الأسماء الحسنى والصفات العليا الإلهية ، ثم تأتي معارف أعلى فيها إن شاء الله في صحيفة التوحيد للعارفين ، وأسأل الله التوفيق لكم ولنا ، إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

 


 

الذكر الأول

أدلة التوحيد الإلهي المحكمة وبراهينه المتقنة

 

يا طيب : بالإضافة لما عرفت من أدلة التوحيد في الباب السابق التي ترافق ضرورة الإيمان بالله تعالى ، وقبل الدخول في معرفة مراتب التوحيد ، نذكر بعض الأدلة الخاصة في التوحيد ، والمثبتة لكل مراتبه بصورة عامة ، والنافية لكل شريك وكثرة في كل مراتب التوحيد ، وتدل على إن الله تعالى واحدا أحدا في الذات والصفات والأفعال ، ونجعل الذكر في أنوار تشرق علينا معارفه إن شاء الله :

 


 

النور الأول

أدلة قرآنية تهدينا لوجوب توحيد الله سبحانه تعالى

 

قال الله تعالى يحكي عن نبيه يوسف عليه السلام قوله :

{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ

 أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم

مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ

إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }يوسف 39ـ4.

يا طيب : عرفت إن الإنسان بالفطرة يتوجه لله وحده ، وكذا كل ما في الكون يدله لهذا المعنى سواء بوجوده أو بنظمه ، أو بالأدلة العقلية البحتة الموجودة في كتب الفلسفة والكلام ، أو الكتب العلمية الحديثة ، أو ما عرفت منها في الأبواب السابقة ، فإنها كلها تدل على أن كل ما سوى الله مخلوق له تعالى ، والناس مع معرفتهم بكون كل ما يعبدون من دون الله لا ينفع ولا يضر وهو مخلوقا مثلهم ، وهو بنفسه يحتاج لمكمل له ، ومن يسد نقصه ويسويه ويمده ليتلاءم مع باقي خلق الله حتى يحسن وجوده ويستمر لغاية كريمة .

 ولكنهم يا أخي : يجعلوه إله لهم ورب ، وسواء كان غير الله مادي أرضي أو فلكي ، أو شهوة ورغبة عارمة ، أو فكرة وهوى نفس يعتقد أنه به الكمال المطلق له ، في عين علمه بأنه زائل وفاني ، وهو بنفسه محتاج له أو لله الذي أقدره على التخطيط له وفعله وتجميعه وإنتاجه ليوجد وليتكامل أو يكون قرين له من خلقه ، ثم كيف يكون مع حاجته ونقصه وإنه بالانضمام لغيره يتكامل أو يتجمع ، يكون مكمل له وهادي له ورب خالق ، وما ذلك يا طيب إلا لأنس الناس بالمادة وزينة الحياة الدنيا ، ولعدم توجههم الجدي لمعرفة ما يجب أن يكون عليه الإله والخالق للكون من العظمة والقدرة والعلم والإحاطة .

وإنك تعلم : إن المعبود من غير الله ، إي شيء كان ما هو إلا من الأشياء القاصرة المحتاجة ، وهي من دون الله أسماء سموها بآلهة ، أو تولهوا بها وكانت همهم وفكرهم ومسيطرة على وجودهم ، فيدافعون عنها ويجعلوها مناط كمالهم وعزهم ومجدهم ، وليس لها سلطان لا من نفسها ولا من خالقها ولا حول ولا قوة بدونه ، فضلا عن الكمال الحقيقي من غير نسبتها إليه ، أو حين عدم كونها في خدمة عباد الله الصالحين بالحلال الطيب الطاهر ، ليحسن وجودها ، وليكون لها قيمة حين كونها عند مؤمن بالله تعالى يعمل بها ، أو يجعلها في مناط الصلاح والخير والبركة والخدمة لعباد الله الصالحين الطيبين المؤمنين .

