بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في أصول الدين وسيرة المعصومين
صحيفة التوحيد الإلهي / الثانية / للكاملين

التحكم بالصفحة + = -

تكبير النص وتصغيره


لون النص

أحمر أزرق أخضر أصفر
أسود أبيض برتقالي رمادي

لون الخلفية


النص المفضل

لون النص والصفحة
حجم النص

الباب الثاني
أدلة توحيد الله تعالى المتقنة وبراهينه المحكمة




 

الذكر الرابع

التدبر في نور النفس ينورنا الإيمان بالله وحده لا شريك له

 

يا طيب قد تدبرنا في الكون : وذكرنا بعض الآيات المشيرة لمعنى التوحيد ، ووصلنا من خلالها لمعارف قيمة تعرفنا ضرورة الإيمان بالله سبحانه وتوحيده ، وتعرفنا إن له الأسماء الحسنى والصفات العليا بكل كمال وجمال وجلال ، وكانت محكمة البيان قوية البرهان حتى اليقين ، وتوصل المنصف لإقامة العبودية والطاعة له تعالى بإخلاص وثبات .

وفي هذا الذكر برهان يتم به التفكر في موجود كائن معين ، وفي حدوثه وتكونه واحتياجه لمكون ومحدث ، وهذا الكائن المخصوص  له نفس مفكرة ، وهو مكرم من بين الكائنات ، ومفضل على كثير منها ، وله شأن يعرف به نفسه ليؤمن بربه وهاديه وحده ، ويقيم له العبودية مخلص له الدين .

ويتم إقامة البرهان والدليل : من خلال آيات التدبر في النفس وبدنها من بدئ تكوينها حتى نشوء الروح ، وذكر بعض خصائصهما ، وبعدها نذكر آيات ونشرح قسم منها في بيان ما منح الله الإنسان من القدرة على تحصيل العلم والتفكر حتى يقر بمعرفته ويطلبه بكل وجوده ، ومن ثم ليشكره على ما أنعم عليه وبما فضله وكرمه ومنحه من كل شيء حتى الهداية ، وذلك ليخلص له الإيمان والطاعة والعبودية ، ولنجعلها بإذن الله في أنوار تدلنا على ضرورة الإيمان بالله حين التفكر بأنفسنا وشئونها ، وأسأله أن ينفعنا بها ، ويُرسخ إيماننا بمعرفته و توحيده ، وبالإقرار له بالربوبية ، وبكل ما أراد منا وأمرنا به .

 

 

النور الأول

تفكرنا في بدننا و نفسنا يوجب علينا الإيمان بالله وحده

يا طيب : إن التدبر في خلق الإنسان ، وإعطائه حياة أخرى غير مادية ، سواء من خلال التدبر العلمي في البدن ، وبحسن الهيكل وجميل المنظر وما فيه من الخصائص ، أو في النفس ودقة الصنع فيهما ، وآيات المقدرة العلمية فيها ، والخصائص الروحية من الشهوة والغضب أو غيرها ، فسنرى إنها كلها توصلنا بما لا يقبل الشك لمعرفته سبحانه حتى العبودية والطاعة له بإخلاص .

قال الله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} المؤمنون14 .

يا أخي إن الإنسان : الذي يمكنه التصرف في الموجودات الكونية بأحسن صورة ممكنة ، وبالعلم والفكر قد بنى الحضارات واكتشف هذه الاكتشافات العلمية العظيمة ، وصعد للقمر ويطمع بغيره من الكواكب ، وبرمج البرامج العملاقة الدقيقة للحاسب وللهاتف الجوال والتلفزيون والفضائيات وغيرها ، ولو رجع وتدبر في وجوده لوجده إنه في أول خلقه كان من طين ، ثم تطور بعد أن مر بمراحل ، ومن ثم حتى وصل لهذا التطور الهائل .  فمن أوجده وكونه ؟ وهل بالأمر المادي تطور وتقدم في الحياة أم مُنح شيء آخر ملكوتي به يسخر المادة الخارجية من الكونيات ، ويتصرف في جسمه وبدنه ؟ فالآيات الكريمة السابقة تحكي شيء من خلق الإنسان وتكوينه .

ويستفاد من الآيات الكريمة : إن أول ما بدأ تكوين الإنسان يرجع للمكونات الأرضية وعناصرها ، وبالخصوص الماء ، وهذا في الخلق الأول لأبينا آدم ،  ثم جعل نسله من النطفة في بدن آدم تجتمع أول مواده من العناصر وتركيبها فيه ، فيكون مُعد لوجود النطفة فيه ، ثم تجعل النطفة في مستقر متمكنة فيه وهو الرحم في بطن أمه بعد تلقيح البويضة ، فتبدل طريقة خلقه من التجمع المباشر للطين وتكون الإنسان بعد مروره بمراحل ، إلى نطفة تستقر في رحم .

