بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
موسوعة صحف الطيبين في أصول الدين وسيرة المعصومين
صحيفة التوحيد الإلهي / الثانية / للكاملين

التحكم بالصفحة + = -

تكبير النص وتصغيره


لون النص

أحمر أزرق أخضر أصفر
أسود أبيض برتقالي رمادي

لون الخلفية


النص المفضل

لون النص والصفحة
حجم النص

الباب الثاني
أدلة توحيد الله تعالى المتقنة وبراهينه المحكمة



 

الذكر الخامس

إبطال الدور والتسلسل ونفي الصدفة يوجب الإيمان بالله وحده

 

يا أخي : بعد أن تدبرنا بعض التدبر في الآفاق والأنفس في عدة أذكار تنونا براهين تدلنا على الإيمان بالله وحده ، وكانت لها أدلة جميلة ولطيفة في المعرفة الإلهية الموصلة للإيمان به ول<span">توحيده سبحانه وتعالى ، وإطاعته بكل ما أراد منا من الهدى والدين ، وذلك لكي لنسمو ونكمل بمعرفته وبتطبيق دينه القيم ، نذكر بحوث عقلية ، ونؤيدها بما علمنا الله سبحانه وتعالى في الذكر الحكيم ، ونبينا الكريم وآله الطيبين الطاهرين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين .

ثم إن هذه الأدلة في براهين الذكر الخامس : هي في الغالب أدلة تذكر في كتب الكلام والفلسفة ، وهي من مواهب الله للإنسان ليصل لمعرفته وللإيمان به بعقله ، وبما وهبة الله تعالى من قوة التفكر والتدبر في العلوم العقلية ، بعد أن عرفت إنه تعالى أرشده ودله على الإيمان به بفطرته وبنفسه وبالكون كله ، وإن كان قد أشار لها الله تعالى وبين أصولها في محكم كتابه ، ولكن العقل يمكنه التفكر بالكون فيصل لها أيضاً .

قال الله سبحانه وتعالى : { وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ

 وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ } الحجر19 .

 وقال الله سبحانه تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ

وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ }الحجر21 .

عرفنا يا طيب : إن الكون كله حادث يحتاج لسبب عظيم وقوي ، وأن فيه دقة النظم وإحكامه ، وأنه صنع بأحسن خلقة ممكنة لتتآلف أجزاءه ويسير لغايته وليصل لكماله اللائق به ، فيدلنا على أنه يحتاج لخالق واحد لا شريك له ، ودائم الوجود لا يأفل ولا يتغير ، كما إن آيات الله في النفس أشد دلالة على وجود خالقها وهاديها كما عرفت ، وكما مرّ الكلام في بيان وجود الشدائد على إنها مذكرة بالله تعالى  ، وهكذا الفطرة فإنها عندما تطلب الكمال والجمال والخير والبركة تطلبها من الله وحده لا شريك له .

وكانت يا طيب : هذه آيات كريمة تكمل البحث السابق ، وتشير لما يمد الله به الكون وبكل وجوده بعد خلقه ، وبكل ما يحتاج له ولما يوصله لكماله ، وبصورة محكمة وموزونة ومقدرة لكل ما يرفع حاجته ويسد نقصه ويوصله لغايته ، وهذه الآيات الكريمة كما تنفي الصدفة تثبت وجود العلة ، أو إن الوجود خلق من غير شيء وهو معنى نفي الدور والتسلسل في وجود الخلقة ، وقد مر الكلام على نحو الإشارة في هذا المعنى في بيان النظم في الوجود في الذكر الثالث من الإشراق الثالث فيه ، هذا .

 ولكي نكمل البحث بكل أبعاده نذكر أدلة في أنوار لهذا الذكر :

 أحدها : في إبطال الدور والتسلسل . والثاني : في نفي وجود الصدفة في الكون . ودليلا ثالثا : نثبت به ضرورة وجود العلة لكل شيء في الكون ، بل للكون كله ولكل أجزاءه ، وننفي بعض الشبه التي تؤخذ على الإلهيين .

فيكون لدينا يا أخي  : دليل محكم البيان ، قوي البرهان بكل أبعاده ، وينفي كل باطل ، ويقض على كل شبه يتصورها مَن لم يعرف هدى الله رب العالمين ، و الذي أتقن كل شيء صنعه سبحانه ، سواء في الهدى التكويني أو في الهدى التشريعي ، والذي أقام به الحجة على عبادة بكل دليل وبرهان .

فيا طيب : هذه أدلة عقلية نتدبر بها معاً ، ونسأل الله أن ينفعنا ويرسخ إيماننا بها ، فنحصل على كل نعيم هدى ، وفيض رحمة وكرامة باقية ، وعليه نتوكل فنقول :

 

 

النور الأول

إبطال الدور والتسلسل يوجب وجود الواجب

 

ذكروا يا أخي : في علم الكلام والفلسفة :

 إن الموجودات : جميعها ممكنة الوجود مخلوقة وحادثة ، فهي تحتاج لموجد لها ، وهو يجب أن يكون مُوجد غير مَوجد ، وهو واجب الوجود بنفسه ، وإلا دار الكلام أو تسلسل .

 ومعناه : في الكون الموجود لابد أن يكون هناك ، خالق غير مخلوق ، وقديم في وجوده غير حادث ، وإلا مع القول بوجود الوجود وكائناته وعدم القول بوجود خالق غير مخلوق ، يستلزم التسلسل في  الكلام إلا لا نهاية ، أو يدور الكلام ولا يقع خلق ، ومعناه .

أولا : إبطال التسلسل : أي لو كان : خالق الكائنات مثلها حادث مخلوق لتسلسل إلى غير نهاية ، ولا يوجد حينئذ لا مخلوق ولا خالق ، لأنه خالق المخلوق يحتاج لخالق ، وخالقه يحتاج لخالق ، وهكذا إلى ما لا نهاية ، فلا يوجد فرد في الوجود لا كائن ولا مُكون ولا حادث ولا مُحدث .

