بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
 والصلاة والسلام على نبينا الأكرم محمد وآله الطيبين الطاهرين

الجزء الثامن

نور الإمام الحسين عليه السلام

صحيفة

 نور سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام

الجزء الثامن

سفينة نجاة

 شرح خطبة الشقيقة عقيلة بن هاشم زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السلام    

الإشعاع الثامن عشر

الإمام السجاد يطلب من العقيلة السكوت عنهم ويبين فضلها وعلمها

 

يا طيب : وقال في الاحتجاج بعد الشعر السابق الذي قالته شقيقة الحسين عقيلة بني هاشم زينب بنت عليه عليها السلام ، وكان أوله :

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم   ماذا صنعتم ...بأهل بيت وأولادي ومكرمتي..

فقال الرواي : قال علي بن الحسين عليه السلام :

يا عمة : اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار .

وأنت : بحمد الله عالمة غير معلمة . فهمة عير مفهمة .

إن البكاء والحنين : لا يردان من قد أباده الدهر .

يا طيب : إن الله له الحجة البالغة ، وإن الإمام هو ولي الله وله سلطان الدين بأمر الله في آي حالة كان ، وكانت الإمامة بعد الإمام الحسين عليه السلام ، هي للإمام السجاد علي بن الحسين عليه السلام ، ثم في ذريته إلى يوم القيامة ، وذلك لأن الله سبحانه لا يخلوا الأرض من حجة ، وقد عرفت إنه كل أناس يدعون بإمامهم ، وإنه لابد من وجود شاهد من أنفسهم في كل أمة ، وولي منهم كما في قوله تعالى :

{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ  فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ (90) } النحل .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ (59) } النساء .

ولذا العقيلة : رعت حرمت ولي أمر الله في عباده ، والشهيد عليها والإمام الحق ، أبن أخيها عليها السلام فسكتت كما سيأتي بيانه في الأشعاع الآتي وولت عنهم .

وأما كلام الإمام علي بن الحسين عليه السلام : وهو حجة الله ، وينطق بأمر الله ، ويعرف هدى الله ومحل عظمته ، وأهل الشأن من خلقه ، ويعطي كل ذي حق حقه ، فقد قال كلام في حق عمته يساوي الدنيا قيمة ، وتعريف لها يساوي هدى الدين ويرينا محله ، فقال لها بعد ما أخذت من التعريف للهدى ومحله وأهل الضلال وفعلهم الخيبث بالطيبين الطاهرين كل مأخذ وبلغت به غايتها، قال الله أسكتي فسكتت عليه السلام .
 وأما كلام الإمام في حقها فهو قوله عليه السلام :

 

يا عمة : اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار .

يا : حرف نداء .

و العم : أخو الأب . و العمة : أخت الأب ، و الجمع أعمام وعمومة ، والعَمَّاتُ أيضاً جمع العَمَّةِ ، يقال : ما كنتَ عمًّا ، ولقد عَمَمْتَ عُمومةٌ ، وبيني وبين فلان عُمومَةٌ كما يقال أبوَّةٌ وخؤولةٌ ، ويقال : يا ابن عمِّي ويا بن عَمِّ ويا ابن عَمَّ .

ومنزلت العمة : منزلت الأب ، لأنه جاء في الحديث :

عن الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

إن في كتاب علي عليه السلام :

أن العمة بمنزلة الأب : و الخالة بمنزلة الأم ، و بنت الأخ بمنزلة الأخ ، و كل ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجر به ، إلا أن يكون وارث أقرب إلى الميت منه فيحجبه [54].

ومقام زينب عليه السلام : في أهل الكوفة كمقام الحسين عليه السلام في كربلاء ، وكانت لها حرمة عظيمة ، ولكنها سمعت كلام إمامها فرعت حق ولايته ، فسكتت وولت عن أهل الكوفة، بعدما عرفت مقام أخيها ونطقت ببالغ الكلام والحكمة كأبيها.

وإن الإمام علي بن الحسين عليه السلام : يعرف حرمة عمته ، وحقها عليه وعلى كل العباد ، ويعرف فضلها مقامها الشامخ وشأنها الكريم ، وإنه لابد من النصح وبيان حقائق عظيمة من شأنهم وما هتك من حرمتهم أهل الكوفة ، ولكنه لا ينفع الوعظ فيهم وأنه لا يصلحهم الآن التأنيب ، لأنهم حيارى كأنهم سكارى لا يفهمون الخطاب ، فهم قد قتلوا آل محمد عليهم السلام وقد حقت عليهم كلمة العذاب ، وإن أثر كلامها فيهم فيما بعد ، فقد بلغت العقيلة ما أردت من بيان حقهم وشدة غدر وخبث أعدائهم وما لهم من العار والعقاب في الدنيا والآخرة، فلذا طالبها بالكف عنهم، لأنه كما قال الإمام عليه السلام :

ففي الباقي : من الماضي اعتبار :

فكم وعظ أمير المؤمنين عليه السلام :

من قبل أهل الكوفة ، وكم عرفهم ما يجب له عليهم ، وإنه يجب نصره لأنه على الحق ، لكنهم تفرقوا وتسلط عليهم عدوهم حتى صاروا يدا له في قتل آل محمد عليهم السلام ، وهنا نتعرف على كلام الماضين وأهل الماضي والعبرة في كلامهم والاعتبار بهم فنذكر بعض ما قال الإمام علي عليه السلام :

أتلو عليكم الحكم : فتنفرون‏ منها، و أعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، ...

أيها القوم : الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم ، صاحبكم يطيع الله و أنتم تعصونه ، و صاحب أهل الشام يعصي الله و هم يطيعونه ، لوددت و الله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم و أعطاني رجلا منهم .

يا أهل الكوفة : منيت منكم بثلاث و اثنتين ، صم ذوو أسماع ، و بكم ذوو كلام ، و عمي ذوو أبصار ، لا أحرار صدق عند اللقاء ، و لا إخوان ثقة عند البلاء[55] .

فهذا كلام أمير المؤمنين عليه السلام : يعرف تفرق أهل الكوفة عنه ، وعدم طاعتهم له ، وأنه لا تنفعهم الموعظة ولا تؤثر فيهم الحكم البالغة ، وله أشار الإمام زين العابدين عليه السلام، ولذا كان أمير المؤمنين يتوعدهم عذاب الله مع تسلط أعدائهم:

فقال الإمام علي عليه السلام :

 يا أهل الكوفة : و الله لتجدن و لتقاتلن على طاعته .

أو ليسوسنكم قوم : أنتم أقرب إلى الحق منهم ، فليعذبنكم ، و ليعذبنهم الله [56].

وقال أمير المؤمنين من قبل :

 يا أهل الكوفة : قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء القوم ليلا و نهارا ، و سرا و إعلانا ، و قلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم ، فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا .

 فتواكلتم : و تخاذلتم ، و ثقل عليكم قولي ، و استصعب عليكم أمري ، و اتخذتموه وراءكم ظهريا ، حتى شنت عليكم الغارات ، و ظهرت فيكم الفواحش و المنكرات ، تمسيكم و تصبحكم .

كما فعل : بأهل المثلات من قبلكم ، حيث أخبر الله عز و جل عن الجبابرة العتاة الطغاة ، و المستضعفين الغواة ، في قوله تعالى :

{ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء  مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) } البقرة.

أما و الذي : فلق الحبة و برأ النسمة ، لقد حل بكم الذي توعدون .

 عاتبتكم : يا أهل الكوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم ، و أدبتكم بالدرة فلم تستقيموا لي ، و عاقبتكم بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعووا .

و لقد علمت : أن الذي يصلحكم هو السيف ، و ما كنت متحريا صلاحكم بفساد نفسي .

و لكن سيسلط عليكم : سلطان صعب ، لا يوقر كبيركم ، و لا يرحم صغيركم ، و لا يكرم عالمكم ، و لا يقسم الفيء بالسوية بينكم ، و ليضربنكم ، و ليذلنكم ، و ليجرنكم في المغاز ، و يقطعن سبلكم ، و ليحجبنكم على بابه حتى يأكل قويكم ضعيفكم ، ثم لا يبعد الله إلا من ظلم .

و لقل : ما أدبر شي‏ء فأقبل، إني لأظنكم على فترة، و ما عليَّ إلا النصح لكم[57].

يا طيب : وقد استشهد أمير المؤمنين عليه السلام بين أيديهم واغتالوه في محراب عبادته، وقد عرفت بعض خطبه في تأنيب أهل الكوفة لعدم الوفاء له وعدم الثبات معه على الحق لأنهم تغيروا عنه بعد حرب الجمل وصفين والخوارج، ولم يخرجوا لحرب معه بعد.

 والإمام السجاد عليه السلام : أشار في كلامه لما لاقى منهم أمير المؤمنين فقال :

ففي الباقي : من الماضي اعتبار .

وتجد كثير من كلمات أمير المؤمنين التي يشكوا فيها أهل الكوفة بل ومن كان قبلهم ، وتجد كلماته في نهج البلاغة وغيره من الموسوعات التي ألفت أخيرا في تعريف فضائله وحياته الكريمة وجمعت كلماته الغراء .

ويا طيب : عرفت كثير من أحاديث النبي التي يشير بها لتغير القوم بعده ، وأنهم يطردون عن الحوض فلا يسقون لتبدل نياتهم وانقلابهم عن هداه ، وهنا نذكر بعض:

 

كلام إمام الإمام الحسن عليه السلام :

فقد عانى سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام : منهم الأمرين ، فإنهم خذلوه كما خذلوا أبوه أمير المؤمنين من قبل ، ولتعرف بعض ما خاطبهم به ، وكيف تغير حالهم ، نذكر مختصرا من كلامه الشريف مع أهل الكوفة : عن هبيرة ابن مريم قال : خطب الحسن عليه السلام بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام فقال ... :

 قد قبض في هذه الليلة : رجل لم يسبقه الأولون و لا يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيسبقه بنفسه ، و لقد كان يوجهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه . و لقد توفي : في الليلة التي عرج فيها بعيسى ابن مريم ، و التي توفي فيها يوشع بن نوح ، و ما خلف صفراء و لا بيضاء ، إلا سبعمائة درهم من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله .

ثم خنقته العبرة : فبكى ، و بكى الناس معه .

ثم قال : أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني .

 و من لم يعرفني : فأنا الحسن بن محمد رسول الله .

أنا ابن البشير : أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه و السراج المنير .

أنا من أهل البيت : الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا .

و الذين : افترض الله مودتهم في كتابه ، إذ يقول :

{ وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً}[58] فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت.

قال أبو الفرج : فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة .

قام عبد الله بن العباس : بين‏ يديه ، فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا .

و قالوا : ما أحبه إلينا ، و أحقه بالخلافة ، فبايعوه ، ثم نزل من المنبر[59].

يا طيب : ثم إن الإمام الحسن عليه السلام ، خاطب أهل الكوفة حين جبنوا وخذلوه ، و بعدما بايعوه ، وعاهدوه النصر ، وإنه قال يستخبر حالهم لحرب معاوية :

قال الإمام الحسن بن علي عليه السلام لأصحابه  : أحمد الله و أثنى عليه :

 ثم قال :  أما و الله : ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة و لا قلة ، و لكن كنا نقاتلهم بالسلامة و الصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة ، و الصبر بالجزع .

و كنتم تتوجهون معن : و دينكم أمام دنياكم ، و قد أصبحتم الآن و دنياكم أمام دينكم ، فكنا لكم و كنتم لنا ، و قد صرتم اليوم : علينا .

ثم أصبحتم : تعدون قتيلين ، قتيلا بصفين تبكون عليه ، و قتيلا بالنهروان تطلبون بثاره ، فأما الباكي فخاذل ، و أما الطالب فثائر .

و إن معاوية : قد دعا إلى أمر ليس فيه عز و لا نصفة ، فإن أردتم الحياة قبلناه منه ، و أغضضنا على القذى ، و إن أردتم الموت بذلناه في ذات الله و حاكمناه إلى الله .

فنادى القوم بأجمعهم : بل البقية و الحياة [60] .

وهذا ما أشار إليه الإمام السجاد عليه السلام : من خذلان أهل الكوفة لهم من قبل ، فطلب منها السكوت فسكتت عليه السلام وولت عنهم فالويل لهم .

ويا طيب : مر كلام الإمام الحسين في هذا الجزء والسابق وما عانى منهم .

 

كلام فاطمة الزهراء عليها السلام :

ويا طيب : كان من قبل سيدة النساء أم العقيلة زينب صلاة الله وسلامه عليهم ، شكت غصب حقهم من الحاكم الأول ، فقد جاء في قصة فدك عن عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهم السلام ، حيث جاءت مجلسهم :

فجلست : ثم أنت أنة ،  أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتج المجلس .

 ثم أمهلت هنيئة : حتى إذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم .

 افتتحت الكلام : بحمد الله و الثناء عليه ، و الصلاة على رسول الله .

فقالت عليه السلام بعد كلام طويل فيه محاورة مع غاصب حقها ... :

هذا كتاب الله : حكما عدلا ، و ناطقا فصلا ، يقول يرثني و يرث من آل يعقوب ، و ورث سليمان داود ، فبين عز و جل فيما وزع عليه من الأقساط ، و شرع من الفرائض و الميراث ، و أباح من حظ الذكران و الإناث ما أزاح علة المبطلين ، و أزال التظني و الشبهات في الغابرين .

كلا بل : سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل ،و الله المستعان على‏ ما تصفون ...ثم التفتت فاطمة عليه السلام إلى الناس و قالت :

معاشر الناس : المسرعة إلى قيل الباطل ، المغضية على الفعل القبيح الخاسر ، أ فلا يتدبرون القرآن أم على‏ قلوب أقفالها ، كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم.

 فأخذ : بسمعكم و أبصاركم ، و لبئس ما تأولتم ، و ساء ما به أشرتم ، و شر ما منه اغتصبتم ، لتجدن و الله محمله ثقيلا ، وغبه وبيلا ، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ما وراءه الضراء ، و بدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون ، وخسر هنالك المبطلون[61].

ويا طيب : كان الغدر لآل محمد من قبل يتستر عليه بالبكاء وتابعهم القوم .

وكلام سيدة النساء: كررته العقيلة بأسلوب آخر لا يقل في المعنى والبلاغة في زمان أخر ، مهد له الأولون وجرؤوا عليهم الآخرون حتى قتلوهم فضلا عن غصب حقهم ، فقالت ما عرفت عليه السلام.

ولذا قال لها الإمام: ففي  الباقي من الماضي اعتبار.

 ثم إن الإمام السجاد عليه السلام : لكي يعرف أهل الكوفة أن كلامها حق ، وإن ما قالته هو الصدق ، عرف مقامها الشامخ في العلم ، والباذخ في تعريف الهدى ، وإنها عليه السلام كما قال بحق :

 

 

 

وأنت : بحمد الله ، عالمة غير معلمة .

فهمة عير مفهمة .

وأنت : الواو : عاطفة على ما سبق ، أنت : ضمير المخاطب المؤنث ، ويقصد  الإمام عمته زينب عقيلة بني هاشم عليه السلام ، فقال لها :

 

بحمد الله :

الباء : حرف جر أصله الإلصاق ، وهنا يبتدئ بحمد الله ، فيحمد الله باللسان ، والحمد رأس الشكر ومظهر جلي له ، وهو الاعتراف بالنعمة على ضرب من التعظيم ، وهذا من أدب الخطاب ، حيث قدم ذكر الله سبحانه ، ومجده شاكرا لأنعمه ، مظهرا فضله ، راضيا بقضائه وقدره ، وقد مر معنى الحمد لله في كلام العقيلة عليه السلام في ثاني إشعاع ، ثم قال الإمام عليه السلام لها :

 

عالمة غير معلمة :

يا طيب : إن الله سبحانه وتعالى فضل الأنبياء والرسل والأوصياء والأئمة بالعلم ، وقد جاءت آيات كثيرة قد تفوق الثلاثمائة آية تعرف فضل العلم والعلماء على غيرهم ، وجعل الله سبحانه خشية عبوديته تحصل واقعا من العلماء ، وجعل الله شهادة العلماء له بالعدل تلوا شهادة نفسه والملائكة ، ولم يساوي العلماء بغيرهم ، وجعل المنزلة والشهادة للعلماء ، بل جعل الرسالة للرسل هي وحي علمه لهم ، وفضل أوصيائهم بالعلم فجعلهم حجته على الناس ، وجعل رئاستهم للناس وخلافتهم لرسول الله بالعلم ، بل أوجب على الناس كلهم الرجوع لمن علمهم كتابه ، وأوجب عليهم أن يتعلموا منهم ، والآيات والروايات كثيرة في فضل العلم ، نذكر قسما منها لنعرف أهمية كلام الإمام في حق عمته عقيلة بني هاشم ، وحيث يبين فضلها على كل النساء بعد أمها وجدتها خديجة ، فإنها عليه السلام بكلام الإمام وشهادة ولي أمر الله وحجته ، عرف العباد مقاما لها لم تحصل عليها امرأة في الدنيا قبلها وبعدها غير أمها وجدتها .

 

ويا طيب : هذه آيات في فضل العلم والعلماء ، قال الله تعالى :

{ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ

 وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً  بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } آل عمران .

وقال سبحانه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ

وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9) } الزمر .

وقال عز وجل : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( 28) } فاطر .

بل يا طيب : الله  جعل فضله على نبينا الأكرم هو تعلميه ما لم يعلم ولا أحد غيره ، وهو أول من علم هدى الله وعلمه ، لأنه  أنزل عليه الكتاب وعلمه الحكمة ، ولعلمه سبحانه بإخلاصه بتعليمها أرسله للعباد ، وهذا هو فضل الله العظيم ، ولا شيء أعلى منه كما سترى حيث قال سبحانه : { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ  عَظِيمً (113) } النساء .

بل يا طيب : جعل الله آل نبينا الأكرم مثل نبينا الأكرم مختصون بالكتاب والحكمة ، وهم آل إبراهيم ، وآل محمد صلى الله عليهم وسلم ، حيث قال سبحانه :

{ مْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ  فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ

الْكِتَابَ  وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمً (54) } النساء .

ولم يحسد أحد : وحورب وقوتل كما حسد وقوتل آل محمد ، في أول الإسلام في زمن النبي الأكرم حتى توفي ، ثم الإمام علي ثم الإمام الحسن ثم الإمام الحسين وآلهم من بعدهم ، وهم أهل علم الله الصادقون المطهرون الواجب مودتهم .

وبهذا رفع الله درجاتهم : وجعلهم سادة أهل الوجود كله ، وكل الملائكة وأهل الجنة وما فيها خدامهم ومختصة بهم ، ولهم أعلى الدرجات فيها ، حيث قال سبحانه :

{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ

وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) } المجادلة .

وهذا المقام السامي العظيم : من فضل الله على نبينا وآله وكل من تعلم منهم ، وهو أمر من مراتب عالية خص بهم وأنزله عليهم لينذروا العباد كما قال سبحانه :

{ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ

 يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ

 لِيُنذِرَ   يَوْمَ التَّلَاقِ  (15) }  غافر .

{ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} الرعد .

{ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ   وَلِكُلِّ  قَوْمٍ هَادٍ (7) } الرعد .

وهذا النزول لأمر الله : بالروح مختص بهادي الأمة بعد النبي الأكرم ، ومن عنده علم الكتاب بعد نبي الرحمة ، وهو من آله وخليفته ووصيه والإمام الذي يدعى به من يتبعه ويطيعه ، فالنزول للروح بأمر الله في كل سنة مختص بولي الأمر ، فكان لسيد المرسلين في زمانه وفي كل سنة بعده لولي أمر من آله معنا، ولابد أن يكون أكرم المسلمين وأطهرهم ، وهو الإمام الحق ، وعلمه ليس كعلم الباقين ممن حسدهم ثم قاتلهم ومنع الناس من التعلم منهم ، بل علمه بتعليم الله من غير تعليم معلم غيره ، وما نزل عليه بتوسط الروح من كل أمر يهم الدين والعباد ، وبه صلاحهم وتقام به العبودية لله حين متابعته والرضا به كما رضاه الله لهم وأمر بودهم وإطاعتهم ، وكما عرفت وكما قال سبحانه وتعالى :

{ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا

بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) } القدر .