 ولذا يا طيب : لو كان غير الله الواحد القهار يوجد إله آخر ، ويكون خالق لموجود معين عنده كمال حقيقي من دون الله ، لذهب بما خلق ولحب الظهور عليه وبيان كماله فيه ، و لدعا مخلوقه لعبادته وطاعته وشكره ، ولأمره بالدعوة له ولتعريف كماله ، ولأظهر سلطانه عليه وهدايته له وقيوميته وربوبيته عليه ومالكيته له ، ولذا قال الله تعالى :

{ مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ

إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ

وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ

سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

فَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } المؤمنون 91-92 .

فيا أخي : لو كان إله غير الله ، وبان إنه خالق لشيء من الكون ، لحب الظهور والتعالي والدعوة لنفسه ، ولأختص بملكه ، ولأنفرد بتدبيره ، وبالخصوص هذا الإله القوي الذي ظهرت آثاره ينفي كل إله غيره ، ويرفض وجود كل شريك له ، ويتبرأ و ينكر وجود كل خالق غيره أو قوة لغيره يمكنها أن تمنع منه ، أو تتصرف في سلطانه بدون إذنه وقدرته ، وإنه تعالى يدعوا الناس ويبعث الأنبياء لتوحيده وحده ، وينفي كل شريك له في الملك والتدبير والهدى .

ثم إنه يا طيب : لو كان غير الله الواحد القهار إله ، لدبر الإله الآخر غير ما دبر وهدى الآخر ، ولفسدت السماوات والأرض ، ولذهب كل إله بما خلق ، ولذا قال تعالى :

{  لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ

 لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } الأنبياء 22 .

وقال سبحانه وتعالى : { بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ : فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1) مَا يَفْتَحْ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) .......

 وَاللهُ خَلَقَكُمْ : مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي ِلأَجَلٍ مُسَمًّى

 ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ } فاطر17 .

يا طيب : إن هذه الآيات الكريمة غنية في بيان التوحيد وأسسه ، ومحكمة في برهان كون كل شيء محتاج لله تعالى ، ويشعر بهذا الإنسان بأقل تدبر في أي موجود كائن ، فلك أو ذرة ، فأنه يره لا يستغني عما يحيط به ، والكل محتاج للوجود المكمل له ، ولا يمكن أن يكون أكثر من واحد ، و إلا لكان هو محتاج أيضا ، وإن الله في هذه الآيات بعد الإيمان به وبمعرفة ، يعرفنا بأنه لابد للكون من خالق ولا يمكن أن يوجد صدفه ، ويذكر سبحانه إن كل شيء مخلوق له وحده لا شريك له ، ولا أثر لغيره يدعي الخلق أو يدعي أن له قوة يتصرف بملكه من دون إذن ومدده من الله تعالى ، ولذا كان بعد الإيمان بالله يجب أن نقر بوحدانية تعالى وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وله الأسماء الحسنى سبحانه وتعالى .

ويا أخي : قد كانت سورة فاطر التي ذكرنا منها الآيات أعلاه ، في الحقيقية بما فيها من التعاليم الإلهية في توحيد لله تعالى ، وفي فطر الخلق ووجود الفطرة في الإنسان ، وما فيها من المعارف الدالة على عظمة الخالق وعلو شانه ، إنها بحق اسما على مسمى ، تدبرها كلها تجد حقيقة ما ذكرنا أو تدبر الآيات السابقة فقط ، فإنك تراها مفعمة بالبيان بأن الله وحده الغني ، وإن كل شيء ما سواه فقير محتاج له ، ويشعر ويتيقن بهذا الإنسان المفكر حين التدبر بأي شيء كان من الكائنات ، ليرى أنه أعجز من أن تُوجد وجودها أو كمالها بنفسها ، ولا خلقا مثلها محتاج يمكن أن يوجدها ، ويذعن بالقوة الكبرى لخالق الوجود خلقا وتدبيرا وهدى وقيومية وربوبية ، ولذا يجب وحده أن يتأله له ويحار في عظمته ، ويتوجه له في طلب المزيد منه والشكر على نعمه ، وأنه يجب أن يُؤمن ويُعلم ويُعمل ما يُؤَمّن من نقمته وعذابه وحرمان فيضه .