ولذا قالوا : اللانهاية ، وإن تُصور معناها وعرفناه ، لكنها غير متصورة حقيقة وغير موجودة خارجا ، وإلا ولو وجدت أو تصورناها بحقيقة خارجية لم تكن لا نهاية بل نهاية ، والموجود الأول لابد من وجوده وكونه حتى يأتي ما بعده ، وهذا الكون موجود ، فلابد له من موجد قد أوجده ، ولا يستمر الخالق إلا لا نهاية ليعدم الوجود ولا يوجد فرد منه ، فيبقى الوجود معنى وهمي بدون حقيقة خارجية ، بل لا يوجد حتى من يتصوره ولا من يعقله لأنه لا حقيقة لشيء أصلا مع القول بالتسلسل إلا لا نهاية .

 ثانيا إبطال الدور : وقول أو يدور الكلام : لأنه فيه يكون المخلوق خالق ، وذلك إذا قلنا : الخالق خلق المخلوق ، والمخلوق خلق الخالق ، وهذا باطل أن يكون المخلوق المحتاج خلق الخالق الذي خلقه  ، ومثل له بالحساب بأن أ متوقف وجوده على ب ، و ب موقف على أ ، وإذا كان هكذا لم يوجدا لا ألف ولا باء ، وإذا قلنا وجدا فلابد أن يكون أحدهم متوقف على الثاني والثاني لم يتوقف على الأول .

وقالوا شعرا :

مسألة الدور جرت     بيني وبين من أحب

لولا مشيبي ما جفا     ولولا جفاه لم أشب

ولما كان التسلسل والدور مستحيل وباطل ، فلابد أن يكون خالق الكل ليس مثل الكل مخلوق ، ولا محتاج لأحد فلا شيء مثله ، وقديم سبحانه غير حادث ، فيجب أن يكون واجب الوجود ، مستقل في نفسه وفي كماله ، غير محتاج لأحد لا في وجوده ولا في كمال وجوده ، ومنزه لا نقص فيه سبحانه ، وله كل كمال وحده لا شريك له ، وهو خالق كل الوجود الحادث والعالم الكوني ، وهو الواهب لكل شيء كماله وهداه سبحانه وتعالى .

ولذا يجب علينا : الإيمان بالله تعالى وأن نوحده ، وأن نطيعه بكل ما أمرنا وشرفنا به من هداه ، وبه نصل لهدانا في كل الحياة ونسير في صراط مستقيم في نعيمها أبدا ، وتطمئن نفوسنا بذكره وبإقامة العبودية والطاعة مخلصين له الدين .

 

 

النور الثاني

التدبر في الكون ينفي الصدفة ويثبت وجود الخالق سبحانه

 

   يا طيب نقول : في بيان نفي الصدفة بيانا محكما بإذن الله ، ونسأله التوفيق ، فأعلم يا أخي ، إن الصدفة تطلق ويراد بها :

إما يراد بالصدفة : نفي العلة والسبب لحادث معين ، ومن ثم إنكار السببية لوجود الكون وأفعال كائناته كلها .

أو يراد بالصدفة : حصول الاتفاق لوجود شيء أو فعل متكون وحادث معين ، مع الإقرار بسببه ، إلا إن السبب طبيعي بنفسه ، وموجود لم يقصد وجوده وتكونه من قوة عاقلة مريدة خالقة ومدبره لوجوده .

 بل وجد السبب بنفسه وحده ، أو لتعارك ولتزاحم ولحركة الموجودات الموجودة بنفسها يوجد أمرا لم يوجد سواء بالتركيب أو بالتجزئة والتحليل ، كما قد يتوهم في وجود الكون وحوادثه الطبيعية من غير احتياجها لمدبر وهادي ، ولا مؤثر يمد الكائن بالقوة على الفعل ، فضلاً عن احتياجه لموجد له ابتداء .

 وعلى كل الأحوال الصدفة باطلة : بأي تفسير كان ، وإن لكل معلول علة ، ولكل حادث سبب ، كما إن الاتفاق لوجود الكون واستمرار وجوده وكل حوادثه من صدفة الطبيعة ، وعليتها لنفسها وحوادثها ؛ لا يمكن أن يكون في هذا الكون الواسع بكل أبعاده ، فلا يمكن أن يوجد إلا من علة عاقلة حكيمة ولها علم وقدرة مطلقة غير محدودة ، وهي التي أوجدته وأوجدت نظمه وهداه المتقن الحسن بكل أبعاده ، وهي التي أقدرته على الفعل وهدته لما يجب عليه وجوده ليستمر لغاية له .

وببيان ضرورة العلية تنتفي الصدفة بشطريها : بدون سبب ، أو معه على نحو الاتفاق ، ويتم البيان في مشارق نور تهدينا معرفة نفي الصدقة وهي :

الأول : إن الصدفة محال وجودها من خلال نفس التدبر في الكون والوجود ودقة نظمه وهداه وترتبيه المحكم المتقن ، ثم في الدليل الآخر للإشراق ، الثاني : نذكر أحوال العلة بتفصيل ، وببحث أدق للإشارة لنفس وخصائصها وأحوال تأثيرها فنقول :

 

 

الإشراق الأول: العقل لا يقر للصدفة لكي تخلق الكون وتهديه:

يا أخي : إن الصدفة : التي تُفسَر بأن الأشياء بدون علة وسبب تجمعت وكونت الكون كله ، وهذا الوجود النامي كالنبات ، و أوجدت وجود الحيوان المتحرك بالإرادة ؛ لا يقر لها إي إنسان لأنه يصعب تجمع مواد خلية واحدة وتركبها في الكون من عناصره وأجزاء وجوده المتناثرة في المكان الواسع والمتباعدة في الظروف ، ثم لتكوين وجود منتظم حاوي لأغلب عناصر الأرض ، ثم على فرض إيجاد الصدفة لمركب معقد يكُون خلية ، فهو لا يستطيع أن يجعلها نامية فضلاً من أن يعطيها الحركة والإرادة .