فالروح ينزل : بأمر الله في كل سنة في ليلة القدر ، وهي مختصة بولي الأمر من آل محمد عليهم السلام  ، والملائكة تؤيد العباد الذي يحبونه ويودونه ويتولونه بحق ، ولذا أوجب سبحان على العباد الرجوع وإطاعة ولي الأمر مطهر صادق وعالم بتعليم الله حقا ، لا يعتريه الريب ولا يشك ولم يبدل وقد عرفه سبحانه للعباد  ، وكما عرفت وكما قال :

{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ

وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ   وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ 

لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ

وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) } النساء .

وعرفت : أن لم يدعي أنه ولي الأمر بحق ومختص بالكتاب والحكمة إلا آل محمد صلى الله عليهم وسلم ، وإن فضل الله عليهم وعلينا حيث عرفنا بهم عظيم ، وهم عليهم السلام صادقون صدقهم الله في المباهلة وطهرهم من كل شك وشبه ورأي باطل وضال بآية التطهير ، وأوجب ودهم واقتراف علومهم لأنها حسنات مضاعفات كما مر في آية المودة ، وهم أهل الكتاب والثقلين كما عرفت ، وكما قال سبحانه :

{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في  قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ

وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ 

يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7) } آل عمران .

ويا طيب : ولا علم صادق حق إلا لآل محمد صلى الله عليهم وسلم ومن علموه ، والإمام السجاد علي بن الحسين عليه السلام ، هو إمام أهل زمانه بل لكل من تعلم منه ومن آله ، وقد عرف عمته زينب عليه السلام بقوله أنك عالمة غير معلمة ، فهي ممن خصت بالعلم كآلها الطيبين الطاهرين والصادقين المصطفين الأخيار ، وهذه شهادة ولي الأمر والعلم والهدى والدين لها ، وهي شهادة توجب التعلم منها وتصديقها بكل ما قالت ، والشهادة لها بالفهم بكل ما نطقت ، والاعتراف لها بالفضل بكل ما عرفت .

 

ويا طيب : إن آل محمد عليهم السلام لا يقاس بهم أحد ، وإن عقيلة بني هاشم عاصرة جدها رسول الله ، وأمها فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعاشت مع الحسن والحسين عليهم السلام ، وهي في بيت العلم والوحي تربت ورضعت من ثدي الإيمان ، وتحلت بالفهم والفطنة والذكاء بما خصهم الله من التطهير والمودة وعلم الكتاب والرسوخ به ، وهي عالمة غير معلمة بما فضلهم الله من الفهم لواجب دين الله وبتعليمه.

ويا طيب : إن جلوس أهل البيت في مجالسهم ليس جلوس لهو ، ولا في كلامهم باطل ، ولا في تصرفهم لعب ، ولا أنهم يتسامرون بالقصص والسوالف التي هي من لهو الحديث ، فإنه كان مجلسهم درس علم ، وبحث فهم ، وتفهيم تفسير ، وكلامهم شرح وحي ، ونطقهم فيما بينهم ومع العباد بيان دين ، وتصرفهم الظهور بالهدى ، فكانت بكل الزمان الذي عاصرته فيما يقارب الخمسة والخمسين سنة من عمرها الشريف ،هو الظهور بالدين وتعليمه ، وتعريف الهدى والظهور به ، سواء كان بسيرتهم أو بسلوكهم ، وبكل تصرف لها ، فهي وآلها حقيقة معارف الهدى ومنهم تقتبس معالم الدين .

 وما عرفته العقيلة عليه السلام : من شأنهم الكريم وما وقع عليهم من المصائب ، وما سيصيب أهل الكوفة من العذاب ، لهو بيان شريف حق صادق ، وبيان لواقع مر وفجائع عظمية ، وإنها عليه السلام مع شدة حالها وعظيم المصاب الواقع عليها ، لم تنطق إلا بحق ولم تبين إلا واقع الحال ، فالصدق هو واقع معارفهم وحقيقة تعليمهم ، فهي عليه السلام مع صعوبة الحال لم تشط بالمقال ، وذلك لما من الله عليهم من التطهير ، ولما أيدهم الله به سبحانه من العلم فعصمهم من الظهور بغير نوره .

ويا طيب : بعد أن عرفت بعض الآيات في أهمية العلم ، وإن العقيلة زينب عليه السلام عالمة غير معلمة ، وإن علمها من الله إلهام لم تنطق إلا بحق ، كما لآلها من قبل كجدها وأبيها وأمها وأخيها ، فهي عالمة بتعليم الله ، وفهمة ملهمة بفضل الله عليهم ، وإن الإمام السجاد لم يكتفي بوصفها بالعلم بل وصف علمها بأنها عليه السلام :

 

 

غير معلمة :

يا طيب : العلم إما اكتسابي من الغير ، أو نور يقذفه الله في قلب من يشاء ، وهو إلهام ، وهو يختص بأكرم العباد وأشرفهم ، وبالخصوص آل نبينا الأكرم محمد صلى الله عليهم وسلم ، وإن علمهم هو إلقاء في روعهم بفضل الله عليهم ، فترى كلامهم عين معارف الكتاب وحقائق علوم الحكمة ، وقد :

قال الإمام الكاظم عليه السلام في حديث العقل الطويل منه ... :

 يا هشام : نصب الحق لطاعة الله ، و لا نجاة إلا بالطاعة ، و الطاعة بالعلم ، و العلم بالتعلم ، و التعلم بالعقل يعتقد .

و لا علم : إلا من عالم رباني ، و معرفة العلم بالعقل [62].

وفي كتاب الجعفريات : بالإسناد عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده علي بن أبي طالب عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

يحمل هذا العلم : من كل خلف عدول .

ينفون عنه : تحريف الجاهلين ، و انتحال المبطلين ، و تأويل الغالين [63].

وما ذكرته العقيلة : فهو حقيقة العلوم الإلهية وهو من العلم الرباني الذي لا ينازع ، ولا يمكن أن يهجر ولا أن لا يقر له ، إلا ويكون المخالف له بعيد عن أئمة الحق وهداهم ، والعقيلة وإن لم تكن لها إمامة ، ولكن هي من علماء آل محمد عليهم السلام وفقهائهم ، ولها حق الطاعة كما لهم ، ويوجب تصديقها كما يجب تصديق أئمة الحق عليهم السلام ومن زكوه وعرفوه بالفضل والإخلاص ، فهي تنطق بهداهم الذي هو هدى الله ، وتعرف دينه وحقائقه ، وهي أقرب الناس بعلوم آلها الكرام ، وقد جاء هذا المعنى في روايات كثيرة منها ما عرفت ونذكر الحديث الآتي في بيان فضلها وفضل شيعتهم :

في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله مع عمار بن ياسر رحمه الله قال ...:

 فإن العبد : إذا خرج في طلب العلم ، ناداه الله عز و جل من فوق العرش مرحبا بك يا عبدي ، أ تدري أية منزلة تطلب ، و أية درجة تروم ، مضاهاة ملائكتي المقربين ، لتكون لهم قرينا ، لأبلغنك مرادك ،  و لأصلنك بحاجتك .

 قيل لعلي بن الحسين عليه السلام : ما معنى مضاهاة ملائكة الله عز و جل المقربين ، ليكون لهم قرينا ؟

قال عليه السلام : أ ما سمعت الله عز وجل يقول: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }آل عمران.

 فابتدأ: بنفسه، وثنى: بملائكته، وثلث : بأولى العلم الذين هم قرناء ملائكته.

 أولهم‏ وسيدهم : محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وثانيهم : علي عليه السلام.

و ثالثهم : أقرب أهله إليه ، و أحقهم بمرتبته بعده .

و قال علي بن الحسين عليه السلام : ثم أنتم معاشر الشيعة ، العلماء لعلمنا ، تالون لنا ، مقرونون بنا و بملائكة الله المقربين ، شهداء لله بتوحيده و عدله و كرمه و جوده ، قاطعون لمعاذير المعاندين من عبيده و إمائه .

 فنعم الرأي : لأنفسكم رأيتم ، و نعم الحظ الجزيل اخترتم ، و بأشرف السعادة سعدتم ، حين بمحمد و آله الطيبين قرنتم ..[64] .

والعقيلة عليها السلام : هي أقرب الناس بعلم الله بعد جدها وأبيها  وأمها وأخوتها ، وهم أهل العصمة والطهارة الطيبين المصطفين الأخيار ، وهذا ما عرفته من شهادة الحق لها من ولي الأمر بعد أبيه علي بن الحسين حيث عرفها : بأنها عالمة غير معلمه ، ومن العلماء الربانيين الذين يوفقهم الله للصواب ، ومطهرهم من كل شرك وشك وشبه وتقول بغير علم ، فالعقيلة من آل محمد عليهم السلام ، ومن قبلهم بقبول الله قبل الله علمه وعمله ، ومن رد عليها رد على آلها والراد عليهم رد علم الله ، وبالخصوص بعد تصديق الإمام لها ، وتعريفها بالعلم والفهم ، ولذا قال عليه السلام بعد ذلك :

 

 

 

 

فهمة غير مفهمة :

الفهم : فهم : فهمت الشيء فهما ،  فَهِمَه فَهْماً و فَهَماً و فَهامة : عَلِمَه و عرفته و عقلته ، و فهمت فلانا و أفهمته : عرفته‏ ، و رجل فهم : سريع الفهم ، و أَفْهَمه الأَمرَ و فَهَّمه إياه : جعله يَفْهَمُه ، و اسْتَفْهَمه : سأَله أن يُفَهِّمَه ، و قد اسْتفْهَمَني الشيءَ فأَفْهَمْته و فَهَّمْته تفهيماً .

 والفَهْمُ : معرفتك الشيء بالقلب ، ودخول العلم في العقل واللب والجنان .

والفهم : تصور المعنى من لفظ المخاطب ، وذكروا أن الرُّوعُ مُتَّصل بالقلب ، وعنه يكون الفهم خاصة ، و سرعة الفهم وجودة الفهم : ملكة للنفس يقتدر بها على الانتقال من الملزومات إلى اللوازم بلا فصل ماكث ، فهو : هيئة للنفس بها يتحقق معاني ما يحس ، والفهم : هو نفي السهو والغفلة عن المعنى وعما يرد على الإنسان فيدريه دراية تدبر وتحقق ، أي يفهمه .

ويا طيب : إن للعلم مراتب ، وأحدها هو الدراية والفهم ، ولذا يقال في العلم :

علم : علم يعلم علما، و رجل علامة و علام وعليم ، والعلم : نقيض الجهل ، عَلَّمه العِلْم و أَعْلَمه إياه فتعلَّمه‏ ، وقال الحكماء : العلم : هو حصول صورة الشيء في العقل ، وللعلم مراتب منه : هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، أو العلم : هو إدراك الشيء على ما هو به، أو العلم : زوال الخفاء من المعلوم، وهي أخص من الأول .

فالعلم بالأمور حين يكون : صفة راسخة تدرك بها الكليات والجزئيات ، و وصول النفس إلى معنى الشيء ، فهو يرتقي إلى الفهم ، والفهم :نقيض الغباوة .

والعلم مع التدبر والفهم : هو حياة الإنسان ، وهو النور الذي يقذف في قلوب المؤمنين ، وبه يحصل تفرسهم ومعرفتهم بالمصالح والمفاسد، ويميزون به بين الحق والباطل ، والطيب والخبيث ، ولذا يقال : فلان حيٌّ و حيُّ القلب ، يريدون أنه ثاقبُ الفهم جيِّد النظر ، مستعدٌّ لتمييز الحق من الباطل فيما يَرِد عليه ، بعيدٌ من الغفلة التي هي كالموت .

ويا طيب : بعد أن عرفت الفرق بين العلم والفهم ، وإن الفهم مرتبة عالية من تحصيل العلم ، قالوا : فهمه : علمه وعرفه بالقلب ، فيه إشارة إلى الفرق بين الفهم والعلم ، فإن العلم : مطلق الإدراك ، وأما الفهم : فهو سرعة انتقال النفس من الأمور الخارجية إلى غيرها ، وقيل الفهم : هيئة للنفس يتحقق بها ما يحسن ، والفهم : جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص ما يرد عليه من المطالب . وذكر في الفروق اللغوية :

الفرق بين الفهم والعلم: أن الفهم هو العلم بمعاني الكلام عند سماعه خاصة ولهذا يقال فلان سيئ الفهم إذا كان بطئ العلم بمعنى ما يسمع ، ولذلك كان الأعجمي لا يفهم كلام العربي ، و قيل: الفهم : إدراك خفي دقيق ، فهو أخص من العلم ، لأن العلم : هو نفس الإدراك سواء كان خفيا أو جليا ، ولهذا قال سبحانه في قصة داود وسليمان عليهما السلام :

{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ  غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمً (79) } الأنبياء ..

خص الفهم : بسليمان ، وعمم العلم لداود وسليمان [65] .

وقال في مجمع البحرين : فهم : قوله تعالى { ففهمناها سليمان } ، الضمير للحكومة أو الفتوى ، حيث حكم داود عليه السلام : بالغنم لصاحب الحرث ، فقال سليمان عليه السلام : و هو ابن أحد عشر سنة ، غير هذا يا نبي الله ، أرفق بالفريقين ، قال : و ما ذاك ؟ قال : تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بها ، و الحرث إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان .

فقال عليه السلام : القضاء ما قضيت ، و أمضى الحكم بذلك . و الصحيح على ما قيل : أنهما جميعا حكما بالوحي ، إلا أن حكومة سليمان نسخت حكومة داود ، لأن الأنبياء لا يجوز أن يحكموا بالظن و الاجتهاد ، و لهم طريق إلى العلم [66].

ويا طيب تقول : من لم يؤت من سوء الفهم ، أتى من سوء الإفهام.

وقلّ من أوتي : أن يَفهم ويُفهم .

ولا يتفاهمون : ما يقولون ، إي كلا منهم يعلم القول ولكن لا يعرف المعنى ، أو يعرف المعنى ولكنه لا يرى فيه مصلح فلا يلتزم به ، فيختلف كلا منهم بما يراه وإن كان في مسألة واحدة وموضوع فارد .

والعقيلة عليها السلام : بشهادة الإمام زين العابدين وسيد الساجدين وولي أمر المسلمين بعد آله الماضين ، فإنها فهمة غير مفهم ، تعرف دقيق معاني ما قالت ، وتقصد بخبره بكلامها كل ما نطقت ، وهي تعرف أن في هذه المرحلة ، هذا هو حق ما يجب أن يقال من الكلام ، فهو تأنيب في تعريف عظيم المصيبة ، وأنهم جاءوا بفجيعة كبيرة مؤلمة جدا أوقعوها على أكرم خلق الله ، وإن الله سيجازيهم بأشد العقاب ، بل سينتبهون ويلومون أنفسهم ويحتقرون وجودهم ، فيثورون ليغسلوا عار ما أوقعوه بأنفسهم ، وينهضوا ليرحضوا دنس أنفسهم ، فينتقموا ممن غرهم وخدعهم ، فيعذبوا أنفسهم وعدوهم ثم إلى الله المصير سبحانه هو المنتقم من الظالمين .

وكأن الإمام عليه السلام حين قال للعقيلة : يا عمة ، اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار . وأنت : بحمد الله عالمة غير معلمة ، فهمة عير مفهمة ، يشير أن العلم والفهم والتفهيم حاصل بمنطقك المبارك وبما قال من قبل من العلماء الربانين من آلك الكرام ، ولكن المشكلة من عدم تفهم أهل الكوفة بما فعلوا من الظلم العظيم والعمل القبيح بخيرة أهل الوجود، وهو لسوء فهمهم وعدم تعقلهم لما تقولين ، وإن مقدار قدرتهم هو إظهار البكاء والحنين منهم وهو مؤقت بمفارقتنا لهم ، وسيرجعون لذويهم الظالمين و آلهم الخانعين للطغاة الفاجرين، ولذا قال بعده : إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر ، فالعقيلة عليه السلام فاهمة مفهمة ، لكن عدم التفهم من أهل الكوفة محقق ولقد قالوا للإمام الحسين في حين مخاطبته لهم لا نفهم ما تقول كما عرفت مصباح الهدى ، فقال لهم الإمام قد أستحوذ عليكم الشيطان ، وملئت بطونكم من الحرام .

 

 

أحاديث العلم والفهم وأهميته :

ويا طيب : إن في كتاب بحار الأنوار خصص الجزء الأول والثاني منه في بيان فضل العلم والفهم والتدبر والتعقل ، وكل كتبنا الحديثية تبدأ ببيان فضل العلم ثم تدخل في بيان مسائله العقائدية أو الفقهية أو التاريخية ، وإن معجزة الإسلام هو كتاب علم كريم يفرق بين الحق والباطل ويقرن المؤمن بالهدى ، ويربطه بعبودية الله سبحانه ، وإن أول آياته تحكي عن التعليم بالقلم ، وإنه خلق الإنسان علمه البيان ، وقبله ذكر سبحانه علمه القرآن ، لنعرف أن البيان الحق هو لمن ينطق بالقرآن والقرآن يصدقه .

 كما قال سبحانه وتعالى : { بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ  وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)

 وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) } الرحمن .

وعرفت أن الله سبحانه : خص علم الكتاب بمن علمهم وجعلهم راسخون بعلمه وهم آل محمد صلى الله عليهم وسلم ، والله سبحانه صدقهم وطهرهم وعرفهم وجعل العلم ملكهم العظيم كما عرفت في آية أيحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وإنه آتاهم الكتاب والحكمة ، ومن عند علم الكتاب هم آل محمد صلى الله عليهم وسلم ، فلم يكن قصور في الفهم والتفهيم لما يعلمون ويعلمون ، ولكن القوم كانت محجوبة قلوبهم لا يفقهون حرمة آل محمد ، ولم يعتنوا بحريم نبي الرحمة ، فخسروا الميزان ولم يزنوا بالقسط لا كلام الله ولا كلام آل محمد عليهم السلام ، فتعسا لهم .

ويا طيب : لكي نتعرف على بعض الأحاديث التي تخص عميق العلم والفهم ، نختار بعض الأحاديث لنعرف شأن أكرم خلق الله ، ونتدبر عمق ما قالته العقيلة من بيان حقائق واقعة كربلاء وعظيم ما حل فيها بآل محمد من الظلم العظيم .

عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام :

 عن العلم : أ هو علم يتعلمه العالم من أفواه الرجال؟

أم في الكتاب عندكم تقرءونه فتعلمون منه ؟

قال عليه السلام: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أ ما سمعت قول الله عز وجل:

{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا  مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ

وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ  نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا

وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) } الشورى .

ثم قال عليه السلام : أي شي‏ء يقول أصحابكم في هذه الآية ، أ يقرون أنه كان في حال لا يدري ما الكتاب و لا الإيمان ؟ فقلت : لا أدري جعلت فداك ما يقولون ؟

فقال لي : بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب و لا الإيمان ، حتى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في الكتاب .

فلما أوحاها إليه : علم بها العلم و الفهم .

و هي الروح : التي يعطيها الله تعالى من شاء .

فإذا أعطاها عبدا : علمه الفهم [67].