وحقا كما قال تعالى : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15)

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ ِلأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنورُ   أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ

 قُلْ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)

أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً : فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ ( 17)

 لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) } سورة الرعد .

وقال تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) } سورة ص .

وقال تعالى : { لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ

سبحانهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي ِلأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) } الزمر.

{ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ  قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ

لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }الإخلاص 1:4 .

وبهذا الآيات الكريم : يعرفنا الله تعالى وحدانيته وخلقه لكل شيء ، وإن كل شيء راجع له ، ولا ابن له ولا له شريك في الملك ، وعرفنا في الباب السابق كثير من معارف ضرورة الإيمان بالله تعالى وتوحيده ، و تدبر يا أخي البحوث والأحاديث الآتية فإنها تبين لك ما ذكرت هذه الآيات الكريمة ، وتشرحها وتفسرها بما يغني عن كل الأدلة الفلسفية والكلامية ، أو غيرها بإذن الله تعالى ، وأسأله التوفيق لك ولي ولكل طيب .

 


 

 

النور الثاني

التوحيد الإلهي في الأدلة العقلية وفي الأحاديث الشريفة

يا طيب : قبل ذكر الأحاديث الشريفة نبين أن الله وحده هو الغني الحميد ، وهو تعالى وحده الذي له كل كمال ، ومنه كل جمال وجلال في الكون ، فنقول معارف في التوحيد إن شاء الله تشرق علينا نورها وتحققنا بمعارف توحيده حتى اليقين :


 

الإشراق الأول :

 لابد للوجود من مرتبة واحدة كاملة منها وجد كل شيء :

يا طيب : إنه لابد : في الوجود مرتبة لها كل كمال وغنية مستقلة بذاتها ، وغير محتاجة لكمال لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال ، وإلا لو لم توجد هذه ال مرتبة من الوجود لم يوجد أي موجود ، لأنها تكون كلها محتاجة لمن يوجدها ويسد نقصها ويرفع حاجتها .

وإن فرض : عدم وجود المرتبة التي لها الكمال المطلق والغنية المستقلة بذاتها ، هو فرض عدم كل مراتب الوجود الأخرى والتي هي بذاتها غير غنية ولا مستقلة ، وهي كل الكون المحتاج والفقير لمن يخلقه ويهديه ويكمل نقصه ويسد حاجته ويرفع فقره .

ولما كان يا أخي : الالتفات للكون يدل على وجوده وتحققه في العين والواقع وخارجا ، فهو يدل على أن هذه المرتبة الغنية المطلقة الكمال محققه في الوجود ، ووجودها يدل على أن الكل متعلق بها وهي علة للكون المخلوق .

والكون وكماله : مظهر لكمالها ، ونور متجلي من جودها ، وراجع لفيض جمالها ، وهو معلول لها ، وشأن من شؤونها ، لأنه محتاج لها في وجوده وكماله ، وهي غير محتاجة لشيء ، ولا لها نقص لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال ، وإلا لكانت محتاجة لمن يكملها أو يركب أجزاءها أو يوجدها أو يساعدها لإيجاد كمال لها أو لمخلوقاتها أو أفعالها وصفاتها ، وهذا خلاف وجود الكون وتحققه ، وعرفت أنه يدور أو يتسلسل وهذا باطل كما عرفت في الباب السابق .

وهذا البيان يا طيب : يدلنا على أن الله وحده هو الغني الحميد ، وهو الواحد القهار الذي ليس كمثله شيء ، وله كل كمال وجمال والذي تعبر عنه الأسماء الحسنى ، وهو الوهاب تعالى لمن يشاء من خلقه ما يشاء من فيض كماله وجماله ، وهذا بيان لوجوب الإيمان بالله وحده بأنه لا شريك له وليس مثله شيء ، مع أنه يوصف تعالى بكل الأسماء الحسنى والصفات العليا الذاتية ، وبوصف فيضها يتم التعبير بأسماء الأفعال الإلهية الآتي ذكر قسم منها هنا وفي الأبواب الآتية.