فبعد مراحل : تمر بها النطفة في الرحم الذي يكون لها قرار مكين ـ وهو عالم عجيب في خصائصه ـ وقد هيئ لكي يحتضن النطفة ، فيتكون من النطفة علقة ، وهي قطعة دم جامدة ، فتقوى فتكون قطعة دم قوية ممضوغة ، فيتكون العظم فيكسى لحماً .  وبعدها يأتي تحول آخر بذكر ( ثم ) : كما تحول من تراب ثم نطفة غير التحول بالفاء في نفس الجنس المتحرك بالنامي ، فتدب به وتنشأ فيه حياة أخرى إنسانية ، فينشأ خلقا آخر .

و قد غير سبحانه السياق في الآيات الكريمة بثم بعد الفاء ، وجعل الخلق إنشاء له خصوصية جديدة من الخلق إلى الإنشاء فقال تعالى :

{ ثم أنشأناه خلقا آخر } دون أن يقول : ثم خلقناه أو فخلقناه كما في المراحل السابقة ، بل إنشاء جديد ومرحلة متطورة في الخلق لها خاصية عظيمة ، للدلالة على حدوث أمر جديد ما كان يتضمنه ولا يقارنه فيما تقدمه من المادة المكونة لبدنه ، فإن العلقة تماثل النطفة في المكونات وإنها تنموا ولهما خواص تركيبية واحدة وإن اختلف التركيب ، وهكذا المضغة والعظم واللحم . ولكن الآن جاء دور آخر بعد أربعة أشهر وتطور في وجوده لحياة لم يكن فيه من نوعه ، و لا سبق في مواد جسمه شيء يناظره فيما له من الخواص والأوصاف .

فالمادة البدنية : بعد مراحل وكسي العظم لحماً استعدت لتقبل نفس إنسانية وروح تتحرك وتنمو في طور آخر ، وهذه المادة الجامدة النامية فقط وجد فيها شيء لم يكن ، وصار إنسان فيه كل المواصفات الإنسانية من الفطرة ، والشهوات ، وقابلية التعلم والتفكر والتدبر ، بالإضافة للنمو في البدن .

فقد تحولت المادة الجامدة واستعدت لأن تقبل وجود إنسان : حي له قابلية التصرف في ذلك البدن النامي المتكون من المواد الأرضية الجامدة ، والذي له نوع اتحاد معه وتعلق به ، ويستعمل البدن في سبيل مقاصده استعمال الكاتب للقلم ، والزارع للمحراث ، بل أصبح إنسان له قابلية غزو الكون والفضاء وتكوين الكومبيوتر وبرامجه ، بل ليتدبر في نفسه وفي الكون فيعرف خالقه ومدبره ليشكره ، وليحصل على تعاليمه التي تنير له الطريق وهداه ، وليصل لسعادته الحقيقية بكل نعيم وهناء وسرور وعدل وإحسان إن آمن به .

فحقاً : تبارك الله أحسن الخالقين ، الذي منه الخير الكثير المبارك الحسن ، ونِعم ما جاء في الأثر : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، وسيأتي بيانه .

فهذا يا أخي : كان تدبر في وجود البدن الإنساني وتكون الروح الإنسانية فيه التي تفقدها المادة ، بل كل خلق حيواني بل نباتي له من هذا الشأن الروحي بما يناسبه ، وهذا يبين لنا إن مانح الروح ومعطي الحياة للمادة ، هو وجود عظيم فوق المادة والماديات والروح والروحانيات ، وهو واهب الكمال لكل وجود ، ومعطي الإنسان النفس الإنسانية وجاعله إنسان بروحه ، كما جعل مكونات بدنه ، وجعل الكون كله قبله ليهيئ ظروف تكوينه وإيجاده وهو الله تعالى الخالق البارئ المصور الذي له العلم المطلق والقدرة النافذة وكل الأسماء الحسنى التي أشرق في وجود الكون كله بكل شيء بما يناسبه .

ولكون كل الخلق المخلوق وما فيه : له في خلقته أمر متشابه في التطور ، وإنك تراه يصل لكماله ويُعطى ما يمد به كيانه بحسب ما يستعد له ، وتُنزل عليه الرحمة الواسعة وفق قابليته لأخذ الفيض الإلهي والكرم الرباني ، وبالتدبر فيه نعلم ونتعرف على أن معطي الكمال للكون وللإنسان هو واحد أحد فرد صمد ، وذو قدرة واسعة وعلم محيط وتدبير محكم لمخلوقاته ، وهو الذي يمدها بكل ما يناسبها من الظروف والأحوال لتصل لكمالها وغاياتها ، سواء كلها منتظما منسجما أمرها ، أو كل مخلوق في ظروفه الخاصة به وشأنه المناسب له في التكوين كله ومنزلته فيه بما يصلحه .

فإنه يا طيب : إن خاصية وحدة الطلب للكمال في الكون : تجعل الكون وحده واحدة ، يطلب الكمال بنفس وجوده ، ويُعطى ما يوافق حال ليصل كل شيء منه لكماله المناسب له واللائق به ، وهذا يدلنا على إن خالق الكون بما فيه الإنسان ، والذي يمده ليصل لكماله وغايته واحد لا شريك له ، وله كل كمال وجمال وحسن وبهاء وهو الله سبحانه وتعالى ، وهو المعطي للكون وجوده وللإنسان نفسه وكذا الحيوان ، وأحسن تدبيره ونظمه ، وتربيته وهداه الكوني ، ثم التشريعي لقيم له العبودية مخلصا له الدين ، فيسعد في حياته ، ويتشرف في كمال وجمال لا يوصف ، وله نعيم أبدي مقيم إن آمن به تعالى ، ومن يرفض طلب الله ومعرفته يكوى في نار العدم والحرمان ، ويبقى في ضيق الحاجة فيكوي روحه ويسجنها في أطباق جهنم النقص .