والقائل بالصدفة : شبيه بمن يقول إن حروف مطبعة بنفسها ثارت فانتثرت ورتبت كتاب بحار الأنوار ، فجمعت أحاديثه ورتبته أبوابا وفصولا بما فيها من العلوم والمعارف والأسلوب والبلاغة والفصاحة والهدى والبيان المحكم ، ورقمت صفحاته ، ثم جمعتها متناسقة ،  وجلدتها بمائة وعشر أجزاء وعرضته في الأسواق ، وهذا أمر لا يقر له عاقل ، فضلاً من القول بأن الحروف خلقت نفسها بالصدفة وخلقت الأوراق والجلد ثم نظمتها بترتيب حسِن فيه أفضل العلوم ، وهي كانت عدم لا شيء يذكر ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، وهذا ما يسلم له كل منصف يبحث بحق عن حقيقة الأشياء ووجودها وعللها وأسبابها .

فإنه لم يعقل لأحد : أن توجِد الصدفة صفحة من كتاب ثم تنظمها مع علومها ، فكذلك لا نعقل أن تكون الصدفة قد خلقت ورتبت الكون من العدم وبهذا النظام العجيب ، فإذن للكون خالق وهو العلة لوجوده بما فيه من أجزاءه ، وهو الذي رتبه وهداه ومنحة الحُسن ودقة الصنع وإحكامه ، وهو الله تعالى وحده لا شريك له .

ثم إن من يرى لوحة فنية بسيطة : لمنظر طبيعي كشجرة قرب نهر فيه ماء وتحتها بعض الأعشاب وعليها بلبل ، أو منضدة عليها أزهار في قارورة فيها ماء وقربها بعض الحلويات في ماعون ، فلو أخبره آلف إنسان إنها وجدت صدفة في غرفة لما صدقهم وكذبهم كلهم ، وذلك ليقينه بأن كل شيء يحتاج لسبب وعلة ، وهذا النظم في هذه الأشياء له من أوجده ورتبه .

 فكيف بهذا الكون كله : الذي لا يتصور أحسن منه في مكوناته وأنواعها سواء في البر من الجبال والغابات والحيوانات بآلاف بل ملايين الأنواع وسعته الشاسعة ونظمه العجيب وهداه ، ولا في البحر الذي فيه أكثر من الخلق وحسنه ونباته ، ويكفي أن ترى فلم في عجائب البحار وموجوداته ، ويراد من كل العقلاء أن يتخيلوه خُلق صدفة ومن غير موجد له ، فما القول بالصدفة بأي فرع منها ، وإنكار الخالق له عز وجل إلا غفلة عن الحق أو إصرار على الغي .

بل الكون كله ونظمه وحسن وجوده : لألف مرة أصعب من أعظم دائرة إلكترونية مكتشفة في الكون ، سواء في الحاسب ( الكومبيوتر ) المنزلي أو المعقد ، وكل برامجه المكتشفة وألعابه ، لكون الكون واسع جداً في سماءه وأرضه وموجوداته المتنوعة ، والتي ركب منها الحاسب وصانعه ، ولخلية حية أشرف من ألف برنامج ميت أو متحرك بتوسط الضوء أو المغناطيس .

فإذا لم نقر : ولا نصدق ولا نذعن لأحد أن يقول : وجد الحاسب بكل برامجه وألعابه وأصواته وأفلامه وصوره والكتب التي فيه صدفة ، وإنه لابد من مبرمج عاقل أبدعه وعمل سنوات في الفكر بها وبتنظيمها وترتبيها ، فكذلك لا نقر : أن يوجد الكون صدفة من غير علة عظيمة مطلقة في العلم والقدرة ، وإنها هي التي قد أوجدت الوجود كله بما فيه مواد الكومبيوتر ومبرمجه وصانعه وكل شيء في الكون ، وهو الخالق المدبر الواحد الأحد سبحانه وتعالى .

 

 

الإشراق الثاني :  تجمع العناصر بالصدفة لا يعطيها نمو ولا إرادة :

يا طيب : إن هذا الإشراق موضح لسابقه ومكمل لبيانه : وهو إن عناصر الأرض المادية بنفس وجودها جامدة غير نامية ، والمتركب من غير النامي لا ينمو بنفسه ، إلا أن توهب له قوة تجعله ينموا ، فالنبات والحيوان أو أنواعها بعد كون جنسها الأولي من المادة الجامدة ، فإنك تراها نامية ، ولها الذبول والحركة في الكم والكيف ، وهذا مشهود في كل نباتات الأرض وحيواناته من الخلية الصغيرة للفيل ، فعلى فرض إن الصدفة والطبيعة توجد شيئا واحدا ، فإنها لا يمكنها أن تكرر خلق أفراده كل مرة ، ولا أن تخلق أنواع مختلفة وأجناس متباينة مستمرة الوجود دائما ، بل إيجاد نوع واحد بأفراد كثيرة ولو من غير نظم وهدى لصعب عليها ، فكيف بهذه الأنواع والأفراد التي لا تحصى لأجزاء الكون .