ويا طيب : هذا ما يشير له الإمام زين العابدين عليه السلام حين قال لعمته العقيلة ، أنتي بحمد الله عالمة غير معلمة وفاهمة غير مفهمة ، فهي عندها من علم آلها الكرام ما به يمكنها أن تبين معارف الحق ، وتعرف دين الله الصدق ، فتحكي أصوله لأهل الكوفة ، وتفهمهم ببيان تام كل ما يوجب عليهم القيام به والثورة ضد الظالمين ونصر آلها الطيبين الطاهرين والحق الذي جاءوا به ، ويسيروا على صراطهم بما عرفوهم من نور الله الذي خصهم به ، وعرفهم الله به وعلموه بكل وجودهم وفي كل أحوالهم .

 

 

 

أعطى الله فهم النبي محمد صلى الله عليه وآله لآله الطيبين :

يا طيب إن الهدى والدين : لا يمكن الحصول عليه إلا بالعلم والفهم الحق له ، وهو مقترن بتعليم آل محمد ، ويعرف بكلامهم ويسمع بمنطقهم ، ومن صم عنهم علمه وفهمه فما عرف شيء حق من هدى الدين ، ويكون خاسر في الدنيا والآخرة ، ولا يسقى من الحوض كما عرفت وجاء في الحديث :

عن الإمام الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

 من سره : أن يحيا حياتي ، و يموت ميتتي ، و يدخل الجنة التي وعدنيها ربي .

و يتمسك : بقضيب غرسه ربي بيده .

فليتول : علي بن أبي طالب و أوصياءه من بعده .

فإنهم : لا يدخلونكم في باب ضلال ، و لا يخرجونكم من باب هدى .

فلا تعلموهم : فإنهم أعلم منكم .

و إني سألت ربي : ألا يفرق بينهم و بين الكتاب حتى يردا علي الحوض .

 هكذا : و ضم بين إصبعيه ، و عرضه ما بين صنعاء إلى أيلة ، فيه قدحان فضة و ذهب عدد النجوم [68].

وفي رواية أخرى : فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، كهاتين ،  و جمع بين إصبعيه:  المسبحتين من يديه و قرنهما و ساوى بينهما .

 و قال صلى الله عليه وآله : و لا أقول : كهاتين ، و قرن بين إصبعيه الوسطى و المسبحة من يده اليمنى ، لأن إحداهما تسبق الأخرى .

ألا و إن : مثلهما فيكم ، مثل سفينة نوح :

من ركبها نجا ، و من تركها غرق[69] .

وفي حديث آخر بعد غرسها بيده :

 فليتول عليا : و ليتول وليه ، و ليعاد عدوه .

و ليأتم : بالأوصياء من بعده ، فإنهم عترتي من لحمي و دمي .

أعطاهم الله : فهمي و علمي .

إلى الله : أشكو من أمتي المنكرين لفضائلهم ، القاطعين فيهم صلتي .

و ايم الله : ليقتلن ابني ، لا أنالهم الله شفاعتي .

يا طيب : العلم والفهم ، هما إن اجتمعا حقا في شخص ، يكون مؤيد بروح من الله سبحانه ، وإن لم يبلغ مرتبة الإمامة لأنه العلم مراتب ، وإن هناك تفاضل بين الأنبياء والرسل وحتى بين أولي العزم منهم ، وهكذا العقيلة بعد الأئمة وأمها لها المرتبة العالية من الفهم والعلم ، وشهد لها إمام حق صادق ينطق بأمر الله ، وهي من آل محمد الذين خصهم الله بالعلم ولا يقاس بهم أحد، فإنه صحبهم لهم المراتب العالية فكيف بهم ولذا:

قال الإمام علي عليه السلام في حق آله آل النبي عليه الصلاة و السلام :

 لا يقاس : بآل محمد من هذه الأمة أحد .

 و لا يسوى بهم : من جرت نعمتهم عليه أبدا .

هم : أساس الدين ، و عماد اليقين .

 إليهم : يفي‏ء الغالي ، و بهم يلحق التالي .

 و لهم : خصائص حق الولاية ، و فيهم الوصية و الوراثة ، الآن إذ رجع الحق إلى أهله و نقل إلى منتقله .

وقال عليه السلام: هم : موضع سره، و لجأ أمره ، و عيبة علمه ، و موئل حكمه ، و كهوف كتبه ، و جبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، و أذهب ارتعاد فرائصه .

و من الخطبة ذكر عليه السلام يعني قوما آخرين :

زرعوا الفجور ، و سقوه الغرور ، و حصدوا الثبور [70].

وهذا عين ما قالته العقيلة عليه السلام: في خطبتها ، فهي بحق كما قال الراوي: خفرة تنطق عن أمير المؤمنين عليه السلام، وإنها بحق تبين حقائق كانت أشبه بزمانه.

وقال الإمام علي عليه السلام :

 نحن أهل البيت : لا يقاس بنا أحد ، فينا نزل القرآن ، و فينا معدن الرسالة [71].

وعن أحمد بن إسماعيل الفراء عن رجل قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام :

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

في أبي ذر : ما أظلت الخضراء ، و ما أقلت الغبراء،  أصدق لهجة من أبي ذر .

قال : بلى .

قلت : فأين رسول الله و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السلام ؟

قال : فقال لي : كم فيكم السنة شهرا ؟ قلت : اثنا عشر شهرا .

 قال : كم منها حرام ؟ قلت : أربعة أشهر .

قال : شهر رمضان منها ؟ قلت : لا .

قال : إن في شهر رمضان ليلة العمل فيها أفضل من ألف شهر .

إنا أهل بيت : لا يقاس بنا أحد[72].

والعقيلة عليها السلام: من أهل البيت وتربت وتعلمت وعلمت وعرفت علومهم.

و قال الإمام علي عليه السلام في خطبته له :

و لقد علم : المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ، أنه قال :

إني و أهل بيتي : مطهرون .

 فلا : تسبقوهم فتضلوا ، و لا تخلفوا عنهم فتزلوا .

و لا : تخالفوهم فتجهلوا ، و لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم .

هم : أعلم الناس صغارا ، و أعلم الناس كبارا .

فاتبعوا : الحق و أهله حيثما كان ، و زايلوا : الباطل و أهله حيثما كان [73].

وهذه العقيلة عليها السلام : عرفت الحق بعلم واسع ، وكلام شاسع ، يسع الزمان والمكان كله ، وكل من يعرف تأريخ الإسلام ، أو يزور مراقدها في كربلاء والشام ومصر ، بل من يسمعه في مجالس ذكر أبا عبد الله عليه السلام ، فتريه الحق وتعرفه أهله ، وظلم أعدائهم وقبح فعالهم ، وبكلمات كريمة المنحى ، وعبارات مترادفة المعنى ، وجمل تامة مفيدة ، وكلام حق يفهمه أقل أهل الإدراك فيشنأ أهل الكفر والظلال من أعدائهم أين ما كانوا وبأي اسم تسموا وبأي صفة اتصفوا وأي زمان كان حكموا إن كان من المنصفين وحر في فكره ، يتبع الحق حين يسمعه ، ويصدق الكلام الحسن حين يقرأه .

 

لكن القوم لا يفهمون :

وإن الله سبحانه وتعالى : قد ذم من لم يتبع الحق ، ولم يتابع الكلام الصدق ، ومن يهجر أحسن الكلام ولا يقتص آثاره ، ولا يتابع مناره ، ولا يسير بهديه ، ولم يتدبره ولا يفكر بشمائله ويستخرج درره ، فإن قد جاءت روايات كثيرة تعلم العباد كلهم ضرورة التدبر والتفكر بتعاليم الله ومن خصهم بتعليم هداه، فنذكر منها ما أوجبت الفهم :

قال الله سبحانه :  { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا

وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ  لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا (25) } الأنعام .

فإن هذه الآيات الكريمة : كما انطبقت على الكفار والمنافقين من قبل ، وهي على أهل الكوفة أشد إنطباقا ، وهم لها مصاقا أعظم ، وقال الله تعالى :

{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ

حَتَّى إِذَا  خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ  (16) ...

وَيَقُولُ الَّذِينَ : آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم  مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ  الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ (21)

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

وَتُقَطِّعُوا  أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)

 أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ  عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ (24)

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى

 الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ  وَأَمْلَى لَهُمْ (25)

 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ  إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا  مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

 أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ  اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)} محمد.

يا طيب : من لم يحركه كلام أفضل الخلق وأعلاه معنى لكي يتبع الحق وأهله ويرفض الباطل وأهل ، ولم يتقدم لنصر أهل الصراط المستقيم المنعم عليهم بالكتاب والحكمة ، ولم يهجر المغضوب عليهم الضالين ، وقد صدع الهدى والدين في صماخه قبل إذنه ، فاسمع الصم كلماته وأرت الأعمى معانية وكل وقائعه ، لهو من الأموات الذي طبع على قلوبهم ، فأفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وقد حرموا لذت معارف القرآن وقفلت قلوبهم عن هداه وما أوجب عليهم من رفض أهل الفجور والفسق والظالمين الطغاة ، ولكنه كلام العقيلة كان بحق كما عرفته الآيات .

وكما مر ما قال الإمام الحسين عليه السلام : لأهل الكوفة وجيش الكفر الذين أطاعوا أمير الكافرين والمنافقين ، وقد مر في النور الثاني الإشراق الثالث ، أن الإمام خطب القوم بخطب متعددة قبل اشتباكهم ليكفوا عنهم لكن القوم لا يفهمون ، فقال :

 أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمد صلى الله عليه وآله .

ثم إنكم : زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم .

 لقد استحوذ : عليكم الشيطان ، فأنساكم ذكر الله العظيم .

 فتباً لكم : ولما تريدون ، إنا لله وإنا إليه راجعون .

 هؤلاء قوم : كفروا بعد إيمانهم ، فبعدا للقوم الظالمين .

فقال عمر بن سعد : ويلكم كلموه ، فإنه ابن أبيه ، والله لو وقف فيكم هكذا يوما جديدا ، لما انقطع ولما حصر ، فكلموه .

فتقدم شمر لعنه الله فقال :

يا حسين : ما هذا الذي تقول ؟

أفهمنا حتى نفهم ؟

 فقال : أقول : اتقوا الله ربكم ، ولا تقتلوني .

 فإنه : لا يحل لكم قتلي ، ولا انتهاك حرمتي .

فإني : ابن بنت نبيكم ، وجدتي خديجة ، زوجة نبيكم .

ولعله قد بلغكم قول نبيكم : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة .....

فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول .

وهذا حال أهل الكوفة : من النساء والمستضعفين الذين لم يخرجوا للقتال ، فإنهم فقط يبكون ، لا يفهمون بحق ما يجب عليهم عمله ، وكيف ينصرون الحق وكيف يثوروا لرفض الباطل ، فالعقيلة فاهمة فهمتهم الحق ، ولكن القوم يقرون أنه لا يفهمون ، وهكذا كان حال أهل الكوفة مع آلها من قبل ، وقد عرفت جوابهم للإمام الحسين عليه السلام بل لأمير المؤمنين بل لفاطمة للنبي الأكرم بعد أن عرفهم ولاتهم لم يطيعوهم ولم ينصروهم بل هجروهم وأتبعوا غيرهم ، وهذا معنى كلام الإمام السجاد حين يطالبها بالكف وإن في كلام الماضين ما فيه الكفاية والعبرة ، فالعقيلة لم يكن فيها قصور ولا تقصير في الفهم والتفهيم ، لكن القوم قاصرون مقصرون لا يفهمون ومتخاذلون خانعون وللبيعة ناكثون .

ويا طيب : توجد آيات كثيرة تذم المقلد لمن يسبقه وبالخصوص ممن لم يفهم حقائق الدين ، ونصر الظلم ، فلا يحق لمن بعده أن يتبعه وإلى الآن توجد بقية تتبع أعداء آل محمد ، وقد ذكرنا آيات كثيرة في صحيفة التوحيد من موسوعة صحف الطيبين ، في ذم المقلدين ممن لا يفهمون ، وما ذكرنا من الآيات والروايات فيها الكفاية :

وعرفت : في الآيات السابقة أيضا إن الله سبحانه وتعالى يذم من لم يتدبر كلام الله ولا يسمع الكلام الحسن ، ولا يتفهم ويتعرف على حقائق أهل الهدى ولذا :

قال أمير المؤمنين عليه السلام :

ألا لا خير : في علم ليس فيه ، تفهم .

ألا لا خير : في قراءة ليس فيها ، تدبر .

ألا لا خير : في عبادة لا فقه فيها .

ألا لا خير : في نسك لا ورع فيه [74].

ويا طيب :  التفهم والتدبر لما نعلم ، من أسس المعرفة والعلم ، وبه يفقه ويعرف الدين ، وبهما يستقر ويحسن الهدى ، كما أن التقليد لمن صدقهم الله سبحانه محمود ، وتدبر كلامهم والعلم والعمل به وتفهمه بحقه هو من أساس الدين مطلوب ، بل تدبر كلام الظالمين والطغاة ومعرفة خدعهم لمن يمكن أن يميز الحق من الباطل ولمن يفرق بين الخبيث والطيب ، جميل ، لكن لكي لا يقع المؤمن في شباك حبائل الشيطان ، ولكي لا ينخدع بالكلام المعسول والمنطق الذي يشبه به الباطل بالحق فيظهره مظهره ، طلب هجرهم وهجر تعاليمهم ، ونذكر رواية تعرف معنى التقليد لمن سبق والطاعة لهم  :

عن محمد بن عبيدة قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام :

 يا محمد : أنتم أشد تقليدا أم المرجئة ؟ قال قلت : قلدنا و قلدوا .

فقال : لم أسألك عن هذا ، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأول .

فقال أبو الحسن عليه السلام :

إن المرجئة : نصبت رجلا لم تفرض طاعته و قلدوه .

و أنتم : نصبتم رجلا ، و فرضتم طاعته ، ثم لم تقلدوه ، فهم أشد منكم تقليدا [75].

ويا طيب نحن و إياكم : بحمد الله ، قد عرفنا الحق وأهله والصادقون بتصديق الله والطاهرون بتطهيره فتتبعنا كلامهم ، ونتدبر منطقهم الكريم ، لكي نثبت على الحق ، ونزيل كل وسواس وريب ، ونتعلم ونتفهم كلام آل محمد عليهم السلام بتدبر وتفقه بجد ، لأننا متيقنون أنه أصل وأس وأول أسباب معرفة دين الله الحق وهداه الصادق ، لأنهم ظهروا به بكل وجودهم فهنيئا لمحبيهم وأتباعهم .

 ويا موالي نختم بحث العلم والفهم : بأحاديث تعرفنا فضله وأهميته ، لنعرف أن أهل البيت عليهم السلام حين يذكرون هذه الفضائل للعلم فهم أول من بحثه وتحققه بينهم ، فضلا عن تعليم الله لهم ، وهم علموه لنا بعين صافية للطالب ، وبمنهل عذب للوارد ، ونور ساطع يخرق العقول قبل القلوب ، ويثبت في الوجدان قبل العاطفة ، ويستقر عند المؤمنين الصادقين في طلب الحق والتحقق به.

 والحديث الأول : في فضل العلم ، عن القداح عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

 من سلك طريق : يطلب فيه علما ، سلك الله به طريقا إلى الجنة ، و إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به ، و إنه يستغفر لطالب العلم من في السماء و من في الأرض ، حتى الحوت في البحر ، و فضل العالم : على العابد ، كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر . و إن العلماء : ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما ، و لكن ورثوا العلم : فمن أخذ منه ، أخذ بحظ وافر.

والعقيلة عليها السلام : ورثت العلم وعلمته وارثته لنا  ، وهي وآلها الكرام بحق ممن يعرف قيمة العلم وفضله فهم أولى بالتحقق به ، وأولى بالظهور به بكل وجودهم ، ولذا قال لها الإمام أنت عالمة غير معلمه ، وفهمه غير مفهمة ، فهي تعلم وكل من تعلم منهم ودون خلطه بغيره ، نال المقام الأعلى ، والنعيم الأوفى ، ورضا الله الأعلى ، ولذا :

قال أبي البختري ، عن الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام قال :

إن العلماء : ورثة الأنبياء ، و ذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما و لا دينارا ، و إنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشي‏ء منها ، فقد أخذ حظا وافرا .

فانظروا : علمكم هذا عمن تأخذونه ، فإن فينا أهل البيت : في كل خلف عدولا ، ينفون عنه تحريف الغالين ، و انتحال المبطلين ، و تأويل الجاهلين [76].

والعقيلة عليها السلام : في خطبتها عرفت علم عظيم ، وكلام كريم ، يبطل كل منتحل للدين ، وأفكار الغالين ، وتأويل الجاهلين في تبرير عمل المبطلين ، ولم يتبعوا الحق المبين لآل محمد عليهم السلام ، وأنت يا طيب : إن شاء الله من شيعتهم الذين تعلموا منهم أن شاء الله ، فتكون بحق من المتعلمين للصدق دون ضلال الباطل ومكر المخادعين من أعدائهم ، لأنه جاء في الأثر :

عن جميل عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال :

 يغدو الناس : على ثلاثة أصناف : عالم ، و متعلم ، و غثاء .

فنحن : العلماء .  و شيعتنا : المتعلمون .  و سائر الناس : غثاء .

و عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال :

إن الذي : يعلم العلم منكم ، له أجر مثل أجر المتعلم ، و له الفضل عليه .

فتعلموا : العلم من حملة العلم ،وعلموه : إخوانكم ، كما علمكموه : العلماء [77].

ويا طيب إن العقيلة عليه السلام : علمتنا أصول الهدى وأسس الدين ، وعرفنا الصدق في منطقها الشريف ، فحققت اليقين فينا بأن الحق لآلها الكرام ، وإن من اعتدى عليهم من الضالين الظالمين ، فعبرت بلسانها بأنه لها ولآلها حقائق الهدى ، وعرفتنا بأحسن بيان علوما جمة ، ومعارف كثيرة طوتها بأحسن أسلوب ، حتى عرفتنا مكنون علمها وعظيم شأنها في بيان العلم والتعليم ، والفهم والتفهيم .

فرأينا في العقيلة عليه السلام : علما من أعلام العلوم الخافقه ، و أنها واقعا سيدة كريمة كأمها من أعلام الدين الشاهقة ، حتى كانت بحق معلمة للخير بصافي معالمه الرائقة ، ويحق بل يحسن لكل مؤمن أن يغوص في حقائقه ، ويتفهمه ليستخرج درره  فيقتني فوائده ، وليكون مؤمنا فائق في العلم وفرائده ، لأنه تعلم من مؤمنة فاهمة ، والعلم نور الهدى وحياة الإيمان ، وبأحسن بيان منها يمكن أن يتذوقه بعقولهم بني الإنسان .

وعلى كل مؤمن طيب : من شيعة آل محمد عليهم السلام أن يحمله حمل دراية ، ويتفهم تفهم وعاية ، ويرويه بعناية  لمن يحب من أهل بيته وإخوانه ، فإنه سبيل الحق وطريق الصدق ، ومستقيم يوصل لكل نعيم ، ويرسخه في نفسه ولمن يحب درس تفصيل ، فيفرق به بين الحق والباطل ، فينال كمال الدين ، ويزيل عنه كل آفة ومرض ووسواس ، فيكون عنده دواء من آفات باطل الناس ، فلا يصيبه بمناعة علوم العقيلة وآلها ما يصيب الناس من الشك والشبهة والتردد بين الحق والباطل والوسواس ، وبتعلمه بحق لا يتغافل و لا يرى نفسه ضال عن علوم الله سبحانه ، والتي خصها بآل محمد عليهم السلام وشيعتهم الكرام ، وهو ليس منهم والعياذ بالله من شر أعدائهم الذين أضلهم الخناس.

لأنه يا طيب : كلام العقيلة كلام حق ، شهد له ولي أمر الدين ، وإمام الهدى والحق زين العابدين عليه السلام ، وبه يصفى القلب من كل شك وريب ، ويحصل على علم حق يستحق التعلم والتعليم ، والتدبر والتفهم والتفهيم ، حتى ليكون اعتقادا راسخ بأعلى قوى الإيمان ، فإنه الحجة والدليل والبرهان ، لأنه كلام عالمة غير معلم وفاهمة غير مفهمة ، كما قال الإمام زين العابدين عليه السلام .