ثم إنه لو فرض وجودا : آخر كامل وغني بنفسه ، وله كل كمال ، أو له كمال مستقل به ، لبان أثره وظهر خلقه و لدعا لنفسه ولأتتنا رسله ، وغيرها من المآخذ الآتية : من حده للأول ، وحد وسلب كماله وجعله محتاج ، ويكون ناقص في وجوده وفقير لغيره ، وهو قول مستلزم لعدم وجود الوجود أو فناءه كله كما عرفت .

 وإذا لم يأتي من الآثار : ما يدل على الإله الآخر حقا ، فلا وجود إلا لله الواحد القهار وحده لا شريك له ، وهذه بعض أدلة التوحيد النافية للكثرة في الذات الإلهية أو للشريك لله سبحانه وتعالى بالإضافة لما عرفت من الآيات السابقة فتدبرها ، فأنها محكمة البنيان قوية البيان ساطعة البرهان :

 


 

 

الإشراق الثاني :

 أدلة عقلية أخرى على توحيد الله تعالى :

يا طيب : قد عرفت في البحوث السابقة كثير من أدلة التوحيد ، وما بان في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كافي للبصير ، ومن أردت أكثر من البراهين ، فراجع الأسفار أو نهاية الحكمة لسيد الطباطائي ، أو لتفسيره الشريف ، أو لغيرها من الكتب ، ونكتفي هنا بدليلين العقلين لبيان التوحيد ثم ندخل في الأحاديث الشريفة :

الإشعاع الأول : الامتياز المفرج بين الإلهين يوجب ثالثا ويتسلسل :

أنه لما ثبت كون الوجود عين حقيقة الواجب ، فلو تعدد  لكان امتياز كل منهما عن الآخر بأمر خارج عن الذات ، فيكونان محتاجين في تشخصهما إلى أمر خارج ، وكل محتاج ممكن ، فلابد أن يكون واجب الوجود تعالى غير ممكن.  

 

الإشعاع الثاني : الممنوع من القدرة عاجز فليس بإله :

قال الصدوق رحمه الله : الدليل على أن الصانع واحد لا أكثر من ذلك ، أنهما لو كانا اثنين ، لم يخل الأمر فيهما من أن يكون كل واحد منهما قادرا على منع صاحبه مما يريد أو غير قادر .

 فإن كانا كذلك ( يقدرا أن يمنعا ) فقد جاز عليهما المنع ، ومن جاز عليه ذلك ؛ فمحدث ، كما أن المصنوع محدث . ( لأنه يُمنع كما يَمنع ) .

وإن لم يكونا قادرين : لزمهما العجز والنقص ، وهما من دلالات الحدث ، فصح أن القديم واحد . 

 

الإشراق الثالث :

 أحاديث شريفة في ضرورة توحيد الله :

الإشعاع الأول : اتصال التدبير ينورنا وحدة الخالق سبحانه :

يا طيب : ما ذكرنا من الأدلة العقلية المذكورة في كتب الحكمة والفلسفة والكلام ، لها أوصول في كلام الله تعالى ، وفي كلام نبينا وآله صلى الله عليهم وسلم ، وقد عرفت بعض الأدلة العقلية السابقة وبكلام السيد الطباطبائي والصدوق رحمهم الله ، وهنا نذكر كلاما من منبع الحكمة ، وأهل الدلالة على الله بما أشرق من نور الله : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيه أسمه ، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وتعريف شأنه العظيم :

ذكر الصدوق : بالإسناد عن هشام بن الحكم قال :

 قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما الدليل على أن الله واحد ؟

قال : اتصال التدبير وتمام الصنع .

 كما قال عز وجل : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا[1] .