 

إشراق : نور العلم والعقل فينا يوجب علينا الإيمان بالله وحده :

يا طيب : إن العلم والفكر والتدبر : هي من خواص نفس الإنسان والنشأة الأخرى له ، وقد جهزت نفس الإنسان بالإضافة لكثير من الخصائص بأدوات العلم والمعرفة والتفكر والتعقل ليشكر ربه :

قال عز وجل : { وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } النحل 78 .

فيا أخي : إن هذه الآيات الكريمة التي تبين إن الإنسان عندما يخرج للدنيا من بطن أمه خالي من المعلومات الفعلية ، ولكن عرفت أن في الإنسان قوة الروح والنفس ، وركبت به الآلات المعدة لتحصيل المعرفة ، وبأهم حاستين السمع والبصر لتحصيل العلم والمعرفة لتنقلها للفؤاد المعبر عن العقل ، والمتفكر بالتركيب والتحليل ، والمجزئ والمكون للمعرفة وللقياس وللبرهان ، ومن ثم لتمييز الحق من الباطل ليستفيد من الكون والوجود ، وليحصل على سعادته بأحسن صورة .

والعلم : هو حصول صورة الشيء في الذهن ، وأغلبه وأكثره يحصل بالسمع والنظر ، ثم بالتركيب وبالتحليل لمعلوماتهما في العقل ، وهما آلات معدة لنقل العلم للنفس في مرتبتها العالية ، والذي يسمى بالعقل ، والذي به يتم تحصيل القياس والمقايسة بين الأشياء والعلوم وبه يحصل البرهان وتتبع الدليل ، وأما القلب : فهو له التأثر بالمعلوم الوارد ، وهو تجري عليها حالات حسب نوع العلم مفرح أو محزن أو خوف أو رجاء أو غيرها مما يوجب الحب والغضب والشهوة والتعب للبدن وغيرها ، أو العلم يعبر عنه بالفؤاد في النفس : إذا كان المعلوم داعي للتفكر وللعمل ، وهذه مراتب في النفس في المرتبة العقلية العالية فيها وبعض حالاتها المتأثرة نتيجة العلم الوارد .

 والله تعالى : ذكر أهم حاستين لتحصيل العلوم والمعرفة ، لأنهما الغالبتان على تحصيل العلم ، ولكون المس والشم والذوق علومها محدودة لا للغفلة عنهما ، بل ذكر المرتبة العالية يبين احتواءه للمرتبة الدانية ، وكل هذا لعل الإنسان يتدبر ويتفكر بسماع نداء الكون والنفس ، ويرجع لفطرته السليمة ، فيشكر الله تعالى على ما علمه وأقدره وأنعم عليه نعم لا تحصى ، وإذا عرف كمال العقل والفكر السليم فيه ، فآمن بمعطي الكمال لكل شيء ، يدل على كمال الفطرة وهو خير على خير ، ولله الحجة البالغة ، ولكن الإنسان ظلوم جهول وقليل الشكر للمنعم ، لأنه يحسب نفسه غير مخلوق أو يحسب كماله بما ليس عند الله.

 

 

النور الثاني

معرفة النفس الإنسانية وأحوالها ينورنا الإيمان بالله وحده

 

عرفت يا طيب : جانب من التدبر في حال الإنسان وتكوين بدنه ونفسه وإيجادهما ، وهذا جانب آخر أعظم وهو التدبر في النفس الإنسانية نفسها وأحوالها ، وما وهبها الله من القوى والأحوال وأوصافها وما لها من قابلية التطور ، فيكون الإنسان مكرم ومفضل على المخلوقات ، فضلاً عما مر من التدبر في إنشاء النفس وكيفية إيجادها وتطورها .

ويا أخي إن النفس الإنسانية : أمر وراء المادة ، وهي موجود مجرد عن المادة ، ولكونها محدودة ، كان لها شكل الإنسان الحقيقي ، وبما يتطور إليه باعتقاده وحسب عمله بإيمانه وعدمه ، وهي من العالم الروحاني والملكوت .

 ويحس الإنسان : بوجوده الحقيقي ويشير له بأنا ونفسي ، بل يراها نفس وجوده وغير خارجة منه ، وهي هو ، أي نفس وجوده على الحقيقية ، وأما بدنه فهو آلة لتطور نفسه ، ولتهذيبها لتصل لكمالها ، أو تتنزل عن كمالها الأولي الذي فطرت عليه حسب إيمانها وعدمه ، فتكون مع الملائكة منعمة مكرمة ، أو أضل من الحيوان وتصير قرين شيطان محترقة بنار العدم والحاجة .