 ثم قال لها بعده عليه السلام :

 

 

إن البكاء والحنين : لا يردان من قد أباده الدهر .

إن البكاء والحنين :

إن : تؤكد الكلام وتنصب المبتدأ وترفع الخبر ،  إن و أن : ثقيلة ، مكسورة الألف و مفتوحة الألف ، و هي تنصب الأسماء ، فإذا كانت مبتدأ ليس قبلها شي‏ء يعتمد عليه، أو كانت مستأنفة بعد كلام قد تم و مضى ، فأتيت بها لأمر يعتمد عليها كسرت الألف ، و فيما سوى ذلك تنصب ألفها ، و إذا وقعت على الأسماء و الصفات فهي مشددة ، و إذا وقعت على اسم أو فعل لا يتمكن في صفة أو تصريف فخففها .

البكاء : اسم إن المؤكد ، وقد مر أنه خروج الدمع من العين .

وأما الحنين : فهو معطوف على البكاء وله حكمه .

والحنين : الشوق و توقان النفس لشيء ما ، وهو العطف والانعطاف على شيء بلطف ورحمة ومحبة ورقة وشفقه ، ومنه حن إليه يحن حنينا فهو حان ، و الحنان : الرحمة ، و الفعل : التحنن ، حن حنين : صوت يقال حنت الناقة مدت صوتها شوقا إلى ولدها ، و حنت الرياح صوتت صوتا يشبه حنين الإبل ، و حنت القوس صوتت عند الإنباض ، و حن العود صوت عند النقر ، و حن الرجل صوت :  طربا أو توجعا ، و إليه اشتاق و عليه حنانا عطف .

 حَنَّ قَلْبي إليه : فهذا نِزاعٌ و اشْتِياق من غير صوت‏ ، وحَنَّ عليه : أَي عَطَف ، و حَنَّ إليه : أَي نزَعَ إليه ، و الحَنَّانُ: الذي يَحِنُّ إلى الشيء ، و الحِنَّةُ بالكسر : رقَّةُ القلبِ ، و الحَنينُ : الشديدُ من البُكاءِ .

ويا طيب : ترى في كلام العقيلة عليه السلام أشد وأعلى الحنان والشوق لآلها الكرام ، وإظهار الرقة والعطف على حالهم سواء قتلى أو أسرى واضح في خطبتها الكريمة ، وهي عليها السلام بينت بكلام عالي المعاني مأساة كربلاء وما حل بها ، ومصائب آلها الذين جاؤوا أسرى معها ، فأرتنا حقائق كريمة تعرف فيها حنانها وبكائها الشديد على آلها وإن لم يكن بصوت البكاء ، ولكن حنان قلب وعطف مصاب على من تحب بإظهار التودد والرقة عليهم بكلامها ، وتعلن الشفقة والرحمة على ما حل بهم بمنطقها.

فلذا توجع له : الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام ، وذكرها بأن مصابهم عظيم ، وهم يكفيهم ما ذكرتي وبينتي ، وفي كلام الماضين عبرة ، وإنه ظهور البكاء والحنين بكلامك الشريف لا يرجع من أحنى عليه الدهر بكلاكله ، وأصابهم أهل الدهر بفجائع يشيب فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

ويا طيب : لكي نتعرف على معنى الحنان بمعنى أوسع ، ويرسخ فينا كلام مولى الساجدين إمام الحق ، فيما عرف من كلام عمته ومقصدها الكريم بكل حزن وتأسف على ما حل بهم وبأعلى علم وفهم ، نذكر وقائع وأحاديث تعرفنا معنى الحنان :

الحنانة : جذع نخل كان يخطب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما بني المنبر وتركه رسول الله ، حن وبكى ، فأحتضنه رسول الله فسكت .

 والحنانة : موضع قرب النجف الأشرف ، وصلّى الإمام الصّادق عليه السلام عنده ركعتين ويستحب الصلاة فيه ، وقال : هذا موضع رأس جدّي الحسين عليه السلام وضعوه هاهنا ، وروي أنه كان حاط قائم فمال حين مروا بسرير أمير المؤمنين لكي يدفن في النجف ، ويمكن أن يكون موقع الخطبة للعقيلة وآلها عندها ، لأنه عند مدخل الكوفة  للقادم من كربلاء .

وقوله تعالى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ (25)} التوبة .

و قصة حنين : أن النبي فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان ، ثم خرج و قد بقي منه أيام لقتال هوازن و ثقيف ، و سار إلى حنين : وهو واد بين مكة والطائف، ورسول الله و المسلمون و كانوا اثني عشر ألفا ، فحاربوا الكفار ، فلما التقى الجمعان انكشف المسلمون ولم يبقى إلا النبي وعمه مع أول الوادي واثنا عشر رجل من بين هاشم فقط والإمام علي قائدهم ، وأقد أنزل الله سكينة على النبي والثابتون مع الإمام علي و أمدهم الله بنصره ، فانعطف معهم المسلمون والتحقوا بنورهم ، و انهزم المشركون إلى أوطاس .

وقوله تعالى : { وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا (13) } مريم ، أي رحمة من عندنا ، في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام : سئل ما عنى في يحيى و حنانا من لدنا ؟ قال : تحنن الله عليه ، قلت: فما بلغ من تحنن الله عليه ؟ قال : كان إذا قال : يا رب .

 قال : لبيك يا يحيى [78].

 و في الدعاء : سبحانك و حنانيك‏ ، أنزهك عما لا يليق بك تنزيها ، و الحال أني أسألك رحمة بعد رحمة .

 و في حديث الإمام علي عليه السلام :  و قد سئل عن الحنان و المنان ؟

فقال : الحنان : هو الذي يقبل على من أعرض عنه .

 و المنان : هو الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال .

و تحنن عليهم : ترحم ، و في الحديث : تحننوا على أيتام المسلمين ، أي تعطفوا عليهم و ارحموهم . و في الحديث :

قلوب : شيعتنا تحن إلينا ، أي تشتاق . وفي الحديث : أن مسجد الكوفة في زمان الإمام المهدي عليه السلام تحن إليه قلوب المؤمنين من كل أهل الأرض .

و روي : أن الكعبة ، شكت إلى الله عز و جل في الفترة بين عيسى و محمد صلوات الله عليهما ، فقالت : يا رب ، ما لي قل زواري ، ما لي قل عوادي .

فأوحى الله جل جلاله إليه : أني منزل نورا جديدا على قوم :

يحنون إليك : كما تحن الأنعام إلى أولادها ، و يزفون إليك كما تزف النسوان إلى أزواجها ، يعني أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم [79].

  و قال أمير المؤمنين عليه السلام :  في وصيته لابنه محمد بن الحنفية رضي الله عنه ، وهي طويلة منها  : يا بني ... و أحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك ، و ارض لهم ما ترضاه لنفسك ، و استقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك .

و حسن : مع جميع الناس خلقك ، حتى إذا غبت عنهم حنوا إليك .

 و إذا مت : بكوا عليك ، و قالوا : إنا لله و إنا إليه راجعون .

و لا تكن : من الذين ، يقال عند موته : الحمد لله رب العالمين‏[80] .

وعن أبي الحجاج قال قال لي أبو جعفر عليه السلام : يا أبا الحجاج :

إن الله : خلق محمدا و آل محمد من طينة عليين ، و خلق قلوبهم من طينة فوق ذلك ، و خلق شيعتنا من طينة دون عليين ، و خلق قلوبهم من طينة عليين .

فقلوب شيعتنا : من أبدان آل محمد .

و إن الله : خلق عدو آل محمد من طين سجين ، و خلق قلوبهم من طين أخبث من ذلك ، و خلق شيعتهم من طين دون طين سجين ، و خلق قلوبهم من طين سجين ، فقلوبهم من أبدان أولئك . و كل قلب : يحن إلى بدنه [81].

يا طيب : إن نبينا وآله عليهم السلام يشتاق للكون معهم في الدنيا والآخرة كل المؤمنون الصادقون في إيمانهم ، لأنهم خيرة الوجود في كل مراتبه بدأ وعودا ، فمن أجاب الله بالتوحيد في عالم الذر لحقهم هنا ، ومن كان في ذاته خصلة خير ترك أهل الضلال والباطل والظلم والظلام ، وتبع من اصطفاهم الله وأختارهم فتطهر نفسه ويكون معهم في أعلى مقام، ويشتاق للكون معهم ويحن لزيارتهم في الدنيا والآخرة فيكون منهم معهم.

وإن الإمام زين العابدين : عرفنا أن عمته العقيلة عليه السلام ، حنت وبكت بكلامها على أعظم مصاب حل بآلها ، وعرفنا بأنه كلامها حق عن فهم وعلم ، ولكنه عرفها بأنه طالما ذكر آلها من قبل وجوب أتباع الحق ولا يحق لأحد أن يتبع أهل الباطل ، وعليهم نصر النبي وآله دائما أبدا ، ولكن أهل الكوفة في ذلك الزمان خنعوا ونكثوا واستكانوا للظالمين وهم لا يفهمون ، فأحلوا أعظم مصيبة في الكون بأكرم خلق الله ، وإنه لا يرجع شيء من البكاء والحنين ما أصاب آلهم الكرام .

 فلذا قال عليه السلام :

 

 

لا يردان : من قد أباده الدهر .

لا : نافية ، ويجحد ونكر بها وقوع أمر مرتب على أمر أخر .

يردان : الرد : هو الرجوع ، والإعادة ، وصرف الشيء و رَجْعُه ، و الرَّدُّ : مصدر رددت الشيء ، و رَدَّهُ عن وجهه يَرُدُّه رَدّاً و مَرَدّاً و تَرْداداً : رجعه وأعاده ، و ردَّه عن الأَمر و لَدَّه : أَي صرفه عنه برفق ، و أَمر الله لا مردَّ له ، و في الحديث : لا يرد القضاء ألا الدعاء ،  أي لا يصرفه و يدفعه و يهونه إلا الدعاء ،  ورَدَّ إِليه جواباً : أَي رجع  ، والردة : الرجوع عن الشيء ، ومنه الارتداد والمُرْتَدّ : هو الرجوع عن الإسلام ، وسمِّي المرتدُّ لأنّه ردّ نفسَه عن الإسلام ورجع عنه إلى كُفْره ، واستردَّه الشيء : سأَله أَن يَرُدَّه عليه ، والرِّدِّيدَى : الرد و، تَرَدَّدَ وتَرادَّ:  تراجع ، ويقال هذا أمرٌ لا رادَّةَ له ، أي لا مرجُوع له ولا فائدةَ فيه ولا محصل له .

والأمر الذي له رد ومرجع له فائدة ومحصل حسن يجب تصديقه وقبوله :

وقد قال سبحانه :

{ وَيَزِيدُ  اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى  وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا

وَخَيْرٌ مَّرَدًّا (76) }مريم.

وقوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ  أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي  شَيْءٍ

 فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ

إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) } النساء .

 أداء الأمانة : إرجاع الشيء لصاحبه لأنه أحق به ، وقد استأمن الله ورسوله القرآن والعترة ، وقرنهما ، وأوجب الرجوع لهما ، وهو الرجوع إلى الله والرسول ، فإن الله لا يراجع ولا يرد له أمر مباشرة لأنه لا يوحي لكل أحد ، ولا كل الناس عندهم المقدرة على تحمل كلامه وتعقله ، ويحتاج كل من يدعي اختصاصه به لمعجزات كثيرة حتى يصدق ، ويمكن أن يكثر الكذابة ممن يدعي النبوة والإمامة والولاية الإلهية .

فالرد إلى الله : هو الرجوع إلى كتابه وسنة رسوله ، وسنة الرسول والله سبحانه في كتابه أرجعنا للثقلين ، أي لتفسير الكتاب بتفسير العترة وآله ذوي القربى ، ولذا تقارنا إلى يوم القيامة، لأنه بهما يعرف الهدى الإلهي والدين الرباني الحق ولذا قال الله سبحانه:

{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ

 وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ  لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ

وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)} النساء .

وأولي الأمر : أصحاب ليلة القدر التي ينزل فيها من أكل أمر حكيم على ولي الله وصاحب أمره وصاحب الروح ممن أختصه الله ، لأن الروح من أمر الله ولا يعلم به أحد وما أوتينا إلا قليلا ، والمؤتى بيانه هو من عنده علم الكتاب والراسخ بعلمه مطهر ككتاب الله المطهر وصادق صدقه الله بأية المباهلة وأمر الله سبحانه بوده في أية المودة :

 ولذا جاء عن موسى بن عقبة: أنه أمر معاوية الحسين عليه السلام : أن يخطب .

فصعد المنبر : فحمد الله : و أثنى عليه ، و صلى على النبي .

 فسمع رجل يقول : من هذا الذي يخطب ؟

فقال عليه السلام : نحن حزب الله الغالبون ، و عترة رسول الله الأقربون ، و أهل بيته الطيبون ، و أحد الثقلين : الذين جعلنا رسول الله ثاني كتاب الله تعالى ، فيه تفصيل كل شي‏ء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ، و لا من خلفه .

و المعول علينا : في تفسيره ، لا يبطينا تأويله ، بل نتبع حقائقه .

فأطيعونا : فإن طاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة الله مقرونة ، قال الله تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ (59)} النساء .

 و قال : { وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ (83)} النساء.

و أحذركم الإصغاء : إلى هتوف الشيطان ، فإنه لكم عدو مبين ، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم :

 { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ .. (48) } الأنفال ..

  فتلقون : للسيوف ضربا ، و للرماح وردا ، و للعمد حطما ، و للسهام غرضا ، ثم لا يقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، قال : معاوية حسبك أبا عبد الله فقد أبلغت [82].

ويا طيب : إن الرد لله هو استنطاق القرآن ومعرفة حكمة مما بين الدفتين ، وهو لا ينطق إلا أن يستنطقه الرجال العالمون به ، والذين أمرنا الله أن نرجع لهم ورد أمره لهم ، ومعرفة حكمه منهم ، وهذا كل شيء في الكتاب والسنة يصدق آل محمد عليهم السلام ، ويوجب الرد والرجوع إليهم ، ولا أحد غيرهم راسخ بعلمه بحق .

ولكن أهل الكوفة : في ذلك الزمان ، بدل الرجوع لآل محمد عليهم السلام رجعوا لأعدائهم ، وتولوا غيرهم ولم يتولهم ، وارتدوا عنهم فارتدوا عن الإسلام وإن تسموا باسمه ، لأنهم لم يردوا إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، الذين صدقهم الله سبحانه وطهرهم كما طهر كتابه وأمر بمودتهم وطاعتهم كما عرفت في آيات الولاية أعلاه .

بل أوردوا : سيد شباب أهل الجنة وآله الكرام صلى الله عليهم وسلم ، مورد لا رجع له ولا رد له في ذلك الزمان ، لا بكاء ولا حنين ولا غيره يردهم ، لأنهم أبادوهم ومثلوا بهم ، ولذا قال الإمام للعقيلة :

 

 

 

 

لا يردان : من قد أباده الدهر .

مَنْ : اسم موصول مبنيّ على السكون ، ويقصد بهم سيد الشهداء أبا عبد الله الحسين عليه السلام وآله الكرام وصحبه الطيبين ممن استشهد معه في كربلاء .

قد : حرف يوجب تحقق الشيء كقولك قد كان كذا و كذا ، و الخبر أن تقول: كان كذا و كذا فأدخل قد توكيدا لتصديق ذلك .

 

أباده :

بيد : بادَ الشيءُ يَبيدُ بَيْداً وَ بياداً و بُيوداً و بَيْدودَ و بَيْدودَةً :  إذا نَفِدَ ، وانقطع ، و ذهب ، وإِذا هلك وفني ، وخلي الزمان والمكان منه  أو ذهبت الحياة عنه ، وتأبّدَ المنزلُ : إذا أقفرَ وأتى عليه الأبد ، والبَيداءُ : الفلاة و القَفْر، مَفازَةٌ لا شيءَ فيها أو  المفازة المستوية يُجْرى فيها الخيل ، والمكان المستوي المُشْرِفُ قليلة الشجر جَرْداءُ تَقُودُ اليومَ ونِصْفَ يوم وأَقلَّ وإِشرافها شيء قليل لا تراها إِلا غليظة صلْبَةً لا تكون إِلا في أَرضِ طِينٍ ، و أَرضٌ ملساءُ ، والصحاري  :كلها بيد ، وبادَتِ النَخْلَةُ تَبِيْدُ بَيْداً : إِذا لم تَحْمِلْ .

ويا طيب : إن الإمام الحسين عليه السلام مخلد ما بقي الدهر ، لا يفنى ولا يبيد ، وإن معنى الإبادة والهلاك نسبي ، فقد يعبر عن الجزء بالكل ، وقد يراد ويطلق القسم على الجميع ، وذلك لعظمة القسم الفاني ، وكبر الجزء الذاهب من الجميع وأهمته ، وإن قتل الإمام الحسين عليه السلام أشبه بالإبادة للحق والفناء للصدق وانقطاع الجميع ، لأنه أصر الجمع الكبير من أهل الكوفة وحكامهم على حرب الإمام ومنعه حقه في نشر الهدى وتعريف الدين ، فكأنهم قد أبادوه بحسب ظنهم، وإن بقي من يقوم مقامه.

ولذا عبر الإمام السجاد عليه السلام فقال : إن البكاء والحنين لا يرجع من أباده الدهر ، وهو بمعنى أنه الإمام الحسين وآله المستشهدين عليهم السلام ذهبت روحهم عن الدنيا ، ولم تبقى تتصرف في بدنهم بالحركة الطبيعية لمن يعيش في الحياة الدنيا ، ولا آثار الجسد المتحرك بالإرادة وغيرها، والتي تصدر من مقترنة روحه ببدنه ، وأنه ومن استشهد معه كانت باقية أبدانهم في الدنيا ، وإن كانت أرواحهم ذهبت للرفيق الأعلى ، لكنه عبر عنهم بأنهم بادوا لأهمية وجودهم الكريم ، وهم أحياء عند الله يرزقون ، ولعظم المصيبة ، ولجليل الحزن عليهم عبر الإمام عنه بأنهم بادوا ، وإن البكاء والحنان لهم بذكرهم بالمناقب ولوم أعدائهم ومن ثم إظهار الكلام الحزين بصفاتهم الكريمة لا يرجعهم .

فلذا عبر عليه السلام بكلمة شديدة تناسب شدة المصاب ، وتلاءم الحزن المؤلم ، وهو فوق حد التصور.

 

ولكي نتعرف على بعض معاني الإبادة :

 نذكر بعض الآيات والروايات : قال الله تعالى : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ

مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدً (35) } الكهف , صاحب الجنة الكافر دخل جنته يفتخر على صاحبه ويقول ما أعتقد أن تبيد أبدا ،  أي لا تهلك ولا تفنى ولا ينفد ما فيها أبدا ، اغترارا بالنعمة التي مكنه الله بها ، وطال أمله وحسب انه طال أمده ، ولكن الله سبحانه كان له بالمرصاد ، فطاف بها طائف أهلكها كما في تمام الآيات .

وإن الله سبحانه : هو الأزلي القديم والأبدي الدائم ، أي لا يبيد ولا يفنى ولا تتغير عليه الأحوال ، وجاء في الدعاء :

وهو : الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ ، الْمُبِيدُ لِلْأَبَدِ ، وَ الْوَارِثُ لِلْأَمَدِ ، الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَ لَا يَزَالُ ، وَحْدَانِيّاً أَزَلِيّاً ، قَبْلَ بَدْءِ الدُّهُورِ ، وَ بَعْدَ صُرُوفِ الْأُمُورِ .