 

في الاحتجاج عن هشام بن الحكم أنه قال : من سؤال الزنديق عن الصادق عليه السلام أن قال : لم لا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد ؟

قال أبو عبد الله عليه السلام : ( لا يخلو قولك : إنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين ، أو يكونا ضعيفين ، أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا .

 فإن كانا قويين : فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه ويتفرد بالربوبية ؟

وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف : ثبت أنه واحد - كما نقول - للعجز الظاهر في الثاني .

وإن قلت : إنهما اثنان ، لم يخل من أن يكون متفقين من كل جهة ، أو مفترقين من كل جهة .

 فلما رأينا الخلق منتظما ، والفلك جاريا ، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ، دل صحة الأمر والتدبير وإتلاف الأمر على أن المدبر واحد .

ثم يلزمك إن ادعيت اثنين : فلابد من فرجة بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة ، وإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الاثنين حتى يكون بينهم فرجتان ، فيكونوا خمسة ، ثم يتناهى في العدد إلى مالا نهاية له في الكثرة ) [2].

يا طيب : قد عرفت إن ألانهاية غير موجودة ولا تتحقق وإلا كانت نهاية ، وعرفت بطلان الدور والتسلسل ، ثم إن الاتفاق من كل جهة يدل على الوحدة لا الكثرة ، واختلاف في جهة يدل على التدافع بينهما السابق ، وعدم ثبات شيء ، أو عجز الآخر الدال على أنه ضعيف مخلوق .

كما أنه لا يأتي : إشكال الفرجة بين الله وخلقه ، لأن الخلق غير مستقل عن الله ، والمعلول شأن من شؤون علته وفيض منها وتجلي لها ، واستمرار وجوده بكل آن بالفيض والمدد منها لا استقلال بدونها ، وهذا شأن المخلوق مع خالقه ، ومثلها يمثل : علومنا لنا ، أو تصرفنا وفعلنا لنا ، والله هو الخالق وهو أقرب لنا من حبل الوريد .

وهو كما قال الإمام علي عليه السلام لبيان هذا المطلب :

( لَمْ يَحْلُلْ فِي الأشْيَاءِ فَيُقَال َ: هُوَ فيها كَائِنٌ .

 وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ : هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ ) .

 وقال عليه السلام ( بَانَ مِنَ الاََْشْيَاءِ : بَالْقَهْرِ لَهَا، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا.

 وَبَانَتِ الأشْيَاءُ مِنْهُ : بَالْخُضُوعِ لَهُ ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ )[3] .

وذلك لكون الله سبحانه : له كل كمال مطلق من غير نقص من حد ، ولا ثاني له ، ولا كثرة فيه ، وإما علاقته بمخلوقاته ، فهو تجليه وظهور نوره ، ولمعرفة هذا نقول بالإضافة للبيان السابق في معرفة النفس :

هو أن وجوده تعالى : غير متناهي ، لأنه لا يعده شيء ، ولا يتصور له سعه ومقدار ، لأنه لا يتصور كل الأرض فضلا عن كل ما فيها من جبال وبراري وبحار ومخلوقاتها ، فضلا عن الشمس والقمر وكل الكواكب والنجوم والمجرات الشمسية وكل السماوات والأرض مما لم يكتشف ولم يعلم ، فمن لم يتصور خلق الله ولا يمكن أن يحده حتى بالوهم ، فهو عن تحديد الله وتصوره أبعد ، وكل تصوره يكون مخلوق له ليس بإله ، والله لا يحاط به علما .

 وإن الله تعالى : غير محدود لأن الحد مستلزم للحاجة والنقص ، وهو تعالى له كل كمال في الذات والصفات والأفعال ، وكل مخلوق لله تعالى متناهي محدود ، فهو تعالى يكون محيط بالمتناهي وقيوم عليه وقاهر له ، ووكيل وشهيد وحفيظ عليه ، وعالم به وقادر ومالك له ملك حقيقي ، ومن غير انعزال عنه انعزال بينونة ومفارقه ، بل انعزال سيطرة وقهر له ، والمخلوق ليس له إلا الحاجة والخضوع لخالقه .  فلا استقلال للمخلوق : عن خالقه ولا مفارقه ولا يقاس به وليس مثله ، وكل ما للمخلوق من الكمال والجمال راجع لكمال الخالق وتجلي من نوره ، فهو في الحقيقة ظهور كمال خالقه وعلته ، وليس له شيء إلا أنه مظهر لذلك النور الإلهي المحيط به من كل جهة ، علم وقدرة ومدد وهو تابع له بالخضوع الوجودي وبالطلب للمدد الكمالي  .