وعلى هذا يا طيب : نعرف إنه لا يمكن أن يكون الخالق لوجود الإنسان أمر مادي لأنه فاقد للشعور وللعلم وللروح الإنساني ، والذي له شأن كريم في الملكوت وفي عالم المجردات عن المادة ، ولا حتى خالقها من شكلها وله هيئة مجرده عن المادة ، لأنه يحتاج لخالق ، فلابد أن يكون خالق الروح ليس في مرتبتها الوجودية ، وهي محتاجة له بكل وجودها لتستمر بالبقاء، ولا يكون الخالق إلا الله وحده لا شريك له وله العظمة والكبرياء والعلم المحيط والقدرة الواسعة.

 

 إشراق : لمعرفة وجود النفس الإنسانية وحقيقتها :

يا طيب قد ذكرت عدت أمور لبيان معرفة النفس وأهمها هو:

 

الإشعاع الأول : التدبر في أحوال الإنسان نفسه :

إن الإنسان : مهما غفل عن شيء من بدنه وأجزاءه لا يغفل عن نفسه ، ويشعر إن وجوده الحقيقي غير بدنه ، وهذا يحصل له بأدنى تدبر في حال نفسه وحقيقته ، فيجدها غير قابلة للتغيير والتبدل والانقسام ، وإنه لم يحويها مكان مادي أو زمان مخصوص ، ويدرك إن وجوده الحقيقي له خواص غير مادية ، وإنه يتكامل بالعلم والمعرفة ، وله حجم ومقدار محدود في سعة وجوده وفي أحاطته.

فتراه يشعر : بكل عقيدة يؤمن بها ، أو عمل يعمله ، بأنه يتكامل في مكارم نفسه إذا كان حلال وطيب وطاهر ، أو يتنزل عن ما فيها من المكرمة والاحترام الفطري المقدس لطهارة ذاتها ، إذا كان إيمان بفكرة لئيمة وفعل خسيس وخبيث يفعله ، ولكن تراه يفعله ولا يبالي بخسته ودناءته لوجود رين وإثم سابق قد تجمع فيها ، وغفلة عن الحق والعدل والقيم السامية التي يجب أن يصبوا لها ويُحصلها ليترقى في مراتب الكمال والعز الروحي والكوني .

 وقد أشتغل الناس : في العلوم النفسية والطب النفسي ، والتربية والتعليم ، وعلم الأخلاق ، وتهذيب النفس ورياضتها ، وغيرها من الأمور الدالة على وجودها ، وعن اعتقاد جازم بأنها غير البدن المتحول المتبدل .

 كما يثبت وجود النفس وإنها غير البدن : التنويم المغناطسي ، وتحضير الأرواح ، والأحلام والأطياف في النوم الحاصلة للإنسان ، بل نفس التعقل والتفكر والوهم والخيال والتصور ، بل نفس الأحوال النفسية من الحب والبغض والشهوات والكراهة والإرادة والعزم،  وكل ما يرافقها ويجري عليها من تبدل وأحوالها .

 وهذه يا أخي : كلها أدلة على وجود الروح وحدوثها وتطورها واحتياجها لمكمل ، وإنها قد يصيبها غير ما تصبوا له وترغب به ، فنعلم أن هناك قدرة أخرى مؤثرة فيها تمنحها القوة على الفعل وعدم الانهيار أو الفناء ، أو تتركها في متاهات نفسها فتخور عزيمتها أو تنحرف عن جادة الصواب ، أو تساعدها للترقي في مراتب الكمال وتحصيل رتب العلم الطيب في أفكارها ونيتها ، وبالخصوص العبودية والطاعة لرب العالمين و توحيده ، وذكره الذي تطمئن به وترتاح من كل هم وغم يعكر صفوها وطهارتها ، وينور سموها في عالم الروحانيات وترقيها في عالم الملكوت .

 وعرفت شيء مقارب لهذا في بحث المعرفة : وهو بأن للنفس خاصية مهمة ، وهي نموها على نحو التكامل والارتفاع في عالم المعنى والملكوت الروحاني ، ومحاولة الوصول إليه بكل راحة وفرح وسرور ونعيم حين بالإيمان بالاعتقاد والدين الصادق الواقعي ، وبالعمل الصالح فيكون همها ، فيلطف طلبها للمادة والماديات بالزهد والطلب الجميل فيها ، أو بالإصرار على طلب المادة والشهوات وتحصيلها ، فتتنزل عن كمالها الأولي الفطري لتكون حيوان أو أضل ، وفاقده لكل كمال ونعيم روحي ، فيضيق وجودها وتنكمش حتى تكون في نار الحرمان الروحي ، والسجن المادي الذي يكويها .

 والنفس : هي حقيقة الإنسان التي كان بها إنسان ، وهي وحدة واحدة لها مراتب أدناها متعلقة بالبدن وهي مدبر له ، وأعلاها العقل ، ثم بينها مراتب وأحوال كثيرة أهمها كما عرفت بعد العقل والتفكر السليم ، الوهم والخيال والحس والشعور والشهوة الغضب ، والحب والشوق والكراهة والبغض والإرادة والعزم والهمة على حصول شيء محلل طيب طاهر أو غيره .