الَّذِي لَا يَبِيدُ وَ لَا يَنْفَدُ : بِذَلِكَ أَصِفُ رَبِّي ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ عَظِيمٍ مَا أَعْظَمَهُ ، وَ مِنْ جَلِيلٍ مَا أَجَلَّهُ ، وَ مِنْ عَزِيزٍ مَا أَعَزَّهُ ، وَ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبِيراً .

الَّذِي لَا تَنْقُصُ خَزَائِنُهُ :

وَ لَا يَبِيدُ مُلْكُهُ ، وَلَا تَزِيدُهُ كَثْرَةُ الْعَطَاءِ إِلَّا جُوداً وَكَرَماً ، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْوَهَّابُ .

وروي عن الإمام علي عليه السلام : في صاحب مات له ولد رزق آخر فقال له:

عظم الله أجرك فيما أباد ، وبارك لك فيما أفاد .

 و في حديث الحور العين : نحن الخالداتُ فلا نَبِيدُ ، أَي لا نَهْلِكُ و لا نموت.

وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل قال : ....

و ينزل : أمير جيش السفياني ، البيداء ، فينادي مناد من السماء :

 يا بيداء : أبيدي القوم ، فيخسف بهم البيداء ، فلا يفلت منهم إلا ثلاثة ، يحول الله وجوههم في أقفيتهم[83] .

و البيداءَ ، وهي مَفازةٌ بني مَكَّةَ والمدينة مَلساءُ ، وذكر الحديث في أغلب كتب اللغات في مادة بيد . وإن الإمام المهدي هو من ذرية الإمام الحسين عليه السلام ، والسفياني عدوه الأول ، والله ينتصر للحق ولول بعد حين فلا يستعجلوه ، وإنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ، والعلماء والعلم لن يبيد ويبقى أبدا ، أنظر الحديث الآتي عن رسول الله صل الله عليه وآله في آله الكرام وعلمهم الذي لا يبيد .

عن عبد الله بن حسين بن حسن عن أبيه عن الحسن عليه السلام قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال: بعد ما حمد الله ، وأثنى عليه.

معاشر الناس : كأني أدعى فأجيب ، و إني تارك فيكم الثقلين :

كتاب الله : و عترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا .

فتعلموا منهم : و لا تعلموهم ، فإنهم أعلم منكم ، لا تخلو الأرض منهم ، و لو خلت إذا لساخت بأهلها.

 ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم :

اللهم : إني أعلم أن العلم

لا يـبـيـد و لا ينقطع .

و أنك : لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك ، ظاهر ليس بالمطاع ، أو خائف مغمور ، لكيلا تبطل حجتك ، و لا تضل أولياؤك بعد إذ هديتهم .

أولئك : الأقلون عددا ، الأعظمون قدرا عند الله .

قال الإمام الحسن عليه السلام : فلما نزل عن منبره ، قلت :

يا رسول الله : أ ما أنت الحجة على الخلق كلهم ؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم : يا حسن ، إن الله يقول :

 { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ  قَوْمٍ هَادٍ (7)} الرعد .

 فأنا ، المنذر ، و علي : الهادي .

قلت : يا رسول الله ، فقولك : إن الأرض لا تخلو من حجة ؟

قال نعم : علي هو الإمام و الحجة بعدي .

 و أنت : الحجة و الإمام بعده ، و الحسين : الإمام و الحجة بعدك .

 و لقد نبأني اللطيف الخبير :

أنه يخرج : من صلب الحسين غلام ، يقال له : علي ، سمي جده علي ، فإذا مضى الحسين أقام بالأمر بعده علي ابنه ، و هو الحجة و الإمام .

و يخرج الله من صلبه : ولدا سميي ، و أشبه الناس بي ، علمه علمي ، و حكمه حكمي ، هو الإمام و الحجة بعد أبيه .

و يخرج الله تعالى : من صلبه مولودا ، يقال له : جعفر ، أصدق الناس قولا و عملا ، هو الإمام و الحجة بعد أبيه .

و يخرج الله تعالى : من صلب جعفر مولودا ، يقال له : موسى ، سمي موسى بن عمران ، أشد الناس تعبدا ، فهو الإمام و الحجة بعد أبيه .

و يخرج الله تعالى : من صلب موسى ولدا ، يقال له : علي ، معدن علم الله ، و موضع حكمه ، فهو الإمام و الحجة بعد أبيه .

و يخرج الله تعالى : من صلب علي مولودا ، يقال له : محمد ، فهو الإمام و الحجة بعد أبيه .

و يخرج الله تعالى : من صلب محمد مولودا ، يقال له : علي ، فهو الحجة و الإمام بعد أبيه .

و يخرج الله تعالى : من صلب علي مولودا ، يقال له : الحسن ، فهو الإمام و الحجة بعد أبيه .

و يخرج الله تعالى : من صلب الحسن ، الحجة القائم ، إمام شيعته ، و منقذ أوليائه ، يغيب حتى لا يرى ، فيرجع عن أمره ، و يثبت آخرون ، و يقولون : { مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ } .

و لو لم يبق : من الدنيا إلا يوم واحد.

 لطول الله عز و جل : ذلك اليوم ، حتى يخرج قائمنا ، فيملأها قسطا و عدلا ، كما ملئت جورا و ظلما ، فلا تخلو الأرض منكم :

أعطاكم الله : علمي و فهمي .

و لقد : دعوت الله تبارك و تعالى ، أن يجعل العلم و الفقه ، في عقبي و عقب عقبي ، و مزرعي و زرع زرعي [84].

ويا طيب : علم آل محمد عليهم السلام ، لا يبيد أبدا إلى يوم القيامة ، أبدانهم وأعيانهم مفقودة ، وودهم وحبهم وحقائق علومهم في القلوب موجودة .

وإن العقلية عليها السلام : عندها من ذلك العلم الذي لا يبيد وهو بحق مفيد ، يعرف الحق وأهله ، وإنها من هذا البيت الكريم الذي أعطاهم الله فهم وعلم رسول الله ، وبشهادة الإمام أن العقيلة : عالمة غير معلمة وفاهمة غير مفهمة ، وإن أشار لما أباد من أبدانهم ، فعلوم : الحسين وآله عليهم السلام باقية ما بقي الدهر ، وإن غيبت عنا أجسامهم ، لأنهم بادوا على دين النبي ، كما قال :

عبد الله بن مسلم : بن عقيل بن أبي طالب ، وهو أول ما برز من أهل البيت ، وهو يرتجز ويقول[85]:

اليوم ألقى مسلما وهو أبي    و فتية بادو على دين النبي

ليسوا بقوم عرفوا  بالكذب    لكن خيار و كرام النسب

من هاشم السادات أهل الحسب

فهم سادة الوجود : دنيا وآخرة ، سواء كانوا بأرواحهم وأبدانهم في الدنيا ، أو رحلوا عنها وأبادوا أنفسهم من أجل طلب الله في الأخرى ، وهذا سبيل الدنيا كل ما فيها يبيد ويفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، وأنهم يبادون سواء بالقتل أو بالموت الطبيعي، وقد :

قال الإمام علي عليه السلام :  إن الدنيا : تدني الآجال ، و تباعد الآمال .

و تبيد الرجال ، و تغير الأحوال .

من غالبها غلبته ، ومن صارعها صرعته ، و من عصاها أطاعته ، و من تركها أتته .

وقال عليه السلام : وافد الموت يبيد المهل ، و يدني الأجل ، و يقعد الأمل [86].

لا يعجبنك ملكهم إذ ملكوا       فالملك يفنى و النعيم يبيد

و إذا  رأيت  جنازة  محمولة       فاعلم بأنك بعدها مفقود

وعَنِ ابْنِ زِيَادٍ قَالَ :  قَالَ رَجُلٌ لِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام :

يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : إِنَّا خُلِقْنَا لِلْعَجَبِ ! قَالَ عليه السلام : وَ مَا ذَاكَ لِلَّهِ‏ أَنْتَ ؟

 قَالَ : خُلِقْنَا لِلْفَنَاءِ .

فَقَالَ عليه السلام : مَهْ ، يَا ابْنَ أَخٍ ، خُلِقْنَا لِلْبَقَاءِ .

وَ كَيْفَ : تَفْنَى جَنَّةٌ لَا تَبِيدُ ، وَ نَارٌ لَا تَخْمُدُ .

 وَ لَكِنْ قُلْ : إِنَّمَا نَتَحَوَّلُ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ [87].

ويا طيب : إن سكان الجنة هم المؤمنون من أتباع محمد وآله وبالخصوص الشهداء معهم ، وبالخصوص سادتهم وسيدهم سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام ، فإنه وإن أباد في سبيل الله من الدنيا روحه لكنها حية حاضرة شاهدة في عالم الملكوت ، وهو حي يرزق وشهيد في سبيل الله ، يسمع كلامنا ويرى مقامنا ويشهدنا ويشهد لنا بالحق والصدق إن تحققنا معارفه، وتعلمنا وطبقنا هداه ، وهذا المعنى لعمق المصاب الذي حكته العقيلة بخطبتها هو ما حكته من قبل أمها الزهراء عن أبيه صلاة الله عليهم:

قالت فاطمة الزهراء : أم العقيلة زينب ، وجدة الإمام الحسين ، في وفاة رسول الله تنعاه صلى الله عليهم وسلم :

انْقَلَبَتْ بَعْدَكَ : يَا أَبَتَاهْ ، الْأَسْبَابُ ، وَ تَغَلَّقَتْ دُونِيَ الْأَبْوَابُ ، فَأَنَا لِلدُّنْيَا بَعْدَكَ قَالِيَةٌ ، وَ عَلَيْكَ مَا تَرَدَّدَتْ أَنْفَاسِي بَاكِيَةٌ ، لَا يَنْفَدُ شَوْقِي إِلَيْكَ ، وَ لَا حُزْنِي عَلَيْكَ ، ثُمَّ نَادَتْ : يَا أَبَتَاهْ وَا لُبَّاهْ ، ثُمَّ قَالَتْ :

إِنَّ حُزْنِي عَلَيْكَ حُزْنٌ جَدِيدٌ       وَ فُؤَادِي وَ اللَّهِ صَبٌّ عَنِيدٌ

كُلَّ يَوْمٍ  يَزِيدُ  فِيهِ شُجُونِي       وَ اكْتِيَابِي  عَلَيْكَ لَيْسَ يَبِيدُ

جَلَّ خَطْبِي فَبَانَ عَنِّي عَزَائِي       فَبُكَائِي  كُلَّ   وَقْتٍ جَدِيدٌ

إِنَّ قَلْباً عَلَيْكَ يَأْلَفُ  صَبْراً        أَوْ  عَزَاءً     فَإِنَّهُ    لَجَلِيدٌ

ثُمَّ نَادَتْ : يَا أَبَتَاهْ انْقَطَعَتْ بِكَ الدُّنْيَا بِأَنْوَارِهَا ، وَ زَوَتْ زَهْرَتُهَا ، وَ كَانَتْ بِبَهْجَتِكَ زَاهِرَةً ، فَقَدِ اسْوَدَّ نَهَارُهَا ، فَصَارَ يَحْكِي حَنَادِسَهَا رَطْبَهَا وَ يَابِسَهَا .

يَا أَبَتَاهْ : لَا زِلْتُ آسِفَةً عَلَيْكَ إِلَى التَّلَاقِ .

يَا أَبَتَاهْ : زَالَ غَمْضِي مُنْذُ حَقَّ الْفِرَاقُ .

يَا أَبَتَاهْ : مَنْ لِلْأَرَامِلِ وَ الْمَسَاكِينِ ، وَ مَنْ لِلْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .

يَا أَبَتَاهْ : أَمْسَيْنَا بَعْدَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ .

يَا أَبَتَاهْ : أَصْبَحَتِ النَّاسُ عَنَّا مُعْرِضِينَ .

وَ لَقَدْ كُنَّا بِكَ : مُعَظِّمِينَ ، فِي النَّاسِ غَيْرَ مُسْتَضْعَفِي[88] .

فهذا نفسه بأنفاس باكية وشوق حزين حكته العقيلة عليه السلام : بعد شهادة أخيها أبا عبد الله الحسين عليه السلام وآلها ذرية رسول الله الكرام ، وإنه كان مصاب لا يبيد وحزنا عند المؤمنين لا يفند ولا ينقطع ، بل يتجدد ويزيد عن المؤمنين ، وإن بادت وذهبت وانقطعت أعمارهم من الدنيا ، فهم أحياء في العليا ، فإنه بحق جاء في الأثر :

عن ابن سنان : عن جعفر بن محمد عليه السلام قال:

نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إلى الحسين بن علي عليهما السلام ، و هو مقبل ، فأجلسه في حجره ، و قال :

إن لقتل الحسين : حرارة في قلوب المؤمنين ، لا تبرد أبدا .

ثم قال : بأبي قتيل كل عبرة .

قيل : و ما قتيل كل عبرة ، يا ابن رسول الله ؟

قال : لا يذكره مؤمن إلا بكى [89].

ورحمه الله دعبل الخزاعي إذ قال[90] :

هَلَّا  بَكَيْتَ عَلَى  الحسين وَ أَهْلِهِ            هَلَّا  بَكَيْتَ لِمَنْ بَكَاهُ مُحَمَّدٌ

فَلَقَدْ  بَكَتْهُ  فِي  السَّمَاءِ  مَلَائِكٌ            زُهْرٌ  كِرَامٌ  رَاكِعُونَ  وَ  سُجَّدٌ

لَمْ  يَحْفَظُوا   حُبَّ  النبي    مُحَمَّدٍ            إِذْ  جَرَّعُوهُ   حَرَارَةً   مَا  تَبْرُدُ

قَتَلُوا  الحسين  فَأَثْكَلُوهُ    بِسِبْطِهِ            فَالثُّكْلُ مِنْ بَعْدِ الحسين مُبَدَّدٌ

هَذَا  حُسَيْنٌ  بِالسُّيُوفِ   مُبَضَّعٌ            مُتَخَضَّبٌ   بِدِمَائِهِ  مُسْتَشْهِدٌ

عَارٍ بِلَا  ثَوْبٍ  صَرِيعٌ  فِي  الثَّرَى            بَيْنَ الْحَوَافِرِ وَ السَّنَابِكِ يُقْصَدُ

كَيْفَ الْقَرَارُ وَ فِي  السَّبَايَا زينب             تَدْعُو  بِفَرْطِ  حَرَارَةٍ  يَا  أَحْمَدُ

يَا جَدِّ إِنَّ الْكَلْبَ  يَشْرَبُ  آمِناً             رَيّاً وَ نَحْنُ  عَنِ  الْفُرَاتِ  نُطْرَدُ

يَا جَدِّ مِنْ ثَكْلِي وَطُولِ مُصِيبَتِي            وَ لِمَا   أُعَايِنُهُ   أَقُومُ  وَ أَقْعُدُ

يا طيب : هذا الحزن المؤبد أظهرت العقيلة في خطبتها وكلامها الذي كان كله بكاء وحنين ، حتى أبكى القلوب الصخر من أعدائهم ، ممن جاء يشهد حال آل محمد عليهم السلام ، وقد عبر عنه الإمام زين العابدين عمق الحزن بجملة مؤلمة : إن الحنين والبكاء لا يردان من قد أباده الدهر ، وإن عرفنا معنى الإبادة ، فلنتعرف معنى الدهر :

 

 

 

الــدهــــر :

الدهر : هو الأبد الممدود الغير محدد ، و الدهر : الزمان الطويل ، و مدة الحياة الدنيا ، و دهر النجم : حين خلق الله النجوم ، تريد في أول الزمان وفي القديم . ومضت دهور دهارير : طوال . والحقبة : زمان من الدهر لا وقت له، والحين : قطعة من الدهر ، والسبت : برهة من الدهر ، والعصر : جزء من الدهر ، وعلى ما في بالي في كتاب القبسات للسيد الداماد رحمه الله : الدهر : زمان الملكوت ، والليالي والأيام زمان الدنيا ، ويا طيب يمكن أن يقال : الدهر : ألف سنة في الملكوت ، وخمسين ألف سنة في الجبروت ، وقال في التعريفات :  الدهر : هو الآن الدائم الذي هو امتداد الحضرة الإلهية ، وهو باطن الزمان ، وبه يتحد الأزل والأبد [91].

وقال في معجم الفروق اللغوية :

الفرق بين الدهر والأبد : أن الدهر أوقات متوالية مختلفة غير متناهية ، وهو في المستقبل خلاف قط في الماضي ، وقوله عز وجل : { خالدين فيها أبدا} حقيقة .

و الفرق بين الدهر والزمان : هما في اللغة مترادفان ، وهما المدة والوقت ، ويعرف مقدار الوقت أو الحالات الواقعة فيه بما يتبعه من الكلام والقرائن .

وقيل : الدهر : طائفة من الزمان غير محدودة ، والزمان : مرور الليالي والأيام .

وقال الأزهري : الدهر : عند العرب يطلق على الزمان ، وعلى الفصل من فصول السنة ، وعلى أقل من ذلك ، ويقع على مدة الدنيا كلها .

وعند المتكلمين : الزمان عبارة عن متجدد معلوم يقدر به متجدد آخر موهوم .

قالوا: وسمعت غير واحد من العرب يقول: أقمنا على ماء كذا دهرا ، وهذا المرعى يكفينا دهرا . وقالوا : إطلاق الدهر على الزمن القليل من باب المجاز والاتساع في معناه .

يا طيب : من محاسن اللغة العربية ، هو وقوع الكناية والمجاز فيها بكثرة ، وبها يرتقي اللفظ لمناحي البلاغة ، ويرتفع لمعاني جوامع الكلم ، فيحسن أسلوب الكلام ، ويبدع التعبير ، فتستسيغه الأنفس الطيبة والأذواق السلمية والأرواح اللطيفة ، فتصغي إليه ، وتظهر الاهتمام به ، فيقع الكلام نافعا مفيدا مريحا مفرحا مستحسنا مشكورا.

والدهر : وقع في بديع الكلام، وتحسين القول، على نحو الأمثلة والكناية والمجاز ، بما لم تقع كلمة أخرى مثله ، فدار في الكلام بكثرة ، وبالخصوص حين يتحدثون عن تقلب أحوال الزمان وتغيره على أهله ، وتصرفه بالحوادث النافعة والضارة ، وتقلب الزمان بين العسر واليسر ، فدخل في الكلام يعبر عن تغير الأحوال بما لم يقع غيره في التعبير عنها، فكان أشبة بالمنقول معناه من مطلق الزمان الغير مقدر، إلى زمان مع حادثة.

 ولنتعرف على الدهر : ودخوله في الكلام المعبر عن حوادث الزمان ، وهو إما بنحو الضيق والشدة والنكبات أو الفسحة والسعة واليسر ، وما يجب علينا من الصبر والشكر فيه ،  نذكر بعض ما ذكر في كتب اللغة ثم نتبعه بما ذكر في الشعر والحديث :

 

قالوا في تغير الدهر وتحوله للعسر :

الدهر : بالإنسان دواري ،  رأيت الدهر ذا دوائر ، صروف الدهر متماديه ، ونوائبه متعاديه ؛ أي متوالية ،  و الدهر : النازلة ، والدهر : ذو عجاريف والدنيا ذات تصاريف ، العجرف العقد ، والناقلة : من نواقل الدهر ، تنقل قوما من حال إلى حال.

 ريب الدهر : أي حوادث  يشك في الخلاص منها ، لأنه يرتاب فيها .

وفوادح الدهر : خطوبه ،  و عبث به الدهر : كناية عن تقلبه ، يقال : دهر فلانا أمر : إذا أصابه مكروه ، و دهرهم أمر : نزل بهم مكروه أصابهم به الدهر ، وهم مدهور بهم ومدهورون ، و دهر بهم أمر : نزل بهم .