 

الإشعاع الثاني  :

لو كان لربك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثاره :

قال الأمام علي في وصية لأبنه سبط رسول الله الإمام الحسن عليهم صلاة الله وسلامه :

(( وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ :

 أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَََتَتْكَ رُسُلُهُ .

 وَلَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِه .

 وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وصِفَاتِه ِ.

وَلكِنَّهُ إِلهٌ وَاحدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَه ُ:

 لاَ يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَد ٌ، وَلاَ يَزُولُ أَبَداً وَلَمْ يَزَل ْ.

 أَوَّلٌ قَبْلَ الاََْشْيَاءِ بِلاَ أَوَّلِيَّةٍ ، وَآخِرٌ بَعْدَ الاََْشْيَاءِ بِلاَ نِهَايَةٍ .

 عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بَإحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ ))[4] .

وهذا بيان ولي الله : والعالم المعلم ، والمربى بيد القدرة الإلهية ، والعناية النبوية الخاتمة لكل رسالة إلهية ، ليعلمنا أصل التوحيد ، وأصل الدين المتين وأسه الركين ، وكل ما تتدبر في البحوث من التوحيد في الحقيقة ترجع له ، وهو يرجع لما عرفة من الأدلة القرآنية السابقة ، ومع ذلك كله لا ترى قبله ولا بعده أحد جاء بمثله من البيان ، ولو حفظ هذا الكلام وما شابهه من جميل بلاغته ومنه وحده ، لكان كافي لمعرفة التوحيد كله ، فتدبره فإنه خلاصة مباحث التوحيد وما نذكره له من شرح وبيان ، وإن سمي في بعض البحوث والكتب الأخرى بحث فلسفي أو بحث لحكمة ، فهو بحث فطري وجداني يشعر به كل إنسان ويقر له كل منصف وصاحب ضميرا حيا .

 


 


الإشعاع الثالث : معنى الواحد الصادق عليه تعالى :

ذكر الصدوق رحمه الله : بالإسناد عن المقدام بن شريح بن هانيء ، عن أبيه قال : إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال :

يا أمير المؤمنين أتقول : إن الله واحد ؟

قال : فحمل الناس عليه ، وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ( دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل ، ووجهان يثبتان فيه .

 فأما اللذان لا يجوزان عليه :

 فقول القائل : " واحد " يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز لان ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنه كفر من قال : " إنه ثالث ثلاثة " .

 وقول القائل : " هو واحد من الناس " يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه ، وجل ربنا وتعالى عن ذلك .

وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه :

فقول القائل : " هو واحد ليس له في الأشياء شبه " كذلك ربنا .

 وقول القائل : " إنه عز وجل أحدي المعنى "، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عز وجل )[5] .

يا طيب : إن الله تعالى أحد لا ثاني له ، و واحد قهار لا شريك له ، وما يوصف بأنه واحد دلالة على أنه فرد من غير ثاني له ، لأنه كل موصوف بالوحدة غيره تعالى قليل ، فهو واحد لا شريك له في العدد سبحانه ، لا أنه موصوف بأنه واحد له ثاني ويدخل في العد ، فإن هذا ظن الذي كفروا وأشركوا ، والعدد والكثرة متأخرة عن وجوده تعالى ، والعد والكثرة للكائنات بعد الخلق ، وهي من الخلق وصفات للمخلوقات ، وذلك كما عرفت إن وجود المخلوقات وكمالها المعبر عن صفاتها وأحوالها راجع لخالقها وتدبيره .