فإنك لو تدبرت : في أشجار الأرض المتقاربة ، كيف تنموا في أرض واحدة ، وتسقى بماء واحد ، ولكنها مختلفة في الأشجار والثمار والأعشاب ، وأنظر عجيب الصنعة في اصغر الموجودات ، ترى فيه كل ما وموجود في أكبرها ، وقد يزيد عليه كما ذكر إن للبقة الأرجل ولها الأجنحة التي يفقدها الفيل ، وأنظر خلية واحدة ترى عجيب الصنعة فيها ، والأعظم إن فيها أمرا فوق المادة والماديات وتركب العناصر ، فإنك ترى فيها الحياة والنمو والذبول والحركة المتنوعة الذي تفقده عناصرها المادية .

وهذا الإعجاز العظيم : في الكون كله وسعته إن لم يطأطأ له المعاند ، ولم يقر لخالقه في التدبر في الماديات وحدها .

 فقل له يا طيب : أن يتدبر لما فيها من الحياة ، فإنه نداء صارخ لكل عاقل يفهم نداء الوجود الحي ، ويطالبه أن تعريف وجود بارئه ومبدعه ومدبره وهاديه ، ومن المحال أن تهب لك المادة الجامدة ، الحياة بنفسها ، وهي فاقدة لها ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، فلابد أن يكون خالق الوجود ومعطية النمو والخيرات كلها هو الله سبحانه وتعالى ، وتدبر قوله سبحانه .

قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99). … ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }الأنعام102 .

وقال تعالى : { فِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}الرعد4 ، وأنظر الآيات الكريمة التي ذكرناها في وجوب المعرفة لأصول الدين بالدليل والبرهان في الباب ألأول .

فالصدفة يا أخي : أبعد من قدرتها وعلمها على خلق شيء منظم وباستمرار ، والطبيعة بنفسها أبعد من أن تعطي الطعم والرائحة والشكل الحسن لشيء ، فضلاً عن خلق وإعطاء النمو والنفس الذائقة والشامة والجاذبة للغذاء والهاضمة له ثم تحوله بما ينفع البدن وينسجم معه ، والدافعة للفضلات والمصفية له فتعزل النافع من الضار ، وغيرها من تكوين البدن واحتياجه لما يلائم وجوده ليستمر بأحسن صورة ممكنة في النمو والذبول والبقاء ، ثم الصدفة في طبيعة المواد بنفسها أصغر من أن تهب الحياة للإنسان ومما جهز به النبات والحيوان .

فلا يعقل يا أخي : أن توجد الصدفة في الطبيعة الصماء ، الحياة في الكون ، أو تكوين موجوداته الكثيرة المتنوعة بنفسها ، ومن ثم تقوم فتهب المادة الصماء لبعض مكوناتها وما خلقته : العقل والفكر والشعور والإحساس والاختيار والحب والبغض والعشق والعزم والإرادة ، والتمكن من تحرك العضلات والشهوة والغضب والنمو والذبول ، والتكاثر والتربية والتعلم والفهم والتفكر والبيان والحكمة .

ويستحيل أن توجد الصدفة : أو الطبيعة الصماء الأمور الدقيقة في صنعة المادة ، ودقائق الوجود المادي كله ، أرضا وسماء ، بل في تكوين الخلايا أو الذرة ونظمها ليتم التركيب بنفسه ، ثم ليتكون نبات أو حيوان أو إنسان وأجزاءه بهذا النظم الجميل ، ومع حسن الصنع البديع ، ومع مواصفات روحية وحياتية وعقلية عجيبة فيها ملايين الخصائص التي تجعله منسجم مع غيره ليستمر البقاء .

 والصدفة والطبيعة نفسها : باعتبارها رب الذين لا يؤمنون بالله ويعتقدون بها ، وهي صنم كبير ولو لم يقيموا لها مراسم ، فهي أصغر من أن تُوجد أي شيء في الوجود ، ثم لتوجد فيه عظيم ما ذكرنا من دقائق الصنع ، وحسن النظم في الكون وذراته ومركباته ، ومن ثم هدايته وتدبيره ليدوم ويستمر بأحسن صورة ممكنة في الخلقة ويسير لغايته ، بل كل شيء والوجود ككل باعتباره وحدة واحدة مخلوق ، ولا يمكنه خلق نفسه ونظمه من العدم ، فلابد له من خالق عاقل مدبر له ، وأن يكون خالقه وموجده له من القدرة والعلم والحكمة والخبرة والحياة المطلقة فوق المادة والماديات ، وأعلى مرتبة حتى من الأمور النفسية والعقلية ، وهو سبحانه وحده واهب الوجود وهداه لكل الكون ، سواء الوجود المادي منه أو الحي ، وهو الذي كون كل مكوناته ومن ثم الناطق منه ، وأعطاه العقل وأقدره على التفكير وما يتلذذ به ويستسيغه من المشتهيات وإيجادها له ، وبنعم لا تحصى بما فيها من الهدى التشريعي .

والحق : لا موجد لهذا الكون الواسع وهداه التكويني والتشريعي ، إلا القادر العليم الحي ، والكامل المطلق المكون البارئ الخالق لكل شيء ، وهو الله سبحانه وتعالى ، والذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وهو الواهب لكل شيء وجوده وكماله ومنعم عليه بنعم لا تحصى .

وإذا عرفنا يا طيب : هذا البحث في نفي الصدفة ، نكمله فنتدبر القول بضرورة وجود العلة ، وإن كان هذا كافي في طلب المعرفة بضرورة الإيمان بالله و<span">توحيده تعالى ، بل معرفة عظمته و أحاطت علمه وقدرته وظهور أسماءه الحسنى في الوجود كله ، بل يجب أن ذعن لهداه تعالى ولدينه القيم فنقيم عبودية بكل إخلاص له وحده لا شريك له ، ونطلب منه كل خير وفضيلة وكرامة وعزة ، وان ويفقنا لما يحب ويرضى ويهبنا كل كمال وهبه لعبادة الطيبين المخلصين ، إنه أرحم الراحمين ورحم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

 

 

النور الثالث

قانون العلية والمعلولية سنة إلهية بها عرفنا الله ووحدناه

 

يا طيب : إن التجمع العشوائي صدفة ولو بأسباب طبيعية ، ينافي القول بوجود العلية والمعلولية بين الأشياء ، وهو السبب الموجد لنظمها العجيب المتقن وإعطائه الحياة ، وإن أعظم قانون وأجمل سُنن الكون هي بأنه :

لكل سبب مُسبب ، ولسَبب مُسَبَب . ولكل معلول علة ، وللعلة معلول.