 أزم الدهر علينا : ضيق وصرنا في أزمة في زماننا أو زمان ما ، أصابتهم دواعي الدهر : صروفه ، نزلت به حوادث الدهر وأحداثه ، ودهر خبل : ملتو على أهله فاسد ، وقد وقع الدهر بالناس ، والواقعة : النازلة الشديدة من صروف الدهر ، ودواعي الدهر: صروفه ،  أصاب القوم داهية من حبض الدهر: أي من ضرباته .

ونزلت به زعازع الدهر ، وأصابته زلازل الدهر ، وطمحات الدهر : شدائده ومصائبة وضيق عليه فجعله في هذه الحالة . دهره : أي نكبه الدهر وأصابه بمكروهه فجزع لذلك ، جلبته جوالب الدهر : وهذا مما يجلب الأحزان ، الدهر يتجهم الكرام ، كثرت دواهي الدهر: أي يضيق عليهم ويستقبلهم بوجه صعبة مكفهر بما لا يحبون .

عوائق الدهر : أي أخرتني عائقة منه  وأصابته نواقل الدهر : نوائبه التي تنقل من حال إلى حال ، وزلت به وقعة من وقعات الدهر ، وأصابتهم من الدهر نكراء : شدة .

  عضته أنياب الدهر ونيوبه : نشب به ما ساءه ، وهو الدهر فاجئ بشر فاجع ،  وأصابته فاقعة من فواقع الدهر : وهي بوائقه ،  وأصابته قارعة : من قوارع الدهر ،  وأصابته ملمة من ملمات الدهر : نازلة من نوازله ، وألوى بهم الدهر واستلوى بهم : أعتاص وتغير وتلوى عليهم ، و أملق الدهر ماله : أذهبه وأخرجه من يده.

و قولهم : أصبحنا في دهر عنود أهله ، ونزلت به فاجعة من فواجع الدهر.

 

ويعبر عن الدهر : حين يصيب بالفناء والموت والهلاك :

وأتى عليهم الدهر: أفناهم. واجتحفهم وأجحف بهم  الدهر : استأصلهم .

أخنى عليهم الدهر : بلغ منهم بشدائده وأهلكهم .

اخترمهم الدهر وتخرمهم : أتى عليهم وخرقهم ولم يبقي منهم شيء .

 عصف بهم الدهر : ذهب بهم كالريح الشديدة .

 وعاد عليهم الدهر : أتى عليهم ، أبادهم الدهر : أفناهم بالموت .

وهذا ما عبر عنه الإمام زين العابدين عليه السلام : فعرف العقيلة بأنه مرت الأيام والليالي عليهم فلم يبقى منهم أحد فأباد وأقحل أبدانهم من نفوسهم ، وإن كانوا هم بأرواحهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

 

 

ويقال : في تصرف الدهر بأهله بالأحوال المختلفة الأخرى :

يا طيب : في الدهر ، قالوا كلمات كثيرة تصب في معاني أخرى تعبر عن تصرف الدهر والاستعداد له ، وفي غير ما يشمل شدائده وضيقه ، بل هي في يسره بدل عسره ، أو أمورا أخرى ، فنذكر قسما مما قيل في متفرقات الدهر :

إن قعد الدهر فقم إليه . لا آتيك دهر الداهرين أي أبدا.

ومن المجاز : ما ذاك بدهري ، و ما دهري بكذا و ما دهري كذا ، أي ما همي و غايتي ، أو عادتي بهذا الأمر ولا يهمني شأنه ، قال متمم بن نويرة :

لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزعا مما أصاب فأوجعا

 حلب فلان الدهر أشطره : أي اختبر ضروبه من خيره وشره ومرت عليه صروفه.

ويقال : ورشوت الدهر صبرا حتى قضى لي عليكم .

وصبرت على خطوب الدهر : أي حبست النفس عن الجزع عندها.

تغطيت : من الدهر ، بفضل جناحك.

وهزم عني معروفك نوائب الدهر ، لولا أنتم لأهلكني الدهر .

أبقت لن : وقعات الدهر مكرمة .

وقال الاصمي : ذم أعرابي رجلا ، فقال : هو أكثر ذنوبا من الدهر .

رجل دهري : قديم ، وهو يقاسي خطوب الدهر ، مضت عليه أدهر ودهور .

وتقول : وكلأك الله من نواطح الدهر: من شدائده .

وقالوا يا طيب : إن الدهر : داهر ، ودهارير أي جمع الدُّهُور ، وأرادَوا أن :

الدَّهْرَ : ذُو حالَينِ بُؤْس ونُعْمٍ .

يا طيب : هذه أمثال العرب ، وما يستخدمون من المجاز ، والكناية ، في كلمة الدهر ومعناها المراد به أهل الدهر ، وقد كتبنا بها رسالة باسم : صحيفة الدهر ، ذكرنا فيها كثير من أحوال تقلب الدهر والزمان على أهله وتغيره عليهم بأحواله ، أسأل الله تمامها، ونذكر قسم مما جاء فيها ومن أراد المزيد فليراجعها في موسوعة صحف الطيبين.

 

 

وأما معنى الدهر : في الكلام والأمثال والحديث :

يا طيب : لما كان معنى الدهر ودخوله في لغة العرب واسع المعنى أمثالا وكناية ومجازا وتبكيتا وترغيبا وتحذيرا وعبرة واعتبارا وموعظة ، وتحسينا للكلام حتى يخرج بليغ المعنى واسع المنحى مفيد مؤثر ، ترى الدهر دخل في كثير من كلام العرب وشعرهم وأمثالهم، و في الحديث ، وهم يعتبون على الدهر ويريدون به أهله أو يحكون به عن سنن الله في الطبيعة وتحويل وتدوير الزمان على أهله في كل مدة، وإلا ما العتب على الزمان وصروف الأيام بدون أهلها أو ما يجري فيه من الوقائع والأحداث ، وهو مثل قول الله تعالى :

{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا  فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) } يوسف .

وإن القرية : لا تتكلم وهم يقصدون أسأل أهل القرية ، وكذلك العير : وهي الجمال المحملة لا تتكلم ، ولكن من ركبها وأهلها يتكلمون فيصدقوهم إن سأل يعقوب عليه السلام ما فعل ببنيامين أخي يوسف ، وبأنه وجد صاع الملك في رحله .

وهنا العتاب : على أهل الدهر ، وإلا الدهر بما هو لا يكون ذو معتب ، والأيام والليالي لا نفس متكلم لها ولا روح ناطقة ، إلا حين يعرف ما جرى على أهلها من تقلب الأحوال شدة وضعف وعسر ويسر ، أو نعيم ورخاء أو شدة وبأساء ، أو أعمار وبناء أو موت وفناء ، ويعبر بها بحوادث الدهر ، فيقال فعل الدهر كذا ، أو أصابهم في الدهر كذا ، فيحسن مجاز الكلام ، وهو بلاغة مرغوب فيها ، ينطق بها كل من يحب أن يجعل كلامه مؤثر في العباد ، ويستعملها كل من كان يرغب ببديع البيان ومعاني السداد.

وأهل البيت عليهم السلام : هم من سن البلاغة للعرب ، وبالخصوص في النثر ، ويشهد لهم نهج البلاغة ، وما ترى من كلامهم ، وعلى هذا قد تبعهم أصحابهم ، فجاروهم بنسبة أمور للدهر له ليعرف أن الله سبحانه يختبر عباده ويداول الأيام بين الناس كما قال تعالى :

{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)

 إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ  فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ

وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ   وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ

وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء   وَاللّهُ لاَ  يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ  الَّذِينَ جَاهَدُو مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)

وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ  رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143)

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ  انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}آل عمران. 

فالله سبحانه: يداول الأيام والدهور، ليظهر من يثبت على الحق ويدافع عنه، وإن استلزم الأمر أن يبيد روحه عن بدنه من أجله، ويذهب نفسه عن جسده في سبيله، وإن عبر عن الدهر ليعرف مجرياته ولم ينسب الأمر لله ، لكي لا يتوهم أن الله يريد بهم الفناء بدون سبب والحزن والمصائب والآلام والقتل من غير علة ، فإن الله تعالى يختبر عباده ويمحصهم ويمتحنهم ، المؤمن بالكافر والحق بالباطل ، فيحتكون ويتقاتلون فمن كان في سبيل الله فله نعم الجنة ورضا الله والحسنى ، ومن ظلم فله عذاب الله ونار لا تطفئ .

ويا طيب : إن الله يوم كربلاء وما جرى على آل محمد عليهم السلام ، قد عرف بحق ليس عند الله فقط ، فإن الله عالم وهو خالق العلم وكل شيء ، ولكنه ليعلمنا على طول التأريخ وإلى يوم القيامة ، من هم أهل الحق والهدى والدين المرضي له ، ومن هم الصادقون الطاهرون الذين لا يرضوا بظلم العدوان والجور والضلال  ومن هم المدافعون عن حريم دينه حتى ولو بذهاب أرواحهم إليه ، فيتخذهم شهداء وأئمة وهداة وولاة لأمره، فيجب على الناسب حبهم وودهم وأتباعهم وطاعتهم  وأنه يجب أن يرفض أعدائهم وظالميهم وتعاليمهم وكل من أفتى على بلاط الطغاة والكافرون بأنعمه.

وقد قال الإمام الصادق عليه السلام : لما أدخل علي بن الحسين عليه السلام ، على يزيد نظر إليه ، ثم قال : يا علي بن الحسين :

{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ  فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)} الشورى.

فقال علي بن الحسين عليه السلام : كلا ما فينا هذه نزلت .

 و إنما نزلت فينا : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ  فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ

إِلَّا  فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)

 لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا  آتَاكُمْ

وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} الحديد .

 فنحن الذين : لا نأسو على ما فاتنا من أمر الدنيا ، و لا نفرح بما أوتينا[92] .

يا طيب : كان بإمكان الإمام زين العابدين عليه السلام ، أن يقول ليزيد صحيح أن الآية التي قرءها يزيد ، حقيقة نزلت فيهم وهم أعلى وأتم مصداق لها ، وإن :

{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ  فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)} الشورى.

بأنهم هم اختاروا : القتال حتى الشهادة والسبي ، وكان بإمكانهم أن يسلموا للظلم والطغيان ويرضون بالجور والعدوان ، ويرتكبوا الضلال والفجور كما أراد يزيد ، ولكنهم عليهم السلام قاوموا وثاروا وأفنوا أنفسهم من أجل تعريف الحق ورفض الظلم والضلال ، وإن المصائب عليهم هي التي أجرها يزيد ومن تبعه وهم أهل ضلال ظالمين لآل محمد عليهم السلام ، ويقول له : إن الله عفى عني لم يقتلني معهم ، فيتم ليزيد ما يريد وتجري الشبهة للأبد على كل من لم يعرف آداب الدين ومعالي سنن هدى رب العالمين .

فتجاوز الإمام عن كل هذا : بآية كريمة تعرفنا بأن الله يجري المصائب والمحن ويأخذ بالبأساء والضراء ليختبر عباده ، ويداول الأيام ليمحصهم ، ويظهر بحق من يطيع الحق والهدى ويرفض الظلم والعدوان  ويضحي بكل وجوده في سبيله ، فقال عليه السلام:

{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ  فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ  

إِلَّا  فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا  آتَاكُمْ  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} الحديد .

فعرف الإمام السجاد عليه السلام : بأن لله سنن وأحكام تجري بما أراد ، والله يختبر العباد جميعهم ليظهر المخلص منهم ، ممن لا يأسى على ما فته ولا يفرح ويبطر بما أتى ، كما كان يزيد يفتخر بباطله وظلمه على آل محمد كما ستراه في محاوراته معه .

ونفس هذا الأسلوب : استخدمه الإمام زين العابدين عليه السلام مع عمته زينب عليه السلام ، فإنه في حين أنه عرفها وعرف كل العباد ممن يحب الدين ويقرأ تأريخه ويستمع لأخباره ، بأنها عرفت الحق وأظهرت كل تفاصيله بصدق لأنها واقعا عالمة غير معلمة وفاهمة غير مفهمة ، وإن أهل الدهر وهم أهل الكوفة وحكامهم يزيد وأبن زياد ومن تبعهم قد اعتدوا على آل محمد عليهم السلام فقتلوهم وسبوا حريم رسول الله ولم يعتنوا بحرمة أهل دين الله وآل خاتم النبيين وسيد المرسلين ، فقال عليه السلام :

أن الحنين والبكاء لا يردان من قد أباد الدهر .

فألقى اللائمة : على أهل الكوفة وحكامهم ، كما يفهمها كل أهل اللغة ومن يعرف بديع الكلام وحسن الكناية في البلاغة وجمال المجاز في التعبير ، ولو قال عليه السلام أبادهم الله ، لكان قد أقر ليزيد وأبن زياد ولأهل الكوفة ظلمهم وقتلهم ، ولعذر أهل الكوفة ، ولشبه على الناس حقائق الدين والهدى ، ولما ظهر فضلهم ، وللامهم الناس بدل من الانتصار لهم ، ولعاتبهم أهل الزمان بدل من الحزن والتألم لمصابهم ، ولما تبعهم أحد ، ولكنه قال بأسلوب بديع ، كما قال الإمام الحسين عليه السلام :

ألا و إن الدعي ابن الدعي : قد ركز منا بين اثنتين :

 بين السلة و الذلة ، و هيهات منا الدنيئة .

  يأبى الله ذلك : و رسوله و المؤمنون .

و جدود طهرت  وحجور طابت .

و أنوف حمية ، و نفوس أبية .

و أن نؤثر : طاعة اللئام على مصارع الكرام‏ .

ألا وإني زاحف : بهذه الأسرة ، مع قلة العدد ، وكثرة العدو ، وخذلة الناصر[93].

ومع قلت الناصر أبادهم أهل الدهر ، ولنتعرف على معاني الدهر نتدبر معانيه :

 

 

وأما الدهر في الشعر العربي :

يا طيب : كثر لفظ الدهر في الشعر العربي فنذكر هنا قسما من الشعر الذي جاءت فيه كلمة الدهر ، لنعرف كثرة استخدم لفظة الدهر ومعناه في اللغة ، وأنه يعبر به عما يقع فيه من الحوادث المتغيرة بالعباد سواء حزن أو عسر أو شر وبؤس أو ضراء ، أو فرح ويسر وخير وكرامة ، وكيف يجب التحرز منه أو الصبر على نوائبه بعد حلوله ، أو الشكر مع نعيمه ، أو غيرها من الأغراض التي تعرف تحوله وتغيره وتقلبه ، وخير من ذكر الدهر وعرفه ، هو شعر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثم نذكر بعض تعريف آله الكرام ، ولمعرفة مطلق ما ورد في اللغة راجع صحيفة الدهر في الموسوعة ، فقال عليه السلام:

الدهر يخنق  أحيانا  قلادته            عليك لا تضطرب فيه و لا تثب‏

حتى يفرجها في حال مدتها            فقد يزيد اختناقا  كل  مضطرب‏

وقال عليه السلام :

إني أقول لنفسي و هي ضيقة            و  قد أتاح  عليها  الدهر  بالعجب‏

صبرا  على شدة الأيام إن لها            عقبى وما الصبر إلا عند ذي الحسب‏

سيفتح  الله عن قرب  بنافعة            فيها   لمثلك   راحات   من   التعب‏

وهذا الشعر : يقارب إن لم نقل عين ما قاله الإمام زين العابدين عليه السلام يصبر به عمته العقيلة زينب عليه السلام ، لعله الله يفرج عنهم العسر من الأسر ، بعد فنا رجالهم وبادت أجسادهم من أرواحهم وفرغت منها .

وقال الإمام علي عليه السلام :

أمر  على رسم  القريب  كأنما            أمر  على   رسم   امرئ   ما  أناسبه‏

فو الله لو لا  إنني  كل  ساعة            إذا شئت لاقيت  امرأ  مات  صاحبه‏

إذا ما اعتريت الدهر عنه بحيلة            تجدد    حزنا    كل     يوم   نوادبه‏

وقال عليه السلام :

و ما الدهر  و الأيام إلا كما ترى            رزية مال أو فراق حبيب‏

و إن امرأ قد جرب الدهر لم يخف            تقلب  حاليه لغير لبيب‏

ويا طيب : لو تطبق كلام أمير المؤمنين عليه السلام على كلام سبطه زين العابدين لرأيت المنبع والرافد واحد ، وهم يحكون صروف الأيام وتغيرها ، وأن الفراق للأحبة بتقلب الدهر حاصل ، فالصبر أحجا ، وترك الكلام مع من لا يفهم ولا ينفعه أولى .

وقال أمير المؤمنين عليه السلام :

و لا خير في الشكوى إلى غير مشتك       و لا بد من شكوى إذا لم يكن صبر

أ لم  تر  أن  البحر   ينضب    ماؤه         و  يأتي  على  حيتانه  نؤب  الدهر

وقال عليه السلام :

إن كنت تطلب  رتبة  الأشراف            فعليك بالإحسان و الإنصاف‏

و إذا اعتدى أحد عليك فخله            و الدهر فهو له  مكاف  كاف‏

فالإمام يقول للعقيلة : الشكوى لأهل الكوفة لا تنفع ، ولكن كما قالت لهم العقيلة : إن الله لهم بالمرصاد ، وإن الدهر بتقلبه عليهم مكافئ كافي لهم ، كما عرفت وأنظر تاريخهم ، فإن بكائهم بكاء لئيم لم يكن من قلوب سليمة، والله قد يمهل الظالمين ولم يهمل كما عرفت، فلا تنفع الشكوى بل الصبر وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام:

و احذر  ذوي  الملق  اللئام   فإنهم            في  النائبات  عليك  ممن  يحطب‏

يسعون حول المرء  ما  طمعوا   به            و  إذا  نبا  دهر   جفوا  و  تغيبوا

و لقد نصحتك إن قبلت نصيحتي            و النصح أرخص ما يباع و يوهب‏

وقال عليه السلام :

أرى حمرا ترعى و  تعلف  ما  تهوى      و أسدا  جياعا  تظمأ الدهر ما تروى‏

و أشراف  قوم  ما  ينالون    قوتهم        و قوما لئاما  تأكل  المن و السلوى‏

قضاء   لخلاق    الخلائق    سابق       و ليس على  رد القضاء  أحد  تقوى‏

و من عرف الدهر  الخئون و صرفه       تصبر  للبلوى و لم يظهر  الشكوى‏

 

وأما الدهر في شعر أهل البيت عليهم السلام وعند أنصارهم فهو :

يا طيب : قد ذكرنا قسم من شعر أمير المؤمنين عليه السلام في الدهر ، ولمعرفة المزيد راجع صحيفة الدهر ، وهنا نذكر بعض الشعر الذي ورد عن أهل البيت أو فيه ذكرهم عليهم السلام ، وفيه كلمة الدهر ، لنعرف تقلبه فيهم وعليهم ، وعدم وفاء أهله لهم ، بل أنحى عليهم كما دار على غيرهم ، وبالتدبر بالشعر تعرف معاني كريمة يحكوها عن تقلبه عليهم ، وإن شدائدهم ومصائبهم ومصاعبهم ، كلها لحسد الناس لهم وعدم معرفة حقهم وما أوجب الله لهم ، وإنهم نالوا من قومهم الأمرين بسبب طلبهم منهم التدين والعمل بالهدى الإلهي ، ولكن لم يقبلوا منهم ، كأنهم حين نهيهم عن الضلال والظلم والجور والعدوان والفسق والفجور ، يقتلون ذواتهم وحقائق وجودهم الفاسق ، فيعدون عليهم بالقتل ، فهم في دهر أهله عنود لهم ، ولنعرف بعض ما نال آل محمد عليهم السلام ، نتدبر ما جاء في الشعر من كلمة الدهر وكيف جار أهل أيامه عليهم:

في المناقب : قال علي بن الحسين عليه السلام :

 إني لجالس : في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها ، و كان يقول :

يا دهر أف لك من خليل            كم لك بالإشراق و الأصيل‏

من صاحب و طالب قتيل            و الدهر  لا  يقنع  بالبديل‏

و  إنما  الأمر إلى الجليل            و كل  حي   سالك  سبيل‏

ما أقرب الوعد من الرحيل‏

قالت زينب : كأنك تخبر أنك تغصب نفسك اغتصابا .