وهذه الأمور : الحاصلة في أحوال النفس هي السبب الحقيقي الداعي لها لتحريك البدن وأعضاءه وتدبيرهم ، أو للإيمان بدين والاعتقاد به ، ثم إن أول مراتب النفس الفطرة السليمة التي تبحث عن الكمال المطلق حتى تصل لمعرفة خالقها وبارئها ، أو قد تنحرف فترى كمالها في الماديات أو بعض الشهوات كما عرفت في بحث الفطرة .

فالإقرار بوجود النفس وأحوالها : وهي أقرب الأشياء للإنسان بل هي وجوده الحقيقي الذي جُعل به إنسان ، بل الإقرار بوجود نفس غير البدن هو أول الأوليات للمتفكر العاقل ، كما هو داعي قوي لمعرفة موجدها وخالقها وسبب أحوالها وخصائصها التي يشعر بها الإنسان ، ويحس بوجوده الكريم الذي يجب عليه أن يطلبه ، وليسير على الصراط المستقيم ليصل للكرامة وللعز وللكمال من خالقها ومسبب وجودها وأحوالها وخصائصها ، فلذا كان العلم والمعرفة بالكون والنفس والتدبر فيهما حق التدبر هو الداعي الأكيد للإنسان للتوجه لمعرفة الله سبحانه وتعالى وموصله لكل خير وبركة في التحقق بهداه والإخلاص له في طاعته وعبوديته ، لتصل به لنعيمها الحق ولسعادتها الواقعية الدائمة في الدنيا ، والآخرة حين مقارقة البدن .

 

 

الإشعاع الثاني : جميع البشر يسعون لتكامل الروح :

يا طيب : إن تدبر في جميع الأديان : وفي جميع حالات البشر ، يرينا إن لهم هم واحد ، هو طلب الكمال والسعادة لوجودهم الحقيقي ، والطلب الصادق الواقعي ، هو طلب كمال النفس وتكريمها بالطاعة لخالقها ، وبمحاسن الأخلاق الحاصلة للنفس من تعاليمه .

 وإن كان البعض : دون اهتمام حقيقي بنفسه ، يطلب الكمال والسعادة في المادة للبدن : من مأكل ومشرب وفراش وبناء وشهوة وغيرها ، وأشتبه عليه الأمر بأن المادة هي غاية وجوده ، وبها يصل لكمالها اللائق به ، لأنه لا يعرف ولا يرى وجود مهم بعد البدن ، وقد أعشى بصيرته زخرف الدنيا وزينتها وشهواتها ، ويدين ويعتقد بأنه بالأمور المادية والحصول عليها وجمعها وكنزها ، يكون هو غاية وجود الإنسان ، لا أن الاعتناء بالنفس وتهذيبها بالهدى الحق هو غاية وجوده ، بل ولا حتى شهواتها هي الغاية لوجود النفس الإنسانية ، بل الشهوات لكي يستمر وجودها بالنسل ويتكاثر نوعها ، لا إنها الغاية القصوى وإن وجد فيها راحة نفسية باعتقاده العجول لطلب المنافع الشخصية والآنية من غير عدل وحلال فيها .

 بل غاية الإنسان : هو الراحة الطويلة الدائمة الحقيقية التي تطمئن بها النفس ، وتصل بها لخلودها في سعادة دائمة ، وهي تحصل في عالم التربية والتهذيب والأخلاق الفاضلة والعلم والتعلم والمعرفة لا إن المادة غاية للنفس ، وقد عرفت إنه لا تهذب للنفس ولا شيء يجعلها مطمئنة ويهديها للصراط المستقيم ، ويمنحها كل عز وكرامة إلا التعاليم الإلهية ، والتي فيها كل عدل وإحسان وخير وفضيلة ، وهذا داعي أخر للنفس للبحث عن تعاليم الله تعالى عند رسله وأوصياءهم الحقيقيين والعمل بها وتطبيقها ، لأنها تعاليم خالقها وهاديها .

وعلى كل الأحوال : هذا الطلب من جميع البشر للكمال والسعادة المطلقة هو دليل على وحدة الكمال المطلوب سواء أصاب الإنسان فيه أو أخطأ ، وهو يدل على وحدة الخالق والرب المدبر الهادي الجاعل في الكون والكائنات ، وبالخصوص نفس الإنسان وروحه ؛ القدرة الطالبة للكمال والخير والفضيلة وتحصيل أسبابها كل حسب حاله ، فهو الكامل المطلق وحده لا شريك له ، هو الله لا إله إلا هو سبحانه وتعالى ، و هو الرحمان الرحيم ، والوهاب لكل خير وبركة وكمال نفسي وعلمي ومعنوي أو مادي من زينة الحياة الدنيا لتستمر في وجودها ، أو المانح للكمال الروحي والهداية لها للترقي في مراتب العز والخير والفضيلة ، ولتحصل على النعيم الذي لا ينغصه شيء عندما تقيم له الدين والعبودية بإخلاص بكل معناه له ، وله حده لا شريك له سبحانه وتعالى .