وهذا القانون الكوني : مبطل للقول بالأمر الاعتباطي ، والغير معروف سببه وعلله ، أو إن تكون علته المعطية لوجوده ولهداه ليستمر ، بأنها غير عاقلة ولا فاهمة ولا شاعرة ولا عارفة بنفسها ، فيكون الرب والخالق أصما جمادا وصنما كبيرا بحجم الطبيعة سماوات وأرض وكل النجوم والكواكب مجتمعه أو جبل كبير حسب فكرهم ، فتكون رب وإله لمن لا يؤمن بالله تعالى .

وبما عرفت يا أخي إن من يقول بالصدفة : فهو جاهل بحقيقة الكون ، ومنافي للعلم القديم والحديث ، ولكل ما تريه التجارب وخبرة الإنسان العادي ، فكان القول بالصدفة بفرعيه ، مرفوض القبول من العقلاء ، وينكره الوجدان السليم ، وإنصاف ذو الضمير المستقيم .

و يا طيب : إن من يعتقد الصدفة في الوجود مع صممها ويؤمن بها خلقة لكل شيء ، ويتخذها أو شيء منها إله فيعبده سوءا شهوة أو برنامج أو شيء من زينة الدنيا ، ويطلبه للدنيا ويقيم له مراسمه من الحفظ والاعتناء والتمجيد والمدح وحب الفخر به والتباهي بحصوله عليه وفكره الذي مكنه منه ، وهو مع ذلك سيتركه لغيره عاجلا أم أجلا ، فينكر الخالق الموجد للكون سبحانه وتعالى.

وإذا عرفنا يا طيب : إن قانون العلية محكم وقوي ، يذعن به كل منصف ، وإنه لابد لكل شيء من سبب وعلة لكي يوجد الكون وكائناته ، وإن العلة الأولى هو الموجد الأول سبحانه ، ويجب أن يكون وحده لكي ينتظم الكون ولا يذهب كل إله وخالق بما خلق ، أو يكون عجز في العلة الأولى ، وإنه كل معلول مهما كان يبقى مرتبط بعلته ومحتاج لها في الوجود أولا وفي البقاء ، وبها دوامه وبقيمويتها عليه ، وبمددها وفيضها له يبقى ويستمر ويسير لغايته ، وإنه لابد أن يكون لا مانع يمنع من العلة الأولى لفيض الوجود الكامل على معلولها وما سببت وجوده حتى وجد ، وإن العلة الأولى واجبة الوجود بنفسها ومستقلة غير محتاجة لما يكملها أبدا ، بل لابد أن تكون ذات كريمة كاملة مطلقة للغني الواحد الأحد الصمد ، والذي يحتاج له كل شيء في خلقه وكماله وهداه ، ولا يحتاج لشيء ، وهو الله الواحد الأحد ولا شريك له سبحانه ، وهو الله ربنا المتعال العظيم .

وبهذا يا طيب : يجب أن نؤمن في علة الكون وسببه الأول سبحانه ، بأنه حي قيوم عليم خبير ، وهو المانح للحياة وللعلم ولكل شيء كماله بما يستحقه ، ولذا يجب أن نتوجه له ليدوم لنا رزقنا ونعيمنا خالدا دنيا وآخرة ، ولا يقطع كرامته عن روحنا وإن توفانا وأخذنا لعالم البرزخ الأعلى ، ويجب أن نتوسل به حتى يجعلنا من ومع أكرم خلقه المصطفون الأخيار صلى الله عليهم وسلم .

وإذا عرفنا هذا يا طيب : نذكر بعض الشبه ونكمل البحث بأدلة أخرى ، تُعرفنا ضرورة وجود واجب الوجود والعلة الأولى سبحانه وتعالى ، ومسبب الأسباب عز وجل فنذكر بعض مشارق النور ، وأسأل الله أن تُرسخ إيماننا به وتحثنا على طاعته ، ويوفقنا للعلم والعمل بها عن إخلاص له ، إنه أرحم الراحمين ، ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين .

 

 

الإشراق الأول :

المؤمنون يؤمنون بالعلة لكل شيء وتنتهي لله وحده:

 يا طيب : إن من أسس الاعتقاد عند المؤمنون هو القول بالعلة الأولى ، وهو تعالى علة العلل ، وإن لكل شيء علة حتى ينتهي الأمر لعلة لا علة له ، وهو الخالق البارئ وحده لا شريك له سبحانه وتعالى ، وإنه باطل وجود شيء من غير سبب ، ولا تكوين شيء من غير علة له ، ولذا يا أخي عرفت سبب رفضنا للقول بالصدفة بمعنييها ، سواء ابتداء والخلق من العدم ، أو تجمع الطبيعة والطبيعيات لتوجد من هو أعلى منها شأننا ، وأكرم منها نفسا وعلما وفهما .

وذلك لأن المؤمنون : يعتقدون إن العلة أعلى شأن من المعلول ، وأكرم في الوجود ، وأشرف في القدرة والعلم وبكل مواصفاتها ، وإن المعلول شأن من شؤونها ، ورشح من فيضها ، وإشراق من نورها ، وإن السبب موجد للمُسَبب ، فهو أقدر وأعلم منه وأقوى ، وهذا دليل منصف يعتقده كل إن إنسان خبر الحياة ، وعرف شيء عن العلوم ، وعن كيفية تحقق الأشياء ووجودها .