فكلما فرض من الكمال في الوجود المخلوق : عاد للخالق ، وهو أصله ، فلا يمكن أن يفرض له العقل كثرة ، أو ثاني ، حتى يدخله في العد والحساب ، لأنه كل مخلوق راجع للخالق في وجوده وكماله وهو من فيض كماله ، وهو ظهور لآثاره لا أنه مقابل له وثاني له أو غيره حتى يدخل خالقه معه في العد ، لأنه الموجود الكوني والثاني المفروض مهما كان ليس مثله ولا هو من غير كماله وجد ، ولا أنه استغنى عن خالقه وعلته وسببه بنفسه ، أو أستقل ولم يكن الله محيط به وقاهر له ، أو لم يكن داخل تحت قدرته وعلمه وتدبيره .

وتمثيل هذا : بمعلوم الإنسان ، والوجود الفكري له ، فإن العلم ليس من غير وجود الإنسان ، ولا أنه هو نفس الإنسان ، بل ظهور المعلوم في نفس الإنسان وال مرتبة العالية لنفس وجوده ، هو شأن من شؤونه ، وظهور لكماله وقدرته وعلمه ، وهذا مثل ، فإن الله خالق العقل والروح ، ونفس وجود الإنسان وعلومه .

وهكذا التدبر يا طيب : في وجود الإنسان وأحوال نفسه ، وكل أمور العقل من التفكر والخيال والوهم والتصور ، وأمور النفس من الحب والعشق والعزم والإرادة ، كلها مراتب وظهور لنفس الإنسان ، ولذا جاء الأثر من عرف نفسه عرف ربه ، وهذا مثل ولله الأمثال العليا وهذا تقريب ولله الحقيقة .

 والله تعالى : لا أحوال له ، ولا كثرة فيه ، بل وجودا واحدا ، ظهر من تجليه وفيضه كل كمال وجمال في الوجود ، وبقول واحد كن فيكون لا بصوت، تجلى الكون كله ، وكل شيء في مكانه وزمانه المحدد من غير حد لعلم ولقدرة خالقه ، بل لحُسن وجوده ، ولدقة صنعه ، ولحكمة تكوينه ، لابد أن يكون في الزمان والمكان المحدد وبالكمال المخصوص ، ولغاية يسلك لها بوجوده وينال كماله من الله بحسب قابليته واستعداده ، وهو الفقير لله الغني الحميد .

ورجع يا طيب : ما ذكرنا في براهين التوحيد وبالخصوص المعارف القيمة في كلام مولى الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وتدبر ما سيأتي من البيان ، وراجع ما نذكر في صحيفة العارفين ، ستجد ما ترتاح له روحك المرتاحة المطمئنة بذكر الله وتعلم معارفه ، وتقر به مأنوسة نفسك الطيبة إن شاء الله .

وإذا يا طيب : بان لنا وجوب الإيمان بالله ، ووجوب توحيده سبحانه و تعالى ، فلنأتي لمعرفة مراتب التوحيد وأنواعه ، وهو شرح وبيان وتقسيم لما عرفنا من التوحيد المطلق والعام ، والذي عرفت أدلته وبراهينه ، وأسأل الله لك ولي ولكل الطيبين اليقين والإيمان الخالص بنور الله العظيم ، وتجليه منه وحده لا شريك له ، إنه أرحم الراحمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين ، ويا ربي زدني علما .


[1] التوحيد ص 243ب 26ح2 .

[2] الاحتجاج 71.

[3] الخطبة 64.و151.

[4] الخطبة31 صفحة 496.

[5] الخصال ص2ح1. والتوحيد83ب3ح3.

تم الكتاب

15 شعبان 1423 يوم مولود إمام زماننا الحجة بن الحسن العسكر عجل الله تعالى فرجه الشريف
أخوكم في الإيمان بالله ورسوله وآله وبكل ما أوجبه تعالى
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة صحف الطيبين
http://www.alanbare.com