فقال عليه السلام  : لو ترك القطاة ليلا لنام‏ .

وفي اللهوف قال : قال الراوي : فسمعت زينب بنت فاطمة عليه السلام ذلك ، فقالت : يا أخي : هذا كلام من أيقن بالقتل ؟

فقال عليه السلام :  نعم يا أختاه .

فقالت زينب : وا ثكلاه ينعى الحسين إليَّ نفسه ، قال : و بكى النسوة ، و لطمن الخدود ، و شققن الجيوب ، و جعلت أم كلثوم : تنادي وا محمداه ، وا علياه ، وا أماه وا أخاه وا حسيناه ، وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله .

قال : فعزاها الحسين عليه السلام ، و قال له : يا أختاه ، تعزى بعزاء الله ، فإن سكان السماوات يفنون ، و أهل الأرض كلهم يموتون ، و جميع البرية يهلكون ...[94].

و لبعض الموصليين رحمه الله [95] :

حر صدري و اشتياقي فالأسى            و احتراقي و اكتئابي و  الحرب‏

لابنة  الهادي  الرضي   فاطمة            حقها   بعد   أبيها   يغتصب‏

بل  لما   نال    بني    فاطمة            من بني الطمث الملاعين العيب‏

يا لقومي  ما أتى الدهر بهم            من خطوب مفظعات و نوب‏

وقال الأصمعي : كنت بالبادية ، و إذا أنا بشاب منعزل عنهم في أطمار رثة ، و عليه سيماء الهيبة .

 فقلت : لو شكوت إلى هؤلاء حالك ، لأصلحوا بعض شأنك ، فأنشأ يقول :

لباسي   للدنيا   التجمل   و  الصبر            و لبسي   للأخرى   البشاشة  و البشر

إذا  اعترني   أمر   لجأت  إلى   العرا            لأني   من   القوم    الذين  لهم   فخر

أ لم تر أن  العرف  قد  مات   أهله            و أن   الندى   و   الجود  ضمهما قبر

على العرف و الجود السلام فما بقي            من العرف إلا الرسم في الناس  و الذكر

و  قائلة    لما     رأتني      مسهدا            كأن    الحشى  مني   يلذعها    الجمر

أباطن  داء   لو  حوى  منك ظاهرا            لقلت الذي بي ضاق عن وسعه الصدر

تغير      أحوال    و  فقد    أحبة        و موت ذوي  الإفضال قالت كذا الدهر

فتعرفته : فإذا هو علي بن الحسين عليه السلام :

 فقلت : أبى أن يكون هذا الفرخ ، إلا من ذلك العش [96].

وهذا يا طيب : عين ما حكاه الإمام من قبل لعمته عليه السلام ، فهو بكلمات تعبر عن عظيم الحزن وعميق المأساة ، عرف عمته : بأنها مع علمها النافذ وفهمها الوارد وتفهيمها للحق فلم تترك لهم شيء مما يستحق من البيان في تعريف حقهم ومصابهم وما أجراه أهل الكوفة عليهم وهم أهل زمانهم ودهرهم ، حتى كان بأيديهم تغير الأحوال و أبادوا روح آلها من أبدانهم فتركتها خالية من بث العلم بالكلام ، وإن بثوه بكل وجودهم لكل الأنام ، ففقد الأحبة وموت ذوي الأفضال أشد مصاعب الدهر وضيقه كما عرفت في كلامه وشعره، وقال دعبل الخزاعي رحمه الله في أهل البيت عليهم السلام[97] :

لا أضحك الله سن الدهر إن ضحكت     وآل أحمد مظلومون قد قهروا

مشردون     نفوا   عن   عقر    دارهم     كأنهم  قد جنوا  ما ليس يغتفر

ويا طيب : هكذا أخذ يذكر تصرف الدهر وأهله بآل محمد شيعتهم في شعرهم وكلماتهم ، ويعتبون على الدهر ويراد به أهله ، وإلا ما العتب على الدهر بدون أهله :

وعن الورد بن كميت : عن أبيه الكميت بن أبي المستهل ، قال :

دخلت : على سيدي أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام ، فقلت :

يا ابن رسول الله : إني قد قلت فيكم أبياتا أ فتأذن لي في إنشادها ؟

فقال: إنها أيام البيض ، قلت : فهو فيكم خاصة. قال : هات، فأنشأت أقول :

أضحكني الدهر وأبكاني    والدهر ذو صرف وألوان

لتسعة بالطف قد غودروا   صاروا جميعا رهن أكفان

فبكى أبو عبد الله عليه السلام : وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء ، فلما بلغت إلى قولي :

وستة لا يتجازى بهم     بنو عقيل خير فرسان

ثم علي  الخير مولاهم    ذكرهم  هيج   أحزاني

فبكى ثم قال عليه السلام: ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده ، يخرج من عينيه ماء ولو مثل جناح البعوضة ، إلا بني الله له بيتا في الجنة ، وجعل ذلك الدمع حجابا بينه وبين النار ، فلما بلغت إلى قولي :

من كان مسرورا بما مسكم    أو شامتا يوما من الآن

فقد  ذللتم  بعد  عز  فما   أدفع ضيما حين يغشاني

أخذ بيدي ثم قال: اللهم اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلما بغلت إلى قولي : 

 متى يقوم الحق فيكم متى   يقوم  مهديكم  الثاني

قال عليه السلام : سريعا إن شاء الله سريعا .

 ثم قال: يا أبا المستهل ، إن قائمنا هو التاسع من ولد الحسين عليه السلام، لأن الـأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله اثنا عشر، الثاني عشر هو القائم عليه السلام .

 قلت : يا سيدي فمن هؤلاء الاثنان عشر ؟

قال : أولهم : علي بن أبي طالب عليه السلام، بعده : الحسن والحسين عليهما السلام،  وبعد الحسين : علي بن الحسين عليه السلام،  وأنا ، ثم بعدي هذا ، و وضع يده على كتف جعفر . قلت : فمن بعد هذا ؟

قال عليه السلام : ابنه موسى، ، وبعد موسى ابنه علي ، وبعد علي بنه محمد ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي بنه الحسن .

 و هو أبو القائم : الذي يخرج فيملا الدنيا قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا ،  ويشفي صدور شيعتنا .  قلت : فمتى يخرج يا ابن رسول الله ؟

 قال : لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك ، فقال :

إنما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلا بغتة[98] .

 

 

الدهر في أحاديث أهل البيت عليهم السلام :

ويا طيب : خير من يعرف الدهر ، وأحواله وتغيره وتقلبه ، وما يجري فيه ، وكيف يتم الحذر منه وتوقيه ، أو ما يجب عليه العمل في السراء والضراء والعسر واليسر في تحول أحواله ، هو أحاديث مولى الموحدين أمير المؤمنين الإمام علي في الدهر وتعريفه ، حيث قال عليه السلام :

قد أصبحن : في زمان عنود ، و دهر كنود  ، يعد فيه : المحسن مسيئا ، و يزداد الظالم فيه عتوا .

هدر فنيق الباطل : بعد كظوم ، و صال الدهر : صيال السبع العقور .

الدهر : يخلق الأبدان ، و يجدد الآمال ، و يدني المنية ، و يباعد الأمنية.

الدهر : يومان ، يوم لك و يوم عليك .

 فإذا كان لك : فلا تبطر ، و إذا كان عليك : فاصطبر [99].

يا طيب : كان آخر دهر الإمام الحسين عليه السلام وزمانه دهر عنود كنود تنكر الناس لحقهم بشدة بعد أن كادوا أن يعترفوا لهم ، بل بايعوهم ونكثوا كما عرفت ، ثم ازدادوا طغيانا وعتوا فقتلوهم وسبوهم وهدر باطل أهل الكوفة فأبطل أرواح آل محمد من أبدانهم  ورفع أنفسهم لملكوت الله سبحانه ، وصال عليهم صولة سبع عقور ضاري لا رحمة له، فأحنى عليهم أهل دهرهم بما أخلق أبدانهم بل آبادها لا أمل يجدد ومنية محققة.

  وبعد ما كان آل محمد عليهم السلام : يعدون سادة أهل الوجود ولهم في زمن الرسول بل فترة من دهر الإمام علي عليه السلام حكومة المسلمين وممارسة خلافة الله علما وعملا وحكومة ، تحولوا من كانوا يحكموهم عليهم وأصبحوا يساقون قتلى وأسرى بين أيديهم ، ولهذا قال الإمام زين العابدين لعمته ، بأن الحنين والبكاء لا ينفع لمن أباده أهل الدهر العنود وتحوله عليهم ، وبحق قال من قبل الإمام علي عليه السلام :

يعرف تحول الدهر وتغير أحواله على الكل شريفهم وغيره :

ما قال الناس : لشيء طوبى ، إلا و قد خبأ له الدهر يوم سوء .

إن الدهر : يجري بالباقين كجريه بالماضين ، ما يعود ما قد ولى ، و لا يبقى سرمدا ما فيه ، آخر فعاله : كأوله ، متسابقة أموره ، متظاهرة أعلامه .

 لا ينفك مصاحبة : منو فناء ، و سلب و حرب [100].

وإن آل محمد عليهم السلام : أكرم وأشرف وأطيب خلق الله ، كان لهم من الدهر يوم سوء لم يسمع بمثله ، وجرى عليهم ما لا يعود ، بعد أن أنفتق عليهم بمصائب الدهر ، فجعل منيتهم على يد أتعس أعداء الله وأفنى سيد شباب أهل الجنة في حرب وسلب آله الكرام .

 حتى صار بهم يعرف حقائق الدهر وتقلبه وإنقلاب أهله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولا شيء ينفع إلا الصبر.

، ولذا قال أمير المؤمنين من قبل : الدهر : ذو حالتين : إبادة و إفادة ، فما أباده : فلا رجعة له،  وما أفاده فلا بقاء له .

الصبر : أعون شي‏ء على الدهر [101].

كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول :إنما الدهر : ثلاثة أيام ، أنت فيما بينهن :

مضى أمس : بما فيه فلا يرجع أبدا .. و أنت في يومك : الذي أصبحت فيه ... ، ومن غد : في غرة و لا تدري لعلك لا تبلغه ..... فاعمل عمل رجل:  ليس يأمل من الأيام إلا يومه الذي أصبح فيه و ليلته ، فاعمل أو دع و الله المعين على ذلك [102].

وهذا التعريف للدهر : عين ما قاله الإمام زين العابدين عليه السلام ما أباد من أهلهم الدهر لا رجعة له ، وإن الصبر هو عونهم على الدهر فطالب عمته عليه السلام بالسكوت ، فإنها نطقت بالحق ولم ينفع من لا يفهم ، وإن الدهر أنزلهم بما ذكرت.

 

 

بعض جريان تحول الدهر على آل محمد عليهم السلام في كلامهم :

يا طيب : عرفنا كلام الإمام الحسين عليه السلام في أول الشعر فيهم ، وكلام زين العابدين عليه السلام في الدهر وجريانه عليهم بأصعب تغير وأشد تحول وأسوء انقلاب، ونذكر هنا الدهر في جريانه على آل محمد بكلام أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليه السلام ، لتعرف تحول أهله وتغيرهم وانقلابهم عن آل الرسول بل عن دينهم وهداهم ولم يحفظوا هداهم ولم يرعوا لهم حرمة ، حتى أنزلوهم وساووهم بما لا يمكن أن يتصور أن يقاس بهم، بل علما وعملا فضلوا عليهم من لا علم له ولا يفهم .

 

 وقد قالت فاطمة الزهراء عليها السلام من قبل بعد وفات والدها وأبيها سيد البشر صلى الله عليهم وسلم:

عن فاطمة بنت الحسن عن الإمام الحسن عن أمه فاطمة الزهراء صلى الله عليهم وسلم ، في خطبة لها طويلة قالت فيها ...:

 ألا هلم فاستمع : و ما عشت‏ أراك الدهر عجبه .

 و إن تعجب : فقد أعجبك الحادث إلى أي لجأ استندوا ، و بأي عروة تمسكوا .

لبئس المولى : و لبئس العشير ، و لبئس للظالمين بدلا .

 استبدلوا و الله : الذنابي بالقوادم ، و العجز بالكاهل .

فرغما لمعاطس قوم : يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون ، ويحهم :

{ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ

 أَمَّن لاَّ  يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) } يونس [103] .

وهذا الكلام لسيدة النساء : نفسه قالته بنتها العقيلة في خطبته ، ولكن بأسلوب يناسب زمانها ، وبكلمات تعبر عن حال آلها في دهرها ، وهذا من عجب الدهر بعد رسول الله ، أن يستبدل سيد الوصيين بغيره من هو دونه ، فاستندوا إلى غير ذي سند من الله ورسوله ، وتمسكوا بعروة باطلة ، وأستبدل الذيل بمن نصبوه  بدل بالرأس الكريم لعلم الله وبابه ، والشامخ الذي لا يرقى له الطير و يصب منه الهدى بماء الحياة سيل ، فظلموا أنفسهم باتخاذهم من لا يستحق الخلافة بدل أمير المؤمنين حقا ، ومن أوصى بولايته الله ورسوله ، وهذا عينه كان في زمن الحسين عليه السلام حكموا الطاغية يزيد الفاجر بدل سيد أهل الجنة ، فدهر عجيب ممن يدعي الإسلام ولا يتبع هدى آل محمد، بل تبع أعدائهم ويطيع قتلتهم فيحشر نفسه مع الظالمين و الطغاة والويل له لمن لم يتولاه آل محمد عليهم السلام لأنه يوالي أعدائهم ومن قتلهم .

 

ويا طيب :   من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام :

 لبعض أصحابه و قد سأله ، كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به ؟ فقال عليه السلام :

يا أخا بني أسد : إنك لقلق الوضين ، ترسل في غير سدد ، و لك بعد ذمامة الصهر و حق المسألة ، و قد استعلمت ، فاعلم .

أما الاستبداد علينا بهذا المقام : و نحن الأعلون نسب ، و الأشدون بالرسول نوطا.

 فإنها كانت : أثرة ، شحت عليها نفوس قوم ، و سخت عنها نفوس آخرين .

و الحكم الله : و المعود إليه القيامة .

و دع عنك نهبا صيح في حجراته     و لكن حديثا ما حديث الرواحل‏

و هلم الخطب : في ابن أبي سفيان .

فلقد أضحكني الـــدهــــر : بعد إبكائه .

 و لا غرو و الله :  فيا له خطبا يستفرغ العجب ، و يكثر الأود ، حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه ، و سد فواره من ينبوعه ، و جدحوا بيني و بينهم شربا وبيئا ، فإن ترتفع عنا و عنهم محن البلوى ، أحملهم من الحق على محضه ، و إن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، إن الله عليم بما يصنعون[104].

يا طيب : قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة [105]، وننقله مختصرا بتصرف:

الوضين : حزام السرج ، و يقال للمضطرب في أموره : قلق الوضين ، لأن الوضين إذا قلق اضطرب القتب أو الهودج أو السرج و من عليه . و يرسل في غير سدد : أي يتكلم في غير قصد و في غير صواب و السدد و الاستداد الاستقامة و الصواب . و ذمامة الصهر بالكسر : أي حرمته هو الذمام  ذمامة الصهر ، لأن زينب بنت جحش زوج رسول الله كانت أسدية ، و هي بنت عمة رسول الله و المصاهرة هي هذه.

وأما حق المسألة: فلأن للسائل على المسئول حقا ، حيث أهله لأن يستفيد منه.

و الاستبداد بالشيء : التفرد به و النوط الالتصاق . و كانت أثرة : أي استئثارا بالأمر و استبدادا به ، قال النبي : للأنصار ستلقون بعدي أثرة .

و شحت : بخلت ، و سخت : جادت .

و يعني بالنفوس التي سخت : نفسه .

و بالنفوس التي شحت : أما على قولنا : فإنه يعني نفوس أهل الشورى بعد مقتل عمر ، و أما على قول الإمامية :  فنفوس أهل السقيفة  .

و أما البيت : فهو لامرئ القيس .. وقد سرقوا رواحله بعد أبله ، ويا طيب : إن الظهار المقطوع به : أن كلام الإمام يشمل السقيفة ويوم الشورى التي لم يرضوه لهم .

ثم قال عليه السلام : و هلم الخطب :

و هلم : لفظ يستعمل لازما و متعديا ، فاللازم بمعنى : تعال ، قال الخليل أصله : لم ، من قولهم : لم الله شعثه ، أي جمعه كأنه أراد لم نفسك إلينا أي اجمعها و اقرب منا.

 يقول عليه السلام : و لكن هات ذكر الخطب ، الحادث الجليل .

يعني الأحوال : التي أدت إلى أن صار معاوية منازعا في الرئاسة ، قائما عند كثير من الناس مقامه صالحا لأن يقع في مقابلته ، و أن يكون ندا له .

 ثم قال : فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه :

يشير عليه السلام : إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدم من سلف عليه ، فلم يقنع الدهر له بذلك حتى جعل معاوية نظيرا له ، فضحك عليه السلام مما تحكم به الأوقات.

 و يقتضيه تصرف الدهر و تقلبه : و ذلك ضحك تعجب و اعتبار .

ثم قال عليه السلام : و لا غرو و الله ، أي و لا عجب و الله .

 ثم فسر ذلك فقال : يا له خطبا يستفرغ العجب ، أي يستنفده و يفنيه .

يقول : قد صار العجب لا عجب ، لأن هذا الخطب استغرق التعجب ، فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب ، و هذا من باب الإغراق و المبالغة في المبالغة .

و الأود : العوج . ثم ذكر تحشد قريش عليه .

فقال عليه السلام : حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه .

يعني ما تقدم : يا طيب من غصب الخلافة من الأوائل الثلاثة.

وقال على رأيه : من منابذة طلحة و الزبير و أصحابهما له ، و ما شفع ذلك من معاوية و عمرو و شيعتهما .

وقوله عليه السلام : و سد فواره من ينبوعه ، و فوار الينبوع : ثقب البئر .

قوله : و جدحوا بيني و بينهم شربا وبيئ ، أي خلطوه و مزجوه و أفسدوه .

 و الوبي‏ء : ذو الوباء و المرض ، و هذا استعارة كأنه جعل الحال التي كانت بينه و بينهم قد أفسدها القوم و جعلوها مظنة الوباء و السقم ، كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسد و يوبئ.

ثم قال عليه السلام : ، فإن ترتفع عنا و عنهم محن البلوى ، أحملهم من الحق على محضه ، أي فإن كشف الله تعالى هذه المحن التي يحصل منها ابتلاء الصابرين و المجاهدين ، و حصل لي التمكن من الأمر حملتهم على الحق المحض الذي لا يمازجه باطل ، كاللبن المحض الذي لا يخالطه شي‏ء من الماء .

و إن تكن الأخرى : أي و إن لم يكشف الله تعالى هذه الغمة و مت أو قتلت ، و الأمور على ما هي عليه من الفتنة و دولة الضلال : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ } و الآية من القرآن العزيز[106].

ويا طيب: أضاف بعد الشرح بيانا لا بأس من نقله لأنه يرتبط بالموضع كما سترى:

قال بن أبي الحديد : سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي ، نقيب البصرة ، وقت قراءتي عليه ، عن هذا الكلام .

و كان رحمه الله : على ما يذهب إليه من مذهب العلوية ، منصفا وافر العقل.

فقلت له : من يعني بقوله : كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين ، و من القوم الذين عناهم الأسدي بقوله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به ، هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى ؟

فقال رحمه الله : يوم السقيفة .