ولكن يا أخي : بعض من يدعي العلم يدعي ويعتقد بأنه يعرف العلة لحدوث الحوادث ، ولذا استغنى عن معرفة الخالق ، فإن بعض الناس عندما يتهم المتدينين والموحدين الإلهيين ، يدعي إن عدم معرفة سبب وجود الحوادث وعللها ؛ هو الذي دعا الإلهيين والمتدينين بكل دين لخلق إله لأنفسهم يتقوون به وفيه من الشدائد عند حدوثها لخوفهم منها ، ولما نحن عرفنا إن لكل شيء سبب وعرفنا بتطور العلم أسباب أغلب الحوادث ، فلا نحتاج إلى إله نعبده بل نصنع أمور من مستشفيات وسدود وبناء محكم تقينا خطرها وكل بلاء يأتي منها .

أو يدعون إن المتدينين : لما كانوا لا يعرفون طلب الرزق والكمال من الماديات ، أخذوا يطلبونها بالدعاء والتوسل من رب خلقوه يلتجئون له لعله يرزقهم ، فنحن لما عرفنا إن للرزق أسباب ووسائل بها نحصل على زينته ، فلا نحتاج لإله نعبده ونتوسل إليه ليعطينا ، بل نسعى بأنفسنا له ونوفر وسائله .

فيا طيب إن هؤلاء : نسوا الله فأنساهم أنفسهم المخلوقة والتدبر في الكون كله ، حيث إن الكون وكل جزء من كائناته حادثة فهو يحتاج لمحدِث ، وإنه معلول فهو محتاج لعلة غالبة قوية قادرة لإيجاد مثل هذا الكون الواسع ، وعجيب أنواعه ونعمه التي لا تحصى ، فإن الكون وأجزاءه لم يكن ثم كان ، فهو يحتاج لعلة خالقة له ومُسببه له ومبقية له مربية له هادية له .

وجهلوا الحق في بحوث وتعاليم المتدينين : على طول التأريخ ، وفي كل الأديان السماوية ، والقرآن الكريم ، ودعوة جميع الرسل على أن أساس إيمانهم ، وإن بحثهم عن العلة هو الذي دلهم على خالقهم ، وإن وجود العلية والمعلولية في الكون ضرورة تكوينية بها وجد كل شيء ، وإن لكل شيء سبب ولكل حادث مُحدث ولكل معلول علة ، وهذا هو الذي دلهم على خالقهم بالحق الصادق واليقين الذي يذعن له كل العاقلاء ، وهو بأنه لابد لهم وللكون من خالق واقعي ، وهو الذي هدى الكون والإنسان وكل شيء لغاية حق ، وأعطاه معنى عالي فيه كل كمال وخير وبركة ، فضلاً عن خلقه وإيجاده بعد أن لم يكن ، والخالق سبحانه مستقل بنفسه لا يحتاج لخالق ، وعنده ومنه كل كمال وجمال ، لا إن الجهل بالعلة و السبب هو الذي دل المؤمنين والموحدين على خالق وهمي .

فإن المتدين : يرى أن هذه الكون باعتبار تشابه أجزاءه بالتغير والتبدل والتحول والحركة والسكون ، فهو ككل متحرك متبدل ، فهو يحتاج لموجد قد أوجده متحرك ، ولا بد أن يكون الخالق على قول المتكلمين والفلاسفة واجب الوجود أي بسيط الوجود غير محدود ، ومستقل بنفسه غير مخلوق ولا متحرك ولا متجزئ ، لكي لا يحتاج لخالق ، فهو علة الوجود ، أو على قول القرآن الكريم الذي فيه كلام رب العالمين :

{ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ

 لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } الإخلاص1:4 .

وقال سبحانه : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللهُ

 قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ

أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ

قُلْ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } الرعد16.

وقال سبحانه وتعالى : { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }الشورى12.

وبعبارة أخرى : إن المعلول ممتنع الوجود مع عدم علته ، فهذا الوجود بين أيدينا ، هو وأجزاءه متأثرة ومؤثرة في بعضها البعض ، فوجوده ووجود حوادثها كلها كوحدة واحدة ، تحتاج لمؤثر فيها ، وهو معطيها وجودها وقدرتها على التأثر والتأثير ، وهو الله الواحد القهار خلق كل شيء وليس مثله شيء .

وبهذه الآيات الكريمة : وأمثالها قد استدل القرآن المجيد على وجود الصانع و وحدانيته و قدرته و علمه و سائر صفاته .

فإن البراهين العقلية : تدلنا على أن المعلول وكل شأن من شئونه إنما هو لوجود علته المؤثرة لوجوده وأحواله وصفاته ، و أن كل ما له من كمال فهو من فيض وجود علته ، فلو كان للحُسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله لله تعالى أولاً وآخرا ، ثم كل ما موجود في الكون وكماله ، فهو منه سبحانه ، وذلك لأنه تعالى وحده هو العلة والسبب الذي ينتهي إليه جميع العلل ، وفي كل حوادث الكون وكماله وجماله وحسنه فضلاً عن وجوده .

قال الله تعالى :

{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)

أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ (36)

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37)

أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)

أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)

أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ (42)

 أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }الطور43.

يا طيب  : في الآيات أعلاه قد ذكر الله سبحانه وتعالى عدة أمور مثبتة للعلية والسبب للكون ولحوادثه وهي بنفسها نافية للصدفة ومثبته لعيلته وسببه وخلقه سبحانه لكل شيء ، ومبينة وموردة لكثير من شبه الكفار والمعاندين ، وأبطلها سبحانه وتعالى في كلام بليغ ، وببيان حسن محكم ، ووافي وشافي لمن يطلب الحق فيقنع به ، ويسمع الكلام فيتبع أحسنه ، وبيان بعض الآيات واضح مما مر ، وإن طلبت تفسيرها راجعها في تفسير الميزان وغيره .