 

 

النور الثالث

من عرف نفسه فقد عرف ربه

وفيه مشارق نور تهدينا الإيمان بالله تعالى وتوحيده :

 

 

الإشراق الأول : توجه النفس لحقيقتها يدعوها للتوجه لله ولتوحيده:

عرفت يا أخي : نشأة النفس وتكوينها ، وبعض خصائصها وكيفية دلالتها على خالقها سبحانه وتعالى وحده لا شريك له ، والآن نتدبر في أن معرفة النفس أكمل من التدبر في الكون للوصول لمعرفة الخالق سبحانه وتعالى .

وعنوان هذا البحث  هو حديث شريف مروي عن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإمام علي عليه السلام، و هو حديث مشهور بل متواتر .

 قال السيد الطباطبائي رحمه الله : قد ذكر بعض العلماء : أنه من تعليق المحال ، و مفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلمية بالله سبحانه .

ورد : أولاً : بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى : ( أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه ) ـ أقول : عرفت في الأدلة السابقة بأن الإنسان كلما توجه لمعرفة نفس ، عرف حاجتها ونقصها ، وإن لها القدرة على طلب الكمال والتزين بهدى الله وعبادته ، وطاعته بكل أوامره لتسمو وتطمئن .

 وبتوجه النفس لحالها : تعرف إن لها غاية عليا في الوجود ، وكمال أفضل مما هي عليه ، ولا تصل له إلا بطلبه من الله تعالى بكل وجودها ، فكرا وإيمانا وعلما وعملا وصفة وأخلاقا ، فتسعى لمعرفة خالقها وموجدها والمنعم عليها ومكملها بكل أسماء الجمال والجلال ، وتحاول بكل وجودها التحلي بالأسماء الحسنى الإلهية والصفات العليا الربانية ، فتنال رضاه ورضاها ، وتكون في الغاية القصوى من حُسن وجودها وجمال فعلها ، وهذا معنى إقامة الدين و التوحيد والإيمان بالله تعالى عن معرفة ويقين ـ .

وثانياً : بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ }الحشر19 .

ـ وهو يبين أنه بمقدار تذكر الله يتجه الإنسان لكمال نفسه ، ويحصل على خيره ونعيمه ، وأصله هو إقامة العبودية لله حتى قيل :

 ما فقد بالعبودية وجد بالربوبية ، أي بإقامة تعاليم الله وبالإخلاص له والتفاني في طاعته سبحانه يحصل الإنسان على اطمئنان النفس ، وعلى الراحة وكل نعيم ، ويحصل على أحسن أجر وبركة منه تعالى ـ .

وفي غرر الحكم عن الإمام علي عليه السلام أحاديث شريفة في معرفة النفس منها :

 ( الكيس من عرف نفسه و أخلص أعماله ) .

 

 

الإشراق الثاني : معرفة النفس توجهنا لله أكمل من معرفة الآفاق :

ومنها : ( المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين ) .

قال رحمه الله : أقول : الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسية والمعرفة بالآيات الآفاقية ، قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}فصلت53، وقال تعالى : { وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }الذاريات21.

و كون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي : لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية ، وذلك أن :

كون معرفة الآيات ـ الكونية والنفسية ـ نافعة : إنما هو بمعرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه ، ولأسمائه وصفاته وأفعاله ، وككونه تعالى حياً لا يعرضه موت ، و قادراً لا يشوبه عجز ، و عالماً لا يخالطه جهل ، و أنه تعالى هو الخالق لكل شيء ، و المالك لكل شيء ، و الرب القائم على كل نفس بما كسبت ، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم ، بل لينعم عليهم بما استحقوه ، ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ، ويجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى .

وهذه وأمثالها معارف حقة : إذا تناولها الإنسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته ، وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة ، و ليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية ، و هذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه ، وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وهي التي نسميها بالدين .

 فإن السنة التي يلتزمها الإنسان في حياته ، و لا يخلو عنها حتى البدوي والهمجي ، وإنما يضعها ويلتزمها ، أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنه يُقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان ، ثم يعمل بما استحسنه من السنة لإسعاد تلك الحياة ، وهذا من الوضوح بمكان .

فالحياة : التي يقدرها الإنسان لنفسه ، تمثل له الحوائج المناسبة لها ، فيهتدي بها إلى الأعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج ، فيطبق الإنسان عمله عليها ، وهو السنة أو الدين .

فتخلص مما ذكرنا : إن النظر في الآيات الأنفسية و الآفاقية ومعرفة الله سبحانه بها ؛ يهدي الإنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الإلهية من جهة تمثل المعرفة المذكورة بالحياة الإنسانية المؤبدة له عند ذلك ، وتعلقها ب التوحيد والمعاد والنبوة ، وهذه هداية إلى الإيمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معا ، أعني طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس ، فهما نافعان جميعاً ،  غير أن :

النظر إلى آيات النفس أنفع :

فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية ، وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها ، والملكات الفاضلة أو الرذيلة ، والأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها .

واشتغال الإنسان : بمعرفة هذه الأمور ، و الإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة ، لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب ، فيشتغل بإصلاح الفاسد منها ، والالتزام بصحيحها ، بخلاف النظر في الآيات الآفاقية ، فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها ، وتحليتها بالفضائل الروحية ، لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد ، وهو ظاهر .