فقلت : إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله ، و دفع النص ؟

فقال : و أنا فلا تسامحني أيضا نفسي ، أن أنسب الرسول إلى إهمال أمر الإمامة ، و أن يترك الناس فوضى سدى مهملين ، و قد كان لا يغيب عن المدينة إلا و يؤمر عليها أميرا ، و هو حي ليس بالبعيد عنها ، فكيف لا يؤمر و هو ميت ، لا يقدر على استدراك ما يحدث ؟

ثم قال : ليس يشك أحد من الناس ، أن رسول الله ص كان عاقلا كامل العقل ، أما المسلمون : فاعتقادهم فيه معلوم ، و أما اليهود و النصارى و الفلاسفة : فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة ، سديد الرأي ، أقام ملة ، و شرع شريعة ، فاستجد ملكا عظيما بعقله و تدبيره .

و هذا الرجل العاقل الكامل : يعرف طباع العرب و غرائزهم ، و طلبها بالثارات ، و الذحول ، و لو بعد الأزمان المتطاولة ، و يقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر ، فلا يزال أهل ذلك المقتول و أقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثأرهم منه ، فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه و أهله ، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به ، و إن لم يكونوا رهطه الأدنين .

و الإسلام : لم يحل طبائعهم ، و لا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم ، و الغرائز بحالها .

فكيف يتوهم لبيب : أن هذا العاقل الكامل ، وتر العرب ، و على الخصوص قريشا ، و ساعده على سفك الدماء و إزهاق الأنفس ، و تقلد الضغائن ابن عمه الأدنى ، و صهره ، و هو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ، و يتركه بعده ، و عنده ابنته ، و له منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره ، حنوا عليهما ، و محبة لهما ، و يعدل عنه في الأمر بعده ، و لا ينص عليه ، و لا يستخلفه ، فيحقن دمه و دم بنيه و أهله باستخلافه .

أ لا يعلم هذا العاقل الكامل : أنه إذا تركه و ترك بنيه و أهله سوقة و رعية ، فقد عرض دماءهم للإراقة بعده ، بل يكون هو الذي قتله ، و أشاط بدمائهم ، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم ، و إنما يكونون مضغة للأكل ، و فريسة للمفترس ، يتخطفهم الناس ، و تبلغ فيهم الأغراض .

فأما إذا جعل السلطان فيهم : و الأمر إليهم ، فإنه يكون قد عصمهم ، و حقن دماءهم بالرئاسة التي يصولون بها ، و يرتدع الناس عنهم لأجلها .

و مثل هذا معلوم بالتجربة : أ لا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد ، لو قتل الناس و وترهم ، و أبقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ، ثم أهمل أمر ولده و ذريته من بعده ، و فسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم و واحدا منهم ، و جعل بنيه سوقة كبعض العامة ، لكان بنوه بعده ، قليلا بقاؤهم ، سريعا هلاكهم ، و لوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد و الترات من كل جهة ، يقتلونهم ، و يشردونهم كل مشرد .

و لو أنه عين ولدا من أولاده للملك : و قام خواصه و خدمه ، و خوله بأمره بعده ، لحقنت دماء أهل بيته ، و لم تطل يد أحد من الناس إليهم ، لناموس الملك ، و أبهة السلطنة ، و قوة الرئاسة ، و حرمة الإمارة .

 أ فترى : ذهب عن رسول الله صلى الله عليه وآله هذا المعنى ، أم أحب أن يستأصل أهله و ذريته من بعده ، و أين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده ، الحبيبة إلى قلبه .

 أ تقول : إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة ، تتكفف الناس ، و أن يجعل عليا المكرم المعظم عنده ، الذي كانت حاله معه معلومة ، كأبي هريرة الدوسي ، و أنس بن مالك الأنصاري ، يحكم الأمراء في دمه و عرضه و نفسه و ولده ، فلا يستطيع الامتناع ، و على رأسه : مائة ألف سيف مسلول تتلظى أكباد أصحابها عليه ، و يودون أن يشربوا دمه بأفواههم ، و يأكلوا لحمه بأسنانهم ، قد قتل أبناءهم و إخوانهم و آباءهم و أعمامهم ، و العهد لم يطل ، و القروح لم تتقرف ، و الجروح لم تندمل .

فقلت له لقد : أحسنت فيما قلت .

 إلا أن لفظه عليه السلام : يدل على أنه لم يكن نص عليه ، أ لا تراه يقول و نحن الأعلون نسبا ، و الأشدون بالرسول نوطا ، فجعل الاحتجاج بالنسب و شدة القرب ، فلو كان عليه نص لقال عوض ذلك ، و أنا المنصوص علي ، المخطوب باسمي .

 فقال رحمه الله : إنما أتاه من حيث يعلم ، لا من حيث يجهل .

أ لا ترى أنه سأله فقال : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، و أنتم أحق به ، فهو إنما سأل عن دفعهم عنه ، و هم أحق به من جهة اللحمة و العترة ، و لم يكن الأسدي يتصور النص و لا يعتقده و لا يخطر بباله ، لأنه لو كان هذا في نفسه ، لقال له : لم دفعك الناس عن هذا المقام و قد نص عليك رسول الله ، و لم يقل له هذا ، و إنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة :

كيف دفعكم قومكم عن هذا : و أنتم أحق به ، أي باعتبار الهاشمية و القربى .

 فأجابه بجواب : أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه ، تمهيدا للجواب .

فقال عليه السلام : إنما فعلوا ذلك ، مع أنا أقرب إلى رسول الله من غيرنا ، لأنهم استأثروا علينا ، و لو قال له : أنا المنصوص علي ، و المخطوب باسمي في حياة رسول الله ،  لما كان قد أجابه .

لأنه ما سأله : هل أنت منصوص عليك أم لا ، و لا هل نص رسول الله بالخلافة على أحد أم لا .

و إنما قال : لم دفعكم قومكم عن الأمر ، و أنتم أقرب إلى ينبوعه و معدنه منهم.

 فأجابه جواب : ينطبق على السؤال و يلائمه .

وأيضا : فلو أخذ يصرح له بالنص ، و يعرفه تفاصيل باطن الأمر ، لنفر عنه و اتهمه ، و لم يقبل قوله ، و لم ينجذب إلى تصديقه ، فكان أولى الأمور في حكم السياسة ، و تدبير الناس ، أن يجيب بما لا نفرة منه ، و لا مطعن عليه فيه ، أنتهى.

 

يا طيب : نقلنا الشرح لأنه يعرفنا حقائق من تأريخ الدهر مر على آل محمد عليهم السلام وتغير أهل الدهر عليهم وانقلابهم بعد رسول الله ، ولأن آخره يعرفنا إنما يحسن الجواب والكلام حين يكون حسب مقتضى الحال ، وقد قالوا : لكل مقام مقال ، والجواب يحسن حين يكون على قدر السواء ، وعرفت سابقا حينما نقلنا كلام الإمام زين العابدين مع يزيد ، أراد يزيد أن يقول أنتم سبب قتل أنفسكم وأصابتكم مصائبكم بأيديكم وأنتم ألقيتم أنفسكم إلى التهلكة ، فقال له الإمام عليه السلام : بل الله كتب القتل لنا لأن الله سبحانه قدر وقضى هذا ومن سننه ، إن الطاغية إن كان كثير الأعوان وجيشه غاشم يحب الدنيا وزخارفها ولو بالوعيد احتمال نصره كثير ، وإن الله قد ينصر الفئة القليلة لكنه شاء سبحانه أن ينتصر الدم على السيف ولو بعد حين ، وأن يختبر العباد على طول التأريخ بمواقفهم ومواقف أهل دهرهم ، فمن يتبع الحق وأهله عند الحسين وآله آل النبي الأكرم ينجوا ، ومن يتبع أهل الباطل والضلال يخسر .

وإنما أقدمنا للشهادة : استجابة لأمر الله وقضائه وقدره ، بأنه يجب على كل مؤمن أن ينصر دينه ، ويجب عليه إن ستوجب الأمر وأستفحل الخطب وإنه إن لم يقدم يضل هو وكل الناس ، ويأثم هو من يكون تحت حيطته ، أن يذهب روحه ويبيدها عن بدنه في سبيل الله ، وبالخصوص إذا أنقلب أهل الدهر بشكل لا يحركهم إلا مثل دم الحسين وآله عليهم السلام ، فيحسون بل يتيقنوا أنهم انحرفوا عن الحق وضلوا عن الهدى وابتعدوا عن الدين ، وما كان حق أهله ومن علمهم معارفه هكذا قتل وسبي ولو بعد حين ،  وقد قال الله سبحانه :

{ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا   قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ  إِلَى مَضَاجِعِهِمْ      وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ   وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) } آل  عمران .

وقال سبحانه : {إِن تُصِبْكَ  حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50)

 قُل لَّن  يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) } التوبة .

أي نحن نعمل بواجبنا : وما يجب علينا من نصر دين الله ونشره ، والعلم و الدعوة إلى الحق وتعليم الهدى ، والله يفعل ما يشاء ويختبر عباده ، ويجازي المؤمنون منهم بالحسنى ، وقد قال سبحانه وتعالى :

{  وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)

 وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ  تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ

 يَقُولُونَ  بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ  أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168)   وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ  قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ  وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (آل عمران170)  يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) } آل عمران.

ويا طيب : لو الإمام زين العابدين عليه السلام ، نسب الأمر في إبادة أهله إلى الله لحسب الناس أن الله أرد قتلهم وسبي آل محمد من قديم الزمان وبالقضاء والقدر سواء جاهدوا في سبيله أم لا ، ولكن عرفهم الإمام ببلاغة الكلام ، أن أهل الدهر ضلوا فخرجنا لقتالهم بأمر الله سبحانه لأنه أوجب علينا جهاد المنافقين والكفار في مثل الدهر الذي حلوا به وأستفحل الخطب فيه بما لا يمكن السكوت عليه ، وهذا من عجائب الدهر بحيث يوجب على سيد شباب أهل الجنة وبأمر الله أن يقدم بنفسه إلى ملكوت وفي سبيل الله مختارا من أجل نصر دينه ، وهذا ما عرفه بكلامه الإمام زين العابدين عليه السلام ، في نسبة القتل والإبادة للدهر ، لا ليقينه بالدهر ، ولا لاعتقاده بأن الزمان يفعل بدون تقلب أحوال أهله ، بل الله أوجب عليهم النهوض والثورة على الظلم والطغيان حين تغير أهل الدهر والزمان حتى يعلم الصادقون في الإيمان .

ويا طيب الكلام في الدهر كثير : سواء في كلام آل محمد عليهم السلام أو غيرهم ، ولكن ننقل منه مختصرا أخر عن أمير المؤمنين ، ثم بعده نختم الكلام في الدهر بعد أن عرفنا تقلبه وما يجب العمل فيه وما يجب أن يعد له من الصبر والشكر :

ومثله كلامه السابق ولكنه خاطب به جرو زمانه معاوية فقال عليه السلام :

 فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَبا .

 إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ الله تعالى عِنْدَنَا ، وَ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا ، فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ [107].

فهم عليهم السلام : أعلم بما فضلهم الله به من المناقب والمكرامات ، والمنة لهم على العباد وكل من عرف الإسلام ، لأنهم هم علموه ونشروه بكل السبل ، وكانوا أزهد الناس وأعلمهم وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام :

 أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ .

وَ لَا أُشَارِكُهُمْ : فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ .

أو أكون : أسوة لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات ، كالبهيمة المربوطة  همها علفها ، أو المرسلة شغلها تقممها ، تكترش من أعلافها ، و تلهو عما يراد بها ، أو أترك  سدى ، أو أهمل عابثا ، أو أجر حبل الضلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة[108].

وأين علي والحسين : من معاوية ويزيد ومن كان قبلهم قد شحوا وغصبوا خلافة ليس لهم بها حق ، فجرؤوا الناس على آل محمد عليهم السلام حتى قتلوهم ، وقال الإمام زين العابدين لعمته عليه السلام ما قال ، لأنه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام :

: الدهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك ، فاصبر ، فبكليهما تمتحن.

و قال عليه السلام : المنية لا الدنية ، و التجلد لا التبلد .

و الدهر : يومان ، فيوم لك  و يوم عليك ، فإذا كان لك : فلا تبطر ، و إذا كان عليك : فلا تحزن ، فبكليهما ستختبر [109].

 

ولقد أجاد أبو العلاء المعري في مدح أهل البيت عليهم السلام فقال [110]:

وعلى الدَّهرِ مِنْ دِمَاءِ الشَّه     يدَينَ  عَليّ  ونَجَلهِ شَاهِدانِ

فَهما   في   أواخِرِ    اللَّيلِ      فَجرانِ وفي  أُولَياته  شَفَقَانِ

ثَبَتَا   في   قَميصِه   ِ لِجيءَ     الحَشْرَ مُسْتعدِياً إلى الرَّحمنِ

 

فعلى جبين الدهر : شاهدان حق ويتخذ منكم شهداء ، ووصمات عار من السقيفة وغصب فدك والشورى والجمل.. وكربلاء فأنظر لمن توالي وتابع الكلام .

وقال الشاعر الحسن بن راشد تاج الدين الحلّي رحمه الله :

لم  يشْجِني  رسمُ   دارٍ  دارِسِ  الطَّلَلِ    و لا جرى مدمعي في إثر  مُرتَحِلِ

للّه   و  قعةُ   عاشوراءَ   إنّ    لها    في جبهة الدهر جرحاً  غيرَ مندملِ

طافوا    بسبط   رسول  اللّه   منفرداً    في الطفِّ خالٍ من الخلاّن والخَولِ

لم   أنسه   في   فيافي   كربلاء و قد    حامَ الِحمام و سُدَّت أوجهُ  الحيلِ

في   فتية  من   قريش  طاب محتدها    تغشى القراع ولا تخشى من الاَجلِ

من  كل   مكتهل  في   عزم   مقتبل    و كل  مقتبل   في  حزم   مكتهل

و أقبلت  زينب   الكبرى  و  مقلتُها    عبرى  بدمع  على الخدّين منهملِ

يا  جَدُّ  هذا  أخي  عارٍ  تكفّنه لريـ    ـــاح من  نسجها  في مطرف  سَمِلِ

يا جدُّ هذا أخي ظامٍ و قد  صدرت    عن نحره البيض  بعد العَلِّ و النَّهَلِ

ويكفي : أن سورة الدهر ( الإنسان ) نزلت في حق آل محمد صلى الله عليهم وسلم ، وبحثها وبحوث أخرى تجدها في صحيفة الدهر أصفحنا عنها هنا ، لأنه طال في الدهر الكلام ، وإني لراجي به بيان حق سادة الأنام ، ويثيبني الله وإياكم الكون في الدارين مع السادة الكرام ، فإنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين.



[54] تهذيب ‏الأحكام ج9ص325ب30ح9 .

[55] نهج‏ البلاغة ص142خ97 .

[56]بحار الأنوار ج34ص48ب31 .

[57] بحار الأنوار ج34ص138ب31 .

[58] { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى  وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) }الشورى .

[59] شرح‏ نهج‏ البلاغة ج16ص31 . تأويل‏ الآيات ‏الظاهرة  ص450 . كشف‏ الغمة ج1ص538 .

[60] أعلام ‏الدين ص292 . بحار الأنوار ج44ص21ب18ح5 .

[61] الاحتجاج ج1ص104، بحار الأنوار ج29ص232.

[62] الكافي ج1ص17ح12 ، وسائل ‏الشيعة ج27ص19ب3ح33096 .

[63] الجعفريات ص245 . بحار الأنوار ج27ص222ب10ج11 .

[64] تفسير الإمام‏ العسكري ص625 .

[65] الفروق اللغوية ج1ص414رقم 1658 ، و 1659 .

[66] مجمع ‏البحرين ج6ص132 .

[67] الكافي ج1ص273ح5 . بصائر الدرجات ص458ب17ح1 . بحار الأنوار ج18ص266ب2ح26 .

[68] الكافي ج1ص209ح6 .بصائر الدرجات ص49ب22ح6.

[69] دعائم ‏الإسلام ج1ص27 ، وأنظر كتاب سليم بن قيس ص616 .

[70] نهج‏ البلاغة ص47خ2 .

[71] عيون‏ أخبار الرضا عليه السلام ج2ص66ب31ح297، بحار الأنوار ج26ص269ب6ح5 .

[72] الاختصاص ص12 .

[73] الغيبة للنعماني ص44ب2،تفسير القمي ج1ص4 ،بحار الأنوار ج23ص130ب7ح62 .

[74] الكافي ج1ص36ح3 .

[75] الكافي ج1ص53ح2 .

[76]الكافي ج1ص34ح1 ، الكافي ج1ص32ح2 .

[77] الكافي ج1ص34و35ح4، 2 .

[78] الكافي ج2ص534ح38 .

[79] من ‏لا يحضره ‏الفقيه ج2ص244ح2310 .

[80] من ‏لا يحضره ‏الفقيه ج4ص384ح5834.

[81] بصائر الدرجات ص14ب9ح2 .المحاسن ج1ص135ب6ح 16 .

[82]المناقب ج4 ص67 والاحتجاج ج2ص298، وفي كتب الأمالي نسبة الخطبة للإمام الحسن.

[83] الاختصاص ص 255 ، تفسير العياشي ج1ص244س4، الغيبة للنعماني ص279ب14ح67 .

[84] كفاية الأثر ص162 ، الصراط المستقيم ج2ص154ف5 . بحار الأنوار ج36ص338ب41ح201 .

[85] بحار الأنوار ج45ص32ب37 .

[86] غرر الحكم  ص127ح2163ص164ح3195.

[87] بحار الأنوار ج5ص313ب15ح3 .

[88] بحارالأنوار ج43ص176 .

[89] مستدرك ‏الوسائل ج10ص318ب49ح12084-13 عن مجموعة الشهيد ، نقلا من كتاب الأنوار لأبي علي محمد بن همام .

[90] المناقب ج4ص116، بحار الأنوار ج45ص243ب44 .

[91] التعريفات ج1ص34 .

[92] تفسير القمي ج2ص277 ، الكافي ج2ص450ح3، الإرشاد ج2ص120 .

[93] مثير الأحزان ص54 ، تحف ‏العقول ص240 ، اللهوف 92، بحار الأنوار ج45ص83ب37 .

[94] المناقب ج4ص100 ، اللهوف ص82 .

[95] المناقب ج3ص358 .

[96]  المناقب ج4ص167.

[97] عيون ‏أخبار الرضا ج2ص267ح36 .بحار الأنوار ج49ص242ح10 .

[98] بحار الأنوار ج36ص390ب45ح2. كفاية الأثر: 33.

[99] غرر الحكم ص123ح2145 ، ص124ح 2152 ، ص128ح2170 ، ص131ح2242 .

[100] غرر الحكم ص131ح2262 ، ص132ح 2278.

[101] غرر الحكم ص134ح 2318.

[102] الكافي ج2ص453ح1

[103] شرح ‏نهج ‏البلاغة ج16ص234 .الاحتجاج ج1ص108 ، بحار الأنوار ج43ص159ب7.

[104] نهج‏ البلاغة ص231خ162 .

[105] شرح‏ نهج ‏البلاغة ج9ص242.

[106]{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن  يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} فاطر.

[107] شرح‏ نهج ‏البلاغة ج15ص181ب28 .

[108] شرح‏ نهج ‏البلاغة ج16ص287ف3 .

[109] تحف‏ العقول ص95 خطبته المعروفة بالوسيلة . تحف ‏العقول ص207 .

[110] تفسير أبيات المعاني من شعر أبي الطيب المتنبي ج1ص64 . المناقب ج4ص55 .

[111] نهج ‏البلاغة ص48خ3 الخطبة الشقشقية ، وما بين يدكم خطبة الشقيقة أخت وشقيقة الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

 

خادم علوم آل محمد عليهم السلام

الشيخ حسن حردان الأنباري

موسوعة صحف الطيبين

http://www.msn313.com