والحق يا طيب : إن الكفار والمعتقدون برب صنمي كالطبيعة ، جهلوا العلة الأولى للخلق وللكائنات وللطبيعة فتنكروا للمُسبب وجهلوا العلة ، ورفضوا سريان قانون الكون بأن لكل معلول علة ، فأسلموا نفسهم لإله لا يعقل وتقاتلوا من أجل زينته ، وتركوه عند الموت ليحرموا أنفسهم النعيم والطمأنينة وراحة البال أبدا ، وأنقل لك كلام من السيد الطباطبائي رحمه الله في بيان العلية والمعلولية ورد ما ذكرنا من الشبه في كلام وافي فتدبره يا أخي .

 

 

الإشراق الثاني :

آمن المؤمنون بالله تعالى  لعموم العلية في الكون لا لجهلها :

يا طيب : هذا بيان شريف يوضح ما ذكرنا أعلاه وينقل أقوال وآيات كريمة يعرفنا بها ، بأن المؤمنون لإيمانهم بالعلية طلبوا الله وأمنوا به وطلبوا منه ، لأنه سبب لكل شيء ، ومسبب كل شيء ، لا لجهلهم بالعلل والأسباب آمنوا بالله أو اخترعوا إله ، وهو بحث شريف وكريم تدبره ، وننقله بطوله لما له من الفائدة ومنه استفدنا البحث السابق ، فتدبره يا أخي فإنه بحث شريف .

قال السيد الطباطبائي رحمه الله لبيان عموم العلة في الكون :

فليس جهل المتدينين بالعلل : جعلهم يبحثون عن الإله ، بل لإقرارهم بأن ما من شيء إلا وله عله ، أقروا بالتوحيد  والمعرفة واليقين لعلة العلل ولخالق الكون ولكل أجزاءه وأوصافه ، وبهذا جاءت تعاليم الله في كتابه المجيد وسنة نبيه المطهرة ، وهؤلاء المساكين لو أفاقوا قليلا من سكرة الغفلة والغرور ، لرأوا أن الإلهيين من أول ما أذعنوا بوجود إله للعالم ، أثبتوا هذه العلة الموجدة لجميع العالم ، فإن بين أجزاء العالم : حوادث معلومة العلل ، وفيها حوادث مجهولة العلل ؛ و المجموع من حيث المجموع مفتقر عندهم إلى علة خارجة ، فما يثبته أولئك غير ما ينفيه هؤلاء .

وقد بين ذلك الدكتور ماكس موللر : الألماني المستشرق صاحب التقدم في حل الرموز السنسكريتية : وهُم ـ الإلهيين ـ حتى الإنسان الأولي منهم يشاهدون العلل في بعض الحوادث المادية ، فإثباتهم إلهاً صانعاً لجميع العالم استنادا إلى قانون العلية العام ليس لأجل أن يستريحوا في مورد الحوادث المجهولة العلل ؛ حتى ينتج ذلك القول باحتياج بعض العالم إلى الإله واستغناء البعض الآخر عنه ، بل لإذعانهم بأن هذا العالم المؤلف من سلسلة علل و معلولات طبيعية بمجموعها ووحدانيتها لا تستغني عن الحاجة إلى علة فوق العلل ، تتكي عليها جميع التأثيرات و التأثرات الجارية بين أجزاء العالم .

 فإثبات هذه العلة العالية : لا يبطل قانون العلية العام الجاري بين أجزاء العالم أنفسها ، و لا وجود العلل المادية في موارد المعلولات المادية تغني عن استناد الجميع إلى علة عالية خارجة من سلسلتها ، و ليس معنى الخروج وقوف العلة في رأس السلسلة ، بل إحاطتها بها من كل جهة مفروضة .

فأولاً : هذا المعنى الذي قلنا على لطفه ودقته ، وإن لم يقدر على تقريره الفهم العامي الساذج ، لكنه موجود على الإجمال في أذهانهم حيث قالوا : باستناد جميع العالم بأجمعه إلى الإله الصانع ، وفيه العلل والمعلولات بنوعيها مجهولة ومعلومة .

ثانياً : إن البراهين العقلية التي أقامها الإلهيون من الحكماء الباحثين ، أقاموها بعد إثبات عموم العلية ، وبنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علة واجبة الوجود ، واستمروا على هذا المسلك من البحث منذ ألوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى  يومنا هذا ، ولم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة ، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لأجل الجهل بالعلة الطبيعية ، وفي المعلولات المجهولة العلل كما يتوهمه هؤلاء .

ثالثاً : ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الإله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم ، و تسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به ، وتصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك .

و بالجملة : فكون إثبات وجود الإله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية والمعلولية بين جميع أجزاء العالم ، ثم استناد الجميع إلى الإله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك ولا ريب ، لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله وإسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة .

 

 

الإشراق الثالث :

أمثلة قرآنية تبين استناد الكائنات لله تعالى وحده :

وهذا الإشراق أيضا يا طيب من بيان السيد الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن المجيد ، وهو بعد الكلام السابق وفيه قال رحمه الله :

قال الله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } البقرة164.

فمعنى الآية الكريمة : إن عناصر مختلفة يحملها ماء البحار و غيره ثم يتكاثف بخارا متصاعدا حاملا للحرارة ، حتى ينتهي إلى زمهرير الهواء فيتبدل ماء متقاطرا على صورة المطر ، أو يجمد ثانيا فيصير ثلجا أو بردا فينزل لثقله إلى الأرض فتشربه وتحيا به ، أو تخزنه فيخرج على صورة ينابيع في الأرض بها حياة كل شيء ، فالماء النازل من السماء حادث من الحوادث الوجودية ، جار على نظام متقن غاية الإتقان من غير انتقاض واستثناء ، ويستند إليه انتشاء النبات وتكون الحيوان من كل نوع .