 

 

الإشراق الثالث : معرفة النفس أشبه بمعرفة الله بالله :

وللرواية : ( المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين ) .

معنى آخر أدق : مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقية في علم النفس : وهو أن النظر في الآيات الآفاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكري وعلم حصولي ، بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي وعلم حضوري ، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان ، وهو باق ما دام الإنسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها ، ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله ، وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف .

و هذا بخلاف العلم النفساني : بالنفس وقواها وأطوار وجودها ، فإنه من العيان ، فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه ، وشاهد فقرها إلى ربها ، وحاجتها في جميع أطوار وجودها ، وجد أمرا عجيبا ، وجد نفسه متعلقة بالعظمة و الكبرياء ، ومتصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها ، وسائر صفاتها وأفعالها ؛ بما لا يتناهى بهاء وسناء وجمالا وجلالا ، وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة ، وغيرها من كل كمال .

وشاهد ما تقدم بيانه : أن النفس الإنسانية لا شأن لها إلا في نفسها ، ولا مخرج لها من نفسها ، ولا شغل لها إلا السير الاضطراري في مسير نفسها ، وأنها منقطعة عن كل شيء كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها المحيط بباطنها و ظاهرها وكل شيء دونها ، فوجدت أنها دائما في خلاء مع ربها وإن كانت في ملأ من الناس .

وعند ذلك : تنصرف عن كل شيء و تتوجه إلى ربها ، وتنسى كل شيء و تذكر ربها ، فلا يحجبه عنها حجاب ، و لا تستتر عنه بستر ، وهو حق المعرفة التي هي قدر لإنسان وشأنه . و هذه المعرفة : بالأحرى بها أن تسمى :

( بمعرفة الله بالله ) .

وأما المعرفة الفكرية : التي يفيدها النظر في الآيات الآفاقية ، سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك ، فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية ، و جل الإله أن يحيط به ذهن ، أو تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه ، و لا يحيطون به علما.

 

 

 

الإشراق الرابع : أحاديث لمعرفة النفس وعلوها على معرفة الأفاق :

و قد روي : في الإرشاد والاحتجاج ، على ما في البحار عن الشعبي عن أمير المؤمنين عليه السلام  في كلام له :

( إن الله : أجل من أن يحتجب عن شيء ، أو يحتجب عنه شيء ) .

و في التوحيد : عن موسى بن جعفر عليه السلام في كلام له :

( ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، و استتر بغير ستر مستور ، لا إله إلا هو الكبير المتعال ) .

و في التوحيد  : مسندا عن عبد الأعلى عن الصادق عليه السلام :

 ( و من زعم : أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال ، فهو مشرك ، لأن الحجاب و الصورة و المثال غيره .

 وإنما هو واحد موحد ، فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره ، إنما عرف الله من عرفه بالله ، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنما يعرف غيره ) الحديث.

و الأخبار المأثورة : عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في معنى ما قدمناه كثيرة جدا ، لعل الله يوفقنا لإيرادها و شرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الأعراف .

فقد تحصل : أن النظر في آيات الأنفس أنفس وأغلى قيمة ، وأنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب ، و على هذا فعده عليه السلام إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة ، إنما هو لأن العامة من الناس قاصرون عن نيلها ، و قد أطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي ، وهو النظر الشائع بين المؤمنين ، فالطريقان نافعان جميعا لكن النفع في طريق النفس أتم وأغزر .

و في الدرر و الغرر عن الإمام علي عليه السلام قال :

( العارف من عرف نفسه فأعتقها ، و نزهها عن كل ما يبعدها ) .

أقول : أي أعتقها عن أسر الهوى و رقية الشهوات .

وفيه عنه عليه السلام قال : ( أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه )

( أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه )

 ( أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه ) .

أقول : و ذلك لكونه أعلمهم بربه و أعرفهم به ، و قد قال الله سبحانه : { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }فاطر28.

وفيه عنه عليه السلام قال :

( أفضل العقل معرفة المرء بنفسه ، فمن عرف نفسه عقل ، و من جهلها ضل ) . ( عجبت لمن ينشد ضالته ، و قد أضل نفسه فلا يطلبها ) . ( عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه ) . ( غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه ) أقول : وقد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة.

وفيه عنه عليه السلام قال : ( كيف يعرف غيره من يجهل نفسه ) .

( كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه ، و كفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه ) .

وفيه عنه عليه السلام قال : ( من عرف نفسه تجرد ) .

أقول : أي تجرد عن علائق الدنيا ، أو تجرد عن الناس بالاعتزال عنهم ، أو تجرد عن كل شيء بالإخلاص لله .

وفيه عنه عليه السلام قال : ( من عرف نفسه جاهدها ، ومن جهل نفسه أهملها ) . ( من عرف نفسه جل أمره ) . ( من عرف نفسه كان لغيره أعرف ، و من جهل نفسه كان بغيره أجهل ) . ( من عرف نفسه ، فقد انتهى إلى غاية كل معرفة و علم ) . ( من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة ، وخبط في الضلال و الجهالات ) . ( معرفة النفس أنفع المعارف ) .

 ( نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس ) .

( لا تجهل نفسك ، فإن الجاهل معرفة نفسه ، جاهل بكل شيء ) .

الميزان في تفسير القرآن ج6 ، 173 ، 186 بتصرف .

أقول يا طيب : رحم الله السيد الطباطبائي وأسكنه فسيح جنانه ، أوردنا بحثه بطوله لما فيه من المعرف والعلم في حقائق النفس ، وفي التدبر فيها بما يُسعد اللبيب ، ويُفرح المؤمن بمعرفته بنفسه وبكمال حقيقته ، ويساعده للتدبر في روحه ليعرف علاقته بربه ، وفقره واحتياجه له ليهبه كمال العلم والهدى والتوفيق للطاعة، فيطلبه بإخلاص في كل ما أراد منه من الإيمان والهدى ويطبقه.

ويا أخي : إن بمعرفة النفس وخصائصها وأحوالها ، يرتقي الإنسان للتوجه له وحده تعالى ، وعن إيمان راسخ وهدى متقن يوصله للإخلاص في العبودية له سبحانه ، فيطلب معرفة نفسه ومعرفته سبحانه ليرفع روحه عن التعلق بالماديات ، وعن الذوب في حب الجمادات وعن الزينة المزخرفات فقط ، وبالخصوص حين تكون من المحرمات والتي ليس له بها حق ، ولكي لا يتنزل لمرتبه أقل وأضل من الحيوانات ، فيكون قرين شيطان مظلم الفكر ، ولا همجي في السيرة والسلوك فيعدم نفسه بالمسكر والطرب والصخب وهز الكتف والرقص وكل ما يبعده عن نفسه وعن الدنيا كلها ليهو ، ويكون همه الحصول على الدنيا والظلم لها ولنفسه ولغيرة ، فيحرم نفسه كرامته وشأنه الكبير ، وما يجب أن تكون عليه روحه من الطيب والتطهير ، ولتسموا في محل الكرامة والعز والمجد والفكر الوقاد في التوجه لرب الملكوت والجبروت والروح ، ليهبه من ذلك الكمال الأسنى والمقام الأسمى ، فيكون بحق في تمام الهدى والنعيم والسعادة والفرح والسرور الوقعي الدائم من الاطمئنان والتعقل والاتزان .

فبعد معرفة الإنسان العاقل والمتعقل بنفسه : وإنه لها القدرة على الترقي والترفع لأفضل مراتب العز والكرامة والكمال ، يسعى بجد واجتهاد في المعرفة بالله ، وبعظمته وبشأنه الكريم ومعارف أسماءه الحسنى وصفاته العليا ، وما يفيض فيها في التكوين وفي هدى العباد ، وفي كل ما أمرهم من طاعته ، فيقيم العبودية له ، ويحاول أن يتعرف على ربه لتحصيل المسانخة له مع الأسماء الحسنى والصفات العليا الإلهية ، فتكرم نفسه وتعز وتكون فاضلة ، ويكون همه في تحصيل التعالي بدل إعدامها في سفاسف الأمور .

ويا أخي : إن الإنسان المتوجه لكمال روحه يحاول أن يزينها ويؤدبها بحسن السيرة والسلوك ، وذلك بتطبيق دين الله وعبودية ، فيحصل على اطمئنان النفس ، والتنعم بالهدى والاستقامة بالطاعة لله ، وبكل أوامره ، وبالانتهاء عما نهى عنه ، فيسعد ويفرح بكل وجوده وفي كل أحوال ، لأنه علاقته حسنة مع ربه ، ولا يتوقع منه إلا الخير والعز والكرامة .

هذه يا أخي : كانت مطالب كريمة وشريفة حسنة للمؤمنين الطيبين ، وفيها جمال من المعرفة يعز على كثير من الناس الوصول إليها ، فتدبر فيها ، وجد لتحصيل الكمال الحق لروحك ، حتى تسعد وتهنئ بالخير والصلاح والفضيلة ، وسيأتي في البراهين الآتية بعض التدبر في النفس وخصائصها وأحوالها ، مما يجعل الإنسان مطمئن بضرورة طلب معرفة الله تعالى والتوجه له وحده ، وطلب الكمال من عنده وحده لا شريك له ، فأرتقب .

وأسأل الله لك ولي : أن يوفقنا لما يحب ويرضى ، ويجعل أرواحنا معلقة بعز قدسة ، ويوصلها لمحل العظمة والكرامة عنده ، فيجعلنا مع نبينا محمد وآله أكرم البشر وأكملهم وأطهرهم وأطيبهم صلى الله عليهم وسلم ، إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

 


 

تم الكتاب

15 شعبان 1423 يوم مولود إمام زماننا الحجة بن الحسن العسكر عجل الله تعالى فرجه الشريف
أخوكم في الإيمان بالله ورسوله وآله وبكل ما أوجبه تعالى
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة صحف الطيبين
http://www.alanbare.com