وهو من جهة : تحدده بما يحفه من حوادث العالم طولا وعرضا ، تصير معها جميعا شيئا واحدا ، لا يستغني عن موجد يوجده ، وعلة تظهره ن فله إله واحد .

 ومن جهة : أنه مما يستند إليه وجود الإنسان حدوثا وبقاء ، يدل على كون إلهه هو إله الإنسان .

وقوله تعالى : { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } و هو توجيهها من جانب إلى جانب بعوامل طبيعية مختلفة ، والأغلب فيها أن الأشعة النورانية الواقعة على الهواء من الشمس تتبدل حرارة فيه فيعرضه اللطافة والخفة ، لأن الحرارة من عواملها ، فلا يقدر على حمل ما يعلوه أو يجاوره من الهواء البارد الثقيل ، فينحدر عليه فيدفعه بشدة ، فيجري الهواء اللطيف إلى خلاف سمت الدفع وهو الريح ، ومن منافعه تلقيح النبات ، و دفع الكثافات البخارية ، والعفونات المتصاعدة ، و سوق السحب الماطرة وغيرها ، ففيه حياة النبات والحيوان والإنسان .

و هو في وجوده يدل على الإله ، وفي التأمه مع سائر الموجودات واتحاده معها كما مر يدل على إله واحد للعالم ، و في وقوعه طريقا إلى وجود الإنسان وبقائه يدل على أن إله الإنسان وغيره واحد .

قوله تعالى : { وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } السحاب البخار المتكاثف الذي منه الأمطار وهو ضَباب ما لم ينفصل من الأرض ، فإذا انفصل وعلى سمي سحاباً وغيماً وغماماً وغير ذلك ، و التسخير قهر الشيء و تذليله في عمله ، والسحاب مسخر مقهور في سيره وإمطاره بالريح والبرودة وغيرهما المسلطة عليه بإذن الله ، والكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره مما عد معه .

و اعلم : أن اختلاف الليل و النهار ، و الماء النازل من السماء ، و الرياح المصرفة ، و السحاب المسخر ، جمل الحوادث العامة التي منها يتألف نظام التكوين في الأرضيات ، من المركبات النباتية و الحيوانية و غيرهما ، فهذه الآية كالتفصيل بوجه لإجمال قوله تعالى :

 { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ }فصلت 10.

قوله تعالى : { لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }البقرة164 العقل - و هو مصدر عقل يعقل إدراك الشيء و فهمه التام ، و منه العقل اسم لما يميز به الإنسان بين الصلاح والفساد ، وبين الحق والباطل ، والصدق والكذب ، وهو نفس الإنسان المدرك ، وليس بقوة من قواه ، التي هي كالفروع للنفس كالقوة الحافظة والباصرة و غيرهما.

الميزان في تفسير القرآن الجزء الأول في تفسير الآيات الكريمة من سورة البقرة بتصرف .

فيا أخي الطيب : هكذا يمكن التدبر في كل كائن في الكون بنفسه ، أو بضمه لغيره من الكائنات ،  لنعرف أنه بنفسه محتاج لمن يوجده ، وينظمه مع الكل ، وكلهم يحتاجون الإله وهو إله واحد أوجدهم وجمعهم بهذه الدقة والصنع الكريم ، وبما في ذلك الإنسان المنسجم معهم ، وبنفسه لا يستطيع أن يهدي نفسه فضلاً من أن يوجدها ، ولا أنه أوجده من هو مثله في الحاجة والنقص ، ولابد أن يكون من أوجد الكل هو القادر المتعالي الواحد الأحد الذي أتقن صنع الوجود بكل هذا الجمال والكمال ، وبكل أبعاده وحدوده ودقة صنعه وهداه ، وهو الله سبحانه وتعالى .

وبهذا نعرف : أنه لابد لكل معلول علة ، ولكل مُسبب سبب ، ولكل حادث محدث ، وحتى ينهي الأمر لعلة لا علة بعدها ، وسبب لا سبب له ، مُحدِث غير حادث ، وهو علة العلل الذي منه بدأ كل شيء وهو خالقه ومُسببه ومحدِثه ، ولا يمكن أن يوجد العالم بهذا النظم والإتقان العجيب صدفة ، ومن غير علة وسبب ومُحدِث له ، وهو الذي أودع في الكون وفي كل موجود وكائن القدرة على كل هذا التأثر والتأثير ، وهو يمد وجوده ويمنحه القوة والاستمرار في الوجود والسير لغايته .

وهذا يا أخي : علة العلل ، ومُسبب الأسباب ، ومحدث الوجود وحوادثه ، فهو الله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى ، العليم الحكم الخبير ، القادر القاهر ، الحي القيوم الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وله كل كمال وجمال وجلال ، ومنه في التكوين كل بهاء وحسن سبحانه وتعالى ، ويجب أن نؤمن به وبكل ما أمرنا به وأن نقيم له العبودية والطاعة له وحده لا شريك له ، وأسأل الله لك ولي الإخلاص له ، إنه أرحم الراحمين ، آمين يا رب العالمين .

 


 

تم الكتاب

15 شعبان 1423 يوم مولود إمام زماننا الحجة بن الحسن العسكر عجل الله تعالى فرجه الشريف
أخوكم في الإيمان بالله ورسوله وآله وبكل ما أوجبه تعالى
خادم علوم آل محمد عليهم السلام
الشيخ حسن جليل حردان الأنباري
موسوعة صحف الطيبين
http://www.alanbare.com